صفحات سوريةعمر قدورعمر كوشفواز حداد

مبادرتين سياسيتين لحل الأزمة في سوريا –مقالات مختارة لكتاب سوريين

 

دي ميستورا.. بداية تقسيم سورية/ تيسير الرداوي

ربما لا أحد في الائتلاف السوري المعارض، والذي نصّب نفسه وصيّاً على الثورة السورية، عنده الوقت، أو الحجة، لكي يتحدث في الموضوع المهم المطروح، والمتعلق بالدعوة إلى إقامة مناطق حكم ذاتي، أو مناطق مجمّدة، أو ما أطلق عليها خطة أو مبادرة ستيفان دي ميستورا (المبعوث الأممي إلى سورية). وذلك، غالباً، لأن الائتلاف، برمته، مشغول بخلافاته المستعصية، حول تقاسم المغانم وتوزيع المناصب، والتفنّن في نصب الأفخاخ، ويعاني من أزمات خانقة في مجال التنظيم والضياع السياسي والفساد المالي.

على كل حال، المطروح على الطاولة خطير جداً، على الرغم من جاذبيته، لجهة إيقاف الحرب التي طالت الحجر والبشر، ولجهة توفير مستلزمات الحياة لمَن بقي حياً.

الخطورة أن طرح مناطق حكم ذاتي، أو مناطق مجمّدة لن يوقف الحرب، ولن يوفر مستلزمات الحياة للناس، بل إنه ربما يزيد الفوضى والاقتتال بين الإخوة من ناحية، ويمهّد لتقسيم سورية، أرضاً وشعباً، من ناحية أخرى. فهو يتوافق مع استراتيجية داعش في إدارة التوحش، ويتوافق مع استراتيجيات أمراء الحرب، والأهم من ذلك كله، يمهّد لجميع الدعوات الشيطانية الداعية إلى الفوضى، ريثما يأتي التقسيم في النهاية.

لندقق في الأمر، ولنسأل لماذا الدعوة إلى إدارة ذاتية في حلب وشمالها تحديداً؟ أي في مناطق المجموعات الإسلامية المتشددة، وفي مناطق النفوذ التركي، ومناطق الوجود الكردي، والمناطق التي وصفها منظرو التقسيم (نأتي على أفكارهم لاحقاً، من أمثال راسموسن ولانديس)، بالمؤهلة للتقسيم قبل غيرها، ولماذا هكذا مبادرة ستفضي إلى التقسيم؟

لأنها ستسمح بإطالة أمد الحرب، وإطالة عمر الأزمة، وتدمير ما تبقى من سورية، وتنويع الكيانات القائمة فيها. ولأن دعوات “المناطق العازلة”، أو “تجميد القتال”، أو “مناطق الحكم الذاتي”، أو “المناطق المجمدة”، ليست سوى مبادرات تهيئ الأرض للتقسيم، في ظل الظروف الحالية على الأرض، أو للتوزيع بين العصابات المسلحة والنظام، متجاوزة الأبعاد الجمعية والجغرافية والوطنية للمجتمع السوري. إن تقسيم الناس، وفق تموضعهم المكاني والجغرافي، سيعطي الحق لمسلحين نصّبوا أنفسهم أولياء على كلا الجانبين، وشيّدوا امبراطورياتهم المالية والاقتصادية والعسكرية، وإلا ما معنى أن لا يكتفي دي ميستورا بتجميد الوضع في حلب، وإنما بإقامة إدارة محلية، بالمشاركة، أو لكل طرف على حدة. في الحالتين، ثمة مزيد من الشرذمة والفوضى، فإذا كانت إدارة محلية مشتركة (النظام والمعارضة)، سيطالب النظام بعودة موظفيه إلى شرق حلب، بما فيهم موظفو الأجهزة الأمنية والمخابرات، وهنا عودة للنظام أو قتال جديد، وإذا كان إدارة مستقلة، فهنا صراع لا ينتهي بين الفصائل المسلحة.

ولا يمكن، كما تدعي المبادرة، لأهالي المناطق أن يباشروا الخدمات الإدارية والخدمية بأنفسهم، ولن يكون في وسع حكومة معارضة مؤقتة، هزيلة وجاهلة، أن تدير شؤون الناس، وتحكم بينهم بالمعروف، في ظروف عدم الاعتراف بها من المسلحين الموجودين على الأرض، وسيكشف دي ميستورا المستور، ويبدو العجز والفقر، ونفوذ العصابات المسلحة، والعصابات التي ستولد بفعل إغراء المال والسلطة.

ولن يستطيع الجيش السوري الحر، قليل العدد والعتاد، وضعيف التأثير والوجود، أن يمنع تأثير الميليشيات المتمترسة في المناطق، بل إنه سيفتت نفسه، ويتحول إلى مرتزقة تتقاتل مع الميليشيات الأخرى. وستندلع الخلافات مع الإخوة الأكراد أكثر، وتطرح أفكار الانفصالين بحدة، تلك المطالبة بالانفصال عن سورية. وهناك مخاوف من نفوذ تركي متزايد في المنطقة العازلة، يمكن أن يتطور إلى نفوذ سياسي واقتصادي، لا يبقي على شيء من الصناعات أو الاقتصاد السوري.

لا تصدقوا كل هذه الخرافات التي لا تعدو كونها مقدمات وبالونات اختبار لأفكار التقسيم الشامل التي يروجها حالياً أصدقاء إسرائيل، أمثال راسموسن ولانديس، والتي سيتم طرحها في الوقت المناسب، حين تسقط الحلول الجزئية المسماة “المناطق المجمدة”، أو “مناطق الادارة الذاتية”. ويكذب مَن يقول إن خطة دي ميستورا تقطع الطريق على دعوة المنطقة العازلة التي تريدها تركيا، أو على تقسيم سورية، لأن الخطة نفسها بداية التقسيم، وبداية مذابح الإمارات الإسلامية المسلحة.

العربي الجديد

 

 

 

 

دي ميستورا.. تسييس الحقائق وإهمال القضيّة/ معن طلاّع

تتدافع أطروحات الحلول السياسية بشأن سورية، وتتراكم على طاولة المهتمين المتصلين بالدبلوماسي ستيفان دي ميستورا، مباركةً خطواته وداعمةً له بدراسات وإحصائيات، تؤكد نجاعة طرحه تجميد مناطق الصراع وتثبيت واقع الهدن، انطلاقاً من إدراك تلك الدراسات عمق الانتكاسات الحادة في المستويات الاجتماعية والاقتصادية، والتي جعلت من الصراع الهوياتي في سورية صراعاً يفتح المجال لمستويات عنيفة، تهدّد التجذّر الحضاري والأصيل لهذا البلد، خصوصاً في ظل ما يفرزه الفعل العسكري من تشظٍ للجغرافيا والديمغرافيا السورية وتجاذبات وتحاربات، من شأنها تدمير ما تبقى من الدولة، وتشويه العلاقات البينية بالبنية السورية، لتغدو علاقات مصدرها التعنت والإلغاء والتغييب ونسف الآخر.

وجوهر معظم تلك الحلول يدور حول أمرين، الأول: الهدن، لا سيما مع تحولها من ديناميكية محلية، لجأ إليها أطراف الصراع الداخلي (النظام والمعارضة)، لخدمة مصالحهما الآنية والبعيدة المدى، إلى مقاربة أممية عبّر عنها المبعوث الأممي، استيفان دي مستورا، في خطته المتمحورة حول تجميد القتال في مناطق محددة، وتوقيع اتفاقات هدن بين طرفي الصراع، أملاً بأن يفضي ذلك إلى حل سياسي. الأمر الثاني: أولوية مكافحة الإرهاب، انسجاماً مع استراتيجية الفاعل الأميركي باعتبار ظهور الجماعات العابرة للحدود وتمددها مهدداً أمنياً لدول المنطقة والإقليم، كما أنه مهددٌ لطرفي الصراع، كون مشروعه يتعدى الجغرافيا السورية، ويتعدى النظام وأهداف الثورة السورية.

ومع واقعية مبررات الدراسات الدافعة باتجاه المضيّ تجاه القبول بمبادرة دي ميستورا، إلا أن توظيف نتائج الاستبيانات للهدن في الأروقة السياسية، بشكل يخرج نتائج البحث عن سياقها، ويجتزئ منه المبتغى سياسياً فقط، تجعل عملية البحث العلمي خاضعة لمعايير سياسية غير موضوعية، بالإضافة إلى أن استغلال الملف الإنساني المرافق عمليات الهدن في عمليات التطويع السياسي، وسوقه ليكون مدخلاً لحل سياسي، يفضي إلى حل عادل للقضية المجتمعية السورية، سيكون من شأنه إنتاج مقاربات مغلوطة في رؤية سياسية تميل مع طرف ضد آخر.

وفي هذا الصدد، لا بد من التركيز على حقيقتين، تجاهلهما السياسي عند قراءته مثل هذه الدراسات. تتعلق الأولى بتحليل أثر الخصائص المحلية (البيئة الحاضنة) على المواقف من الهدن على كل من الوضع الاجتماعي والمعيشي الذي أفرزته الهدن، ويؤكد هذا التحليل أن الهدن لم تؤد الدور الذي كان مأمولاً منها، في إعادة العلاقات الاجتماعية للسكان المحليين إلى وضعها الطبيعي، بحكم استمرار التضييق المفروض على مناطق الهدن، بالإضافة إلى قلة حجم المكتسبات التي حققتها اتفاقيات الهدن للسكان المحليين، في قطاع الخدمات، وخصوصاً الطبابة والتعليم، وأنها اقتصرت على ما يمسّ الحياة آنياً. والثانية: عدم ضمان الهدن قيم العدل والحرية والكرامة للإنسان، حيث يؤكد الواقع عدم وجود تغيير ملحوظ في سلوكيات قوات النظام، وما تضم من ميليشيات ذات ولاء عابر للحدود. وهذا ما يبقي عوامل التوتر كامنة، ويشير إلى هشاشة اتفاقيات الهدن، ويضعف الأمل بأنها آلية قادرة على توفير البيئة المواتية لإطلاق عملية سياسية تنهي الصراع.

وخلاصة لواقع مناطق الهدن، يمكن القول إن الهدن لم تكن اتفاق تلاقٍ للمصالح، يوطئ للانفراج والتلاقي السياسي، وإنما كانت اتفاق وقاية شرٍّ، لم يغيّر جوهر علاقة النظام بالمجتمع، تلك العلاقة القائمة على الإكراه من خلال القمع.

وبالتالي، ما يحاول دي ميستورا الدفع به بهذا الخصوص يحتاج مزيداً من الأعمال التمهيدية، تضمن، أممياً ودولياً، تحسين شروط الهدن وتوثيقها واحترامها، ويقترح، هنا، أن تكون تحت الفصل السابع.

ولا شك أن استمرار الصراع السوري، من دون السعي إلى تبني أدوات الحل، هو أكبر مغذٍ وداعم لخطاب تنظيم الدولة الإسلامية الذي لا يزال يعتمد على استراتيجية استغلال المفرزات في شرعنة الطموحات التي تنمو خارج القيم الدينية، وحتى الإنسانية، وصوغها في إطار قائم على خطاب متستر بالدين، ذي أهداف تعبوية، ضد “عدو صفوي وصليبي”، ونصرة لـ”سني مظلوم ومهمّش”، بهدف التأثير على موارده البشرية الحالية أو المستهدفة.

كما أن الاستراتيجية الأميركية لمكافحة الإرهاب تحتوي على تناقضات عدة، لن تسهم، بشكلها الحالي، في تحجيم الإرهاب، ولن تبدد المخاوف الأمنية لدول المنطقة كافةً، إن لم ترتبط هذه العملية بمسار موازٍ قائم على تجفيف المصادر المسببة للإرهاب، والتي تزيد من مظلومية المجتمع السوري، حيث إن هذه الاستراتيجية خاضعة لمعايير أمنية، تفرضها جيوسياسية سورية، وليس وفق معايير متطلبات الحلول السياسية والاجتماعية السورية.

ووفقاً لأعلاه، يفرض السؤال التالي نفسه: كيف غدت مكافحة الإرهاب شرطاً ملزماً لأي مبادرة، خصوصاً عندما يكون هذا الشرط خاضعاً لبوصلة التحالف الضبابية فقط؟ وهنا تفيدنا الإجابات التاريخية في محاربة هذا “العدو” بأنه لن يتم تحجيمه وإلغاء فاعليته، إلا بأدوات مجتمعية وباستقرار اجتماعي، أي إن بداية نهاية التنظيم تبدأ مع تشكيل هيئة حكم انتقالي، تعيد للعجلة السياسية الداخلية حركتها التي ستنسجم مع الآمال المجتمعية، وبدورها سترفض أي مشروع يعيدها إلى حقبة الصراع والاقتتال، وستسهم في الحفاظ على ما تبقى من مؤسسات الدولة.

وتبقى أدوات المبعوثين الأمميين أسيرة سياسات الفاعلين الدوليين، وهو ما يحدّد ويقلّص هوامش المرونة المتّبعة منهم، ويجعل مهامهم السياسية صعبة للغاية، فكوفي أنان بدأ مهمته بنزعة براغماتية، وطرح نقاطه الست التي تضمن انتقالاً سياسياً للسلطة، وفشلت المهمة على الرغم من التأييد الإعلامي لها. وتابع المهمة الأخضر الإبراهيمي بأداء سلبي، وتستر على مماطلة نظام الأسد وروسيا وإيران، وعمل على دفع الأطراف إلى تفاوض مباشر فشل، ولم يثمر شيئاً، على الرغم من حضور المجتمع الدولي في هذا المؤتمر، وها هو دي ميستورا يطرح مبادرته المعللة بالواقعية، والمؤيدة بدعم أوروبي، وهي تثبيت هدنٍ محلية لا أكثر، من دون أن يقدم ضمانات لعدم تلاعب النظام بالهدن، بابتزازه المعونات الإنسانية من غير توثيق يتمتع بشرعية الأمم المتحدة والقوانين الدولية. بالإضافة إلى تجميد مناطق الصراع، ناسفاً بالمعنى الحقيقي جوهر اتفاق جنيف، كإطار للعملية التفاوضية المفضية إلى حلٍ سياسي.

ينبغي ألا يشكل طرحنا أعلاه مدخلاً للإحباط، عبر الاستكانة وعدم السعي إلى امتلاك أدوات سياسية واقعية، تفضي إلى حل سياسي عادل شامل، بقدر ما أنه محفّز موضوعي لتجاوز الأخطاء التاريخية في سيرورة المقترحات الأممية لحل الأزمة في سورية، وتأكيدٌ على أهمية ونجاعة تشكيل هيئة حكم انتقالية مركزية، تحسن وتضمن مناطق الهدن المدارة ذاتياً، وتبدأ بعملية انتقال سياسي.

العربي الجديد

 

 

 

أينجح أوباما بما فشل فيه الأسد؟/ عمر قدور

ليس ثمة ما يدفع إلى الثقة بالإدارة الأميركية عندما تنقل عنها مصادر ديبلوماسية غربية “أن واشنطن لا تؤيد ولا تعارض المبادرة الروسية… على أن يكون الحل من دون بشار الأسد بسبب ما فعله بشعبه ورفضه أي حل سياسي”. السوابق مع إدارة أوباما تشير إلى أنها كانت طوال الوقت تنفّذ سياسة أدنى من تلك المعلنة تجاه الملف السوري. الأسوأ أن ما جرى التحذير منه منذ صفقة الكيماوي مع الأسد لم يؤخذ في الاعتبار من قبل المعارضة السورية، أو من قبل داعميها الخليجيين، إذ كان واضحاً من حينها انعطاف موقف الإدارة من “النأي بالنفس” إلى دعم شبه معلن لبقاء النظام مع التحفظ فقط على بقاء بشار الأسد. والتحفّظ هنا لا يرقى إلى مرتبة الرفض القاطع والنهائي طالما أنه لم يصدر لمرة واحدة في صياغة مُلزمة للإدارة، ذلك إذا لم نأخذ في الحسبان تعاطي الإدارة نفسها مع خطّها الكيماوي الأحمر الشهير.

موقف الإدارة الفعلي يتعين في عدة محطات تُظهر سلسلة من التراجعات إزاء الملف السوري، ولم تكن صفقة الكيماوي سوى أشدّها وضوحاً وأدناها على الصعيد الأخلاقي. فمنذ تخلّي كوفي عنان عن مهمته، لأن خطته ذات النقاط الستّ بقيت بلا دعم دولي حقيقي، ظهر أن الإدارة الأميركية لا تريد بذل أدنى جهد للحل في سوريا، على العكس من ذلك بدا أن دأبها هو فرملة الحلفاء الغربيين المتحمسين للضغط على روسيا، أو للعمل في سوريا دون غطاء من مجلس الأمن. اتفاق جنيف1 الذي أتى في 30/6/2012 كرّس إقصاء الحلفاء عن الملف السوري لصالح شراكة أميركية روسية، وهو وإن تضمن خطة عنان إلا أنه جعل منها جزءاً من صفقة سياسية متكاملة لا تمهيداً لأرضية الحل السياسي. الأهم من ذلك تراجع الإدارة، بموجب جنيف1، عن شرط تنحي الأسد لأن الرؤية الروسية للحل كانت واضحة في ما خص التمسك ببقاء الأسد، لكن الأهم إطلاقاً أن تضمين جنيف1 في القرار 2118 القاضي بنزع السلاح الكيماوي بقي بلا سند فعلي، على رغم أنه أقوى قرار أصدره مجلس الأمن في ما يخص الملف السوري.

في محطة جنيف2، وعدت الإدارة الأميركية المعارضة السورية، لتشجيعها على المشاركة، بأن إفشال المؤتمر من النظام وداعميه سيدفعها إلى زيادة دعم المعارضة، ولما حدث السيناريو المعروف سلفاً لم تفِ الإدارة بتعهداتها. واقعياً، كانت محطة جنيف2، أي منذ بداية العام الحالي، مناسبة لبيان تخلي الإدارة عن الانخراط الجدي في أي مشروع للحل في سوريا. فإفشال المؤتمر من قبل النظام وحلفائه لم “يخدش حياء” الديبلوماسية الأميركية، وبدل الدعم الموعود للمعارضة تقدمت خطوات نحو تجاهلها وعدم اعتبارها شريكاً مناسباً في الحل. ولن ننتظر طويلاً حتى يفصح أوباما عن استهانته التامة بالمعارضة بوصفها مجموعة من أطباء الأسنان والمزارعين!

مع ذلك، يبقى أهم تراجع أميركي في الملف السوري ذاك الذي رافق إنشاء الحلف ضد داعش. وللمفارقة، كان الحلف مناسبة لتنبري أقلام عربية مبشّرة بقرب سقوط الأسد. المفارقة الأخرى أن نظام الأسد كان قد دأب منذ انطلاق الثورة على تخويف مؤيديه بالتطرف الإسلامي القادم حتى أصبح التطرف واقعاً على الأرض، وحتى أصبحت نقطة ضعفه أمام مؤيديه أنه لم يتمكن خلال سنوات من سحق المتطرفين الذين باتوا تهديداً حقيقياً له. هنا أتى الحلف ضد داعش كأنه هدية من السماء للأسد أمام مؤيديه. فالحلف الذي رُوّج لعمله على أنه منفصل تماماً عن المسألة السورية قدّم خدمة كبرى لإيران في العراق وسوريا من دون الدخول معها في مساومة جادة تدفعها إلى تقديم تنازلات في أيّ من البلدين. وإذا كانت محاربة التطرف مصلحة سورية عامة أيضاً فهي لم تترافق بأي ضغط على النظام الذي أوجد البيئة المناسبة للتطرف، بل كان الحلف ضد داعش مناسبة للضغط على الدول الحليفة لإيقاف دعمها لأعداء الأسد، في حين كان في وسع الإدارة “بدل ذلك” الضغط لتوجيه الدعم نحو قوى سورية معتدلة.

الأهم أن قبول الحلفاء بمقتضيات الحلف عنى تسليماً منهم بالإستراتيجية الأميركية في سوريا. ولم يكن من المصادفة الضعف المفاجئ لقوى الاعتدال، بصرف النظر عن جدارتها بهذا الوصف، ومن ثم انقضاض القوى الأكثر تطرفاً عليها، تماماً مع إنشاء الحلف وبدء عملياته. أما برنامج تدريب المعارضة المعتدلة الذي أقرته الإدارة فهو بكل تفاصيله لا يعدو كونه نكتة لا تستحق النقاش الجاد.

اختيار المبعوثين الدوليين إلى سوريا لم يكن بدوره خارج مسلسل التراجع الأمريكي، وصولاً إلى المبعوث الحالي الذي لا يخفى انقلابه على جنيف1 بالتوازي مع المبادرة الروسية. لكن التراجع الأخير ربما يُعلن عنه قريباً، بخاصة مع التسريبات عن عودة فتح السفارة الأميركية في دمشق، لذا سيكون من الخفة تصديق الإدارة عندما تستثني الأسد من الحل. على رغم ما سبق، أي على رغم ما يشبه مشاركة أميركية حثيثة في حماية الأسد، لا يمكن القول بأن النظام أثبت قدرته على البقاء أو استثمر الدعم الأميركي الخفيّ. ما يطمح إليه النظام أكبر من هذا، وربما هنا مكمن الخطر القادم على السوريين، وهو أن تسرع الإدارة في ما تبقى من عمرها لتعمل على تصفية القضية السورية نهائياً.

المدن

 

 

مبادرات وتحديات مطروحة علينا/ عبدالباسط سيدا

يكثر الحديث اليوم عن مشاريع مبادرات تخص سورية، وفي مقدمها مبادرة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا التي لم تخرج عن كونها مجموعة أفكار تتمحور حول الدعوة إلى تجميد الوضع في حلب لأسباب إنسانية أولاً، ومن دون إفصاح عن ملامح المرحلة التالية لما بعد حلب، أو تقديم إجابة واضحة محددة حول التساؤلين الآتيين:

– هل ستكون فكرة تجميد القتال في حلب، إضافة كمية إلى مشروع النظام الخاص بـ «الهُدن»، وبالتالي سيكون مصير حلب كمصير حمص؟

– أم إن الفكرة المعنية خطوة ضمن إطار استراتيجية عامة، هدفها الأخير معالجة المسألة السورية بصورة شاملة؟

ما قدّمه دي ميستورا حتى الآن لا يسمح بقراءة أو استنتاج الجواب. هذا مع إقرارنا بخبرة الرجل وتفرّد أسلوبه في التعامل مع القضايا المعقدة سابقاً. وهناك من يرى أن الرجل قرر البدء من القاعدة، من الميدان، ليصل لاحقاً إلى الذروة المتمثلة بالحل السياسي الشامل، وذلك بعدما فشلت مفاوضات جنيف 2 الكرنفالية التي قامت على فكرة أن الحل السياسي هو الأساس، وأن القضايا الأخرى، الإنسانية والميدانية، ستعالج بسهولة أكبر بعد بلوغه.

المبادرة الثانية التي بدأت تثير اهتمام مختلف الأطراف، وهي موضع مناقشات داخلية ضمن المعارضة السورية بأطرها الكثيرة، فهي التي دعت إليها وزارة الخارجية الروسية. مضمونها يقوم على إنجاز خطوتين متضايفتين: تتجسد الأولى في جمع المعارضة بكل أطيافها وتوجهاتها، أُطراً ومنظمات وشخصيات، من دون أحكام مسبقة، ليتحاور الجميع معاً للوصول إلى قواسم مشتركة بخصوص آفاق وملامح الحل السياسي. بعد ذلك، تأتي الخطوة التالية عبر تنظيم حوار بين المعارضة والنظام، للوصول إلى توافقات في شأن الحل السياسي الممكن.

وهذه المبادرة هي الأخرى تستوجب تساؤلاً مشروعاً: ما طبيعة التصور الروسي وحدوده لسقف الحل المنشود وإمكانيته؟ فهل باتت روسيا مقتنعة فعلاً بضرورة التوصل إلى معالجة الوضع في سورية، بخاصة بعد تفاقم مشكلاتها الاقتصادية نتيجة العقوبات الدولية، وتراجع أسعار النفط، إلى جانب الأزمة المفتوحة في أوكرانيا، وتراجع العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة، أم إنها ستظل على موقفها المعهود بالنسبة إلى سورية، وما دعوتها هذه سوى محاولة لإعطاء المزيد من الوقت للنظام، حليفها، عبر إشغال المعارضة، وبلبلتها، والسعي إلى تدجينها، تمهيداً لإدخالها في عملية سياسية مع النظام، وبالشروط التي تناسب الأخير، وتتناغم مع الحسابات والمصالح الروسية؟ وبطبيعة الحال، يبقى الموقف الإيراني من المبادرة المعنية الصندوق الأسود الذي لا بد من أخذ محتوياته في الاعتبار. وإلى هاتين المبادرتين، هناك من يتحدث عن جهود مصرية تتمحور هي الأخرى حول إمكانية إجراء حوار بين المعارضة والنظام، حتى لو بطريقة غير مباشرة، للوصول إلى حل ما.

وربما كان الإيجابي في هذه الجهود، على رغم الملاحظات الجدية حولها، أنها ستساهم في تحريك الأجواء، وتؤكد أن الحل الواقعي الممكن هو في نهاية المطاف سياسي. وعبر التحركات والاتصالات الجارية، يستشف المرء أن هناك خيطاً ناظماً، ولو كان رفيعاً وغير مرئي، بين المبادرات الثلاث.

ولكن هناك، في المقابل، من يرى أن هذه الجهود لن تسفر عن شيء طالما أن النظام يشعر بالارتياح، وبالتالي فالوضع يستوجب إعداد القوى الميدانية، تدريباً ومعدات، وإفهام النظام بالملموس أنه سيواجه ضغطاً عسكرياً في حال عدم انصياعه للحل السياسي الذي لا يكون بشروطه ووفق مقاساته.

وما يعزز موقف هؤلاء أن السمات الراهنة للوضع توحي بعدم وجود استراتيجية أميركية لإحداث تحوّل نوعي في سورية، بينما هناك تركيز على الملف العراقي. وهناك حالة تنسيق غير معلن بين النظام والجهود العسكرية الأميركية في مواجهة «داعش» في سورية. وهي جهود يبدو أنها تستهدف أولاً استنزاف «داعش» وإضعافه، وليس القضاء النهائي عليه. والتسويغ الذي يُقدّم أن الأولوية الآن للملف العراقي.

كل ذلك يؤكد أن الأزمة السورية باتت في غاية التعقيد، بخاصة بعدما تداخلت ثلاثة مستويات هي: الوطني والإقليمي والدولي.

ونتيجة ضعف العامل الوطني بفعل خلافات المعارضة المزمنة، وتبعثر قواهاوتركيز أطرافها على قضايا بينية هامشية، طغى تأثير العاملين الإقليمي والدولي، الأمر الذي أخضع، ويخضع، العملية برمتها لحسابات ومصالح لا تعكس التوجهات السورية، ولا تحترم تطلعات السوريين وتضحياتهم خلال أربعة أعوام. وهذا ما تجلى خصوصاً بعد الإعلان عن التحالف الدولي لمحاربة إرهاب «داعش»، الأمر الذي أدّى إلى تباينات بين مواقف القوى الأساسية في مجموعة أصدقاء الشعب السوري، خصوصاً التباين الأميركي – التركي حول المنطقة العازلة ومصير الأسد. وهناك عدم ارتياح سعودي وقطري لطريقة إدارة الأمور في محاربة الإرهاب في سورية، بخاصة التناسي الأميركي لموضوع النظام، والاكتفاء بضربات جوية ضد «داعش» لم تؤدِّ حتى الآن إلى نتائج حاسمة تقلب الموازين على الأرض. وهذا على رغم دخولهما العلني في التحالف المذكور.

وبناء على ما تقدم، يبقى العامل الذاتي الوطني حجر الأساس في أي تعامل مع المبادرات والجهود التي تقارب المسألة السورية. فمن دون قيادة سياسية متماسكة للمعارضة تمتلك رؤية سياسة واضحة ومطمئنة لسائر المكوّنات السورية، على قاعدة احترام الحقوق والخصوصيات، وتكون بعيدة كل البعد من التعصب والتطرف في أشكالهما، وتأخذ في اعتبارها المعادلات الإقليمية والدولية، وتؤكد للجميع أن سورية المستقبل ستكون عامل استقرار وانسجام لمصلحة الجميع، ستبقى الأمور عائمة، مفتوحة على غير ما هو منشود. ومن دون قيادة كهذه ستبقى كل جهود المعارضة الميدانية، بما في ذلك تدريب القوات لدى الدول المختلفة، مجرد قطع متناثرة في لوحة غير مكتملة.

والائتلاف الوطني السوري باعتباره المؤسسة الوحيدة في المعارضة التي ما زالت تحظى باعتراف دولي، مطالب أكثر من أي وقت مضى بتجاوز خلافاته العقيمة العبثية التي غالباً ما تدور حول حسابات انتخابية في غير محلها، وذلك استعداداً للانفتاح على القوى الأخرى في المعارضة وبناء العلاقات الوثيقة الحقيقية مع القوى الميدانية الفعلية، والدعوة إلى حوار جاد بمبادرة وطنية سورية هدفها اتخاذ قرارات عقلانية جريئة، تكون مقدمة أكيدة لحل واقعي يضع حداً لمحنة الشعب والبلد.

الحياة

 

 

 

 

عودة إلى الوقت الضائع/ فواز حداد

مع قرب انتهاء العام الرابع من المأساة السورية، تبدأ دورة جديدة من الحلول. بمناسبة قدوم عام جديد، فقد سارع الروس إلى دعوة النظام والمعارضة إلى الاجتماع في نهاية الشهر الأول من العام الجديد. طبعاً سبقت الدعوة تحضيرات ومشاورات ما زالت مستمرة، بمشاركة مصرية، وتأييد من المبعوث الدولي دي ميستورا، ترافقت مع ابتعاد الأوربيين والأمريكان عن ساحة الدبلوماسية النشطة. تعتمد المبادرة الروسية في أحد مراحلها على ما طرحه ويعمل عليه دي ميستورا حول تجميد الصراع، ما يتيح للمبادرة الروسية التقدم نحو هدفها، بإيجاد أسس لها على الأرض.

إلى أي حد من الممكن أن تبث هذه التحركات بين موسكو ودمشق والقاهرة التفاؤل بحل الأزمة السورية؟ الأطراف الرئيسة، النظام والمعارضة على طرفي نقيض، لا يبشران بتفاهم سريع محتمل، على الرغم من أن المعارضة لا ما نع لديها من بعض التنازلات التي لو قدمتها من قبل لاتهمت بالخيانة، الظروف الحالية والضغوط الدولية، وظهور “داعش”، يجبرها على ما كان محظراً عليها حتى الهمس به، بينما النظام على حاله يرفض التراجع عما بات من المسلمات لديه، واي شيء يطلب منه يعتبره خطاً أحمر، وحتى لو أراد، إيران لن توافق، حزب الله موجود في ساحات القتال السورية ومعه الميليشيات العراقية المذهبية، حراس الخطوط الحمر. غير أن الروس مثلما سيراعون مصالحهم بالدرجة الأولى، فمراعاتهم للمصالح الإيرانية لن تقل عنها، أي أن الإيرانيين في صلب المبادرة. لذلك أي تنازلات إضافية لن تكون إلا من جانب المعارضة على حساب السوريين. وبذلك لن تستطيع المعارضة اقناع الفصائل المقاتلة الإسلامية ولا المعتدلة بحل لإيقاف القتال لا يرضي سوى النظام والإيرانيين والروس.

السؤال، ما دور دي ميستورا في حل غير متوازن، لا يشجع المعارضة على القبول به، إلا بسبب أوضاعها المتدهورة، ولا جدوى من تمريره للجماعات المقاتلة؟ مهما حاول دي ميستورتقريب وجهات النظر، فلا فائدة، مادام أنه اصلاً أخذ على عاتقه قضية محروقة، إن لم تدعمه أمريكا وأوربا، فلن يستطيع إحراز تقدم في مهمته، كما أن المجتمع الدولي ليس بوسعه فعل شيء، فهو مكتوف اليدين منذ بداية الأزمة وحتى الآن. وإذا بدا أن الامريكان والأوربيون ابتعدوا عما يجري، لكنهم يراقبون عن كثب. النتيجة؛ المزيد من الوقت الضائع لمبادرات تثبت أن الروس غير قادرين على الحل وحدهم، حتى لو حاولوا اجراء اختراق بتليين عناد النظام السوري، وتجميل تنازلاته بتضخيمها ولو شكلياً، النظام حذر تجاه أي مبادرة، أساليبه لا يتخلى عنها، اشتراطات تفقد أي مبادرة مضمونها وهدفها، والتباهى بإغراقها في تفاصيل تافهة، ثم لماذا التنازلات بعدما خاض حرباً طوال أربع سنوات، ونجح بخبرات إيرانية وروسية في تحويل المظاهرات السلمية إلى مسلحة، ومن ثم إلى حرب شعواء بالأسلحة الثقيلة، واتاح الفرص للإسلاميين بمعاودة نشاطهم، وتوطين القاعدة تحت مسمى جبهة النصرة، وظهور “داعش” الأشد خطرا ووحشية. ونجاحه اعلامياً في تصوير الحرب على أنها ضد الإرهاب. بالنسبة للنظام هذا ليس وقت الاستسلام ولا القبول بحلول وسط، هذا وقت الانتصار.

ما زالت سورية ترسف في الوقت الضائع، الطريق المسدود ما زال مسدوداً، حتى الروس أنفسهم الذي أنقذوا النظام مراراً مضطرون إلى مواصلة دعمه، مبادرتهم لا أكثر من أنهم لا يريدون إعلان افلاسهم، ثمة فائدة منها؛ إحراج المعارضة بحلول لا تأثير لها في الداخل السوري، المعارضة أول من سيدرك تهافتها.

الطريق إلى الحل ما زال طويلاً وشاقاً، إذا كان العالم قد نجح بتيئيس المعارضة، فالمطلوب الآن تيئيس النظام وإيران وروسيا من حرب لم تعد عائداتها توازي خسائرها، وهذا حالياً كما يبدو يحتاج الى زمن لم يئن بعد. لابد من التفكير بشيء آخر، ربما فيه انقاذ من بات ينبغي إنقاذه فعلاً، وهو الشعب السوري وإخراجه من هذه الكارثة، قبل أن يتشتت شمله أمواتاً تحت الأرض، ونازحين فوق الأرض. هذا بعدما جرى تفتيته حتى أصبح عاجزاً عن التصالح مع نفسه تحت راية البوط العسكري والشرائع القاتلة.

الحل قد يكون متوافراً، لكن تنقصه الإرادة، والأهم أن لا أحد يعرفه.

المدن

 

 

 

 

هل ثمّة مبادرة روسية لحل الأزمة السورية؟/ عمر كوش

مبادرة اللامبادرة

التنسيق الإقليمي

العجز الروسي

ما يبذله الساسة الروس من جهود، وما يطرحونه من أفكار لحل الأزمة السورية، لا يرقى إلى مصاف مبادرة متكاملة، كونهم يستغلون فراغاً سياسياً، ويحاولون شغله، في ظل غياب الفاعلين الآخرين في الملف السوري عن القيام بأي فعل لحل عقد أزمته.

إضافة إلى أن طروحاتهم لم تخرج إلى الآن عن دائرة فشلها، وفشل الخطط والمبادرات التي سبقتها، لذلك ما زالت على الهامش، متقوقعة حول جسّ نبض المعارضة السورية والقوى الدولية الغربية، حيال محاولاتهم القديمة الجديدة، الهادفة إلى جمع المعارضة السورية مع النظام السوري، للتفاوض والحوار، بغية التوصل إلى حلول للأزمة في البلاد.

مبادرة اللامبادرة

ولا يتعدى ما يطرحه الروس مجرد أفكار غائمة، يطلقها لوسائل الإعلام -في بعض المناسبات- الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكذلك وزير الخارجية سيرغي لافروف، وكل من نائبيه غينادي غاتيلوف، وميخائيل بوغدانوف الذي التقى في العاصمة اللبنانية بشخصيات من المعارضة السورية، تدعي أنها صاحبة تمثيل للسوريين وتنطق باسمهم، وذلك بعد أن استقبل لافروف في العاصمة الروسية وفداً برئاسة أحمد معاذ الخطيب الذي اندفع في تقدير إرهاصات زيارته إلى موسكو، وراح يحلم بأن شمس الخلاص السوري قد تشرق من موسكو، وبالغ في حلمه طارقاً جدار المستحيل، لأن قادة الكرملين شركاء نظام الأسد في حربه الكارثية ضد غالبية الشعب السوري.

ويبدو أن ما يطرحه الروس لا يبتعد عن خطة دي ميستورا الغامضة أيضاً، والتي لا ترتقي بدورها إلى مصاف مبادرة متكاملة للحل السياسي في سوريا، لذلك فهي تلتقي مع طروحات الساسة الروس، مع الإيهام بأنها جدية، وأن لدى صاحبها الرغبة في الخروج بشيء، إلا أنها لا تخرج عن محاولة جس نبض المعارضة حيال الجلوس مع النظام.

لذلك فإن المهم بالنسبة إلى ميخائيل بوغدانوف هو “أن تعيد قوى المعارضة السورية البناءة، إطلاق الحوار السياسي مع ممثلين رسميين عن دمشق”، واللاحقة التي تبرر مثل هذا الحوار هي الوقوف “في وجه التحديات الخطيرة التي يمثلها الإرهاب الدولي”، أي على المعارضة أن تضع يدها بيد نظام الأسد، للوقوف بوجه داعش.

وفي هذا الطرح تجاهل تام لعذابات السوريين، وللقتلى والجرحى والمشردين نتيجة ما قام به هذا النظام من أعمال قتل، ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، حسب تقارير عديدة لمؤسسات الأمم المتحدة، وبالتالي فإن الطرح الروسي يهدف إلى إعادة تأهيل النظام الأسدي، وإعادة الشرعية الدولية إليه، من خلال إشراكه في “الحرب على الإرهاب”، على الطريقة البوتينية الروسية.

ويكشف واقع الحال، أنه -وخلال طول أمد الأزمة الذي يمتد على ما يقارب الأربع سنوات- لم يغير الروس من مواقفهم المساندة والداعمة بلا حدود لنظام الأسد، فبقيت تصوراتهم للحلول لا تخرج عن البوتقة المساندة للنظام السوري، لذلك لم يغيروا رؤيتهم السياسية لأي حل ممكن، وظلوا يرددون مقولة أن “لا يوجد في الأفق أي حل سياسي بغياب الأسد”، وتجد هذه المقولة منطقها -أيضاً- لدى حكام إيران، الذين يرددون -مثل نظرائهم الروس- كلاماً يعيد طرح الحلول الروسية بالطريقة ذاتها. وعلى هذا الأساس رحب ملالي إيران بالمبادرة الروسية، وبمبادرة دي ميستورا، بعد ترحيب نظام الأسد بها.

التنسيق الإقليمي

لا شك في أن الروس نسقوا تحركاتهم مع ساسة النظام الإيراني، لتسويق حلّ سياسي للأزمة السورية، يخدم النظام قبل كل شيء، ولم يفتهم التشاور مع قادة الانقلاب في مصر، خلال زيارة عبد الفتاح السيسي لموسكو مؤخراً. وربما، تكفل الأخير، خلالها، بإطلاع السعوديين على الطرح الروسي، وتسويق مقولة إن الحرب ضد “داعش” هي حرب ضد الإخوان المسلمين أيضاً، وإنه لا فرق بين الاثنين، باعتبارهما “تنظيمين إرهابيين” بالنسبة إليه، وبالنسبة إلى المملكة السعودية التي تصر على إيجاد بديل عن بشار الأسد.

ومن الطبيعي أن ينخرط السيسي في أي حراك يخدم مصلحة النظام السوري، وعلى هذا الأساس، عاد التنسيق الأمني السوري المصري، من خلال زيارات الوفود الأمنية، ومن خلال ما أشيع عن مبادرة مصرية، جوهرها، ينهض على تسويق مقولة الحفاظ على الجيش السوري، ومحاربة التنظيمات الإسلامية، وعدم السماح لها بالوصول إلى الحكم في سوريا، إضافة إلى القول بأنّ كلاً من النظامين، المصري والسوري، ينخرطان في معركة واحدة ضد المتطرفين الإسلاميين.

وفي نفس السياق، يبدو أن ثمة تنسيق مصري أردني حول دور أردني، يحاول التقريب بين وجهتي نظر الإدارة الأميركية والقيادة الروسية حيال الأزمة السورية، حيث زار عمّان عبد الفتاح السيسي، ثم قام العاهل الأردني بزيارة مباغتة إلى المملكة العربية السعودية.

ويأتي الدور الأردني على خلفية الاستناد إلى المقولة الأساس بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، المتمثلة بأولوية الحرب ضد “داعش”، ووفقها ظهر اقتراح حول خطة انتقالية، تستبعد سيناريو إسقاط نظام بشار الأسد، وكأن هذا السيناريو موجود أصلاً في حسابات صناع القرار في واشطن، الذين أعلنوا مراراً أن لا خطط لديهم لإسقاط أو محاربة هذا النظام، بل إنهم لم يفعلوا شيئاً ضده، حين تجاوز الأسد الخط الأحمر -الذي وضعه الرئيس الأميركي باراك أوباما- وهاجم شعبه بالأسلحة الكيميائية، واكتفت واشنطن بعقد صفقة مع الروس، جردت النظام من تلك الأسلحة.

العجز الروسي

بالرغم من دعوة الساسة الروس إلى مؤتمر “موسكو1″، إلا أنهم لم يقدموا أي شيء جديد من الناحية الجوهرية، سوى تقويض اتفاق جنيف1، بعدما أسهموا في إفشال مفاوضات جنيف2.

وكان يمكن للقادة الروس أن يستغلوا الفراغ السياسي الحاصل في الملف السوري، بسبب تفرغ الإدارة الأميركية للتحالف الدولي والعربي الذي تقوده في حربها ضد “داعش”، إلى جانب موقفها غير الحاسم من النظام السوري، لكنهم ظهروا عاجزين، وغير مؤهلين للعب مثل هذا الدور، بالرغم من تنطعهم بلعب دور الدولة العظمى الثانية في العالم.

فلم يجد بوتين -خلال زياته الأخيرة إلى تركيا- سوى التغني بمهزلة انتخابات بشار الأسد، واعتبارها شرعية، الأمر الذي يكشف تركيبة العقل السياسي المتحكم في روسيا، وطبيعة النهج الذي اتبعه في معاداة الثورة السورية، والدعم الهائل لنظام الأسد، قرين النظام الروسي وشبيهه في النهج والممارسة والتوجهات.

ويؤكد كلام الرئيس الروسي عجز العقلية السياسية المتحكمة بالساسة الروس، التي لا تختلف كثيراً عن عقلية النظام السوري، إذ الهاجس الأساسي الذي يسكن أذهانهم هو البقاء في الحكم، وعدم التخلي عنه، لذلك تتشابه الممارسات، وتختلف درجتها وشكليتها، من حيث إن النظام الروسي دخل في لعبة ديمقراطية، لا تحقق هدف الديمقراطية في تداول السلطة، بل تدخلها في لعبة تبادل الأدوار على كرسي الرئاسة الروسية.

ويسود اعتقاد في الأوساط السياسية الروسية، يفيد بأن حمايتهم للنظام السوري يمكن أن توفر حضوراً روسياً قوياً في مختلف ملفات الشرق الأوسط، وفي التسويات التي يمكن أن تحصل في المستقبل بخصوص إيران وملفها النووي، بل يمكن أن تشكل سابقة يمكن البناء عليها مع إيران والعراق ولبنان، ضمن سياسة بناء حلف جديد في المنطقة، تكون روسيا محوره الأساس والفاعل.

غير أن قادة روسيا لم يسهموا في حل أية قضية في العالم، سواء في زمن الاتحاد السوفياتي المندثر، أم في زمن ما بعد اندثاره، وبرهنوا على أنهم قادرين على تخريب وعرقلة طموحات الشعب السوري في التغيير والعيش بدون ظلم.

وما يزيد في عجز الدور الروسي عن إيجاد حل سياسي هو عدم امتلاك الساسة الروس لأي تصور متكامل لوقف حمام الدم في سوريا، الأمر الذي يكشف عجزهم عن المبادرة في طرح أي حل سياسي، حتى لو كان في مصلحتهم أو مصلحة حلفائهم، وهو ما يتجلى في الأحاديث التي أطلقها مؤخراً ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، في العاصمة اللبنانية، إلى المعارضة السورية التي لم تخرج عن كون غايتها القصوى هي الوصول إلى هدنة مؤقتة، لا تحول دون انفجار الوضع من جديد، الأمر الذي يظهر عجز السياسة واضمحلال التفكير السياسي الروسي السائد.

وإن كان الروس قد أعلنوا لزوارهم في أكثر من مناسبة بأن المسار السياسي لحل الأزمة، يجب أن يسير بالتوازي مع مسألة محاربة “الإرهاب” التي تُدندن عليها الدول، فإنهم طرحوا ذلك كي يتناغم ويلتقي مع ما ترمي إليه مبادرة دي ميستورا، ومع الجهود المصرية والأردنية، التي تهدف جميعاً إلى إعادة تأهيل نظام الأسد، عبر إدخاله في مفاوضات ترمي إلى إعادة الاعتراف به، وتوحيد الجهود لمحاربة “داعش”.

وبدلا من أن يسهم الروس في حلّ الأزمة، عملوا على التأثير على مجرياتها بشكل سلبي، بالنظر إلى الدعم اللامحدود للنظام، فيما كان المطلوب من روسيا المساعدة والضغط من أجل إيجاد حّل سياسي، يقطع تماماً مع الحل الأمني والعسكري الذي لا يمكنه إيجاد المخارج المناسبة لثورة شعبية.

وأن يوجه الضغط باتجاه تنفيذ خطوات على الأرض تلبي طموحات الشعب السوري، والتركيز على أولوية حلّ داخلي للأزمة، يجد آثاره ومفاعيله في وقف القتل والعنف، وسحب قطعات الجيش ووحداته من شوارع المدن والبلدات السورية، وإطلاق سراح كافة المعتقلين وسجناء الرأي، ومحاسبة المسؤولين عن أعمال القتل، والسماح لوسائل الإعلام بالدخول إلى سورية، وسوى ذلك كثير.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى