صفحات المستقبلمالك ونوس

مبايعات داعش.. الدلالات والمآلات/ مالك ونوس

 

 

لا شك أن إيغال الحكومات بالمواجهة العسكرية للمطالبين بإجراء إصلاحاتٍ، أو بتغيير الحكومات والأنظمة، يعتبر، بحد ذاته، إيغالاً في جر البلدان المبتلية بهذه الحكومات إلى حروبٍ، تعرف متى تبدأ، لكن، لا تعرف متى تنتهي. وإن انتهت تلك الحروب، فهي لا تعرف متى تنتهي ذيولها. ويبقى تَغييبُ الحلول الاقتصادية، ومنع تمكين الدولة المدنية، الخطأ الذي تثابر هذه الحكومات على ارتكابه. فهي بارعة في تحويل الصراع الطبقي، في مجتمعاتها، إلى صراع طائفي، بإبراز الخلافات الطائفية التاريخية، وتعويمها، لتصبح الشغل الشاغل لها، والخبر الأول في الإعلام، في حين يكون الواقع على الأرض عكس ذلك. وفي المجتمعات التي تخلو من الخلافات الطائفية، تنزع الحكومات إلى تحويل الصراع إلى إيديولوجي بين فرقاء البلاد من علمانيين ومتدينين، وتزكيته، ليطغى على الصراع المطلبي، فالمهم إبعاد الصراع عن بابها، ودفعه إلى حضيض المجتمعات الجاهزة، بسبب تجهيلها، لأي عصبية. وليس أبلغ من مثال تحويل هذا الصراع سوى المجرى الذي اتخذته التظاهرات المطلبية في سورية، وإيصالها إلى حربٍ عبثيةٍ أفرزت، أشهر ما أفرزت، تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الذي عرف انتشاراً قل نظيره بين التنظيمات الإسلامية أو الجهادية أو التكفيرية التي تماثله في دول أخرى. وقد ارتكب تنظيم الدولة من فظاعاتٍ، زادت من ضبابية الحل المأمول للصراع في سورية والبلاد العربية، حتى بات كل صبحٍ، يحمل معه جديداً في هذا المضمار.

لكن، ثمة جانب في تبعات موضوع ظهور تنظيم داعش، قد أغفل، قليلاً، ولم يعطَ الاهتمام اللازم، على الرغم من خطورته، وعلى الرغم من ضرورة إيلائه بحثاً كثيراً، لما للإضاءة عليه من أهمية، من أجل معرفة كيفية التعامل مع هذا التنظيم وأشباهه، في دول أبعد ما تكون عن ساحة المعركة، اتخذت داعش من الأرض السورية والعراقية مسرحاً لها، ومنطلقاً لتحقيق حلم دولةٍ، خلافتها في الشرق وبعض إفريقيا وأوروبا، والمقصود هو مبايعة منظمات إسلامية وجهادية في عدد من البلدان لتنظيم داعش. أمر يدل على أن جنين التطرف والتكفير الذي تحمله مجتمعات هذه الدول يمكن أن يولد في أية لحظةٍ، يجدها مؤاتية، ويفعل فيها ما فعل داعش في العراق وسورية، مستلهما إيديولوجيته وتكتيكاته. كما أن له دلالة أخرى، أيضاً، هي أن هذه الدول التي تتشدق السلطات الحاكمة، في بعضها، بالحداثة والعلمانية اللتين تتصفان بهما دولها، ما هما سوى قشرة خارجية، تخفي تحتها حقيقة التطرف الديني وسطوة الغيبيات على التفكير السائد. كما وتخفي ما هو أخطر، الاستعداد عند شريحة واسعة من الشباب للانجرار، أو الانجراف، في موجة الجهاد العشوائي فاقد الهدف، وتبني الفكر التكفيري، واعتبار الذبح عودة للعقيدة الحقة التي ينتظرون تطبيق شرعها في بلدانهم.

في هذا المجال، رأينا كيف تتالت موجات مبايعة داعش ودولة خلافتها في دول إسلامية. فبعد إعلان أبو محمد العدناني قيام الخلافة، في 29 يونيو/ حزيران الماضي، ومبايعته زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي خليفةً، ومطالبة سائر الجماعات الإسلامية، وكل مَن يؤمن بالله، بمبايعته، كرت سبحة المبايعات لداعش. وقد بايعت جماعات إسلامية في العراق وسورية تنظيم داعش، منها “أنصار الإسلام” الكردية في شمال العراق وتنظيم “خراسان”، فيما حُكِيَ عن مبايعة “جبهة النصرة” السورية سراً. وفي الأردن، بايع أنصار التيار السلفي داعش. كذلك الأمر في اليمن بالنسبة “للقاعدة في أرض اليمن” التي أعلن داعش أن بعض أفراد التنظيم قد بايعوا البغدادي خليفةً. وفي مصر، أعلنت جماعتا “جند الخلافة” و”تنظيم بيت المقدس” البيعة. وكذلك في السودان، حيث أعلنت جماعة “الاعتصام بالكتاب والسنّة” البيعة أيضاً. وفي ليبيا، بايع تنظيم “أنصار الشريعة” دولة الخلافة. وفي تونس، أعلن كل من تنظيمي “كتيبة عقبة بن نافع” و”أنصار الشريعة” البيعة. وفي الجزائر، أعلن تنظيم “جند الخلافة” المنشق عن تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب” البيعة. وكذلك الأمر بالنسبة لجماعة “بوكو حرام” في النيجر، في حين من المتوقع أن تعلن عدة تنظيمات في أفريقيا البيعة، أيضاً. وفيما ساد لغط حول مبايعة “حركة طالبان باكستان” الخليفة وتنظيمه، سارعت تنظيمات أخرى إلى علان المبايعة، لتنفي هذه الحركة في السادس من هذا الشهر مبايعتها داعش. كما أعلنت حركة “أبو سياف” الجهادية في جنوب الفلبين المبايعة، وهي الحركة المشهورة بدمويتها. وفي إندونيسيا، أعلنت حركات إسلامية عديدة مبايعة، وعلى رأسها “شبكة مجاهدي شرق إندونيسيا”.

لا بد أنه غاب عن بال مسؤولي حكومات الدول التي شهدت المبايعات المذكورة، أن الحلم والطموح لدى هذه المنظمات زاد. ولم تعد الأحلام الصغيرة هي السائدة، بعدما لُمِسَ الحال السيئ والفقر المدقع لمس اليد. وستبقى هذه الحكومات في غيِّها تنكر وجود تنظيمات كهذه على أرض بلادها. وستواصل نكران أن هذا التنظيم ليس بالخطورة على أرضها، طالما لا تشهد قتالاً ضدها. وتنكر أن عملية نسخ تجربة داعش في سورية والعراق يمكن أن يكون بأسرع ممّا تتوقعه، النسخ الذي يمكنه أن ينفخ الروح في التنظيمات النائمة، جاعلاً إياها تستعد لاستقبال موجات الشبان الذين يحملون، تحت جوانحهم، حلم الجهاد.

حينها، لن يتسنى للطبقة الحاكمة، في هذه البلدان، الوقت كي تسأل كيف نشأوا؟ ولا حين ستراهم، في زيهم الأفغاني، يجولون، بسلاحهم وسيوفهم، في شوارع مدنها، كي تسأل: من أين جاؤوا؟ ليتكرر المشهد الذي وقع في سورية، أوائل فبراير/ شباط سنة 2006، وتتكرر العبارات نفسها: “من أين جاؤوا؟” التي رددها التلفزيون ووسائل الإعلام السورية، يومها، حين صدمهم زي وهيئة المشاركين في التظاهرة التي خرجت أمام السفارة الدانماركية، للاحتجاج على الرسوم المسيئة للرسول. فحين تساءل الإعلام السوري ذلك السؤال، تناسى سنوات القمع التي لحقت باليساريين والعلمانيين الذي يطالبون بلقمةٍ وعيشٍ كريمٍ لمواطني بلدهم. وتناسى زج الكتّاب والمفكرين في السجون وهروب آخرين خارج البلاد، وانكفاء آخرين وتدجين آخرين، حتى خلت الساحة، تماماً، لأعضاء التيار الديني الذين لا يوجد عليهم أي فيتو، يمنعهم من النشاط العلني، أو استخبارات تراقب نشاطهم السري. في حين كان اجتماع اثنين من العلمانيين على كوب من الشاي يجلب لهم تهمة التحضير للشروع في انقلابٍ ضد النظام.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى