صفحات الرأيعلي جازو

متاهة الكائن الرقميّ/ علي جازو

 

 

 

ما يُتداوَل ويُشاع على مواقع التواصل والإنترنت الغزيرة يكاد ينزل منزلة الواقع والحدث الحقيقيين بالنسبة للمرتادين والمتواصلين الناشطين، وربما تدفع هذه الحال يوماً كل ما يقع خارج هذا الحقل المرئي إلى عداد المهمل والهامشي طالما لم يتحول إلى صورة – حدث. ذاك أنّ القران الحاصل بين الحدث والصورة ساوى بينهما، وجعل من الأخيرة دليل الأول، فالشائع والمتداول هما مادة الإعلان الصوري والرسالة المبثوثة والتفاعل الحي مع الحدث، وهما أيضاً المكان – اللامكان اللذان يُنشآن الواقع وينشرانه من دون توقف.

غير أن اليد التي تكبس على الزر ليست هي اليد التي تصافح ولا الوجه المقابل هو ذاك الذي يتبادل الحديث مع وجهٍ قرينٍ، كما أن العين التي ترى وتشاهد تظل نائية ومعزولة. وقوامُ هذه الحالة جعلُ المتواصلين والمتفاعلين، أبناء الواقع الطارئ، في مقام المتفرجين على عرض بلا نهاية. ليس هذا وحسب ما يمكن الخوف منه، فالزمن الذي يستغرق المشاعر والتفكير بها، تصريحاً أو كتماناً، رفضاً أو قبولاً، يتسع ويضيق في آن واحد، وهو بذلك مرآة تناقضٍ على حال المرء إذ يجد نفسه محاطاً بناس كثيرين ووحيداً في الوقت ذاته.

لا يبعث القول السالف على رفض مزايا الحياة المعاصرة ككلّ، والتي تأخذ فيها مواقع التواصل شأناً هو بمكانة اللب والدينامو الذي يضخ الوقائع والأحداث، معيداً إنتاجها على نحو صوري في الغالب. فالسكنُ داخل الصور سليلُ السير في أرض الأحلام التي تلغي الحدود وتكثف اللحظة وتمزج رماد القلق بشعاع الرغبة الكامنة داخل النفس البشرية. غير أننا لا نقوى على البقاء في أرض الأحلام كثيراً، فهي سرعان ما ترمينا في أحضان اليقظة المشرعة، كأنما بذلك تحثنا على النهوض الذي لا مفر منه.

لكن الكائن الرقمي، الذي غدا مزيج الحلم والحقيقة، يجد مشقة في صوغ حاله من جديد، فهو واحد وكثير في آن، منعزل وفي خضم الحشد الإلكتروني الذي لا يكف عن مرافقته. وفي هذه الحالة لا نعود على يقين إنْ كان يتحدث عما حلم به أو ما حصل له حقيقةً، وإنْ كان هذا الذي يجري من حولنا صورته التي يود بقاءها حيّة نابضةً، أم إن صوته الملموس يجوبُ تائهاً في مكان غير مرئي.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى