صفحات الثقافة

متشددون يهاجمون صالة في تونس تعرض فيلم «لا ربي لا سيدي» لنادية الفاني


معركة أخرى للديموقراطية

ن ج

لأنها أرادت، منذ ما قبل «ثورة الياسمين» في بلدها الأم، نظاماً مدنياً وعلمانياً متين البنية في مجتمعها، قادراً على الاستمرار، بل قابلاً لأن يُصبح نظاماً حياتياً متكاملاً وثابتاً. لأنها أعلنت رأيها هذا بعبارات صريحة، وبأعمال بصرية واضحة ومباشرة. لأنها رأت أن الصدق مع الذات أولاً ومع الآخر ثانياً، في التعاطي مع الشؤون الحياتية كلّها، الوسيلة الوحيدة للمجاهرة بالتزام الحريات العامّة، بل لعيش الحريات العامّة هذه وفقاً لقوانين عصرية مبنية على الديموقراطية الحقّة. لأنها اعتبرت أن المدنيّ والعلمانيّ صنوان لا يفترقان عن بعضهما البعض، وأن جعلهما نمطاً حياتياً يومياً، في الممارسة والعيش والفكر معاً، أمرٌ محتاجٌ إلى تضحيات ومثابرة على الدفاع عنهما. لأنها أقرّت علناً بما آمنت به واشتغلت عليه… كان لا بُدّ لها من أن تدفع ثمناً ما. كان لا بُدّ لمن التزم هذا الفكر وعاشه منفرداً على الأقلّ، مثلها، من أن يدفع ثمناً ما أيضاً. إنها، باختصار، المخرجة التونسية الفرنسية نادية الفاني (51 عاماً)، التي بدأت مؤخّراً حرباً جديداً ضد مرض ثانٍ، يبدو أنه أخطر من إصابتها بمرض سرطانيّ: مواجهة الحقد الأصوليّ المتشدّد. مواجهة العمى الدينيّ المتزمّت.

حربٌ ضروس

إنها حربٌ ضروس ضد الغزاة الحاملين راية الدين سلاحاً في وجه الآخرين جميعهم. حربٌ واقعةٌ منذ زمن بعيد، لكن جريمة الحادي عشر من أيلول 2001 منحتها زخماً إضافياً وحيوية جديدة. والخوف كلّه كامنٌ في أن تحمل الثورات العربية الحديثة بذوراً نقيضة لها (للثورات)، بإتاحة الفرصة أمام المتزمّتين والمحافظين الدينيين والمتشدّدين، للانتقام من أزمنة القمع والحصار والنفي، وللثأر ممن أراد المدنيَّ والعلمانيَّ سلوكاً حياتياً. ما حصل مع نادية الفاني في تونس، في السادس والعشرين من حزيران الفائت، محطّة من المحطات الكثيرة الخاصّة بالهجمات الأصوليّة ضد الفكر التنويري في العالم العربي. ضد من يُجاهر علناً بقناعته بفكر كهذا. ضد من يعيش تنويراً يومياً في حياته الاجتماعية أيضاً. ما حصل متمثّل بتصرّف مألوف لدى هؤلاء السلفيين الأصوليين، لأنهم لا يفقهون شيئاً آخر سواه: الاعتداءان الماديّ والمعنوي على كل من يقول كلاماً مغايراً أو مناقضاً لأهوائهم وتفسيراتهم الخاصّة بهم للدين. الاعتداء بالضرب والتخريب وسيلتهم الوحيدة للتعبير عن حضورهم الناشئ حديثاً إثر سقوط الطاغية التونسيّ، في لحظة التحوّل الأخطر الذي تعيشه تونس اليوم.

ما حصل يؤشّر إلى مرحلة مرتبكة وصدامية: الأصوليون المتزمّتون مصرّون على إرساء منطق العنف والإلغاء. منطق القمع الذي عانوا مراراته سنين طويلة، من دون أن يعني هذا تبريراً لممارستهم قمعاً شبيهاً بالقمع الذي عانوه، أو قمعاً من نوع آخر. مصرّون على نشر الظلام، متناسين أن الذين انتفضوا ضد الطاغية، أحد أعنف الطغاة العرب في نهايات القرن العشرين، لن يرضخوا لطغاة وإن حملوا راية الدين، ونفّذوا ما ظنّوه «أوامر إلهية». باختصار شديد، هذا ما حصل: أثناء عرض الفيلم الوثائقي «لا ربّي لا سيدي» لنادية الفاني في صالة «سينمافريكار»، نفّذ أصوليون متطرّفون اعتداءً مادياً عنيفاً، تمثّل بهجوم على الصالة أفضى إلى تخريبها، وبإلحاق أذى جسدياً وضرراً معنوياً بالغالبية الساحقة ممن كان حاضراً الحدث الثقافي المُقام بعنوان «ارفعوا أيديكم عن مبدعينا». في الإطار نفسه: هل يُمكن نسيان الاعتدائين المادي والمعنوي أيضاً ضد المخرج التونسي نوري بوزيد (أحد مغنّي «راب» هاجمه بأغنية داعياً إلى تصفيته، لدفاعه عن العلمانية والمجتمع المدنيّ، ما أدّى بأصوليين متزمّتين إلى محاولة تصفيته الجسدية)؟ هل يُمكن التغاضي عن الاعتداء الإرهابي المُمارَس على الفكر التنويري وأصحابه، في مدن عربية مختلفة، في أزمنة مختلفة أيضاً؟ ما حصــل في «سينمافريكار» حلقة جديدة من المسلسل الأصولي الإرهابي، المتنامي حالياً هنا وهناك.

في تعليقها على ما جرى، قالت نادية الفاني للموقع الإلكتروني الخاصّ بـ»مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي» (نُشرت مقتطفات من الحوار معها في الزميلة «المستقبل» في التاسع والعشرين من حزيران الفائت) إن المعتدين على الصالة وروّادها «لم يُشاهدوا الفيلم». أضافت أنهم لو شاهدوه «سيغيّرون رأيهم. الفيلم ليس ضد الإسلام كما يروّجون، بل عن حرية التعبير والمعتقد»، مشيرة إلى أن فيه مساحة واسعة للتسامح «لا يتحلّون هم بجزء يسير منها». يُذكر أن «لا ربّي لا سيدي» عُرض للمرّة الأولى في تونس في ختام الدورة الأخيرة لـ»مهرجان الفيلم الوثائقي» في نيسان الفائت: «كان العرض جيداً جداً. كذلك الحوار مع الجمهور الذي تلا العرض». غير أن المعتدين على صالة «سينمافريكار» اكتفوا بمشاهدة ريبورتاج تلفزيوني عن الفيلم والمهرجان الوثائقي، «فبدأ الهجوم منذ ذلك الوقت، وأهدروا دمي». وذكرت معلومات صحافية أن الريبورتاج التلفزيوني هذا عُرض على شاشة التلفزيون التونسي «هنيبعل»، وأن نادية الفاني عبّرت فيه بصراحة ووضوح عن «تمسّكها بالانتمائين المدنيّ والعلمانيّ، وبتحرّرها من الانتماء الديني».

الحريات في خطر

أما الفيلم، فبدأ تصويره في شهر آب من العام الفائت. ارتكزت مادته الأساسية على إثارة نقاش حول النظام العلماني، الذي تتوق نادية الفاني وتونسيون كثيرون إليه: «اضطرت المخرجة إلى القول حينها إن الفيلم يدور حول طقوس شهر رمضان، لتتمكّن من الحصول على موافقة الرقابة»، كما ذكرت معلومات صحافية. ومع انتهاء التصوير وبداية مرحلة التوليف، اندلعت «ثورة الياسمين» في بلدها: «كنتُ في مرحلة التوليف. لم أعتقد لحظة أن ثورة يُمكن أن تقوم. لذا، حملتُ الكاميرا مجدّداً عند قيام الثورة هذه، ونزلت إلى الشارع، وأعدت تركيب الفيلم بما يتلاءم والتطوّرات الميدانية. التغيير اللاحق بالفيلم طبيعي. ما كنا نناقشه سرّياً كأفراد، أضحى بعد الثورة أحد المحاور الأساسية للنقاش في تونس». يُذكر أن الفاني لم تكن موجودة في تونس أثناء الاعتداء الإرهابي هذا، لكنها أكّدت، في حوار صحافي، أنها عائدة إلى بلدها قريباً: «لستُ خائفة. لن أتوقّف عن محاربتهم. أنا في باريس اليوم لأني أخضع لعلاج من مرض السرطان. سأعود إلى تونس حتماً» («المستقبل»، 29 حزيران الفائت).

في تقرير صحافي منشور في الزميلة «القدس العربي»، في الحادي عشر من تموز الجاري، جاء أن الشرطة التونسية ألقت القبض على ستة وعشرين رجلاً بعد وقت قصير على الاعتداء، وأن سلفيين عديدين تجمهورا أمام وزارة العدل بعد ذلك بيومين مطالبين بالإفراج عنهم، ما أدّى إلى «مشاحنات مع محامين». وذكر التقرير الموقّع باسم أندرو هاموند أن ردود فعل وسائل الإعلام «العلمانية» والمثقفين «اتّسمت بالقلق»، وأن هؤلاء حذّروا من أن الحريات في تونس، التي كانت حصناً للعلمانية في ظلّ الحكم البوليسي للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، الممتدّ على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، «ستتعرّض للخطر، إذا لم يتمّ وقف الإسلاميين من مختلف أطياف الإسلام السياسي (عند حدّهم)». من جهته، كتب طيب زهار في الصحيفة التونسية الصادرة باللغة الفرنسية «رياليتيه»، أن «هذا يُنذر بما ينتظرنا، إذا لم يتمّ اتّخاذ إجراءات صارمة ضد هؤلاء السحرة، لأن لا شيء سيمنعهم عن مهاجمة الفنادق والملاهي الليلية، أو المواطنين الجالسين في مطعم». غير أن عبد الحميد حبيبي، القيادي في «حزب التحرير» (ذكر التقرير الصحافي المنشور في «القدس العربي» أنه حزب سلفيّ، وأن الشرطة التونسية اتّهمته بالاعتداء على صالة العرض السينمائي «سينمافريكار») قال إن «المجتمع الفني يحاول استفزاز السلفيين، لكنه يُسيء الحكم على المزاج العام للمواطنين التونسيين، الذين هم أكثر ميلاً إلى الاتجاه المحافظ مما كان يتصوّره أبو الدولة الحديثة الحبيب بورقيبة». وعلّق على الفيلم وعنوانه بالقول إن الدولة «ليست بحاجة إلى عرض فيلم كهذا يحمل العنوان هذا، في ظلّ الوضع الذي تمرّ به تونس الآن»، معتبراً ببساطة شديدة أن العرض السينمائي هذا «محاولة لاستفزاز الناس»، لأن الفيلم بالنسبة إليه «يُنكر وجود الله» (!).

إنها مرحلة عصيبة. الثورات لا تبلغ مراميها بسهولة وسرعة. المخاض طويل. الاعتداء على صالة سينمائية وعلى روّادها بالضرب والإهانة والتخريب فعلٌ يُعاقَب عليه. أو هكذا يجب. لكنه فعلٌ مُرشَّح لمزيد من الاعتداءات، إذا لم تضبط السلطات التونسية واقع الحال، بأن تُسرع في وضع قوانين عصرية ومتجدّدة، وفي انتشال البلد والمجتمع والناس من الضياع والفوضى. وإذا لم يحافظ المجتمع التونسي الحيوي والمتنوّر على قناعاته المتحرّرة من أي نير، ديني أو سياسي، يزداد الخراب والفوضى، اللذين يلائمان سياسة الأصوليين المتشدّدين والمتزمّتين، لأنهما يتيحان لهم مساحة أوسع للحراك المدمِّر. الديمقراطية طريقٌ إلى العصر الحديث. القوانين المتطوّرة ضابط إيقاع يُساهم في نجاحها وثباتها. المجتمع المدنيّ والعلماني أيضاً. الأصوليون قادرون على استغلال الديموقراطية. هذه معركة المجتمع المدنيّ والعلماني. نادية الفاني جزءٌ من المجتمع المذكور هذا.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى