صفحات الثقافة

مثقفـــون وحريـــات

 


عباس بيضون

كان الأمر كذلك ولا أجزم بأنه تغير. كتابات المثقفين ومؤتمراتهم ونقاشاتهم تكاد تكون مشاريع دول، وفي الأقل برامج كاملة للحكم. كان المثقف قريباً من الحاكم وعلى وشك أن يكونه لذا يتكلم كحاكم ظل وسلطة بديلة. لا يرضى بأقل من ذلك ومهما يكن موضوع المؤتمر فإنه يقدم حلولاً ومقترحات متكاملة ويتصرف كسلطة ظل. مهما يكن موضوع النقاش فإنه يقترح مساراً لمرحلة كاملة. كان المثقف قريباً من الحاكم وإن لم يعرفه فالحاكم من وسطه ولهما تقريباً التاريخ نفسه وإذا خاطب الحاكم لم تعدمه العبارات المشتركة والقيم المتبادلة فلهما اللغة نفسها والثقافة نفسها. لقد تربى الاثنان في الفضاء نفسه وعلى ذات الإشارات والاستعارات والصور فمن السهل أن تسمعه دوائر الحاكم وأن تفهمه. هكذا كانت الحال قبل أن تتسع الشقّة بين الاثنين ولم يعد المثقف يجد السبيل نفسه إلى ابن نشأته فقد دخل بين الاثنين حشد من أناس لا قبل لهم بالشعر والفكر والكلام بجملته، فبضاعتهم ومقوماتهم غير ذلك وبعيداً عنه بكثير. ليس الكلام فنهم بل العنف والمال. انهم رجال المخابرات والأثرياء الجدد وهؤلاء أبناء النظام لكنهم يوجهونه إلى مصالح تبدو اللغة القديمة بالنسبة لها قشوراً غير ذات فحوى ومعنى، لكن النظام يواصلها بل يحولها إلى إنشاء فوقي لا يمس ولا يقبل سؤالاً أو تفسيراً بل يتكرر ببغاوياً ليغطي كل مرة مواقف وسلوكات شتى متفرقة ومتضاربة. انه الكلام نفسه يغطي كل شيء ويبرر كل شيء ولا مجال لاستثماره في بحث أو حوار من أي نوع، فلا يصلح خطاباً ولا يصلح حواراً. لقد غير الحاكم بزته وممشاه وتطلعاته ومجالسه وحاشيته ومقربيه فيما لا يزال المثقف سادراً في لغته وفي نفسه وفي نشأته يكررها ويستزيد منها. يزداد إيمانه بنفسه ولغته ويزيده صمم الناس عنها إيماناً بها، فالعامة طالما كذبت الأنبياء والمصلحين، وطالما تمرغت في حضيضها ونعراتها وغرائزها، وليس العدد والكثرة حجة. يزداد المثقف المتصدي للسياسة والذي لا يزال الإصلاح والسياسة في رؤيته قرينين للثقافة إن لم يكونا مرادفين لها إيماناً بنفسه، فالمثقف يضع نفسه، بحسب ثقافة أيامه، في مقام المعلم والمصلح. لقد زادته الأيام دبلوماسية وحنكة لكنها لم تغير شيئاً في دعواه وفي رؤيته وفي خطابه.

لا يلتفت المثقف إلى أن السلطة لا تعيره سمعاً وانتباهاً. السياسي الصغير الذي فيه يظل قائماً، السياسي الصغير الذي فيه يريده أن يتدخل، لكن ليتوسط وليصلح وليقترح حلولاً، رغم أن الوقت فات ولا أحد يعيره سمعاً، انه يقترح وغالباً على لا أحد. يتدخل ولكن في غير وقته. يصلح ولكن لات حين إصلاح. انها تمنيات فحسب وهو ينثرها على آلة صماء، على جهاز أخرس. انه يوصي وينصح ويقترح حلولاً ويخاطب غائبين. من نافل القول ان الحاكم لا يؤخذ بكلام كهذا ولا يصغي له أساساً. ليس قائلوه بالنسبة إليه سوى هواة لا يصح الانشغال بهم ولا يصح تضييع الوقت في سماعهم. ما يقولونه يقولونه عن نية طيبة ولكنها ليست مسألة نوايا، الحكم أقسى وأشرس وأكثر صعوبة مما يحسبون. نصائحهم بنت جهل بالحكم وبالدولة وبالسياسة أساساً. يريدون أن يكونوا محل السياسيين لكنهم يضعون أنفسهم في غير محلها. هكذا تنتهي حكاية الحمامة التي شاءت أن تكون غراباً أو ولدت في عش الغربان. سينكرها الجميع ويضطرونها إلى أن تغادر الغابة. انهم يلقون هكذا صحائفهم على لا أحد وربما في غير مكان.

السياسي الصغير الذي في داخل مثقف كهذا لا ينام. لكنه السياسي الصغير ويبقى صغيراً. لن يسمح له أحد بأن يكبر، لا يريد له أحد أن يلعب دوراً. السياسي الصغير كثيراً ما يستغرق في دبلوماسية عقيمة. كثيراً ما يجد نفسه ناصحاً لكن على من يلقي دروسه، في الغالب على لا أحد. انه يعرف باب الحاكم وقد يعرف الحاكم نفسه، لكنه يخطئ حين يظن أنه يبيع الحاكم أفكاراً وأن الحاكم حقاً يشتريها. يخطئ حين يظن أنه قادر على الجمع بين الثورة والدولة. بين الحكم والمعارضة. أن يكون الثائر الأول والصديق الأول للسلطان. أن يكون في الوقت نفسه هنا وهناك.

حين ينفجر الوضع ويسيل الدم ويستحل القتل. لا يبقى وقت للنصيحة، لا يبقى سبيل للوساطة. لا مجال لأن يكون المرء هنا وهناك. حين تغدو الحياة البشرية بهذا الرخص ولا تعود لها حرمة ويستحل الحاكم إزهاقها وإخمادها وخنقها لتكون الأصوات ضده أقل وأضعف. حينئذ لا معنى للدبلوماسية ولا محل للسياسي الصغير الذي في داخل المثقف. لا محل إلا لاعتراض كامل واحتجاج كامل غير مشوبين بشيء. عندئذ لا يحق للمثقف أن يصمت أو يتراجع أو ينكفئ أو يعتزل. لا يحق له أن يساير وأن يهادن. إن الدم حينئذ على رؤوسنا، ونحن نحمله أين كنا وكيف كنا. لا نملك إلا أن ندين وإلا أن نعترض بملء الفم وملء الضمير. الدم على رؤوسنا وعندئذ فقط لا محل للاعتزال أو المحايدة أو المسايرة أو المحاباة. عندئذ فحسب لا حيرة في شأن الالتزام وعدمه، لا حيرة في الأمر الأخلاقي والواجب الأخلاقي. لا حيرة في دور المثقف أو وظيفته. لا حيرة في أمور كهذه ولا خيار للمثقف إلا أن يكون مع الضحيّة. لا خيار للمثقف إلا ان يحاكم ويدين وينحاز ويأخذ موقفاً. مهما كان رأينا في حرية المثقف والكاتب ومهما وسعنا عليه ولم نلزمه بشيء إلا أننا نعرف إلى أين أفضى ببورخيس وسام بينوشيه والى أي حد ظلت لعنة الهولوكست فوق رأس ازرا باوندوسلين وحتى هيديغر. نعرف أن حرية المثقف لا تعني بحال حق الانحياز للشر وحق المساومة على الحياة البشرية واللااكتراث بالقتل والجريمة. في لحظة كهذه يبقى الإنساني وحده معياراً. يبقى أن الاستفزاز كامن في استرخاص الحياة البشرية في إقامة عروش على الجماجم، في قياس السلطة بعدد الضحايا والمخنوقي الصوت، في التواطؤ مع القتلة. عندئذ يغدو الفكر عملاً أخلاقياً بحق. تغدو الحرية قيمة عظمى وتغدو الحياة قدس أقداس لا يجوز انتهاكها وانتزاعها وعلى الثقافة أن تدافع عنها في كل حين وكل مكان. على المثقف في لحظة ما أن يقف موقفاً، وأن يعترض وأن يدين ولا خيار له أمام القتل إلا الاعتراض والإدانة.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى