صفحات الثقافة

لماذا (لا) يجب أن نقرأ؟/ حسام عيتاني

 

تتشابه المسائل التي تطرحها معارض الكتاب المختلفة في العواصم العربية حيث تطفو إلى السطح الشكوى العامة من قلة القرّاء وضيق السوق والقرصنة وضآلة المردود المادي للمؤلفين.

الأجواء المتشابهة في معارض الكتاب العربي من القاهرة إلى أبو ظبي مروراً ببيروت، تحيل إلى أسباب متشابهة، بدورها، لما يعاني منه القارئ العربي. منها غلاء الكتاب والتفاوت الكبير في مستويات الترجمة عن اللغات الأجنبية التي ما زالت العربية تفتقر إلى كثير من مؤلفاتها الكبرى، وتركز المبيعات على المستوى التجاري المربح على كتب الطبخ والتنجيم (على أهميتها بالنسبة لجزء من القراء). يضاف إلى ذلك، استمرار مصادرة الكتب وفرض الرقابة السياسية و”الأخلاقية” عليها. وغير ذلك مما يعرفه كل متابع للمعارض المذكورة.

يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك إذا دققنا في أنواع الكتب التي تلاقي قدراً معقولاً من الإقبال حتى ليجوز الحديث عن أسباب تمت إلى البنية الاجتماعية والثقافية العربية المعاصرة بصلات، وتحدد ما يجذب اهتمام القارئ العربي وما يرسم الصورة الحالية لسوق الكتاب ودرجة الإقبال عليه.

فإلى جانب ما سبقت الإشارة إليه وانتشار الإنترنت ووسائل الإعلام الإلكترونية، تبدو الحالة شبه المستقرة لسوق الكتاب ناجمة عن مشكلة أعمق تفسرها درجة عالية من المحافظة في المجتمعات العربية. المقصود بالمحافظة هو عدم الرغبة في هدم التصورات الفكرية والاجتماعية السائدة ما ينعكس انحساراً واضحاً في نشر الكتب السجالية، أو تطويقها بالإهمال والتجاهل إن لم يكن بالمصادرة الصريحة.

لنقل إن الوضع العربي لا يرحب حالياً بطرح الأفكار النقدية والجذرية التي تمس ما يعتبره من المسلمات. وتمتد هذه من الاجتماع إلى الدين إلى السياسية. المعارك الثقافية التي بات على العرب خوضها بعد سلسلة الثورات التي عمت بلادهم في الأعوام الأربعة الماضية وبغض النظر عن تقييمها، لم تنشب بعد، وما زال كثر من الكتاب المؤهلين للمشاركة فيها، يتهيب إطلاق شراراتها.

بيد أن ذلك لا يلغي حقيقة ساطعة خلاصتها ان العالم العربي لم يعد كما كان قبل أربعة أعوام، والأهم أنه لن يعود إلى سيرته السابقة. لقد انطوى زمن اليقين السياسي وجاءت أزمنة الشكوك والاضطراب والأسئلة المعقدة والمتشابكة. ويفتح ذلك الباب واسعاً على انطواء أشكال أعمق من اليقين يهدد الاقتراب منها الروايات التأسيسية للسلطة بمظاهرها الاجتماعية والثقافية، بالمعنى الواسع للكلمة.

في انتظار المعارك تلك التي ستكون دفتا الكتاب من ساحاتها الأهم، يبقى قسم كبير من القراء يبحث عما يعزز القناعات وليس ما يستدخل الريب، وهو في ذلك أمين على تراث طويل من اليقين دعا إليه أئمة فكر مكرسون من الغزالي الرافض للفلسفة وضلالها وتهافت العاملين فيها، بحسب عنوان كتابه الشهير، وصولاً إلى دعاة المحطات الفضائية ومفتيها الذين ينشرون كل ما من شأنه أن يمدد سلطاتهم على العقول والجيوب.

القراءة، بهذا المعنى حصراً، فعل مناهض للوعي وللشك اللذين لا تستقيم ثقافة حديثة تستحق هذا الاسم إلا بهما. ذلك أن ضرورة إدامة الحقيقة السائدة والامتناع عن تفحصها وإعادة النظر فيها وتغيير موقعها من البنية الاجتماعية، من العوامل التي لا تتطلب قراءة كثيفة ومتنوعة وتبحراً في البحث والتدقيق والنقد. إنها قراءة المطمئن إلى صوابه وسلامة خياراته الدنيوية والأخروية. قلق النقد والشك والريبة، وهي الأسس التي قام عليها التفكير العقلاني والعلمي، غير مرحب به في هذه الاثناء.

عليه، لا يكون السؤال عن كمية الكتب التي يقرأها العرب، بل عن نوعيتها وجدتها وأصالة أفكارها واختياراتهم من الكتب الأجنبية للترجمة والنشر. عند الوصول إلى الاسئلة هذه، يمكن بسهولة شديدة، إلى درجة مؤسفة، إسقاط قسم كبير مما يلقى الرواج اليوم من قائمة الكتب التي تساهم في زرع ثقافة سجالية عند مواطنينا.

ومرة ثانية، ليست المسألة في هجوم أعمى على الثقافة السائدة وركائزها الاجتماعية والسياسية، بل في مواءمة باتت أكثر إلحاحاً بين ما تعيشه مجتمعاتنا التي ترى حقائق العالم العاصفة حولها، من دون أن تجرؤ على التساؤل عن وضعها فيه وعن “حقائقها” و”مطلقاتها”، ومن دون أن تتمكن من المشاركة الفاعلة فيها.

بهذا تنغلق دائرة الثقافة والقراءة على اطمئنانها ويقينها وينحسر رواد المعارض إلى باحثين قليلين عن التغيير ومستوقين كثر لكتب الطبخ والتنجيم وتؤجل الأسئلة الحرجة والمقاربات الهرطقية والمشككة، إلى مستقبل بعيد.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى