صفحات الثقافة

مثقفو سورية وفنانونها أمام لحظة الحقيقة

أمجد ناصر

تعتقد الأكاديمية الأمريكية ليزا وادين، التي وضعت كتاباً مهمَّاً عن حكم الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، أنَّ أعمال الكوميديا التي يعرضها التلفزيون الرسمي تمثل نوعاً من ‘المقاومة’ المخاتلة للنظام. مقاومة تحاول الوصول إلى هدفها من طرق جانبية أو التفافية. ففي ظل نظام يفرض رقابة صارمة على حريات القول والتعبير لجأ الفنانون السوريون إلى الكوميديا التلفزيونية والمسرحية لنقد أوجه القصور والخلل في الحياة العامة السورية من خلال حكايات واسكتشات عن واقع الحال المحلي والعربي. وترى ليزا وادين أن هذه الأعمال ‘تبرز الفجوة بين الخطاب الرسمي والحياة السياسية المعاشة لأغلبية السوريين’. ففيما ‘يتحدث الخطاب الرسمي عن الوحدة العربية ويمجد الناس العاديين ويدافع عن حكمة قادة النظام وشجاعتهم تُظْهر هذه الأعمال الكوميدية الانقسام العربي وتبيِّن درجة انكسار الروح المعنوية للمواطنين بسبب ممارسات النظام، وتكشف فساد مسؤولي النظام وقسوتهم وتهزأ من تعسف مؤسسات الدولة’.

وللتدليل على قولها هذا تضرب الأكاديمية الأمريكية، مؤلفة كتاب ‘السيطرة الغامضة’ الذي صدرت ترجمته العربية حديثاً عن دار رياض الريس، مسرحيات دريد لحام وأعمال ياسر العظمة التلفزيونية مثالاً.

لكنَّ الأكاديمية الأمريكية التي أقامت في سورية فترة من الوقت لإعداد كتابها الجامعي هذا وتحدثت إلى عدد كبير من السوريات والسوريين تستبق ميلها إلى اعتبار هذه الأعمال (إضافة إلى رسوم الكاريكاتير والنكات) نوعاً من المقاومة غير المباشرة للنظام ككل ولظاهرة ‘تقديس’ الرئيس الراحل حافظ الأسد بالقول إن ثمة من يرى في هذه الأعمال الكوميدية نوعاً من ‘التنفيس’ الذي تشرف أجهزة النظام على ضبط وتيرته، وليس شكلاً من أشكال المقاومة المراوغة.

جاءت اللحظة التي ثبت فيها خطأ تقدير الأكاديمية الأمريكية وتأكدت صحة من قالوا لها إنَّ كلَّ تلك الأعمال (وما يشبهها وهي كثيرة في سورية) مجرد ‘صمام أمان’ يعمل على ‘تنفيس’ الاحتقانات التي تمور في أحشاء المجتمع السوري وليست، كما يتضح لنا الآن، أعمال مقاومة للنظام وهيمنته المطلقة على مختلف مناحي الحياة السورية.

الواقع هو المحك الفعلي لاختبار الأقوال والنوايا. وها هو الواقع السوري الدامي يأتي لكي يختبر ‘مقاومة’ الكوميديا، بل سائر أشكال التعبير في سورية، على أرض الواقع. ليس في التلفزيون. ليس في مسرح الدغدغات العاطفية. ليس في الكتابة التي تتحدث عن كلِّ شيء ولا تتحدث عن شيء بعينه، ليس في القصائد التي تهجو الجنرال ولا تسميه، بل أمام الدبابات وهي تطوِّق المدن وتدخلها، القناصة وهم يقنصون أرواح مواطنيهم من على أسطح البنايات، ‘الشبيِّحة’ وهم يبطحون الرجال المقيّدين على الأرض ويدوسونهم. هذا هو المسرح الفعلي لاختبار كلِّ ما قاله الفنانون في مسرحهم وما كتبه الأدباء في نصوصهم، وما تشدَّق به أشباه المثقفين في المقاهي والحانات.

لا يفوت ليزا وادين أن تورد آراء مختلفة في الظواهر الفنية التي تشبه ظاهرة الكوميديا السورية و’نقدها’ للنظام، من ذلك ‘أن هذه الممارسات النقدية المسموح بها تعمل على إدامة السيطرة القمعية للنظام بدل تقويضها’. هذا، في الواقع، ما فعلته الكوميديا السورية ورسوم الكاريكاتير التي تسمح الصحف السورية بنشرها، فهي تعمل على تنفيس احتقانات المواطنين، وتوحي، في الوقت نفسه، بوجود فسحة نقدية في المنابر العامة للاعتراض على الأداء الحكومي وبعض الفساد المالي والإداري، والكثير من الهجاء للتخاذل العربي حيال العدو الاسرائيلي، ولكنها ليست، بالتأكيد، مجالاً لـ ‘الحيوية السياسية السورية حيث يزدهر النقد والوعي المعارض’ كما تقترح الأكاديمية الأمريكية.

إنَّ ‘خط التماس’ بين الحاكم والمحكوم لا يتم ‘التفاوض’ حوله من خلال هذه الأعمال التي انتجتها جهات رسمية سورية، أو حتى خاصة، وسمحت السلطات ببثها على الجمهور العريض من خلال التلفزيون. فسلطة قمعية، بالمطلق، مثل السلطة الأمنية في سورية لا تتساهل مع أعمال تشتغل على تقويض خطاب ‘تطويع’ المواطنين وقهرهم. فتهديد ‘الخطاب’ هو تهديد، بالعمق، لوجود السلطة نفسها.

في أوقات استرخاء السلطة وعدم شعورها بالتهديد الوجودي يُسمح لأشكال من ‘النقد’ أن تشيع وتنتشر، فذلك دليل على قوة السلطة وتمكّنها، لكن المقياس هو العكس: لحظة الخلخلة أو التهديد. وها نحن نشهد أكبر لحظة تهديد تعرفها السلطة الأسدية في تاريخها. هنا لم يعد التسامح الشكلي مع النقد ممكناً. هنا يتم الحشد والتجييش والفرز. هنا يستدعي النظام احتياطيه من كل نوع: السلاح والكلام والمخاوف والوجوه والأغاني والأكاذيب. في لحظة كهذه، لحظة التهديد الكلي للنظام، تختصر الوجوه بوجه واحد (وجه الرئيس) ويختصر الوطن بالنظام وتختصر العواطف بالولاء. لكنَّ لحظة تهديد النظام هي لحظة دم كذلك. دم المواطنين. لحظة حصار مدن وتجويع’أطفال واعتقال آلاف من الأبناء والبنات. أمام هذه اللحظة، لحظة الوطن وهو يحطم قضبان سجنه، لحظة الشبان وهم يخرجون إلى موت معلن ومؤكد تختبر الكلمات والنوايا. أمام هذه اللحظة سقط، للأسف، معظم منتجي ‘المقاومة’ الكوميدية، أو الدرامية، نجوم الشاشة السورية من حالق.

‘ ‘ ‘

لم تشتغل ليزا وادين على مواد أدبية سورية بوصفها ‘مقاومة’ للنظام، فاقتصرت بحثها الجامعي الرزين على مجالات المسرح والتلفزيون والكاريكاتير والنكات. لو أنها اقتربت من الكتابة الأدبية لوجدت صورة أوضح لتلك ‘المقاومة’. صحيح أن لدريد لحام وياسر العظمة (ومن هم في منزلتهما من ممثلين وممثلات) قدرة على التأثير في الشارع السوري أكبر من قدرة الكلمة المكتوبة، ولكن الصحيح أيضاً أن ‘الساحة’ الثقافية السورية، وربما جمهرة المواطنين، لا تأخذانهما مأخذ الجد. لا زلنا، كعرب، نولي للكلمة اعتباراً أكبر من الصورة والموسيقى والرسم، وهذا موضوع آخر.

وعندما قلت ‘مأخذ الجدّ’ فأنا أعني في لحظة راعفة كهذه. هذه لحظة جدّ، بل لحظة جدّ كبرى. وفي لحظة جدّ كهذه يلتمس الناس مواقف الأدباء، اولئك الذين طالما كتبوا عن الثورة والحرية والحلم والعدالة والكرامة الانسانية. وفي سورية من هؤلاء كثيرون. ولكنَّ معظهم، يا للعجب، لم يطلعوا أفضل من فناني الكوميديا ونجوم التلفزيون الذين يتناوبون على الشاشات السورية في حملة ولاء مخجلة للرئيس ‘القائد’. فبعد الأسبوع الثامن من حملات القتل والاعتقال والترويع التي تقوم بها القوات العسكرية والأمنية السورية ضد المدن والبلدات التي قرَّرت أن تهتف للحرية لم نسمع لهم صوتاً. لم نقرأ لهم بياناً، ناهيك عن أن نراهم في طليعة التظاهرات.

فما الذي يجري فعلا؟

لِمَ صَمَت معظم أدباء سورية في الداخل؟

هل هو الخوف؟

الخوف ممكن بالطبع. الخوف شعور إنساني مشروع ولكن ليس بعد أن تخرج مدن وبلدات وقرى أمام البنادق مطالبة بالحرية. ليس بعد أن سال دم كثير. ليس بعد أن تحولت سورية إلى معسكر اعتقال كبير.

هل يتعلق الأمر بتصديق رواية النظام عن ‘إمارات سلفية’؟

ولكن هل يعقل أن تقوم ‘الإمارات’ السلفية، فجأة ومن دون سابق انذار، في معظم محافظات سورية إن لم يكن كلها؟ أين كان كل هؤلاء السلفيين من قبل وكيف لم يرهم أحد وهم يقيمون صروح إماراتهم في بلد يحكمه ستة عشر جهاز أمن؟

لا يعقل أن يكون أدباء سورية بهذه السذاجة. لا يعقل أن يصدقوا كذبة كبيرة كهذه. فأين الخلل إذن؟

قد يكون الخلل سابقا على هذه اللحظة. إنه في السؤال الذي طرحته الثورات العربية المتنقلة من تونس الى سورية مرورا بمصر، وغيرها من البلدان التي تشهد حراكا شعبيا لم يرق بعد الى مستوى الثورة الشاملة، عن دور المثقفين في المجتمعات العربية المعاصرة. فكما غاب الدور القيادي للمعارضات العربية المنظمة عن هذه الثورات، في بداية انطلاقتها، ها نحن نرى غياب دور المثقفين الذين يوصفون، عادة، بأنهم ضمير الأمة ومنتجو الأفكار وطارحو الأسئلة.

ليست المفاجأة، على الأغلب، هي التي أخرست أصوات كثير من المثقفين العرب، فالمفاجأة قد تشلَّهم في بداية الأمر ولكن لا يعتم الدم المسفوك أن يحدد مواقف الناس وليس المثقفين فقط. علينا أن نعترف أن الأنظمة العربية تمكنت، عبر عمرها الطويل، من استقطاب معظم المثقفين العرب من خلال توظيفهم في مؤسساتها الاعلامية والثقافية ومرافقها العامة، وليست الحالة السورية استثناء. وأياً يكن السبب الذي حال دون أن نسمع صوتاً واضحاً وقوياً لمثقفي سورية وأدبائها في الداخل فهم، اليوم، أمام لحظة الحقيقة. لن يكون هناك اختبار لصدق كلماتهم وجدواها أكبر من هذا الاختبار. ربما لم يفت الأوان بعد على أن نسمع صوت أدباء ومثقفي سورية في الداخل يقول للنظام: كفى.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى