صفحات العالم

مثلث الحرية

 


الياس خوري

تخيلوا معي مثلثا للحرية في العالم العربي يضم تونس ومصر وسورية، وتخيلوا الأثر الذي سيتركه هذا المثلث على مجمل الوضع العربي. يبدو هذا المثلث اليوم افتراضيا. تونس ومصر في مخاض ديموقراطي صعب وطويل، وسورية لا تزال تبحث عن وسيلة تزيح فيها عنها كابوس الاستبداد.

وحين نقول مثلثا فاننا في الحقيقة نتحدث عن العالم العربي بمشرقه ومغربه. اكثر من ذلك فنحن نتحدث عن المركز الذي يحيط بالمشكلة العربية الكبرى، اي مشكلة فلسطين. وعندما تنضم سورية الى هذا المثلث فسيأتي معها لبنان وفلسطين، اي تكون قضية الحرية قد تشكلت في العصب العربي الحي.

حتى الآن تبدو الأمور ملتبسة، والتباسها ناجم عن شعور الممالك العربية، وخصوصا في الجزيرة العربية بالراحة النسبية بعد عملية البحرين، التي قادت الى قمع احتمالات الحرية في منطقة الخليج. لكن هذا الشعور بالراحة او الأمان هو مجرد وهم مؤقت. ففي اللحظة التي سيتبلور فيها مشروع الحرية وتتشكل ملامحه، فان كل الخريطة العربية ستنقلب رأسا على عقب. وهذا يفسر الموقفين الاسرائيلي والامريكي من الثورات العربية. الاسرائيليون كانوا وسيبقون ضدها، والامريكيون يلهثون خلفها في محاولة لاحتوائها.

يستطيع هذا المثلث احداث انقلاب جذري في الصورة التي هيمنت على العالم العربي ابتداء من الهزيمة الحزيرانية المشؤومة، حيث تشكلت الحقبة السعودية وتحولت مملكة النفط والعتمة الى قائدة العالم العربي نحو الانحطاط.

الصورة سوف تنقلب على مستويات ثلاثة:

المستوى الأول هو المستوى الثقافي. ثقافة النفط التي اجتاحت بلاد العرب كي تقدم بديلا مُهجّنا عن ثقافة النهضة والحداثة التي تأسست في المركزين المصري واللبناني- السوري، سوف تفقد قدرتها على التأثير. ففي زمن الانحطاط الساداتي – المباركي انهار الانتاج السينمائي المصري، وماتت الصحافة المصرية، ولولا بعض دور النشر المستقلة، ونتاجات مجموعة من المثقفين الديموقراطيين، لأمكن القول ان صناعة الكتاب المصرية تلاشت. كما ان نكبة بيروت بالاحتلال الاسرائيلي، ثم مع الهيمنة المديدة للنظام الأمني السوري على لبنان، حطمت الدور الثقافي لبيروت وهشمته.

حين نتحدث عن الثقافة فنحن نتحدث ايضاً عن مجموعة من القيم التي انهارت في المراكز لتحل في مكانها قيم منغلقة آتية مع سيل المهاجرين العرب العائدين من مدن الملح، التي قدمت لهم فرص النجاة من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي صنعتها المافيات العائلية التي هيمنت على مصر وبلاد الشام.

عودة الروح من خلال مثلث الحرية المفترض، سوف يعلن ولادة جديدة للثقافة، واستئنافاً للنهضة، وغلبة النموذج المديني، ما يعني ان اربعة عقود من هيمنة ثقافة النفط وقيمها على الاعلام والنشر والانتاج الفني سوف تنتهي لمصلحة ثقافة اخرى رأينا بعض ملامحها الجديدة في ميدان التحرير.

المستوى الثاني هو المستوى السياسي، فتستعيد السياسة معناها النبيل في وصفها خدمة عامة، وتكليفا من المواطنين.

في الدولتين الانقلابية والريعية تلعب الدولة دور المحسن الى رعاياها. مبدأ الحق استبدل بما يمكن مقارنته بالعطايا. الدولة تعطي لأنها لا تملك الوطن فقط بل تملك رعاياه. هذه الزبائنية المطلقة حطمت معنى العلاقة بين السلطة والشعب، واعطت السيادة المطلقة للسلطة. كما ان مبدأ العطايا تحوّل الى واقع في العلاقات ما بين الدول العربية نفسها، فصار الارتهان للنفط سواء أكان سعودياً ام عراقياً في مرحلة سابقة، ام ايرانياً احد ثوابت السياسة العربية في زمن الهزيمة.

المستوى الثالث هو المستوى الاستراتيجي، حيث ستجد دول مثلث الحرية نفسها مضطرة الى بلورة رؤية استراتيجية جديدة لمعنى الأمن القومي العربي في مستوياته المختلفة. كما ستعيد مسألة تحرير الأراضي المحتلة الى الخريطة السياسية في وصفها اولوية مطلقة.

فكرة مثلث الحرية لن تتحول الى حقيقة الا اذا استطاعت انتفاضة الشعب السوري ان تنتصر على الاستبداد. المصير العربي بأسره معلّق على قدرة السوريات والسوريين على اعلان انتصار الشجاعة على القمع. من دون سورية لا امكانية لاحداث هذا التحول الجذري في المشهد العربي، الذي يعلن نهاية مرحلة الاستبداد والذل والافقار، التي افقدت العالم العربي موقعه على الخريطة.

لا امكانية لبناء استراتيجية عربية جديدة تنهي زمن الهيمنة النفطية ومرحلة الاستسلام السلبي الجامد امام الغطرسة الصهيونية الا عبر تشكل مثلث الحرية الذي تعلنه الثورات العربية.

من ناحية اخرى، يجب ان نعي ونحن نحلم او نتخيل احتمالات ولادة مثلث الحرية ثلاث حقائق:

الحقيقة الأولى هي ان الثورة مسار تغييري وليست انقلابا عسكرياً. اي ان آفاق الثورة تتبلور من خلال الصراع وبناء التوازنات الاجتماعية التي تعكس موازين القوى بين الفئات والطبقات الاجتماعية وتعمل على تغييرها. نحن امام مسار طويل ومعقد، ونتائجه مرهونة بقدرة القوى الديموقراطية على التأثير فيه. وهذه القدرة هي محصلة للنضال في ساحات الثورة نفسها. لذا لم يعد مسموحا للنخب المعارضة ان تتصرف في وصفها الوجه الآخر للنظام، ففاعليتها نابعة من قدرتها على المشاركة في الثورة نفسها، لأن العملية الثورية تؤسس لشرعية جديدة.

الحقيقة الثانية هي اننا لم نعد ولا نريد ان نكون في المرحلة القومية التي سادت اربعة عقود. لذا فنحن لا نتحدث عن ثورة عربية بل عن ثورات عربية. اي نولي تفاصيل بناء الدولة الوطنية الديموقراطية الأولوية. لكننا نعي من جهة ثانية ان هناك مصالح عربية مشتركة، وفي مقدمتها مسألة اعادة بناء الأمن القومي في العالم العربي. قضية الاحتلال الاسرائيلي، وحجم الخطر الأمني الذي تشكله اسرائيل هما اولوية يجب عدم التغاضي عنها، والا فان مصير التجربة الديموقراطية معرض للخطر.

الحقيقة الثالثة هي ضرورة بناء افق ثقافي عربي جديد، يعيد الاعتبار للعمل الفكري الحر والمبدع. لأن احدى اكبر علامات انحطاط دولة الاستبداد تجلت في القمع الذي دكّ بالمثقفين في السجون واستباح دمهم. ان الثقافة العربية هي الافق الذي يسمح بتفاعل التجارب الوطنية المختلفة، ويبني اساس الانتقال بالعالم العربي الى زمن الحرية.

ان مهمة بناء مثلث الحرية هي مهمة جميع العرب، وبهذا المعنى تحتل الثورة السورية موقعها المركزي، ويكون مصير افق الحرية معلقا على انتصارها

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى