صفحات مميزة

مجزرة دوما التي ارتكبها النظام السوري بحق المدنيين –مقالات مختارة-

 

الغوطة: العدالة المُؤجّلة/ حسام عيتاني

لم تتحقق العدالة بعد لأهالي الغوطة الذين قتلوا بغاز السارين ليلة 21 آب (أغسطس) 2013. قبل أسبوعين، أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً بالتحقيق في الجريمة وتحديد المسؤولين عنها. لا تدع التجارب السابقة مجالاً للشك في أن التحقيق سيستغرق أعواماً طويلة وأن المجرمين قد يجدون ألف طريقة للإفلات من العقاب. سيعيد ذلك التذكير بأن “عدالة مؤجلة هي عدالة غائبة”.

لا تقل جريمة الغوطة الكيماوية عن انها فضيحة مشهودة لكل المؤسسات الدولية التي قامت على أساس حماية المدنيين من أهوال الحروب والدفاع عن الضعفاء من بطش الأقوياء. وفضحية لقيم “حقوق الانسان” و”العدالة الدولية” و”القانون الدولي الانساني”. بعد آب 2013 والطريقة المشينة التي طوي فيها ملف السلاح الكيماوي الذي يملكه النظام السوري، بات من الملح إعادة النظر في كل الأسس التي تستند إليها سياسات العالم الحديث الذي أسفر للمرة الألف عن وجهه كعالم ذئبي يفترس فيه الأخ أخاه من دون رادع ولا خشية.

وعلى العالم الذي يزعم محاربة “داعش” وأشباهها بسبب الإجرام والقتل المشهدي والاستعراضي أن يخجل من جثث أطفال عربين المكدسة قرب بعضها تنتظر من يتعرف عليها بعد موت الأم والأب والعائلة بأسرها، قبل أن يدلي بمحاضرات عن خطر الارهاب والتعاون في مكافحته وتشكيل التحالفات العابرة للقارات من أجل القضاء عليه. سؤال استبدال إرهاب “داعش” بإرهاب الأسد ليس تفصيلاً هنا.

فما الذي سيتغير على أهالي الغوطة أو غيرها من المدن التي ما زالت البراميل المتفجرة والمحمّل بعضها بمادة الكلورين (والتي رأى رئيس النظام انها موجودة في كل البيوت لذلك لا يمكن اعتبارها مادة سامة)، اذا حلّ مكان النظام الإرهابي الحالي نظام إرهابي آخر من صنف “داعش” يجلب الى رعاياه أيضاً “الأمن والأمان” مقابل ان يفرض عليهم تشكيلاً عصابياً يسلبهم قوتهم وحريتهم وكرامتهم؟

لكن الفضيحة الكبيرة تحتاج الى من يعيها، وخصوصا الى من يستطيع تحويلها مكسباً سياسياً قابلاً للتوظيف في برنامجه من أجل التغيير. وهذا بالضبط ما افتقده ضحايا هجوم الغوطة الكيماوي. لقد أظهرت الجريمة التي سقط فيها أكثر من 1400 مدني فضيحة ثانية، هي فضيحة المعارضة السورية التي عجزت عن تجاوز انقساماتها التافهة والعصبوية، والارتقاء الى مستوى تضحيات السوريين العاديين الذين لم يغادروا قراهم وبلداتهم لأسباب ليس أقلها وجاهة الفقر والحاجة.

فشلت هذه المعارضة في التحرك باستقلال عن مموليها ومحركيها، فلم تقم بصوغ أي رد ذي مغزى على كارثة بحجم جريمة الغوطة. لا من الناحية السياسية ولا الحقوقية ولا السياسية ولا العسكرية. عجز المعارضة عن امتلاك أي قدرة على الردع، المادي أو المعنوي، ترك النظام يمعن في جرائمه مستفيداً، سواء بسواء، من ضحالة رد فعل المعارضة والنفاق الدولي الذي سمح له بمواصلة جرائمه مقابل تسليم الترسانة الكيماوية. آخر جرائمه وقع في دوما، غير بعيد عن القرى التي أصابتها الصواريخ الكيماوية.

في هذا العالم المتوحش، نقيم في جوار دولة بنت شرعيتها بل اقتصادها وعلاقاتها الدولية على التذكير الدائم بمأساة اليهود الأوروبيين الذين أنكرهم العالم في أربعينات القرن الماضي لكنهم وجدوا من يحيي ذكراهم ويستفيد منها في مشروعه السياسي.

فلماذا تضيع حقوق ضحايا الكيمياوي؟

الحياة

 

 

 

مجزرة دوما في ذكرى الكيماوي/ زيـاد مـاجد

يحمل شهر آب للسوريين الكثير من المآسي. فقبل عامين، ارتكبت الفاشية الأسدية جريمتها الكيماوية الكبرى في غوطَتي دمشق ونجت من العقاب بصفقة أميركية روسية.

والعام الماضي صعّدت الفاشية إيّاها من إجراءات الحصار والتجويع ضد العديد من المناطق المحاصرة، ولم يردّ مجلس الأمن على الأمر رغم قراره رقم 2139 القاضي بإيصال المساعدات الغذائية والطبية الى المناطق المذكورة.

وهذا العام ارتكبت الفاشية الأسدية مجازر جديدة متنقّلة بين دوما ودرعا وغيرهما من المدن والبلدات، ولم يصدر عن مبعوث الأمم المتّحدة الخاص لسوريا ستيفان دي مستورا سوى استنكار خجول، في حين اكتفى مفوّض الشؤون الإنسانية ستيفان أوبراين الموجود في دمشق للقاء مرتكبي المجازر بالقول إنه “مذهول أمام الجرائم ضد المدنيّين”.

كيف يمكن تفسير هذا السعار الإجرامي الأسدي في شهر آب، وكيف يمكن فهم الصمت المديد لما يُسمّى “مجتمعاً دولياً” تجاه المذابح؟

تبدو الإجابات المُحتملة على هذين السؤالين تِكراراً لما سبقت الإشارة إليه في عشرات المقالات في السنوات الماضية.

ويبدو السجال حول المسألة السورية مع مُريدي النظام الكيماوي أو المحايدين تجاهه عقيماً، إذ إنّ مزيج الوضاعة والطائفية والبلاهة الذي يميّزهم لا تؤثّر فيه مجزرة هنا أو مذبحة هناك.

وما استخدام هؤلاء لذريعة “داعش” أو ذكرهم لبعض الممارسات الإجرامية لعددٍ من فصائل المعارضة السورية المسلّحة لتبرير مواقفهم اليوم سوى إغراق في مزيجهم الكريه، ليس لأن “داعش” لم تكن موجودةً عامي 2011 و2012 ولم تكن ذات تأثير كبير عام 2013، وليس لأن جرائم بعض فصائل المعارضة في العامين الأخيرين أردت مئاتٍ من المدنيين مقابل أكثر من 150 ألف مدنيّ قتلهم النظام في السنوات الأربع الأخيرة، بل لأن الموقف من النظام هذا سابق أصلاً على كلّ ذلك. فهو مرتبط ببنية الحُكم الأسدي وأجهزة مخابراته منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، ومرتبط بمجازره في سجن تدمر وفي مدينة حماه، ومرتبط بمئات ألوف المنفيّين والمسجونين السياسيين على مدى عقود، ومرتبط بالفساد والاغتيالات والمافيات وتدمير المجتمع السوري ونهبه، ومرتبط بـ”فرع فلسطين” وباجتياح لبنان وبحروب المخيّمات، ومرتبط بثقافة ربط البلاد باسم العائلة الناهبة والقاتلة والتهديد بإحراقها إن جرى تحريرها من ذاك الربط المُشين…

لكن بالعودة الى سؤالَي السعار الأسدي في آب والصمت الدولي تجاهه، يمكن الاكتفاء بإيراد سبب واحد: نجاة الأسد في آب 2013 من جريمته الكيماوية التي تجاوز عبرها الخطّ الأحمر الأميركي الوحيد الموضوع أمام إجرامه. فالنجاة تلك جعلت كل إجرام لاحق يمرّ بالحدّ الأدنى من الاكتراث الدولي، وشجّعت الأسد على الاستمرار في جرائمه وعلى الاحتفال الدموي سنوياً بقدرته على النجاة من تبعاتها. وبالطبع، لم يفعل الهوس الأميركي والغربي بـ”داعش” ومحاربتها بدءاً من صيف العام 2014 سوى تكريس هذا الواقع وإظهار تراجع الاهتمام (أو انتفائه) بسوريا وبمصير السوريين.

من هنا، يُرجّح أن تستمرّ الأحوال السورية على ما هي عليه من أهوال في الأشهر المقبلة. فالتطوّرات الميدانية لن تكفي وحدها لحسم الأمور في ظلّ غياب الأسلحة المعطّلة للطيران والحامية للمدنيّين من براميله. وجميع التسويات المقترحة والمبادرات المطروحة لن تُفضي الى نتيجة طالما أنها لا تنطلق من أولويّة طيّ الصفحة الأسدية كشرط شارط لبدء مرحلة انتقالية، ثم لحشد الجهود في مواجهة الوحش الداعشي…

موقع لبنان ناو

 

 

 

 

ليسقطْ هذا الجيش/ عمر قدور

كان ناشطون سوريون قد  أطلقوا، بسذاجة، على أحد أيام التظاهر اسم “جمعة حماة الديار”. حدث ذلك بعد نحو شهرين ونصف من اندلاع الثورة، وحين بانت نُذر تورط الجيش في قمعها. ربما كان عشم المتفائلين بالتسمية حينها أن ينضم الجيش إلى الحراك الشعبي، وعشم العقلانيين أن يرفض التورط في دماء السوريين، على رغم أن تجربة استباحة مدينتيْ حماة وحلب بقوات الجيش قبل ثلاثة عقود معروفة للجميع. المهم أن الجيش أثبت خطأ الطرفين، وأثبت وفاءه لنواته الأولى عندما أسّسه الفرنسيون تحت مسمى “جيش المشرق”، وأثبت أن الانقلابات التي قام بها بعد الاستقلال لإجهاض الديمقراطية الوليدة هي في صلب عقيدته ومهامه.

الآن، ثمة مناسبتان على الأقل تضعان الجيش في موقع الاهتمام، أقلهما أهمية على الصعيد الدولي المجازر التي ارتكبها يوم الأحد الفائت بدءاً من منطقة وادي بردى مروراً بدوما وصولاً إلى إدلب. المناسبة الأهم هي ما صار مطروحاً بقوة للتسوية في سوريا، بشرط أساسي هو الإبقاء على النظام من دون رأسه، ويُعنى بهذا التعبير الإبقاء على الجيش لمواجهة “الإرهاب”. والإرهاب المقصود كما نعلم هو الإرهاب الذي يتحسب منه العالم، من دون أدنى اكتراث بأن السوريين تعرضوا أولاً، وقبل بروز التنظيمات المتطرفة، لإرهاب هذا الجيش، وحتى بعد بروز التنظيمات المتطرفة لا تزال حصته من دمائهم بالمقارنة هي “حصة الأسد”.

ما ينبغي قوله، رغم وضوحه، أن مَن كان معترضاً على زج الجيش في مواجهة الشعب إما انشق، أو لقي حتفه وهو يحاول الانشقاق، أو على أقل تقدير يقبع في سجون النظام. مَن بقي في الجيش حتى الآن هو إما راضٍ بما يقوم به من إبادة وتدمير، أو مقتنع ومتحمس لهما. وجود فئة مغلوبة على أمرها افتراض قد يصح على نسبة قليلة، نسبة تضاءلت باطراد خلال السنوات الأربع الأخيرة، من منتسبي الخدمة الإلزامية، ولا يصح مطلقاً على النسبة الساحقة الفاعلة، ولا يصح على أولئك الذين تتيسر أمامهم سبل التهرب من الخدمة فيذهبون إليها طوعاً.

معلوم أيضاً أن قضية الجيش مثار اختلاف ضمن “المعارضة” نفسها، فقسم منها لا يخفي تمسكه بهذا الجيش، ويحاول إقامة تفريق نظري بينه وبين الزمرة الحاكمة، أو بالأحرى يسعى إلى تبرئة الجيش من المجازر التي أودت بما لا يقل عن مئتي ألف مدني حتى الآن، وتسببت بنزوح حوالي خمسة ملايين منهم. القسم الآخر من المعارضة الذي يكنّ العداء للجيش بدأ أخيراً التقارب مع رؤية الأول تحت ضغط “المجتمع الدولي” وضغط التسوية المأمولة، وأيضاً تحت وهم وجود قوة جاهزة يمكن استغلالها لغايات مختلفة عن تلك التي لدى النظام الحالي. وليس من باب المصادفة أن يتوارى تماماً الحديث عن إعادة هيكلة الجيش وأجهزة المخابرات، وبنائهما في المرحلة المقبلة على أسس وطنية، مع أن الثورة قامت أصلاً على الضد من القمع الذي يتولاه الجيش وأجهزة المخابرات، ولا يخفى أن الإبقاء عليهما بوضعهما الحالي وصفة لإعاقة التحول الديمقراطي، تماماً على غرار ما قاما به منذ الاستقلال.

الكذبة التي يجري التواطؤ تحتها هي “الحفاظ على مؤسسات الدولة” من الانهيار، وهي الكذبة التي ترعاها الإدارة الأميركية بمشاركة الروس وإيران، وأخيراً انضمام بعض الدول الإقليمية السائرة في خط التسوية. ولا يحتاج المتابع أدنى نباهة ليعلم أن المقصود بمؤسسات الدولة هما الجيش والمخابرات، فأصحاب هذه النغمة لم تعلُ أصواتهم عندما قصف الجيش عشرات المستشفيات، ولم تعلُ أصواتهم عندما قصف مئات المدارس، ولم تعلُ أصواتهم عندما دمرت طائراته جزءاً كبيراً من الإرث التاريخي المسجّل لدى اليونسكو كإرث إنساني. باختصار غابت الأصوات تماماً عندما قام الجيش الإرهابي بقصف وتدمير ما يمكن تسميته مؤسسات دولة، في الحد الأدنى للكلمة، وتعالت فقط عندما بدا الجيش معرّضاً للانهيار. ضمن هذا السياق، ليس مستغرباً أن يمدّ الروس حليفهم بطائرات حديثة مؤخراً، وألا يحتج أحد في العالم، فالقائد الأعلى لجيش البراميل اشتكى في آخر خطاباته من نقص القوة البشرية لديه، وكأنه كان يُنذر المجتمع الدولي بقرب انهياره.

التلويح بشبح انهيار نظام صدام كذبة أخرى روّجتها الإدارة الأميركية، وابتلعها الباقون، فحصيلة الانفلات الأمني إثر انهيار نظام صدام أقل من حصيلة بقاء نظام الأسد وقواته حتى الآن، مع فارق بسيط هو اقتصارها على السوريين فحسب. لكن التطور الأهم على الصعيد الدولي يكمن في الخلاصة التالية: إذا كان لدى بشار قوات على هذا القدر من الانحطاط الإنساني وانعدام الوطنية، فلماذا لا يتم إبقاؤها واستثمارها في حرب “قذرة” على الإرهاب؟ تعبير “القذارة” هنا لا يأتي لوصم الحرب على الإرهاب، إنما للدلالة على الأساليب التي قد تُتبع ولا يريد الغرب تلويث سمعته بها، وقد يكون من ضمنها ارتكاب أعمال إبادة جماعية جديدة.

الإبقاء على الجيش والمخابرات ضمن التسوية التي يريدها الغرب يتضمن الإبقاء على أسوأ ما فيهما، مع تعديل غير جوهري في الوظيفة والمنهج. فكما نعلم تمخضت كذبة الجيش “العقائدي” التي روجها النظام عن أنه جيش معدّ أصلاً لقتل شعبه، ولم تكن الأكاذيب الإعلامية عن مواجهة إسرائيل غير ستار هتكته الأخيرة في العديد من المناسبات. الإبقاء على الجيش والمخابرات الآن يستلهم نهج النظام نفسه، إذ تحت ستار “مكافحة الإرهاب” يُراد إعادة سوريا إلى ما كانت عليه قبل الثورة، بجيش ومخابرات غير وطنيين، يعملان في مقاولة دولية ويستقويان بها على السوريين. في الواقع، عقيدة الولاء المطلق للحاكم هي عقيدة مستلهمة من التراث المملوكي، وفي التشبيه المعاصر هي أقرب إلى ميليشيات المرتزقة، الجيوش شأن آخر لا شأن لنا به حتى الآن.

المدن

 

 

 

بائع الشمّام الذي أسقط المجزرة في دوما/ روجيه عوطة

أطاح بالأبد، وقلب سلطته رأساً على عقب

البارحة في دوما، وفي حين كان الناجون من مجزرة السوق الشعبي، يطمئنون إلى بقائهم بسحب أجسادهم وجمع أشلائهم ومسح دمائهم، ظهر واحدٌ منهم في صورة من الصور، التي انتشرت في مواقع التواصل الإجتماعي، وقد مد يده إلى عربته الخشبية، محاولاً إلتقاط أشيائه منها. هو، على الأغلب، بائع فاكهة، وعلى الأغلب، أنه، وقبل إلقاء الطائرات لقنابلها الفراغية على شارعه، كان يبيع  الشمّام.

وقعت النازلة، وتحول المكان إلى رُكام، وأناسه إلى حُطام. في تلك اللحظة، أرادت سلطة الأبد إزالة المدينة، ومحوها، لتغيرها إلى نطاقها. فلا قدرة للبعث سوى على حُكم المعدومين. يعدم كي يحكم، إذ لم يشيّد، منذ عقود حتى الآن، سوى الدمار، أي العمران في العدم، ولم يمكّن المعتقلين في بلاده إلا من تجميدهم، وإقصائهم عن الحركة صوب الموت أو الحياة. الموت مكبوت، والحياة بعيدة، ولا مجال لها.

فلما لاحظ النظام في السوق جلبة، على الرغم من حصاره لدوما، وإبادته المتواصلة لها، ذعر من هذه الحيوية، مدركاً أنها جاءت بعد تخطي السوريين للكينونة، التي عمد إلى سجنهم فيها. لذا، قرر إفراغها، ضغطها، وتحويلها إلى هباء. إلقاء العدم على الناس، أو ما تبقى منهم، من أجل إسكانهم في اللاشيء، ثم، الإستيلاء عليهم، حتى لو جرى ذلك بعد قتلهم. على هذا المنوال، مارست الطائرة، ومن سمائها، تأبيدها، عبر الإفراغ، والإعدام، والقبض. إلا أن ما فعلته لم يحقق غايته، والدليل، أن بائع الشمّام لم يكترث إليها.

ذلك، أنه، وبعد ارتطامه بالأرض، نهض منها، منتعلاً شحّاطته، ومتقدماً من عربته، ساعياً إلى إلتقاط شيئاً من أشيائه فيها. فقد واظب، مثله مثل باقي الدومانيين، على العيش بين مجزرتين أو أكثر، وفي حالته، على تدبير وجوده ببيع ما تيسر من فاكهة وخضار على عربةٍ، يجرها في الأحياء وعلى الطرقات. ابتداءاً من يده، التي مدها نحو العربة، أطاح بالأبد، وقلب سلطته رأساً على عقب. ومعه، قلب أي خطاب ما فتئ يصفه، كأنه نكرة، ويعلمه، كأنه أخرق، ويحثه، كأنه جثة، على مخاطبة مَن لن يراه، أي العالم، الذي لا يتوقف عن المشاركة في قتله، وفي إعادته إلى العدم.

بحركة يد واحدة، أسقط بائع الشمّام الطائرة ونظامها، مجتمعها الدولي وسياسته، حقوق إنسانها ومثاله، رهابها وحرب حلفائها على الإرهاب، سماءها وخلاءها، ممانعتها ولاممانعتها، ثقافتها وثقافة “الضد” منها، خطابها وهديرها على لسان المترفعين عن القتلى والموتى-الأحياء بمقولات السُخف والتعجرف والضغينة. بحركة يده، قال:”لا أبالي، أبني عالمي بالمُتَناوَل، لا أستجدي أحد، ولا أستنجد بأحد”. وفي الأساس، ليس هناك سوى “أحد” واحد، إما بشار حافظ الأسد، أو نفسه في بلدان أخرى، حيث “الأبد” ديمقراطي، وعنفه مجلو ومصقول ولامرئي للغاية.

وحدهم الدومانيون مَن يحق لهم تسييس المجزرة بعد إهلاكهم لها بنجاتهم. وحدهم، يصنعون عالماً لا علاقة له بـ”سوريا الأسد”، ولا بمماثله، أي النظام الدولي. وحركة بائع الشمّام نحو عربته تندرج في سياق التسييس والتصنيع هذا، ففي غمرة العدم، رأى عربته، وفي زحمة الخطابات المتشابهة حوله، اهتم بفاكهته، وفي شدة الفراغ، وجد شيئاً يتناوله بيد. أليست الحركة هذه سياسة صغرى، غير متضخمة، وبناءة، لا سيما أنها تواجه، وبقصدها أو بدونه، سلطة التأبيد؟ أليست تسييس للامبالاة بمسلك الإصرار على البقاء، ولو بقرب الحطام، الذي قد يصير، ونتيجة استقراره على فوضى من الأشياء، باباً مفتوحاً على مستحيل آخر؟

لا مبالغة في بعض التخيل، خصوصاً على إثر الإبادة، لا مبالغة في السؤال عن سياسة تُمارَس، على طريقة بائع الشمّام، في المُتناوَل وعبره، سياسة بمعناها العملي، والمحايث لما تلتقطه اليد وجسدها، مدركة المفيد والمضر من الأشياء والأفكار والإنفعالات حولها. في دوما، سقطت السياسة وعالمها، وسقوطها كان مرادف لتكشفها عن بعثية عابرة للدول والأنظمة، وفي دوما، ولدت سياسة أخرى، ضئيلة، ولا نموذج سابق لها. مفادها: حركة يد واحدة قد تهدم عدماً كاملاً، وقد تتناول ما في الفراغ من أشياء.

تحية إلى بائع الشمّام الدوماني!

المدن

 

 

 

اوقفوا قتل السوريين/ ماجد كيالي

لم تكن مجزرة الأحد الماضي في دوما (شرق دمشق)، والتي ذهب ضحيتها حوالى 160 شخصا، بينهم عشرات الاطفال، الأولى من نوعها التي ارتكبها النظام بحق السوريين، بواسطة البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية، والتي تستهدف أفرانا واسواقا شعبية ومناطق مكتظة بالسكان. والحقيقة، فمنذ بداية الصراع السوري (اذار 2011)، بتنا امام مجازر متنقلة، فثمة مئات المجازر ذهب في كل واحدة منها بين 25 و100 شخص، وعشرات مثلها ذهب في كل منها أكثر من مئة شخص. بل ثمة مجازر ذهب في كل منها فوق الـ 200 شخص، ضمنها مجزرة الكيميائي في الغوطة، قبل عامين، التي اودت بحياة 1400 من السوريين في يوم واحد، ومجزرتان في جديدة عرطوز جنوب دمشق (نيسان 2013)، وزملكا في الغوطة الشرقية (حزيران 2013)، ذهب في كل منهما 400 شخص، كما شهدت مناطق في حمص وتريمسة وداريا (2012)، والبيضا وحمورية وودادي بردى (2013) مجازر راح في كل واحدة منها فوق 200 شخص.

القصد من كل ذلك التوضيح بأن ما يجري في سوريا، ولاسيما من قبل النظام، كونه هو الذي يمتلك زمام المبادرة، والقوة النارية، واسلحة الطيران والمدفعية والدبابات، فاق كل التصورات، ولا يستند إلى أي أساس سياسي، لأنه تأسس منذ البداية على مبدأ القتل من اجل القتل، وهي ذاتها فكرة “الأسد او نحرق البلد”.

وبكلام آخر، لم يعد ثمة معنى لهذه المقتلة السورية، بعد ازاحة الشعب من معادلات الصراع، وبعد التحول من الصراع في سوريا على التغيير، إلى الصراع على سوريا، على النفوذ بين الفاعلين الدوليين والاقليميين. وهذا يفيد بأن مزيداً من القتل، بالنسبة للنظام، لم يعد يجدي، ولن يشكل فرقا، بالنسبة لمصيره، وحتى أنه لن يساعد على تأمين استراتيجة خروج آمنة له، ولن يغطي على خساراته، وفقدانه عالمه، ليس لأن قوى المعارضة توسع سيطرتها على الارض، فقط، وانما لأن الاطراف الدوليين والاقليميين لن يسمحوا له باستثمار سياسي لأي مكسب يحققه.

واضح أن مشكلة الصراع السوري، منذ بدايته، تكمن في خروجه من نطاق السياسة، باعتبارها عملا يتأسس على تخليق معادلات تنبثق من موازين القوى ومصالح كل الاطراف، والمقايضة بين المخاسر والمكاسب، وهذه يتحمل مسؤوليتها النظام، أولا، لأنه اوصل السوريين الى اليأس والغضب والثورة. وثانيا، لأنه منع السياسة والعمل السياسي في البلد. وثالثا، بسبب انتهاجه الحل العسكري.

وباختصار، كل المؤشرات تفيد ان النظام انتهى، بمعنى أن أي قتل اضافي واي نقطة دم زيادة هي خسارة، لأن الامر بات خارج ارادة السوريين، وفي انتظار الظروف والمعطيات. لذا المطلوب وقف هذه المقتلة، التي تجاوزت كل الحدود.

النهار

 

 

 

ارتكابات الأسد الدموية تُسابق المساعي الروسية لا ترجمة عملية قبل حسم مصير “النووي” / روزانا بومنصف

في حمأة المفاوضات التي تتولاها روسيا مع افرقاء اقليميين كالمملكة العربية السعودية وايران فضلاً عن أفرقاء الازمة السورية، أعاد إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف التأكيد ان موقف روسيا من حل الازمة السورية لا يتغير، مشدداً على انه “من الضروري ان يقرر الشعب السوري بنفسه مستقبل بلاده”، الى الاذهان ما كان يعلنه النظام السوري بوصايته على لبنان من انه يعود للشعب اللبناني ان يقرر ما يريده بنفسه بالنسبة الى مستقبل بلاده في الوقت الذي كان هذا النظام يقرر بالنيابة عن اللبنانيين ويفرض ارادته عليهم. وفي رفض روسيا ان يكون مطلب استقالة الرئيس السوري شرطا لحل الازمة في هذا البلد، تناقض كلي مع اعلانها ضرورة ترك الشعب يقرّر ما يريد ما دامت روسيا تضع حدودا الى جانب افرقاء داعمين للنظام في مقابل معارضيه. والمغزى كما يفسر ديبلوماسيون الموقف الروسي، انه في الوقت الذي يظهر التناقض بين رفض التدخل وترك الشعب يقرّر والتدخل عملياً من اجل حماية النظام ان روسيا ترغب في الانطلاق من الستاتيكو القائم من اجل ايجاد حل. بمعنى ان هذا الستاتيكو يستند الى استمرار وجود الاسد بحيث تكون له كلمة في المرحلة الانتقالية وصولاً على الأرجح الى انتخابات قد تكون برعاية الامم المتحدة تحدد مصيره سلباً أو ايجاباً. وتفيد المعطيات المتوافرة لدى هذه المصادر بأن الروس قد يكونون متشجعين برأي مماثل لدى واشنطن انطلاقا من ان الهمّ الاساسي لدى الولايات المتحدة هو مواجهة تنظيم الدولة الاسلامية والذي تشارك فيه مع روسيا ودول كثيرة اخرى كما انها تهتم تاليا بعدم انتهاء الاسد في غياب البديل بحيث تقع المؤسسات السورية في يد مسلّحي داعش او ان تتفتت الدولة السورية كما حصل بالنسبة الى العراق. والموقف الأخلاقي من ارتكابات الاسد وعدد الضحايا الهائل الذي تسببت به الحرب التي شنها ضد مواطنيه يفترض ان يكون رادعاً قوياً من اجل التمسك بعدم بقائه، وهو أمر يرتب احراجا خصوصا على الدول التي تتهم الاسد بممارسة الارهاب كما على تلك التي تقول بفقدانه الشرعية وتاليا بعدم امكان ان يشكل جزءاً من مستقبل سوريا. ولذا فإن التفاوض من اجل ايجاد حل لا يزال لا يهمل وجوده بما في ذلك ترك المجال مفتوحا امامه لكل الاحتمالات، على غرار قول لافروف انه “اذا كان بعض شركائنا يرون انه من الضروري التوصل الى اتفاق مسبق ليترك رئيس الجمهورية منصبه في نهاية الفترة الانتقالية فان روسيا ترفض هذا الموقف”. وهو عمليا امر لافت قياسا على المواقف التي اطلقها مسؤولون كبار كما الرئيس باراك اوباما او الرئيس التركي رجب طيب ارودوغان او معارضون سوريون زاروا موسكو ونقلوا عنها تبدلا في موقفها من عدم التمسك بالاسد.

تقول المصادر الديبلوماسية ان التحرك الروسي في الاسابيع القليلة الماضية في شأن الازمة السورية ايجابي في نقطة اساسية مهمة الى جانب واقع محاولة بذل جهود جدية لإنهاء الازمة وهي انه يبرز مساعي الحل استنادا الى بقاء سوريا موحدة وليس وفق ما يبرزه التورط الايراني ومعه تورط “حزب الله” مع النظام لجهة تقسيم المناطق السورية مذهبيا او تأمين ممر طائفي مفيد بين لبنان ودمشق واللاذقية وطرطوس. وفيما اظهرت روسيا حسن نية دفعها الى الواجهة في المساعي من اجل الحل او لعله كان ثمناً لذلك، من خلال الموافقة على لجنة دولية تقررت في مجلس الامن من اجل كشف من استخدم الاسلحة الكيميائية ضد المدنيين في سوريا، فانه يخشى ان يكون بشار الاسد يقوض هذه المساعي من خلال استمرار استهدافه المدنيين على غرار مجزرة دوما التي ذهب ضحيتها ما يزيد على المئة من المدنيين من خلال القصف الجوي متحديا بذلك مساعي تردد ان الولايات المتحدة تقوم بها من اجل ردع النظام عن استهداف مواطنيه بالبراميل المتفجرة. ويستفيد الرئيس السوري من الحماية المستمرة له ومن الصمت الدولي على بقائه في السلطة حتى اشعار آخر من اجل تصعيد استهدافه المدنيين بالطريقة التي حصلت في دوما، مستبقا كذلك بيانا رئاسيا كان متوقعا صدوره عن مجلس الامن دعما لجهود المنسق الدولي ستيفان دوميستورا يدعو الى وقف الاعتداءات على المدنيين والمناطق السكنية واستخدام اسلحة على غرار البراميل المتفجرة، وكانت فنزويلا التي هي من اعضاء دول البريكس وداعمة للنظام عرقلت صدوره حتى الآن متمسكة بصيغة تعطي اولوية للعودة الى ما يتضمنه الدستور السوري، ما من شأنه ان يمنع الصيغة التي اتفقت عليها الدول في دعم مرحلة انتقالية في سوريا.

ومع ان الحركة الديبلوماسية الروسية ناشطة على خطوط اقليمية ودولية عدة بما قد يؤدي الى تشكيل مجموعة من الدول تعمل على هذه الازمة وتضم دولاً اقليمية عدة لها مصالح في الأزمة السورية كالمملكة السعودية وايران وتركيا الى جانب الولايات المتحدة وتركيا، فإن المسألة قد لا تجد ترجمة فعلية قبل اقرار الاتفاق النووي في الكونغرس الاميركي او حسم مآله سلباً أو ايجاباً في مقابل انشداد ايراني الى مواقف مماثلة في الداخل الايراني. يضاف الى ذلك ان هذه المدة يفترض ان تشهد نشاطاً اقليمياً يخفّف التوتر القائم بين ايران ودول الخليج العربي انطلاقاً من ان استمرار هذا التور سيشكل مانعا دون نجاح اي جهود ديبلوماسية في المدى المنظور.

النهار

 

 

 

ظمأ شبقيّ للقتل/ موسى برهومة

لا تملك آلة موتٍ هذا الظمأَ الشبقيَّ للقتل كما تفعل آلة بشار الأسد الذي فاق في توحّشه الأقدمين واللاحقين. ومن غير المرجّح أن يأتي التاريخ بمثله وهو يُفرِط في تمزيق أشلاء الأطفال، من دون أن تظل ابتسامته الدموية متدلية على طرف شفته السفلى!

وبعد مجزرة السوق الشعبية بدوما، وهي التي اعتاد أهلها على الموت بأكثر الأسلحة فتكاً وحداثة، سيصفعنا المجرم بمجازر أخرى. ولمَ لا، ما دام الجميع (نعم الجميع) صامتين، بل إن كثيراً من أولئك الصامتين أصيبوا بالبُكم، فلم يصدر عنهم أي نأمة أو إشارة استنكار، أو صرخة احتجاج، كما كانوا يفعلون في لحظة حماسة مضت وانقضت، وأضحى التسليم بالأمر الواقع شعار اللحظة المسكونة بدخان الأشلاء المحترقة.

وعلى وقع أنباء، ليست سريّة، أرسلت روسيا إلى مطار «المزة» العسكري في دمشق في يوم مجزرة المزة 6 طائرات من طراز ميغ – 31، في إطار اتفاق التسليح بين روسيا وسورية. وأكدت موسكو أنها مستمرة في تسليح سورية، وأنها سلّمتها الكثير من الصواريخ من طراز كورنت 5 المتطورة، ومدفعية ميدان من عيار 130.

وليس بعيداً من هذا الدعم، الإمدادُ اللوجيستي الذي لا ينقطع بين طهران ودمشق، فكما أن ثمة خبراء ومستشارين روساً يدرّبون جيش الأسد على قتل المدنيين والبشر الآمنين والأطفال والنساء، فإن «حزب الله» ومقاتليه «الأشاوس» المقاومين يقومون بالدور نفسه، بل يساهمون، بكل ما أوتوا من عزم وولاء للولي الفقيه بأن يظلوا يهتفون بملء حناجرهم التي تعوّدت على الصراخ: «الأسد أو نحرق البلد»!

وإن كنا نتوقع أن يدافع «الحلفاء» عن حُصّتهم في قتل الشعب السوري بأيدي نظامه الطائفي الاستئصالي، حفاظاً على إبقاء «محور المقاومة والممانعة» صامداً لا تهزّه الريح، كما يردّد شبيحة النظام وأعوانه، فإننا نتوقّع في المقابل، أن يرفع الصامتون عن أنفسهم الحرج الأخلاقي، ويتحركوا بأي اتجاه يضمن تكدير صفو الحلفاء المخلصين، ويلوّح لهم بشيء ما، أي شيء، ولو من قبيل الإخافة، إكراماً لبقية «أمل»، وتلبية لنداء استغاثة أطلقه طفل وهو يغرق في دمائه، ويلوّح للسماء ببقايا أصابع مرتجفة…

بيْد أن آمالنا ستذروها الريح، كما فعلت من قبل، وكما ستفعل من بعد. لأننا قلنا ولا نزال نؤكد أن الضمير الأخلاقي العالمي، لا سيما لدى الدول التي تزعم أنها تقود المنظومة الدولية، وعلى رأسها أميركا أوباما، مستعدة للمقايضة على دماء السوريين لقاء الحفاظ على مصالحها. هذه الدول المنافقة، تخطب ودّ طهران، ولا تريد أن تفسد بهاء الصفقات التي تُبرم في أعقاب موافقة الإيرانيين على كبح جماح برنامجهم النووي، ولجم أجهزة الطرد المركزي وإيقافها لعشر سنوات، فضلاً عن الحد من مخزونهم من اليورانيوم المخصب، مقابل رفع العقوبات المفروضة على إيران وتحويل المبالغ التي احتجزتها بنوك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حتى الآن.

وإذا كانت الولايات المتحدة أغضبت بهذه الاتفاق حليفتها الاستراتيجية إسرائيل، فلماذا تكترث لما يجري في سورية، ولماذا تعوّل على حلفاء عرب، ما دام البديل موجوداً وأكثر إغراء. ولربما تبرم واشنطن اتفاقاً مع بشار الأسد بذريعة التعاون على محاربة «داعش» وما هذا على أميركا بغريب. إنها لعبة المصالح، حيث التفكير البراغماتي القاسي ينتصر على القيم، وحيث تسلّم الأخلاق بهزيمتها الساحقة. لعبة مصالح وقودها أطفال ونساء وأبرياء. ولا بأس، حتى تبقى اللعبة متواصلة، أن تتواصل الحرائق حتى لو أتت على سورية كلها، وعلى بلاد الشرق المنكوبة بالطغاة الذين يكتبون تاريخها بالدم والعار!

 

* كاتب وأكاديمي أردني

الحياة

 

 

 

 

سورية.. حتى متى؟/ أسامة أبو ارشيد

لم تكن مجزرة دوما البشعة التي ارتكبها النظام السوري، قبل أيام، بحق الأهالي والمدنيين العزل في المدينة، أول مجزرة في سورية، فهذا نظام، وفي سياق تشبثه بالسلطة، قتل إلى اليوم أكثر من ربع مليون إنسان من أبناء شعبه، وجرح أضعافهم، وشرّد الملايين منهم، داخل بلدهم وخارجه، كما أنه ألحق بسورية دماراً لا يصدق، ونسف اقتصادها، في حين يعيش أكثر من 60% من شعبها على المساعدات الإغاثية. بكلمة، إن عناد نظام بشار الأسد وإجرامه دمر سورية، كليا تقريبا، إنسانا وعمراناً ومكانة، دع عنك جيلا كاملا يبدو أنه ضاع، وحسب تقديرات دولية، ستحتاج عملية إعادة إعمار البلد إلى عقود، وبكلفة فلكية تقترب من الـ500 مليار دولار.

على الرغم من كل ما سبق، لا يبدو أن جنون نظام الأسد وهيجانه في وارد اللجم قريبا، فالتحركات الدولية، والمؤتمرات، واللقاءات، والمناشدات، والإدانات، كلها تبحر في فلك عدمي، بل يمكن الزعم أن أطرافاً لا تريد حلا قريبا في سورية، فما دام الحريق داخل سورية، وما دام من يكتوي بسعيره هم السوريون، وما دام أنه يستنزف خصوماً كثيرين، فلم الاستعجال؟

ينسحب المنطق الأخير، أولاً، على الولايات المتحدة التي ما فتئ قادتها يعلنون، منذ سنوات، أن الأسد فقد شرعيته وعليه التنحّي، غير أنها لم تتقدم خطوة ذات معنى لتحقيق ذلك. وبانت النيات الأميركية الحقيقية، عندما استخدم نظام الأسد الأسلحة الكيماوية ضد أبناء شعبه في غوطة دمشق قبل عامين. فبعد تهديد بقصف جوي لقوات الأسد، قبلت إدارة باراك أوباما بحل دبلوماسي رعته روسيا، يقضي بتجريد سورية من سلاحها، وهو ما كان، تاركة الشعب السوري رهينة القنابل الفراغية والبراميل المتفجرة وبقية أنواع القذائف والأسلحة الأخرى. ما توخّته الولايات المتحدة، حينها، كان تجريد سورية من سلاح ردعي واستراتيجي في سياق التوازنات مع إسرائيل، أو هكذا كان يفترض فيه.

“تعرف الولايات المتحدة حق المعرفة الجرائم التي يرتكبها النظام السوري بحق شعبه، وهي قادرة على وقفها، غير أنها لا تفعل، بل وتمنع آخرين من التدخل الفعلي لحماية الشعب السوري وتسليح ثورته بسلاح نوعي”

أيضا، تسيطر الطائرات الحربية الأميركية على الأجواء السورية منذ سبتمبر/أيلول الماضي، منذ بدأت عمليات قصفها الجوي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهي تنسق طلعاتها تلك مع النظام السوري من خلال العراق. ومن دون شك، فإن مقاتلات النظام السوري التي تزرع الموت بين أبناء الشعب تحلق تحت سمع الولايات المتحدة وبصرها، ولو أرادت الأخيرة منعها لما احتاج الأمر إلى أكثر من وعيد، لكنها لا تفعل.

تعرف الولايات المتحدة حق المعرفة الجرائم التي يرتكبها النظام السوري بحق شعبه، وهي قادرة على وقفها، غير أنها لا تفعل، بل وتمنع آخرين من التدخل الفعلي لحماية الشعب السوري وتسليح ثورته بسلاح نوعي، وحتى عندما زعمت، قبل عام، أنها تريد تدريب “معارضة معتدلة”، فإنها لم تدرب، إلى الآن، أكثر من عشرات، مشترطة أن تكون مهمتهم الأساسية محاربة “داعش”، لا نظام الأسد.

في المقابل، لا تكف روسيا وإيران عن تقديم كل أشكال العون والدعم لنظام الأسد، وها هما يعلنان، حتى بعد مجزرة دوما، أن مصير الأسد يقرره السوريون. بمعنى آخر، أن الأسد باق ليحكم على جماجم سحقها، وأطلال من الخراب أحدثها. وبما أن خصوم الأسد لا يقدمون للمعارضة الدعم النوعي اللازم لقلب المعادلات العسكرية على الأرض، فإن روسيا وإيران، عملياً، هما أصحاب اليد الطولى في سورية، على الرغم من كل الدمار الذي يترتب على نزيف الصراع المستمر، والذي لا يبدو أن له نهاية قريبة.

نكبة سورية وشعبها عظيمة، نكبة في تآمر القريب والبعيد، نكبة في عجز “الحلفاء” المرتهنين للفيتو الأميركي، وبالتالي، عجزهم عن تقديم سلاح نوعي قادر على إسقاط نظام الأسد، ونكبة في ضعف المعارضة السياسية والعسكرية وتشرذمها، ونكبة في تنظيمات متطرفة كـ”داعش” زادت الجسد السوري إثخانا وإيلاماً، غير أن نكبة سورية الأكبر تبقى في هذا النظام الجاثم على صدور السوريين، يسحقهم باسم “الممانعة” والتصدي “للمؤامرة الكونية” عليه. ألم يقل شريك نظام الأسد في الجريمة، ووكيل إيران في المنطقة، حسن نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني، إن “طريق القدس يمر بالقلمون والزبداني وحمص وحلب والسويداء والحسكة”، فلتهنأ إسرائيل بمثل هكذا منطق معوج، ولتنشد بيت جرير:

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً/ فأبشر بطول سلامة يا مربع

أما شعب سورية فلا بواكي له، وسيبقى يذبح إلى أن يتفق “الأعداء” على صيغةٍ، تضمن وأد ثورته، وإجهاض سورية معا.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

 

في ذكرى أُمﱢ المجازر/ مصطفى الجرادي

الواحد والعشرون من آب/ أغسطس 2013، موعد لن يُمحى من الذاكرة السوريّة الحديثة، سنتان مرَّتا على المجزرة والمذبحة الأكثر إيلاماً من مجموعة مجازر ارتكبها النظام الأكثر دمويةً وإجراماً في العصر الحديث وهو “النظام الكيماوي الأسدي”.

في الساعة الثانية والدقيقة الواحدة والثلاثين فجراً، ابتدأ إطلاق صواريخ من نوع أرض أرض، تحملُ رؤوساً كيماوية من اللواء 155 في جبال القلمون، على عدة مناطق من الغوطة الشرقية (جوبر- زملكا – عين ترما)، وبشكلٍ أقل بلدات عربين والمعضمية، ولم ينتهِ إطلاق هذه الصواريخ الحاملة لغاز السارين السام إلا بحدود الخامسة والعشرين دقيقة فجراً من ذلك الصباح المشؤوم.

ذُهل السوريّون والعالم كلّهُ يومها أيضاً من الصور التي بدأت تظهر تباعاً لما ظهر بأنّه مجزرة مرّوعة، لكنها كانت متمايزة ًعمّا سبقها من مجازر (الحولة – القبير) وغيرهما الكثير. فهي بلا دماء تسيل ولا أشلاءٍ متناثرة وبيوت مدمّرة، بل موتٌ مستجدٌ لم يألفه السوريون من قبل.

المئات من الأطفال قضوا في مضاجعهم بلا حراكٍ، وبلا معالم للموت بادية ٌعليهم سوى زبد يخرج من أنوفهم وأفواههم، وأجسادُ شاحبة مُزرقّة، ونتيجة ً للحصار المفروض على هذه المناطق المنكوبة ونقص التجهيزات الطبية واجه الأهالي هذا الموت الغريب بالماء والبصل، فلا أقنعة واقية ولا أوكسجين يُسعف به المصابون، وحتى الأطباء والمُسعِفون أصيبوا بدورهم في ذلك اليوم.

أيُّ موت صامت ضرب هذه البقعة السوريّة المحاصرة أصلاً؟! في هذا اليوم لا نستطيع نسيان كلمات ذلك الأب المفجوع الذي كان يحملُ فلذات أكباده -بناته الثلاث- وهو يناجيهنَّ ويطلب منهن أن يقمن من سباتهنَّ العميق ويقول: “من يعيدهن ليّ”، وتلك الطفلة التي وجدت نفسها فجأة ًعلى سرير طبي تصرخُ بأعلى صوتها متسائلةً ما إذا كانت لا تزال على قيد الحياة “أنا عايشة .. أنا عايشة”، أم ذلك العجوز الذي يحملُ حفيده المُسجّى بكفنٍ أبيض ليُري العالم ذاك “الإرهابي الصغير”.

المئاتُ من الأطفال ماتوا بلا دماء في مجزرة العصر الكيماوي، وتحدّثت الأرقام أنّ عدد الشهداء وصل إلى “1400” شهيد، والآلاف من المصابين.

بدأ النظام المجرم بعدها حملته التضليلية التكذيبيّة لنفي كلّ ما جرى، وسانده “معارضون مفترضون” وأعضاء في هيئة التنسيق المعارضة كرئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي “صالح مسلم” الذي صرَّح وقتها: “بأنه لا يعتقد أنّ الحكومة السورية هي المسؤولة عن الهجوم”. وأضاف أنّ الرئيس السوري ليس غبياً ليستعملَ السلاح الكيميائي قرب دمشق وعلى بعد خمسة كيلومترات فقط من الفندق الذي يقيم فيه المفتشين الأمميين.

لكنَّ ردود الفعل الدولية كانت تحمّل النظام السوري مسؤولية الحادثة فالأميركيون كشفوا أنّ مخابراتهم رصدت نشاطاً في مواقع كيميائية سوريّة قبل 21 أغسطس/ آب، والمخابرات الألمانية كشفت عن اتصال جرى بين مسؤول كبير من حزب الله والسفارة الإيرانية في بيروت، يشيرُ لفقدان بشار الأسد لأعصابه واستخدامه للسلاح الكيميائي في الهجوم على الغوطة.

كانت الأصوات الدولية يومها تتعالى لضرورة محاسبة الأسد لتخطيه الخطوط الحمراء وبدت التهديدات جديّة ً في توجيه ضربة عقابية لنظامه، وتبلورت ملامح حلف ثلاثي (أميركي – بريطاني – فرنسي) لضرب الأسد، لكن وفي خضم المناقشات الحادة في الكونغرس الأميركي عن احتمالية الضربة العقابية للأسد ومآلاتها؛ أبرق نظام بشار وزير خارجيته إلى روسيا التي أعلنت أنّ النظام سيستغني عن أسلحته الكيميائية ويسلمها للمجتمع الدولي، وتلقفت إدارة أوباما هذه الصفقة التي أفلت من خلالها الأسد من العقاب المزعوم!.

أصيب السوريّون والعالم بخيبةٍ كبرى وبقدر عالٍ من المرارة والحسرة جرّاء هذا الاتفاق الذي جرَّد الأسد من “سلاح الردع الاستراتيجي” ومكّنه من مواصلة تقتيل السوريين ببراميل حقده، وكافة الأسلحة الأخرى من طيران وصواريخ بالستية وفراغية لا تُعتبر خرقاً أو فعلاً محرّماً بنظرٍ المجتمع الدولي!

وبعد نجاته من العقاب استخدم النظام بديلاً كيميائياً آخر وهو غاز الكلور الذي قامت قوات النظام الكيميائي برشه مرّات عديدة على مناطق مختلفة في سورية كـ (ريف حماة وإدلب) وغيرهما من المناطق الخارجة عن سيطرة قواته الإجراميّة.

مجزرةُ العصر الكيمياوية التي شكّلت حدثاً استثنائياً في الثورة السوريّة، كانت ستكون آخر فصول المعركة مع نظام مجرم كنظام الأسد، بيد أنّ المجتمع الدولي عاقب الأسد كما لو كان تلميذاً مشاكساً في مدرسةٍ ابتدائية سورية، يتلقى الوعيد والتهديد من أستاذهِ مراراً، ليفصل بعدها ثلاثة أيامٍ عن مدرسته كعقوبةٍ لعدم التزامه، ثمّ يعود لفصله الدراسي بعد انقضاء الأيام الثلاثة مفعماً بطاقاتٍ متجددة للشغب والمشاكسة، بصورةٍ أكثف من ذي قبل، وهذا ما فعله المجتمع الدولي مع نظام الإجرام الكيماوي، فتجريده من سلاح فتّاك دون غيره أطلق يده وبشكل أكبر في قتل الشعب السوري وبطرائق مختلفة ومتنوّعة.

(سورية)

العربي الجديد

 

 

 

 

عن أصدقائي في ذاكرة دوما الجريحة/ لونا صفوان

تُعتبر دوما، الواقعة في غوطة دمشق الشرقية، من المناطق المنكوبة التي تحمّلت التنويعات المروعة التي صبّها النظام بالقصف والحصار والتدمير. ويكاد لا يخلو شهر أغسطس/آب من الذكريات الأليمة التي وثّقتها الصور. فقبل عامين ارتكب نظام بشار الأسد مجزرة بحقّ سكان المدينة، حين استهدف حاراتها بقصف كيمائي فقتل العشرات وتسبّب بأضرار لا تزال صورها حاضرةً في ذاكرتنا حتّى اليوم.

الغازات السامة رافقت المدينة خلال معاركها المختلفة، فبرز اسم “الغوطة” مراراً وتكراراً على نشرات الأخبار، مرةً كان غاز السارين، ومرّة برميل على الأسواق، أو قصف مسجدٍ يوم الجمعة، أو رصاصةٌ اخترقت قلب مراسل صحفي، أو أطفال كانوا يلهون بالقرب من منازلهم قبل أن يفاجئهم قصف النظام، لتوثّق الكاميرات صدفةً أقسى مشاهد الخسارة السورية: طفلٌ يبحث عن شقيقه بين بقايا الحائط القديم، وفي الخلفية درّاجةٌ زهرية، وسط غُبار الدمار.

“لازم نعمل شي.. ما بعرف.. ما لازم نسكت على يلي صار”، قال لي صديقي الذي غادر الغوطة منذ أكثر من سنة ليستقرّ في بيروت، بعد إصابات تلقّاها خلال تغطيته المعارك الدامية.

صمتنا دقائق. ثم عبّرت له عن حزني لما يحصل اليوم في دوما بعدما تسبّب قصف النظام باستشهاد أكثر من 100 مدني كانوا يجوبون أسواق المدينة، وجرح أكثر من 300.

صديقٌ آخر، لبنانيّ، طلب منّي ألّا ننسى إحياء ذكرى مجزرة الغوطة الكيميائية، ولو بوقفة تضامنية. لكنّني لم أقوَ على الموافقة أو الرفض. إذ قضيت الليالي الماضية أسهر قبالة فيسبوك، أتربّص بصفحات الأصدقاء الذين يعملون على تصوير وتغطية ما يحصل في دوما. وكلّما ظهر اسم شهيدٍ جديد على الشاشة، أشيح بنظري، رافضةً الرضوخ إلى صورةٍ قد تكون صورة صديقي الأخيرة.

كاميرات الغوطة الشرقية لم تغب يوماً عن الساحة، ونتساءل أحياناً، فنسألهم: “ألا يخافون؟”. أم تراهم خسروا كلّ شيء والموت لم يعد مخيفاً ولا في الحسبان؟

تأتي الإجابات الواضحة بعد نشرهم صورهم وهم يستغلّون يوماً مشمساً للتجوّل في أنحاء المدينة الهادئة نسبياً، وتوثيق ابتسامات أطفالها، أو خلال ليلة هادئة أمضوها على سطوح دوما، بين المباني التي حملت ذكريات الموت أو الاستشهاد. أمّا الإجابات الأصدق، فتأتي بعد كتابتهم عن دوما. أحدهم كتب هذا النصّ على فيسبوك:

“سأكتب لكِ دوماً .. لن أتوقف .. ولو توقفت الأنفاق عن إدخال الأقلام،

سأكتب لكِ كم أنا بعيد ومهمل ومشرد.. من كثرة الأنفاق،

سأكتب لكِ كم أنا جائع.. عن السمفونيات التي تصدر من معدتي الآن..

سأكتب أيضاً ذكريات الفواكه والخضار الطازجة واللحم المشوي..

سأكتب عن الكوسا والرز..

سأكتب عن بقايا أرغفة الخبز المكسرة.. الجافّة.. القاسية.. بما أنها الوجبة الرئيسية هنا

سأكتب لكِ عن المعارك.. عن أصوات الرصاص.. عن الطائرة

.. عن كلّ شيء أراه يومياً

سأكتب لكِ عن جارنا الكهل.. سأكتب لكِ عن أمي. عن عذابها وأملها. عن وجهها الصبوح..

سأكتب عن النفاق والرياء وتمسيح الجوخ.. الذي يعتبر الآن بنية أساسية للمجتمع هنا..

سأكتب لكِ كم تمنيتُ ألا أكتب لكِ أيّ شيء…”.

في الغوطة، نفقد التواصل مع الأصدقاء لأيّام أحياناً، أو لأشهر. وأحياناً نتفادى التواصل معهم. نحاول الاعتياد على غيابهم، حتى إذا غيّبهم الموت يوماً، لعلّنا نجد في نفوسنا القليل من القوّة للاستمرار.

العربي الجديد

 

 

 

 

الشلل الدولي إزاء وحشية بشار الأسد/ رندة تقي الدين

طيران بشار الأسد يرتكب مجزرة في الغوطة. وبعض مصادر مجلس الأمن تهلل بالبيان الرئاسي في المجلس لتأييد الحل السياسي في سورية ودعم عمل المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا بأنه إنجاز تاريخي في حين أن لا صفة إلزامية لأي بيان في مجلس الأمن. فمثل هذا الوصف سوريالي. إذ إن الموقف العالمي إزاء ما يجري في سورية مأسوي لشلله أمام ما يرتكبه الأسد وجماعته بمساعدة «حزب الله» وإيران ضد شعبه. الرئيس باراك أوباما بذل جهده لمنع إيران من الحصول على القنبلة الذرية. ولكنه لا يبالي بما يرتكبه الأسد (بمساعدة إيران) من مجازر ببراميل طيرانه على شعبه وذلك منذ بداية الحرب السورية في ٢٠١١.

بشار الأسد ترك يقتل ويهجر الملايين من شعبه وينشئ عناصر «الدولة الإسلامية» التي أصبحت تهديداً عالمياً وعلى أولوية القوى الدولية. وطالما لا يهدد الأسد إسرائيل مثلما تهددها قنبلة إيران تبقى المجازر في الغوطة وقصف دوما والمدن السورية بالطيران مجرد مشاهد مؤلمة. وبما أنها لا تمس المصلحة الأميركية فلا تقتضي بحسب عقيدة أوباما أي تدخل عسكري ولو بقصف قواعد الطيران السوري. فمنطق أوباما أن التدخل العسكري ينبغي أن يكتفي بقصف قواعد «الدولة الإسلامية» لأنها الخطر الأكبر على العالم، في حين أن مجازر النظام بالبراميل لا تهدد العالم وإن قتلت وهجرت الملايين. أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فهو يحلم بالعودة إلى أيام الاتحاد السوفياتي عندما كان يتم التفاوض حول شؤون العالم بين واشنطن وموسكو. فهو مصر على بقاء الأسد وقد أصدر وزير خارجيته سيرغي لافروف موقفاً أكثر تشدداً إذ إنه قال إن مغادرة الأسد في نهاية المسار السياسي الانتقالي للحل في سورية شرط غير مقبول. فروسيا بوتين تريد بقاء الأسد للاستفادة من ضعف ولامبالاة رئيس أميركي له أولويات غير مأساة المدنيين السوريين ومشاكل الدول المجاورة من التهجير السوري المستمر. أما فرنسا فتتحرك للعمل في مجلس الأمن لمكافحة استخدام النظام السوري للبراميل وهي أسلحة توازي وحشية استخدام الكيماوي. ولكن نظام الأسد لا يبالي بمواقف فرنسا طالما أن الإدارة الأميركية لا تتحرك بحزم للحل في سورية ولمفاوضة أشد مع بوتين. فروسيا على رغم حلم بوتين لم تعد الاتحاد السوفياتي. ولها مصالح كبرى مع الولايات المتحدة ومع أوروبا. ومبعوث الأمم المتحدة في سورية ستيفان دي ميستورا هو شخصية دولية مرموقة ولكنه عاجز بفعل الموقف الأميركي الضعيف والروسي المتشدد. والمسكين دي ميستورا تنهال عليه انتقادات النظام لأنه يدين قصف الغوطة وسابقاً انتقادات المعارضة لمبادرته الفاشلة في تجميد القتال في حلب. فدي ميستورا لن يصل إلى أي حل طالما هناك شلل في مجلس الأمن إزاء ضرورة خروج الأسد من السلطة.

إن الحل في سورية مع هذه المواقف المعطلة لا يمكن أن يكون سياسياً. بل سيكون عسكرياً ومن الداخل لا من الخارج لأن الأسد لن يذهب طالما هو محمي من بوتين والمرشد الإيراني علي خامنئي و»حزب الله». ولكن حمايتهم قد تصطدم يوماً بحدث غير متوقع من الداخل. فلا أحد يعرف ماذا يجري وسط الأسد وجماعته. وكثر في هذا الوسط قتلوا أو تمت تصفيتهم. وربما ينتهي عهد الأسد بهذا الشكل تبعاً للمثل الذي يقول من حفر حفرة لأخيه وقع فيها. ولكن بانتظار ذلك سنشهد المزيد من القتلى والمجازر والتهجير والكوارث الاجتماعية والإنسانية. وأثناء ذلك ستستمر الأسرة الدولية بتداولات عقيمة وعاجزة مع رئيس أميركي لا يرى خطورة بقاء الأسد الذي ساهم بقوة في بناء «الدولة الإسلامية» التي أصبحت الآن تهدده وتجعل البعض ومن بينهم أوساط مصرية تفضل بقاء الأسد.

الحياة

 

 

 

 

المجازر وسيلة الأسد المفضلة للبقاء

رأي القدس

إضافة إلى كونها منهجاً وحشياً للترويع بقصد إنهاء الثورة، فقد كان للمجازر، التي قام بها النظام السوري على مدى 53 شهراً أهداف سياسية وعسكرية نستطيع أن نتميز فيها ثلاث نقاط علام:

الأولى تمثلها مجازر ريف درعا الأولى التي كان هدفها وقف الحراك المعارض، وامتدّت إلى بلدات ومدن وقرى كثيرة بينها بانياس والبياضة وقرية «رسم النفل» بريف حلب وبلدة «جديدة الفضل» جنوب دمشق، وداريا في ريفها، وساحة مدينة حمص، وكانت ذروتها الكبرى هي مجزرة الهجوم الكيميائي في غوطة دمشق بتاريخ 21 آب/أغسطس 2013 والتي قامت خلالها قوات من اللواء 155 في منطقة القلمون باستهداف مناطق الغوطة الشرقية وزملكا وعين ترما وعربين والمعضمية، على مبعدة 5 كيلومترات من الفندق الذي يقيم فيه المفتشون الأمميون حينها، وقتل خلالها ما يزيد عن 1400 شخص بينهم 423 طفلا.

والثانية هي المجازر التي قام بها النظام وحلفاؤه لتطهير حوض نهر العاصي من القرى والبلدات ذات الأغلبية السنّية كخطوة استباقية في حال اضطرّت قوّات النظام للانكفاء ضمن إطار جغرافي لدويلة علوية في الساحل، حيث جرى تطهير طائفي لكافة البلدات والقرى غرب خط العاصي مما أدى إلى مجازر كثيرة أهمها في التريمسة والحولة القبير وحلفايا.

ويمكن تأطير هجوم قوات «حزب الله» اللبناني الشهير على مدينة القصير ضمن برنامج التطهير هذا، إضافة إلى إمكانية استدخاله في أجندة الحزب الخاصة الهادفة للسيطرة على خط الحدود بين سوريا ولبنان و»تنظيفه طائفيا» وهو برنامج ما نزال نشهد فصوله تتوالى في حصار الزبداني، والذي كشفته خطة إيران لإجلاء سكانها وتوطين سكان قريتين شيعيتين تحاصرهما المعارضة في محافظة إدلب بدلا منهم.

المرحلة الثالثة تتمثل في مجازر النظام السوري الأخيرة في درعا وإدلب ومؤخرا في ريف دمشق، والتي يحاول فيها إيقاع أكبر عدد ممكن من القتلى والجرحى بين المدنيين من خلال استهداف المناطق المزدحمة والأسواق والمستشفيات الميدانية وإعادة الإغارة للإيقاع بأعداد أكبر من المسعفين، وهذه المرحلة تحاول إرسال رسائل كبرى للمجتمع الدولي والأطراف الفاعلة في الأزمة السورية.

يستخدم الرئيس السوري بشار الأسد هذه المجازر الجديدة باعتبارها ضربات يسددها كمركز فاعل بالتنسيق مع حليفيه الرئيسيين، روسيا وإيران، حيث أنجدته الأولى مؤخرا بعدد من طائرات الميغ وبإمدادات جوّية «إنسانية» عاجلة، فيما اندفعت الثانية إلى تقديم «مبادرة» سياسية لإنقاذ النظام وإعادة تدويره، بعد أن استردّت أنفاسها إثر معركتها السياسية الكبرى لإنجاز الاتفاق النووي واستعادة ملياراتها المصادرة ورفع العقوبات الكبيرة عن اقتصادها.

المجازر الأخيرة، بهذا المعنى، هي ضربات موجهة نحو السعودية بعد إعلان وزير خارجيتها عادل الجبير من موسكو الرفض التامّ لمشاركة الأسد في أي حل سياسي، ولتركيا التي بدأت حربا على «حزب العمال الكردستاني»، وهو حليف موضوعي للأسد، يتلقّى، كما تؤكد مصادر عديدة، الدعم المالي والعسكري من إيران، كما أنها عقوبة لأنقرة على اشتغالها على إنشاء «منطقة آمنة» داخل الأراضي السورية، كما أنها ضربات للتحالف الدولي والعربي الذي لم يذعن، لـ«المبادرات» والضغوط السياسية الروسية والإيرانية، لاستبقاء الأسد على رأس السلطة خلال «المرحلة الانتقالية» التي تحدثت عنها آليات «جنيف 1».

المجازر الأخيرة إذن هي ورقة روسيا وإيران والنظام السوري لإعادة الأزمة السورية نحو مبتدئها الأول الذي قامت لأجل إنجازه: إسقاط نظام الاستبداد السوري، في استعادة لأسلوب الأسد المفضل في التعامل مع شعبه: القتل، فإذا لم ينفع، فالقتل أكثر فأكثر.

المفارقة هنا أن وسيلة الأسد لإقناع العالم والسوريين بضرورة بقائه هي نفسها التي أفقدته كامل شرعيته السورية والدولية وحوّلته إلى استعصاء وجودي لا يمكن لسوريا أن تفتح صفحة جديدة في تاريخها قبل أن تزيحه.

القدس العربي

 

 

دوما ليست “11 أيلول” .. المجزرة تقاوم تعليبها/ إيلي عبدو

تحتمل صور المجزرة، راهناً، الكثير من التبّدل والخرق وإعادة التركيب. مشهد البرجين التجاريين، وقد اخترقتهما طائرات القاعدة، طبع وعينا البصري حيال الظاهرة، وعي أقرب إلى سينما الأكشن التي يندر فيها ظهور الدماء. الارتطام والانفجار والأجساد المتهاوية من الطوابق العلوية بقيت أجزاء منفصلة تعيد تقنيات العولمة منتجتها، لتبدو أقل وحشية. كأننا حيال صناعة حداثية للمجزرة، تحذف الدماء والأشلاء والجماجم، وتُبقي على ما هو حركي، لينفي ثبات فعل الموت.

صحيح أن أخلاقيات إعلامية معتمدة غربياً ساهمت في صناعة مجزرة “11 أيلول” بصرياً، لكن الآلية الجذرية التي تبدّت، أدواتياً، ضمن سياق إنتاح المشهد العولمي، سعت إلى خلق حيز إنكاري، يأخذ من المجزرة إطارها الخارجي العام، ويخفي تفاصيلها.

اقتصرت الشهادات التي ظهرت بعد الحادثة على البعد الشفوي، ولم تشكل سرداً مترابطاً، ينافس ما جرى تصنيعه مشهدياً. طغت الصورة على فعل القتل، وحوّلته إلى موضوع، وظيفته إطلاق الحدث من دون التدخل بمجرياته ونتائجه.

ثمة انفصال، إذاً، بين القتل وصورته، والأدق، هي منافسة محسومة لصالح الصورة التي تتكفل التأسيس لتداعيات الحدث ونتائجه، في السياسة والاجتماع والعلاقة مع العالم. هكذا، يجري تسييس الضحية قبل رؤية دمائها، وإدراجها ضمن سياق توظيفي، يعتمد المشهد أداة لتسويغ مبرراته، فلا تبقى الضحية ضحية، بل تصبح ضحية لأجل.. وتفقد قيمتها اللحمية، ويتبدّى موتها صامتاً، داخل صورة باردة، تبثها التلفزيونات وتنشرها الصحف.

خلافاً لهذا الانفصال، تكشف مشاهد مجزرة دوما التي ارتكبها نظام الأسد، قبل أيام، عن التصاق جذري بين فعل القتل وصورته. تختلط أشلاء الضحايا مع الأدوات الطبية البدائية، ويرسم الغبار الذي خلّفه القصف خلفية رمادية قاتمة، فيما الأفواه المفتوحة ذهولاً تبتلع الحدث، وتعيد إنتاجه ملامحياً. انتقلت المجرزة، سريعاً، إلى الوجوه، وتحوّلت النظرات إلى أدوات لترسيخ المشهد وتعميق مأساويته. كما أن الدم بدا العنصر الأقوى، يربط أجزاء الفاجعة، ويرتب الضحايا تبعاً لنقصان أعضائهم. كان الجميع ملطخاً بالدم، الضحايا والمسعفون والأطباء، أحدهم لا ينتبه إلى بقع الدم على يديه، راح يضرب جبينه متأسفاً لهول الموت المحيط به، فظهر وجهه مدهوناً بالأحمر. أصبح الدم، بسبب كثافة حضوره، مادة غير مدركة، يصيغ المجزرة، ويخلق عصبية رحمية بين ضحاياها.

“لا يريد الغرب أن يرى جثة ملطخة بالدم، جثة غير مسيسة، هو يحبذ موتاً نظيفاً معقماً. لا يحقق فقراء دوما هذا الشرط”

ينعدم الخيال إذاً في دوما، لا حاجة لتصور أحوال القتلى، ووضع سيناريوهات لنهاياتهم. هؤلاء يتكشفون بكثافة، ويسبقون الصورة التي توثق موتهم. دوما عاشت لحظة المجزرة، زمن ما قبل الصورة، اللحم المتظشي ألغى أي إمكانية لتأويل الحدث، وتحويله إلى رمزيات. سخونة الموت وقسوته منعتا تعليب المجزرة في مشهدية يشبه التعاطف معها ذلك الذي نبديه عند مشاهدة لوحة تشكيلية مؤثرة.

قاومت دوما تحويلها إلى لوحة تشبه واقعة 11 أيلول، حيث لا أصوات للضحايا، والدم مادة معدومة الوجود. كثفت المدينة عند قصفها الحدث المجازري، بوصفه واقعاً عصياً على التأطير البصري. الصور والفيديوهات لم تتدخل في منْتجة الحدث والتقليل من قسوته، بل تبدّت جزءاً من لحميته الطازجة. يكفي أن نشاهد أحد الناجين، وهو يرفع دراجته الهوائية التي سحق القصف عجلتها الأمامية، لندرك وظيفة الصورة. عشوائية الجزئيات تأتي بالضد من المشهد الكلي الناجز الذي استقرت عليه حادثة ضرب البرجيْن الشهيرين في أميركا، وبات جزءاً من أرشيف العالم البصري.

تنقذ المدينة المحاذية لدمشق مجزرتها من خطر الأرشفة، وتأبى القولبة الحداثية التي تحيل كارثتها إلى صور باردة. ثمة إصرار على تثبيت فعل الموت، بوصفه حدثاً بدئياً، لا يستوجب أي رمزيات أو تأويلات. حدث يسبق الصورة، ويدرجها في متنه، يكتفي بتفاصيله، ويصنع من كل جزئية واقعة منفصلة، تمنح الموت مزيداً من التكثيف.

لذا، استعصت المجزرة على القولبة، ولم يتمكن العالم الغربي من ابتلاعها في نظامه العولمي، تمهيداً لتحويلها إلى مشهدية قابلة للتصريف في شبكات الإعلام. ما سبب إحراجاً مضاعفاً يتجاوز الموقف السياسي السلبي، نحو الكشف عن ضحايا يكتفون بهويتهم قتلى، لا مكان للسياسة في توصيفهم. فبشار الأسد الذي يكرر الغرب معزوفة فقدانه الشرعية لم يعد موضوعاً سياسياً، بات مجرماً محضاً، خلافاً لتنظيم القاعدة الذي قُسّم العالم، انطلاقاً من الصراع معه.

لا يريد الغرب أن يرى جثة ملطخة بالدم، جثة غير مسيسة، هو يحبذ موتاً نظيفاً معقماً. لا يحقق فقراء دوما هذا الشرط، بل يغالون في نقيضه، أي يكشفون موتهم إلى حدوده القصوى.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

دوما الحزينة/ بسمة النسور

عبّر زملاء كتاب سوريون عديدون عن لومهم وغضبهم وعتبهم (بمقدار المحبة) على أسماء معروفة بمواقفها الشريفة الثابتة المناصرة لحق شعب سورية بالحياة الحرة الكريمة، والخلاص من نير نظام حكم انقلابي آثم غادر، وصل إلى أسفل درجات الانحطاط الأخلاقي، فضحّى، بجرة قلم، وفي سياق خطاب رئاسي رث مشين، بأرض وشعب مقابل كرسي من محض خديعة ووهم وتسلط وجبروت. باع واشترى وزاود وزيّف وافترى على الناس كذباً، أعواماً طويلة من الاستبداد المتوارث، جيلاً فجيلاً، بقوة القمع الإرهابي.

عبّر هؤلاء الأعزاء عن خيبة أملهم من التفاعل الفاتر الأقرب للحياد الذي أبداه كتاب عرب منخرطون في الشأن السياسي عموماً، والشأن السوري خصوصاً، مع الأخبار الدامية المفجعة عن وصمة العار الأحدث في جبين البشرية، مجزرة دوما الحزينة. وثمة من ذهب إلى أن التعبير عن الاكتراث جاء عند بعضهم، في حده الأدنى، وكأنه مجرد رفع عتب ليس أكثر. وكان ينبغي أن تكون الغضبة وفورة الدم بمقدار جسامة هذه الأهوال والفظائع التي يرتكبها النظام الأسدي المجرم، منزوع الضمير والأخلاق والمشاعر الإنسانية السوية، فاغتال في دوما، وبقلب بارد، مئات الأرواح الشابة لفتيان في عمر الورد الخاطف القصير الجميل، وهم الفئة المستضعفة المتحايلة على سواد الحياة ومرارتها يوما بيوم، يصنعون أسبابها ويأخذونها غلابا، نفروا من بيوتهم فجراً مطمئنين، واثقين إلى حتمية العودة مساءً إلى أمهاتهم المنتظرات المزهوات بكد صغارهن، كما يقتضي المنطق البسيط للحياة. ذهبوا، بمعية الصباح الواعد بالفرح، سعياً في مناكبها، يدللون، بأصوات حيوية ضاجة صاخبة متحدية على بضائعهم البسيطة من صناديق بندورة وأصناف خضروات عديدة، عل بيعها يوفر لهم كفاف يومهم الذي بات طويلاً شاقاً حافلا بالأسى، في ظل ظروف حياة شاذة شوهاء، باتت مستحيلة على كثيرين، هجّوا مرغمين، فابتلعتهم المنافي البعيدة ومخيمات الذل في الصحاري وشبكات الاتجار بعذابات البشر في قوارب الموت الذاهبة إلى مجهول أقل رأفة، مهما قسا، من إجرام نظام وحشي، فلت من أي عقال.

لا مجال للجدل في حق الزملاء الإحساس بالخذلان واليأس. حقا إنها حالة مثيرة للغيظ، ولا تقتصر على النخب، بل تتجاوز هذه اللامبالاة والتجاهل والغياب التام لمشاعر التضامن الإنساني الشارع العربي برمته، الغارق، عن سبق إصرار وترصد وعماء قلب وتيه، في بحر من الظلمات، منقاد بانضباط قطيعي، يليق بأغنام مسكونة بهاجس العشب، يهش عليه، فيزداد امتثالاً، تتحكم في وعيه فضائيات مأجورة، متخصصة في قلب المفاهيم وبذل محاولات بائسة، لتغطية شمس الحقيقة بغربال كذبة الممانعة التي باتت رخوة، كقطعة لبان مستهلكة، لا تثير في النفس سوى مزيد من الاشمئزاز، لفرط سوقيتها. تمر الممارسات الوحشية على زماننا، ونحن منغمسون في التفاهة والبؤس والبلادة، يربض الحزن ضيفا ثقيلاً في الجنيات المستباحة لأسواق دوما وأزقتها.

ثمّة مشاهد تكسر الفؤاد وتدميه، نغمض أعيننا عنها جزعاً ولوعة، وإحساساً مضنياً بالعجز والغضب، والرغبة في تحطيم شيء ما فوق رؤوس كثيرة أينعت بالظلم والغدر والعدوان، وحان الوقت لمثولها في محاكم الحق والعدالة، ليقتص منها ما اقترفته يداها في حق شعب أعزل، ناصر عبر تاريخه كل قضايا أمته التي، للمفارقة المؤسفة، خلفته متروكاً في العراء، حين أطلق صرخة الحرية في بدايات المخاض الطويل الشاق الذي سوف يفضي إلى ولادةٍ لا بد منها. ويظل الجانب الخطير في هذا المشهد السريالي العصي على التأويل حالة التعايش العجيبة مع المأساة السورية التي تعد أكبر حالة طوارئ إنسانية في التاريخ، بحسب خبراء في مجال الإغاثة، أما الجانب المفزع والأشد خطراً، فإنه يكمن في حالة التطبيع المتواطأ عليها، بشكل جمعي، مع الجرح السوري النازف، فيما نحن نواصل حياتنا بكل تفاصيلها، غير المثيرة للاهتمام بأي حال.

العربي الجديد

 

 

 

بذكرى مجزرة الغوطة.. لماذا لا يحاكم القتلة بسوريا؟/ فضل عبد الغني*

تتجدد اليوم الذكرى السنوية لثاني أكبر هجوم بالأسلحة الكيميائية في العصر الحديث، حيث ثبت لدينا ولدى منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش، أن النظام السوري هو الذي شن الهجوم على غوطتي دمشق قبل سنتين، والذي أسفر -بحسب وثائق الشبكة السورية لحقوق الإنسان- عن مقتل 1127 شخصا، بينهم 201 سيدة و107 أطفال، مما يجعلها أكبر مجزرة في سوريا من ناحية عدد الضحايا.

وفي ظل هذه المجزرة تحديدا يتكرر السؤال: لماذا لم تتم حتى الآن محاسبة المجرمين في سوريا؟ ويجدر بنا القول من الناحية القانونية إن هذه المجزرة تحمل جريمتين: الأولى هي أنها ترقى لجريمة ضد الإنسانية، لأن القتل يمارسه النظام منذ عام 2011 بشكل منهجي وواسع النطاق، وذلك بحسب المادة السابعة من قانون روما الأساسي.

والجريمة الثانية هي أنها ترقى لجريمة حرب، لكون السلاح المستخدم محرما دوليا حتى ضمن الحروب، وذلك بحسب المادة الثامنة من قانون روما الأساسي.

مسار الجنائية الدولية

ومن غير المعقول في ظل النظام السوري أن تتم محاكمة المجرمين في القضاء المحلي غير المستقل، والذي يتبع فعليا سلطة أجهزة الأمن، فلا يوجد حاليا سوى خيار المحكمة الجنائية الدولية.

وهنا تبرز العقبة الأساسية، كون النظام السوري غير مصادق على ميثاق هذه المحكمة، وبالتالي فلا تعد مخولة لإصدار أي حكم قضائي بحقه، إلا إذا طلب مجلس الأمن ذلك من المحكمة، هنا تصبح المحكمة الجنائية الدولية مختصة.

لكن مجلس الأمن منذ مارس/آذار 2011 وحتى الآن، وبسبب استخدام حق النقض (فيتو) من جانب روسيا والصين أربع مرات، يمنع بشكل صارخ إحقاق العدالة، على الرغم من أن مشاريع القرارات التي قدمت نصت على محاسبة جميع الأطراف المتورطة وليس فقط النظام السوري، لكن روسيا والصين رفضتا ذلك بشكل قطعي.

وهذا يرسل رسالة للنظام السوري، أولا أن يبقى مرتاحا عندما تقلق الأمم المتحدة، وأن يضحك من الخطوط الحمراء، بل أن يهين ويسخر من قرارات مجلس الأمن نفسه.

مسؤولية مجلس الأمن

بكل تأكيد هناك خيارات أخرى غير المحكمة الجنائية الدولية، لكنها تعود بنا مجددا إلى مجلس الأمن الذي يتحكم في مصير شعوب وبلدان العالم بشكل غير عادل وغير مسؤول.

على سبيل المثال، بإمكان مجلس الأمن إصدار قرار تشكيل محكمة خاصة على غرار محكمتي يوغسلافيا عام 1993، ورواندا عام 1994، لأن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب من شأنها تهديد السلم والأمن الدوليين، وهو ما يُمارس يوميا بحق الشعب السوري.

وهذه المحاكم الدولية الخاصة يكون كل قضاتها من دول غير الدولة التي ارتكبت فيها الجرائم الدولية، وتكون مرجعيتها القانون الإنساني الدولي.

هناك خيارات خارج مجلس الأمن مثل اللجوء إلى “الاتحاد من أجل السلم”، وذلك وفقاً للقرار المؤرخ في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1950 بشأن الاتحاد من أجل السلم، ويمكن للجمعية العامة أن تنظر في الأمر بهدف رفع توصيات إلى الأعضاء لاتخاذ تدابير جماعية لصون السلم والأمن الدوليين أو استعادتهما، لكنه لم يطبق فعليا إلا ثلاث مرات، وهو بحاجة إلى جدية عدد كبير من الدول وتشكيل تحالف من أجل إنجاح ذلك.

أخيرا هناك الاختصاص العالمي للمحاكم الوطنية، حيث يوجد عدد من السوريين يحملون جنسيات متعددة، من الممكن اللجوء لمحاكم بعض الدول التي تأخذ بالولاية العالمية لقضائها مثل سويسرا وإسبانيا وغيرهما، ولكن معظم هذه الدول أصبحت قوانينها تشترط وجود المتهمين في أراضيها لإمكانية رفع الدعوى.

الفصل السابع

يبقى في هذا المجال الإشارة إلى أن هناك ثلاثة قرارات صدرت في استخدام النظام السوري الغازات السامة، اثنان منها يهددان باستخدام الفصل السابع في حال حصول أي انتهاك، الأول قرار مجلس الأمن رقم 2118 الصادر في 27 سبتمبر/أيلول 2013، في الفقرة 21 منه ينص بشكل واضح على أنه:

“في حالة عدم الامتثال لهذا القرار، بما يشمل نقل الأسلحة الكيميائية دون إذن، أو استخدام أي أحد الأسلحة الكيميائية في الجمهورية العربية السورية، أن تفرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة”. كما قرر أن “استخدام الأسلحة الكيميائية أينما كان يشكل تهديدا للسلام والأمن الدوليين”.

والثاني هو القرار 2209 الصادر في السادس من مارس/آذار 2015. ونحن نؤكد أن النظام السوري قام بخرق القرارين، فقد سجلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقل عن 125 خرقا للقرار 2118، من بينها 56 خرقا للقرار 2209، دون أي إدانة جدية على الأقل، نحن لم نصل بعد إلى مستوى محاسبة المجرمين.

أما القرار الأخير 2235 فقد طلب من لجنة نزع الأسلحة الكيميائية تحديد المجرمين، وكأن مجلس الأمن لا يعلم من هم!

مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

الجزيرة نت

 

 

 

الغوطة.. «داعش» وأميركا/ علي نون

الذكرى الثانية لمجزرة الكيماوي الأسدي في الغوطة الدمشقية ترافقت مع خبرين اثنين من مصدرين متنافرين لكنهما يتقاطعان بغرابة عند هذه الذكرى المشؤومة، علّهما يطمسان صيتها وصيت ضحاياها!

الخبر الأول يفيد بأن «داعش» دمّر دير مار اليان التاريخي في مدينة القريتين في ريف حمص.. وحرص على عادته المألوفة، على تصوير وتعميم جريمته الى أقصى حد ممكن.

الخبر الثاني يفيد بأن الجيش الأميركي أعلن أنه اكتشف (فجأة!) آثاراً لغاز الخردل في شظايا قذائف استخدمها «داعش» ضد القوات الكردية في مدينة مخمور في شمال وسط العراق، قبل فترة وجيزة!

الغريب ان الإعلان الأميركي يحكي عن «داعش» ويتناسى ذكرى المجزرة الكيماوية الأسدية. والغريب الموازي ان الإعلان «الداعشي» عن التدمير الهمجي للدير الذي بني قبل 500 عام يأتي من خارج السياق!. أي انه يعيد لفت الانتباه إلى حقيقة (جميلة في هذه البشاعة، ومضيئة في هذه الظلامية) ان هذا التنظيم لم يتعرض للمكوّن المسيحي بالطريقة التي تعرض ويتعرض بها لسائر مكونات المجتمعين العراقي والسوري! نكّل وذبح وصلب وشلّع وتفنن في عدميته، في حق أيزيديين وأكراد وشيعة عراقيين، لكنه اكتفى بتهجير أهل الموصل المسيحيين مثلاً، واستعاض بترميز بيوتهم ودعوتهم إلى الرحيل عن مناطقه، عن التنكيل بهم مثلما فعل بالآخرين الموصومين في عرفه بـ»الكفر»، مع عدم تغييب حقيقة موازية هي أن معظم جرائمه في سوريا طاولت المكوّن السني الأكثري أساساً وتحديداً، والمعارضة المسلحة أكثر بما لا يقاس من هدفه المفترض، أي السلطة الأسدية!

هذا الـ»داعش» حقق للسلطة الأسدية ولحلفائها ما عجزت وتعجز عن تحقيقه، على الرغم من كل دمويتها وشراستها وارتكاباتها، وإلى حد يمكّن من الجزم بأنه «أنجح سلاح» أطلقته غرفة عمليات الممانعة في حربها المصيرية لإبقاء إمساكها بالعراق وسوريا.. ولضرب الإسلام الأكثري بطريقة غير مسبوقة ولتحطيم الثورة السورية من داخلها، ولإعطاء مستر أوباما المبرر الإضافي لسياساته إزاء إيران عموماً ومشروعها النووي خصوصاً، بحيث إن الإرهاب (وأي إرهاب؟!) صار الشمّاعة التي يعلّق عليها رئيس أميركا تبريراته المخزية لعدم التحرك ضد جرائم الأسد، وللتركيز على مقولته الاستراتيجية المتحدثة عن ذاتية وداخلية المخاطر التي تواجه الاجتماع العربي الأكثري ودوله ومكوناته، في مقابل ذهابه منتشياً لملاقاة التجربتين «الديموقراطيتين» و«الحداثيتين» الإيرانية والكوبية معاً! وتكرار تأكيد تمسكه الرصين والفولاذي بإسرائيل، باعتبارها مثالاً لا يضاهى للدولة المدنية التي لا تعرف شيئاً عن الفصل العنصري، ولا تشوب ممارساتها اي شبهة أصولية أو استبدادية أو احتلالية أو لصوصية أو عنفية، مثلما يُظهر كل تاريخها، وآخر محطاته في غزة في العام الماضي!

في الوظيفة الاستراتيجية لهذا الـ»داعش» الكثير من مقومات قصة «حلف الأقليات» التي يعمل المحور الإيراني ـ الأسدي استناداً إليها! دقّته في تظهير الإجرام الصادم وإشاعته وتوزيعه وارجاعه إلى النص الديني الأكثري، تجعل من اكتفائه بترهيب المكون المسيحي أمراً تلقائياً وعادياً ومحسوماً.. وعلى النسق ذاته، يأتي تحييده لأي هدف إيراني متمماً لعدم مقاتلته السلطة الأسدية وعدم خوضه أي معركة فعلية (أي معركة!) مع «حزب الله» في مقابل المضي باستهداف السعودية ومحاولة إرباكها بالمعطى الفتنوي المذهبي.

إزاء هذه النكبة التي تخضّ عالم المنطقة العربية وأقوامها ودولها، يصحّ التذكير بأن التاريخ أقوى من شياطين التخريف والتأليف والتحريف.

وفي هذا التاريخ، ما يفيد بأن المسيحيين العرب هم أول العرب وسر فرادة هذه الدنيا.. هم أقوى وأبقى من توظيفات انتهازية وعابرة ولحظوية. وهم أقوى وأبقى من استبداد وطغيان أنظمة وجماعات وتوليفات دموية وخبيثة. وهم أقوى وأبقى وأكبر من أن تأخذهم على غفلة، استخدامات منحطة من تلك القوى التي لا تعرف شيئاً عن الأنسنة ولا عن القداسة، ولا تقدم شيئاً غير العدم وأهواله. ولا تقف في سبيل غاياتها وغواياتها، أمام تدمير أي إرث حضاري وارتكاب أي خطيئة أو جريمة أو كارثة سواء كانت في الغوطة الدمشقية أو في دير مار اليان في ريف حمص، وسواء كان الضحية أقلّوياً أو أكثرياً.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى