صفحات الثقافةمالك ونوس

محاكمة الطغاة.. هل سينجو أحد ما؟


مالك ونوس

من بوش إلى بن علي ومن بن علي إلى مبارك إلى القذافي وإلى من سبقهم ومن سيلحقهم، محكوم على الشعوب أن تعاني من وحشية الحكام. ومن بوش إلى بن علي إلى مبارك إلى القذافي إلى من سبقهم ومن سيلحقهم، محكوم على الطغاة أن تلاحقهم شعوبهم وتقدمهم للمحاكمة على ما اقترفته أياديهم من جرائم بحق هذه الشعوب. ولا يساور هؤلاء الطغاة القلق من احتمال تقديمهم للمحاكمة بعد تنحيهم فقط، بل هو هاجس يعيشونه وهم على العرش، لأنهم ومنذ اليوم الأول لهم في الحكم يعرفون ما اقترفت أياديهم. فتراهم يحاولون تغيير الدساتير كي تقيهم من الملاحقة، أو بناء ملاجئ في المهاجر يهرعون إليها حالما تطال أظافر شعوبهم نوافذهم العالية. أما السؤال الذي يظل ماثلاً أمام الجميع فهو هل سيسمح العالم لطغاة آخرين بالإفلات من العقاب كما أفلت الديكتاتور بينوشيه وبعده سوهارتو اللذان غيبهما الموت قبل أن يطالهما العقاب؟ ثم يأتي السؤال الأهم وهو: كيف سبيل الشعوب لمنع حكامها من التجبر؟

من أهم ما كرسته الثورات العربية البازغة هو أن الحكام محكومون بملاقاة مصيرٍ سبقهم إليه طغاةٌ آخرون ليس بصعبٍ على تلميذ مدرسة ابتدائية تَذَكُّرُ أسمائهم. إنهم الذين أمعنوا في ضرب الأسوار حول شعوبهم لعزلها وتجويعها ومن دمها بناء امبراطوريات مالية سرعان ما ستسطو عليها البنوك الغربية. وهم لتحقيق ذلك يقيمون صناعات لاستعباد هذه الشعوب ومرافق خدمية لسرقتها وجيوشاً تكون جاهزة لغزوها في أية لحظة والانقضاض عليها إن هي أعملت تفكيرها في إلوهية حكامها. وليس هنالك من صفة يمكن أن تميز حاكم عن آخر كأن هنالك DNA واحدا مشتركا بين جميع الحكام يظهر في العماء الذي يضرب عيونهم فيمنعهم من التبصر في ما آل إليه أسلافهم. وهو عماء يصيبهم بعد اليوم الأول من جلوسهم على العرش الذي يكونون في الغالب قد اغتصبوه اغتصاباً. فلا نراهم يتعظون من أقرب مثال جرى أمام أعينهم، فيوجهون السلاح إلى صدور شعوبهم كأنهم يريدون التعجيل في الإنحدار نحو ملاقاة المصير الذي نراهم إليه يندفعون.

ليس ما نقوله حكراً على بلداننا العربية، بل هو شائع لم تحرم منه دول كثيرة. فبالرغم من أن قوانين الولايات المتحدة الأميركية تعتبر رؤوفة برؤسائها، حيث لا تسمح بمحاكمتهم وهم في سدة الحكم على ما يمكن أن يقترفوه، لكن ذلك لم يمنع صدور دعوات بتقديم الرئيس الأميركي السابق جورج بوش للمحاكمة بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها منذ اللحظات الأولى التي أعلن فيها الحرب على أفغانستان في إطار حربه الكبرى على «الإرهاب» التي طالت في ما بعد العراق والصومال والسودان ومناوشات باكستان. وهو ما يعتبر انتهاكاً لشرعة الأمم المتحدة لكونه تدخل عسكرياً من أجل تغيير النظام بالقوة في بلدان تتمتع بالاستقلال والسيادة. كما اتهم بالتخطيط لغزو إيران وتقويض حكومات أميركا اللاتينية اليسارية التي أصبحت شوكة في حلق واشنطن بسبب سياساتها الشعبية. علاوة على الحرب على لبنان صيف 2006 وعلى غزة 2008-2009 التي قامت بها إسرائيل بمساعدة مباشرة من واشنطن. وهذا يعتبر جريمة ضد السلام وانتهاكاً للمعاهدات والمواثيق الدولية. كما أنه أعطى الأوامر بقصف بغداد والبصرة بالقنابل التي طالت خمسة ملايين من المدنيين العزَّل مما أدى إلى مقتل الآلاف، وهو ما يعتبر انتهاكاً لمعاهدة جنيف الرابعة التي تنص على حماية المدنيين زمن الحرب.

أقر الكونغرس الأميركي عام 1996 قانوناً يعتبر أي انتهاك فاضح لمعاهدة جنيف بمثابة الجريمة الفيدرالية. وعليه فإن القتل المتعمد والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية للمحتجزين والاعتداء على كرامتهم والوحشية التي قد تؤدي إلى وفاة المحتجز جميعها تستوجب عقوبة الإعدام. وكان إرسال المعتقلين إلى غوانتانامو وليس إلى سجون في داخل الولايات المتحدة واحدا من حيل وألاعيب بوش لتلافي اتهامه هو وإدارته باقتراف جرائم الحرب تلك. لكن ها هي الملاحقات تطال بوش الذي كان حصينا في سدة الحكم وها هو يمتنع عن دخول الكثير من البلدان التي صدرت فيها دعاوى قضائية تطالب بمحاكمته. وهو ما دفعه إلى إلغاء زيارته إلى سويسراً في شهر شباط الماضي خوفًا من المساءلة القانونية التي كانت تنتظره.

من جهة أخرى طالت الاتهامات تسيبي ليفني زعيمة حزب كاديما الإسرائيلي، حيث صدر أمر اعتقال ضدها في جنوب افريقيا في كانون الثاني من عام 2009. وذلك في أعقاب شكوى بخصوص مسؤوليتها، حين كانت تشغل منصب وزيرة خارجية، عن ارتكاب جرائم حرب خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2008-2009 في ما سمي بعملية الرصاص المصبوب. تلك العملية التي استمرت 22 يوماً ضد شعب أعزل واستخدمت فيها إسرائيل أسلحة محرمة دولياً. وقد استشهد إثر ذلك العدوان 1285 فلسطينيا بينهم 280 طفلاً وجرح 4336 شخصاً وشُرِّدَ الآلاف. علاوة على تدمير البنية التحتية والمنازل والمشافي والمساجد والمقرات الحكومية. وقد تم تدعيم تلك الاتهامات بتقرير مؤلف من 3000 صفحة أعدته منظمات أهلية في هذا البلد ضد الكيان الصهيوني وقدمته إلى نيابة الدولة هناك.

تعتبر محاكمة الرئيسين السابقين المصري حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن على قتل مواطنين أثناء الثورتين التونسية والمصرية إضافة إلى استغلال السلطة لتحقيق مآرب خاصة بداية طريق الشعوب نحو تحقيق مطالبها بالكرامة والعدالة الاجتماعية. وهي اللبنة الأولى لبناء دولة مدنية يكون القانون فيها سيداً. ومن هنا تبرز الحاجة لعقد اجتماعي يقلب ما كان سائداً من طريقة التعامل مع الحكومات والحكام تكون المحاسبة منذ اليوم الأول لاستلامهم مناصبهم هي الطريق لذلك. وتطال تلك المحاسبة سلوكهم الشخصي لتصل إلى سوء إدارتهم للبلاد منعاً لتجبرهم وتأبدهم في الحكم.

لقد خرج أخيراً الصوت الذي يطالب بملاحقة الطغاة وتقديمهم للمحاكمة لكنه ما يزال خفيضاً. وكي يعلو هذا الصوت على الشعوب الاصطفاف في تجمعات أهلية هدفها حماية المجتمع المدني وتفعيل القانون لفرض الاعتراف بوجودها واحترام مواطنيتها كخطوة نحو تكريس نفسها قوة فاعلة على الأرض يتعدى دورها التصويت بنعم على كل شيء إلى حكم نفسها بنفسها.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى