صفحات العالم

محاكمة دمشق

 


ديفيد شينكر

في أيلول/سبتمبر 2008، أصدرت “المحكمة الفيدرالية الأمريكية” في واشنطن العاصمة حكماً مدنياً ضد حكومة سوريا قدره 413 مليون دولار لتقديمها الدعم والمساعدة المادية لقتل اثنين من المقاولين الأمريكيين في العراق1 . وما زال الاستئناف الذي قدمته سوريا في حالة انتظار، ولكن إذا ما خسرت، فبلا شك ستسعى أُسر الضحايا إلى الحجز على الأصول السورية في الولايات المتحدة وخارجها.

وحتى الآن، فباستثناء العقوبات والتصنيفات المالية والعمل المباشر الدوري عبر الحدود، فرضت واشنطن تكلفة قليلة على دمشق لدعمها المتواصل للهجمات الإرهابية في العراق منذ حرب عام 2003. ورغم أنه من غير المرجح أن تؤدي التداعيات المالية لقرار المحكمة هذا إلى تغيير دعم دمشق الدائم للإرهاب، إلا أنها سوف تفرض ثمناً غير مسبوق على نظام بشار الأسد الذي يزداد استهتاره.

دعم التمرد

في كانون الأول/ديسمبر 2010، أفاد مسؤولو مكافحة الإرهاب الأمريكيون عن حدوث زيادة في عدد المتمردين الذين يدخلون إلى العراق عبر سوريا2. وقد كانت هذه أقوى إشارة إلى الدور السوري في تحرك الجهاديين منذ كانون الأول/ديسمبر 2009 عندما ألقى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي اللوم على دمشق على الهجمات التي وقعت بسيارات مفخخة والتي أسفرت عن مقتل أكثر من مائة شخص في بغداد. بيد، كانت تلك الحادثة الأخيرة فقط في سلسلة طويلة من الشكاوى الأمريكية حول تقديم سوريا الدعم للمتمردين العراقيين، وهو التطور الذي بدأ حتى قبل الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. وبالفعل، ففي الوقت الذي كانت فيه واشنطن تدفع بقواتها إلى المنطقة عام 2003 استعداداً لحرب خاطفة على بغداد، كانت دمشق تنشر قوتها المضادة لمحاربة الأمريكيين.

وفي الأشهر التي سبقت الغزو، سمح نظام الأسد بإنشاء مكتب عبر الشارع الذي توجد فيه السفارة الأمريكية في دمشق حيث يمكن للمتمردين الطامحين الالتحاق وركوب حافلة إلى بغداد للحصول على الفرصة لصد الغزاة3. ورغم كون دعم دمشق وتشجيعها صريحاً وبلا خجل، لم تأت هذه الخطوة كمفاجأة كبيرة لأعداء واشنطن في العراق. فمنذ البداية لم تُخف سوريا نيتها في تقويض الغزو الأمريكي. فبعد أيام فقط من بداية العمليات العسكرية على سبيل المثال، أعلن وزير خارجية سوريا آنذاك فاروق الشرع على الملأ أن :”مصلحة سوريا هي أن ترى هزيمة الغزاة في العراق.”4

لقد كانت هزيمة المشروع الأمريكي في العراق من مصلحة دمشق شاركتها فيها طهران إلى درجة أنه عشية الغزو، وفقاً لنائب الرئيس السوري في ذلك الحين عبد الحليم خدام، عقدت هاتان الدولتان اتفاقية لتشجيع “المقاومة” ضد القوات الأمريكية في العراق. 5

كما اتخذ نظام الأسد أيضاً خطوات أخرى من بينها تجنيد طاقم محلي — مثل الشيخ الإسلامي المتشدد أبو القعقاع الذي مقره في حلب — للمساعدة في تنظيم عمليات التسلل عبر الأراضي السورية.6 ولضمان عدم قيام هؤلاء الإسلاميين الخطيرين بزرع جذور محلية قد تهدد نظام الأسد، يبدو أن جهاز الأمن السوري قد قام بتوثيق وجود هؤلاء القتلة. وقد عرض نائب وزير الدفاع الأمريكي في ذلك الحين بول وولفويتز بعض الأدلة على هذا التواطؤ السوري الرسمي أثناء شهادته أمام “لجنة الخدمات المسلحة” في مجلس الشيوخ الأمريكي في أيلول/سبتمبر 2003.

وبينما كان يحمل جوازات سفر تعود إلى مقاتلين أجانب واجهتهم القوات الأمريكية في العراق، قال وولفويتز:

“أجنبي كان قد وصل إلى العراق في 24 آذار/مارس من خلال سوريا — وهو ليس سورياً ولكنه أتى عبر سوريا. ويدل تصريح الدخول الموجود على جواز سفره أنه أتى، حسب الاقتباس، “متطوعاً للجهاد.” وهاك شخص آخر أتى إلى العراق عبر سوريا — [من خلال] نفس نقطة العبور. ويقول تصريح الدخول “للانضمام إلى المتطوعين العرب.” وهاك ثالث وصل في السابع من نيسان/أبريل.7

وفي وقت لاحق، عزز تصريحات وولفويتز حوالي اثنا عشر ضابطاً برتبة عقيد بحري في “القيادة المركزية الأمريكية” ممن ركزوا أيضاً على انتقال الجهاديين عبر الأراضي السورية، وتواطؤ نظام الأسد في ذلك النشاط. ففي آذار/مارس 2007 على سبيل المثال، كشفت “القيادة المركزية” أن معسكرات تدريب للمقاتلين العراقيين والأجانب قد أنشئت على الأراضي السورية.8

ومع هذا، فإن أبرز تلك التصريحات كان ذلك الذي صدر من قبل قائد القوات الأمريكية في العراق في ذلك الحين الجنرال ديفيد بيتريوس. ففي شهادته أمام الكونغرس في 10 أيلول/سبتمبر 2007، قدم خرائط توضح دور سوريا المحوري كمصدر للمقاتلين الأجانب الداخلين إلى العراق.9 وقبل ذلك بأسبوع فقط وأثناء مقابلة مع صحيفة “الوطن العربي”، وصف الجنرال بيتريوس كيف سمحت سوريا لآلاف المتمردين بالوصول إلى مطار دمشق الدولي، ثم عبور الحدود العراقية.10 وقد كان هؤلاء المقاتلون الأجانب، كما شرح، المصدر الرئيسي للقوة البشرية لأغلب التفجيرات الانتحارية في العراق. وفي ذلك الشهر نفسه، ثبتت محورية سوريا في التمرد من خلال وثائق سنجار، وهي مجموعة نفيسة من أوراق تنظيم «القاعدة» التي استولت عليها القوات الأمريكية في العراق. 11

وقد جاء السلوك السوري أثناء الحرب — خاصة دعم الدولة المتزايد لعبور أعضاء تنظيم «القاعدة» وتسامحها معهم — مفاجأة للكثيرين. ورغم ذلك، فإنه في أعقاب أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 قدمت دمشق إلى واشنطن معلومات استخباراتية عن تنظيم «القاعدة» ساعدت على إنقاذ أرواح أمريكيين. لكن سوريا كانت تلعب لعبة مزدوجة تمثّلت بدعم الإرهابيين المنتقلين إلى العراق، وفي الوقت نفسه تزويد واشنطن بمعلومات عن هجمات مستقبلية — خارج الشرق الأوسط. وقد كان أمل دمشق أن ذلك سوف يوفر لها حصانة، إلا أن تلك المناورة باءت بالفشل. وبعد أن اتهم وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد — في آذار/مارس 2003 — سوريا بتقديم نظارات للرؤية الليلية إلى صدام، وصرح أن واشنطن سوف “تعتبر مثل هذا الاتجار أعمالاً عدوانية، وستعتبر الحكومة السورية مسؤولة عن مثل هذه الشحنات”،12 أوقفت دمشق تبادل المعلومات الاستخباراتية.

وكما أفضى مسؤول في وزارة الخارجية السورية إلى مراسل “نيويوركر” سيمور هيرش فإنه لو كانت واشنطن قد وافقت على مناقشة هذه القضايا عبر قناة خلفية، ربما كان تبادل المعلومات الاستخباراتية قد استمر. وقال: “لكنكم عندما تحاولون علناً إذلال دولة فإنها تصبح عنيدة.” 13 وبينما سعت دمشق إلى إلقاء اللوم على واشنطن في تعطل تلك القناة، إلا أنه في الوقت الذي توقف فيه التعاون، كانت سوريا تسعى بصورة حثيثة ولعدة أشهر، إلى تسهيل انتقال الجهاديين إلى داخل العراق. وبالإضافة إلى قتل جنود أمريكيين ومدنيين عراقيين أبرياء قام أولئك المتمردون أيضاً بأسر وقتل عشرات المدنيين الأمريكيين العاملين في العراق.

القضية ضد دمشق

إن اثنان من هؤلاء المقاولين الأمريكيين الذين أعدمهم “تنظيم «القاعدة» في العراق” هما أولين أويجين “جاك” آرمسترونغ وجاك هينسلي. وفي 2004، كان آرمسترونغ المقيم في تايلاند وهينسلي الذي كان مقره في مارياتا في جورجيا يعملان كمديري تعاقدات لدى شركة خاصة لمقاولين ثانويين في العراق. وقد اختُطف الاثنان من محل سكنهما في العراق في 16 أيلول/سبتمبر من ذلك العام. وفي 20 و21 أيلول/سبتمبر على التوالي نُشرت شرائط فيديو توثق عمليتا قطع العنق البشع لآرمسترونغ وهينسلي، وذلك من على منتدى على الإنترنت مرتبط بزعيم “تنظيم «القاعدة» في العراق” أبو مصعب الزرقاوي.14 وقد وُجدت بقايا الضحيتين في بغداد بعد فترة وجيزة.

وفي آب/أغسطس 2006 رفعت أسرتا آرمسترونغ وهينسلي دعوى مدنية ضد الحكومة السورية، والرئيس بشار الأسد، والاستخبارات العسكرية السورية ومديرها آصف شوكت. وقد ادعت الدعوى التي رفعها ورثة آرمسترونغ وهينسلي — تحت اسم مسؤول التركة فرانسيس غيتس — أن دمشق ” قدمت الدعم المادي والموارد” إلى “تنظيم «القاعدة» في العراق”، وسعت للحصول على [تعويضات مادية] عن الأضرار الاقتصادية، والتعويض عن الحزن والألم والمعاناة والتعويضات المادية الناجمة عن موتهما. 15

وفي كانون الثاني/يناير 2008، عُقدت جلسة استماع للأدلة استغرقت ثلاثة أيام، لإثبات حقائق القضية. وقد أدلى أربعة خبراء شهود أمريكيون بشهادتهم عن الكيفية التي سهلت فيها سوريا انتقال الجهاديين إلى العراق، وكيف أن نظام الأسد قدم دعماً وملاذاً لشبكة الزرقاوي، وكيف كان النظام — وتحديداً الرئيس وصهره الذي هو رئيس الاستخبارات العسكرية شوكت — على علم بأنشطة الزرقاوي وتنظيم «القاعدة».16 ولم ترُد الحكومة السورية على الدعوى، ولم تظهر في المحكمة.

وفي 26 أيلول/سبتمبر 2008، أصدرت “المحكمة المحلية لمقاطعة كولومبيا الأمريكية” مذكرة رأيها القانونية. وفي قرارها كتبت القاضية روزميري كولير،

“أثبت المدعون، بأدلة مرضية للمحكمة، أن سوريا قدمت مساعدة ضخمة للزرقاوي و”تنظيم «القاعدة» في العراق”، وأن هذا قد أدى إلى موت جاك آرمسترونغ وجاك هينسلي بقطع رأسيهما…وتُظهر الأدلة أن سوريا قد دعمت وحمت وآوت وقدمت العون المالي لجماعة إرهابية كانت طريقتها في العمل هي الاستهداف والتعامل بوحشية وقتل المواطنين الأمريكيين والعراقيين. 17

وما هو أهم، أن القاضية كولير خلصت إلى إنه وفقاً لسابقة، يمكن أن تُعتبر دمشق في الحقيقة مسؤولة عن التعويضات عن الضرر بموجب “قانون حصانات السيادة الأجنبية”.18 وبناءاً على المبدأ الدولي للحصانة السيادية، ليس للمحاكم الأمريكية سلطة قضائية على الدول الأجنبية ناهيك عن بعض الاستثناءات المعدودة المقننة في التشريع الفيدرالي للولايات المتحدة في هذا القانون. إن قضايا الإرهاب الذي ترعاه دولة هي إحدى هذه الاستثناءات. واعتباراً من 28 كانون الثاني/يناير 2008، فإن القانون الأمريكي “يستغني عن الحصانة السيادية للدول التي ترعى الإرهاب ويقدم دعوى الحق الخاص ضد مثل هذه الدول.”19 وبما أن الأسد وشوكت لم يحدَّدا فردياً بالدعوى، حكمت المحكمة بأنهما لن يكونا متهمان.

وبناءاً على هذا الحكم، منحت المحكمة تعويضات طالب بها ورثة آرمسترونغ وهينسلي. وفيما يخص [التعويضات المادية] الناتجة عن الأضرار الاقتصادية — الدخل المفقود الذي سببه الموت المبكر — كان التعويض منخفضاً نسبياً، حيث زاد بقليل على المليون دولار لكل جانب. ومع ذلك، فإن طريقة الإعدام الوحشية والمُطولة — والمعاناة التي نتجت عن ذلك للضحايا وأفراد الأسرة الأحياء — كانت سبباً في دفع تعويضات كبيرة عن الأضرار والخسارة التي لحقت بالجميع. والأهم من ذلك كله، كان الألم والمعاناة والتعويضات المادية عالية بوجه خاص “على أمل أن [هذه] التعويضات الكبيرة سوف تردع تقديم المزيد من الرعاية السورية للإرهابيين.”20 وقد حكمت المحكمة بمنح كل أسرة 50 مليون دولار عن الألم والمعاناة، و 150 مليون دولار كتعويضات مادية. وإجمالاً، بلغ ما قرره الحكم النهائي للمحكمة في هذه الدعوى المدنية ضد سوريا 413,909,587 دولار.

خط الدفاع السوري

على الرغم من أن هذا القرار الهائل لم يجذب الكثير من الاهتمام في وسائل الإعلام الأمريكية، من الواضح أن دمشق قد التفتت إلى هذا القرار.21 ففي 24 تشرين الأول/أكتوبر 2008 — بعد أقل من شهر على إعطاء الحكم الأولي — أرسلت سوريا مذكرة استئناف على الحكم. وفي محاولتها لإسقاط قرار الحكم تعاقدت الحكومة السورية مع المدعي العام في إدارة جونسون رامزي كلارك كمستشار قانوني لها.22

ولم يكن اختيار نظام الأسد لكلارك مفاجئاً بشكل كبير. فلدى كلارك سجل مذهل في الدفاع عن القضايا والأفراد المكروهين من الجماهير. كما أن قائمة موكليه هم بالفعل “أبرز” الحكام المستبدين ومرتكبي الإبادة الجماعية ومن بينهم رادوفان كاراديتش وسلوبودان ميلوسيفيتش وصدام حسين وإليزافان نتاكيروتيمانا (أول عضو من الكهنة يُتهم بالإبادة الجماعية من قبل “المحكمة الجنائية الدولية لرواندا”). وربما الموضوع الأقرب صلة إلى هذه القضية كان في أوائل التسعينات من القرن الماضي، عندما دافع كلارك عن “منظمة التحرير الفلسطينية” في القضية التي رفعتها أسرة الأمريكي المقتول ليون كلينجهوفر.

لكن اقتراح الاستئناف لم يعالج مزاعم الدعم المادي السوري للإرهابيين الذين قتلوا أمريكيين، بل ركز بصورة كبيرة على مسألتين قضائيتين. وكانت أول حجج سوريا هي أن القضية ينبغي رفضها لأنه “لم يتم تسليم أي إبلاغ من جانب ‘دي إتش إل’ [شركة تسليم دولية] إلى سوريا ولم يكن ثمة إظهار كاف للتبليغ من الناحية القانونية.” وفي الواقع، فوفقاً لمذكرة الاستئناف، فإن التسلم الموثق بالتوقيع من قبل وزارة الخارجية في دمشق للطرد الذي يُخطر سوريا بالدعوى القانونية “كان يمكن نسخه فوتوغرافياً من توقيع سابق….وكان يمكن بسهولة أن يكون نتاج تلاعب وتزييف.” وعلى أية حال، استمرت المذكرة في قولها أنه لا يمكن الاعتماد على “دي إتش إل”، وأن “الإنترنت مليء بالشكاوى الساخطة والمؤلمة من قبل عملاء ‘دي إتش إل’.”23

وقد أقرت دمشق بأن “عصام” كان في الحقيقة اسماً لشخص يوقع في العادة على الطرود في وزارة الخارجية السورية، لكنها تمسكت بقولها أن “دي إتش إل” قد مارست الاحتيال لتغطية عدم أهليتها، وأن الحكومة السورية لم تكن قط على علمٍ بالدعوى. وفي حين كانت نظرية المؤامرة التي تبنتها سوريا ضد “دي إتش إل” مسلّية، تشير الدلالات بأن المحكمة سوف لن تجد التفسير مقنعاً.

وكان الأمر الأكثر إثارة هو حجة كلارك الثانية حول السبب الذي كان ينبغي بموجبه رفض القضية أو إعادتها إلى المحكمة المحلية. وقد جادلت سوريا بأن استثناء الإرهاب للحصانة السيادية الذي سمح برفع الدعوى كان غير دستوري “لأنه يعطي الفرعين التنفيذي والتشريعي الحافز والفرصة…لإساءة استخدام الاستثناء لرفض السيادة المماثلة لأغراض سياسية.”24 وذكرت المذكرة، أنه في المدة الأخيرة أنهى هذين الفرعين قضايا وقوّضا استقلال القضاء فيما يتعلق بليبيا.

وبالإضافة إلى التعبير عن المخاوف بشأن الحفاظ على توازن القوى في الولايات المتحدة، جادلت سوريا بأنه عن طريق تصنيف الدولة وتمييزها تكون الدعوى قد انتهكت المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة الذي يرسي، كما قالت سوريا، مبدأ “المساواة في السيادة لجميع أعضاء [الأمم المتحدة]”. وتشكو المذكرة أنه “بحكم قيام وزير الخارجية الأمريكي بتحديد [سوريا كراعية للإرهاب]”، فإن سوريا “تُحرَّم من حقها الأساسي في المساواة في السيادة.”25

والأمر الأسوأ، كما قالت المذكرة، هو أن الحكم الشنيع — الذي وصفته سوريا بأنه “حرب اقتصادية” – إنما فقط “سيزيد في تأجيج الغضب الأمريكي [و] يدعو إلى الثأر.”

[وقد ورد في المذكرة]، “إن ما يقرب من نصف مليار دولار من تعويضات وجزاءات تم تقديرها ضد سوريا لمقتل اثنين من الأمريكيين في هذه القضية… إنما يمكن أن يملأ السوريين ومعظم بقية العالم بالعجب من المطالب المالية التي يفرضها القانون الأمريكي لوفاة أمريكيين في ظل عدم مساءلة أمريكا عن الأرواح التي تحصدها. ومع قيام ناتج محلي إجمالي للفرد قدره 7000 دولار، فإن الأمر سيستغرق 30,000 عاماً للسوري العادي لكسب المبلغ المقرر تعويضه لوفاة أمريكي واحد في هذه القضية.”26

وباختصار، جادل نظام الأسد بأن الحكم الشنيع الموجه ضد سوريا من قبل “المحكمة المحلية الأمريكية” مع الغرض المعرب عنه وهو عدم ترك “المخالفة القانونية المنحرفة تمر بلا ملاحظة أو دون عواقب” إنما سيُنتج مزيداً من كراهية العرب للأمريكيين.27 واتساقاً مع طريقة عمل دمشق القديمة، هدد أساساً محامو سوريا [بالقيام بأعمال] عنف ضد الولايات المتحدة ما لم يتم عكس قرار المحكمة الأولي.

سوابق

على الرغم من الجِدة البادية لاستراتيجية الدفاع — الهجوم على دستورية استثناء الدول الراعية للإرهاب في “قانون حصانة السيادات الأجنبية” — إلا أن دمشق وكلارك يوظفان هذا المسار في قضايا أخرى. فأثناء دعوى مدنية أخرى رُفعت مؤخراً سعى اثنان من الأمريكيين اللذين أُسرا كرهائن عام 1988 من قبل “حزب العمال الكردستاني” المدعوم من سوريا إلى الحصول على تعويضات من دمشق لتقديمها الدعم المادي لتلك المنظمة الإرهابية.28 وفي هذه القضية أيضاً لم تقبل “المحكمة الأمريكية الجزئية لمقاطعة كولومبيا” حجة دمشق بأن استثناء الإرهاب كان غير دستوري.

وفي وقت النشر، كان قرار الاستئناف في حالة انتظار لكن القرارات في العديد من القضايا السابقة تشير إلى أن “محكمة الاستئنافات” سوف تؤكد [على قرارات اعتُمدت] سابقاً، وترفض حجة سوريا بأن استثناء “قانون حصانات السيادة الأجنبية” غير دستوري، مثلما وجدت في السابق أن ميثاق الأمم المتحدة ليس ذاتي التنفيذ، وليس له سلطة قضائية في المحاكم الأمريكية.

إن سوريا هي فقط آخر دولة تمت مساءلتها في محاكم أمريكية لدورها في قتل أمريكيين. وكانت القضية الأكثر شهرة هي تلك التي جُلبت إلى القضاء في عام 1998 من قبل أسرة أليسا فلاتو، التي قتلت في تفجير حافلة ارتكبته “منظمة الجهاد الإسلامي” الفلسطينية، وظفرت فيه العائلة على 247 مليون دولار كتعويض من الرعاة الإيرانيين للجماعة. لكن أحكاماً مهمة قد صدرت أيضاً ضد طهران بسب عمليات اختطاف وتعذيب وقتل وقعت في لبنان من قبل وكيلها «حزب الله» وفي إسرائيل من قبل «حماس». ففي عامي 1997 و 2010، صدرت [تعويضات] في محاكم أمريكية تقرب من أربعة مليارات دولار في أحكام مدنية ضد إيران [في أعقاب دعاوى رُفعت] من جانب ضحايا تفجير الثكنات العسكرية الأمريكية في لبنان عام 1983. وبالمثل، في عام 2007 قضت محاكم أمريكية بتعويض 6 مليارات دولار لسِت أسر أمريكية وشركة طيران “يو تي أي” بعد أن وجدت ليبيا مسؤولة عن إسقاط الطائرة فوق النيجر في رحلة رقم 772 عام 1989. وفي نهاية المطاف، تمت ربط التسوية في نطاق الصندوق الذي أسسته ليبيا عام 2008 بقيمة 1.5 مليار دولار لتعويض “لوكربي” و”لا بيل” وجميع دعاوى الإرهاب المعلقة الأخرى ضد ليبيا.29

وفي حين من شأن هذه الأرقام الفلكية أن تشكل على النحو الأمثل رادعاً للأنظمة الإرهابية إلا أن ما يؤسف له أنها لم تُثبت فعاليتها. ومن الواضح أن المشكلة هي أنه من الصعب بشدة تحصيل الأحكام. فبعد أن صدر حكم بـ 1.3 مليار دولار ضد إيران عام 2010، قام قاضي “المحكمة المحلية الأمريكية” رويس سي لامبيرث بإحصاء ما يزيد عن 9 مليارات دولار كتعويضات لم يتم تحصيلها من الأحكام التي صدرت ضد طهران، وهو مبلغ جعل المال “تمثيلية لا معنى لها.”30 وقد جمدت محاكم فيدرالية بعض الأموال الإيرانية، ومنها حساب بملياري دولار في “سيتي بنك”.31 ومع ذلك، سعى ضحايا آخرون لجرائم إيران — دون نجاح حتى الآن — إلى الحجز على تحف إيرانية قديمة في متاحف شيكاغو.32

وكما هو الحال مع إيران فإن انتزاع أصولٍ من سوريا للوفاء بالتعويضات لأسرتي آرمسترونغ وهينسلي سوف يثبت أيضاً بأنه يشكل تحدياً. فلدى دمشق أصول قليلة نسبياً في الولايات المتحدة، كما لا يمكن التصرف بممتلكاتها الدبلوماسية. لكن المحامي ستيفن بيرليس الذي مثَّل الأسرتين ما يزال متفائلاً. فحتى الآن، وفقاً لتقييمه، فإنه قد استرَدَّ لموكليه ما يقرب من 70 – 75 مليون دولار من الأصول الإيرانية المجمدة.33 ويقول إنه لو تم التمسك بقرار الحكم فهو ينوي التركيز على الأصول السورية في أوروبا “حيث تُقر عدد من الدول بالتعويضات عن الأضرار[إن لم تكن مادية] الصادرة من محاكم أمريكية.” وفي حين ما يزال التعويض احتمالية بعيدة، إلا أنه ما دامت تلك الأحكام في قيد الانتظار — إذا كانت إيران مثالاً — فإنه ربما سيكون من الصعب على دمشق بصورة متزايدة القيام بأعمال تجارية في أوروبا.

وعلى أية حال، من الواضح بصورة متزايدة أنه بسبب مساهمة نظام الأسد في مقتل الكثير من الأمريكيين في العراق وغيرها من الدول في المنطقة، فمن المؤكد أن تولّد هذه الدعوى القانونية عشرات غيرها. وبالفعل، تعهد بيرليس نفسه “بتعقب السوريين مالياً حتى يفعلوا ما فعله [الزعيم الليبي] معمر القذافي ويعوّضوا الأسر عن مقتل أحبائهم.”34 وثمة المزيد من القضايا في الانتظار ضد دمشق.

تداعيات سياسية

يمثل الحكم المدني بمبلغ 413 مليون دولار [التطور] الأخير في سلسلة متنامية من المُهيِّجات في العلاقة الأمريكية السورية. فمنذ عام 1979، عندما أُدرجت سوريا كعضو افتتاحي في قائمة وزارة الخارجية الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، لم تكن العلاقات الأمريكية مع دمشق طيبة قط. ومع ذلك، ورغم لقب المنبوذة، فبمرور الوقت وصلت العلاقات بين واشنطن وهذه الدولة الإرهابية إلى حالة تعتبر سوية. وقد استمرت تلك الحالة حتى جاء التدهور في عهد بوش، وكان الأمر الذي فجّره هو تقديم سوريا المساعدة للمتمردين في العراق، وما أعقبه من اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري عام 2005، وهي عملية القتل التي يعتقد على مستوى واسع بأن فيها ضلوع سوري.

ورغم جهود إدارة أوباما المخلصة لإعادة ترتيب العلاقات، وتحسين الروابط عبر برنامج أكثر نشاطاً يتمثل بالتعاطي الدبلوماسي، وفصل سوريا عن علاقتها الاستراتيجية مع إيران التي دامت 30 عاماً، فإنه على مدار العامين الأولين من هذه الرئاسة زاد الحراك الثنائي سوءاً. فمنذ 2010، بدأت واشنطن تراقب الدعم السوري للإرهاب، وتدخّلها الزائد في الشؤون اللبنانية. وفي هذه الأثناء، يبدو أن تنسيق نظام الأسد مع طهران آخذ في الارتفاع.

وقد كان من بين الموضوعات الأولى على أجندة الرئيس أوباما هو تعيين سفير جديد في دمشق، وهو المنصب الذي ظل خالياً منذ مقتل الحريري. وفي شباط/فبراير 2010، تم تعيين روبرت فورد في هذا المنصب، لكن التصديق عليه قد أُحبط عندما استضاف الرئيس الأسد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، وزعيم «حزب الله» حسن نصر الله في اجتماع ثلاثي في دمشق في 26 شباط/فبراير.35

وقد حصل فورد على تعيينه خلال عطلة الكونغرس الأمريكي في نهاية دورته لعام 2010 وأُرسل إلى سوريا في كانون الثاني/يناير 2011. 36 ولكن من غير الواضح ما الذي سيستطيع إنجازه. وخلال عامين من تلميحات حُسن النية من قبل إدارة أوباما، قدمت سوريا بصورة متزايدة دعماً قاتلاً ومزعزعاً للاستقرار لـ «حزب الله» يُعتقد أنه يتضمن صواريخ “سكود” و/أو “فتح 110″، وربما “أنظمة الدفاع الجوي المحمولة على الكتف” لتغيير اللعبة، والتي يمكن أن تستهدف طائرات “إف 16” الإسرائيلية فوق لبنان. وبالإضافة إلى تقديم تدريب مستمر لحركة «حماس» في سوريا، تؤكد برقيات وزارة الخارجية الأمريكية المسربة حديثاً وجود منشآت عسكرية لـ «حزب الله» على الأراضي السورية.37 وفي الوقت نفسه، تستمر دمشق في سياستها بعدم التعاون مع تحقيقات “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” عن وجود منشأة نووية كورية شمالية في موقع “الكبر”، التي دمرتها إسرائيل عام 2007. 38 وأخيراً، ما يزال وضع حقوق الإنسان في سوريا مُروِّعاً ولا يُظهر أية إشارات على التحسن.39

إن هذا الحكم بمبلغ 413 مليون دولار ينضم إلى القائمة الدائمة للمشاكل الأمريكية السورية التي تحتاج إلى المناقشة. ورغم أنه من المستبعد أن يشكل التعويض المعلّق قضية ذات أولوية، إلا أنه يُعتبر هدفاً مهماً على القائمة. وخلافاً للموضوعات الأخرى — التي تفرض قلقاً على استقرار المنطقة، وتهديداً على الأصدقاء الإقليميين — توضح التعويضات التي هي في قيد الانتظار أن سلوك سوريا لا يشكل فقط مشكلة لدول أخرى لكنه أيضاً مشكلة لواشنطن نفسها. وبينما من الممكن في النهاية الوفاء بهذا الالتزام السوري، على غرار الترتيب الذي تم التوصل إليه مع ليبيا، بحيث يتخلى فيه الأسد عن دعمه للإرهاب ويُنهي سعيه للحصول على أسلحة نووية ويُغير توجهه الاستراتيجي مقابل إعادة التقارب مع واشنطن، إلا أن هذا النوع من الصفقات ما يزال أملاً بعيداً على أحسن تقدير. وفي الوقت الحالي فإن قرار حكم “غيتس ضد سوريا” هو أداة مفيدة تذكرنا بأن الدعم السوري للإرهاب يقتل الأمريكيين.

ديفيد شينكر هو زميل أوفزين، ومدير برنامج السياسات العربية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وقد شغل سابقاً منصب كبير المساعدين للشؤون السياسية في وزارة الدفاع الأمريكية المختص بدول المشرق العربي.

ميدل إيست كوورترلي, 25 أيار/مايو 2011

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى