رستم محمودصفحات مميزة

محاولة لفهم تعثّر العمل الجماعي السوري


رستم محمود

يبدو متعثرا ومحبطا العمل الجماعي السوري منذ بداية الثورة. فأغلب النخبة الناشطة تبدو متفقة تماما في الرؤية والهدف العام، وحتى في التفاصيل، لكنها، أي نخبة السوريين “المعارضين”، تظهر قدارا عاليا من التنافر والتنابذ والتبعثر، حينما تهم بتحويل تلك الأهداف والرؤى المشتركة إلى عمل جماعي مؤسساتي !!

المقصود بالدرجة الأولى، هو جل الجسم السياسي للمعارضة السورية. فهي متفقة منذ بداية الثورة على إسقاط نظام الحكم عبر ثورة سلمية مدنية، تتوخى الدفاع الطبيعي عن النفس في حالات الضرورة، كما أنها تتفق تماما على بناء دولة مدنية ديمقراطية وتعددية، تعترف بالحقوق العامة والخاصة للمواطنين السوريين على اختلاف ثقافاتهم وأديانهم وقومياتهم..الخ. وهم يجدون في سلوك النظام الحاكم وتركيبته العضوية والمؤسساتية أهم خلل يحول دون تطور البلاد منذ نصف قرن، وأن كسر هذه الحلقة المفرغة شرط تاريخي وطبيعي لبناء دولة سوريا حديثة مأمولة. ومع كل ذلك الاتفاق النظري الراهن والمستقبلي الرؤيوي، ومع كل التضحيات العظيمة للثوار السوريين لقرابة عام كامل، ومع كل التغطية والاهتمام العالمي بقضية الشعب السوري، يتعثر هؤلاء السوريون في بلوغ الحد الأدنى من العمل العام المؤسساتي الجماعي، لتقنين تلك الحالة وتصريفها بشكل جيد. فتسود الظنون والشخصنة ورغبة الفرض والسيطرة والمناكفة..الخ !!

ما ينسحب على العمل السياسي يكاد أن ينسحب على باقي نشاطات العمل العام السوري: الدرجة نفسها من التفسخ والمناكفة والتصارع على أبسط التفاصيل والمواقع. العمل الإعلامي والإغاثي، نماذج عن ذلك فحسب. في الوقت الذي يقدم فيه الفاعلون الحقيقيون في الثورة نموذجا متباينا تماما لتلك الطبيعة التي تقود العمل الجماعي السوري في “البنية الأعلى”. لماذا يفشل السوريون ولا يستطيعون تقديم ما هو أفضل من ذلك في الاداء الجمعي؟، لماذا يغريهم الإعلام والظهور لهذه الدرجة؟ إلى حد أنه يُحدث ثغرة وتحولا في ذواتهم!، لماذا لا يستطيعون اعتبار الجانب الموضوعي اكبر وأنبل من قضاياهم الذاتية والشخصية، وبذلك لا يستطيعون صناعة تعاقدات جمعيّة فيما بينهم، ليستطيعوا تقنين الدور البطولي للثورة في الداخل ؟ ليست تلك الرؤية السوداوية مجرد توصيف وقراءة ذاتية، فما يحدث من تشرذم وتفكك وتنابذ بين النخب السورية السياسية والرديفة لها، يكاد يكون حديثا عالميا في كافة المنابر التي تتحدث عن المستقبل السوري، كما أن تلك الحالة تبدو كأكبر محبط ومثير للسخط من قبل الفاعلين الحقيقين في الثورة السورية داخل البلاد.

يبدو التفسير القائم على أن النظام الحاكم بطبيعته الشمولية القمعية قد أفقد السوريين، مدة نصف قرن كاملة، كل إمكانية للانتظام والعمل الجمعي، وسحب منهم كل تجربة وآلية لتكوين المؤسسات..الخ، يبدو ذلك التفسير غير كاف لفهم هذه الحالة السورية الغريبة. إذ لماذا تمكن غير السوريين من العمل الجماعي المؤسساتي بصورة أسلس و”أنبل” حينما بدأت الثورات في بلادهم، ولم تنجر تصارعاتهم لهذا المستوى من الشخصنة والمتاركة. فالشخصيات السياسية الليبية واليمنية اتفقت على الحد الأدنى لتمثيل الثورتين، وأوجدت الشخصيات المتفق عليها، وأحدثت البنية المؤسساتية لعملها مباشرة، واستطاعت بطريقة سلسة، تجديد إدارة شؤون بلادها في الفترات الانتقالية. حدث ذلك بالرغم من طبيعة الأنظمة السياسية التي لم تكن أقل شمولية ومنعا للعمل والانتظام العام من النظام السوري الحاكم. كما أن النماذج الليبية واليمنية والمصرية لا يمكن أن تقارن بنظيرتها التونسية، حيث تمت إدارة الثورة، ويتم ادارة المرحلة الانتقالية وكأنها تجري في بلد عميق التمرس بالعملية الديمقراطية. المنبع الآخر المحبط لهذا التفسير، هو أن السوريين الذين انعتقوا منذ فترة طويلة من نير الحكم الشمولي، المغتربين وسياسيي الخارج، ليسوا أقل “مرضا” في عملهم الجماعي لما يجري في أوساط النخب التي عاشت فترات طويلة في ظل “الاحتلال” الشمولي الداخلي.

لا يعني هذا عدم الأهلية الكاملة للتفسير السابق للحالة السورية، بل يقصد منها عدم كفايتها، فهي يجب أن تضاف إلى جملة من التفسيرات التي يمكن بها فهم الحالة السورية :

يعاني السوريون بالعموم، نوعا من استبطان الشعور الثقافي بالطهرانية، فجلّ الجسم السياسي السوري كان ذا بنية وطبيعة ثقافية، وكانت المعارضة السورية في جانبها الأعم تقليديا ذات بنية نظرية، أكثر من وجودها الحقيقي “الميداني” بين “الجماهير” (ليس اختيار مفكر سياسي مشهور لقيادة المجلس الوطني سوى تعبير عن ذلك). حيث تدفع تلك الطبيعة غير المسيسة بالمعنى العملي، نحو صعوبة تكوين عمل مؤسساتي توافقي بين مختلف الجهات الناشطة. فأصغر الخلافات تؤدي مباشرة للمقاطعة والتصارع الذاتي. فما أكثر المفكرين والكتاب والمثقفين في الجسم السياسي السوري العام، وما أقل السياسيين فيما بينهم. السياسيون بحسهم وتجربتهم وقدرتهم على التوافق والتواطؤ، والفكر باعتداده وحزمه وذاتيته..الخ. طبعا، تلك الطهرانية هي ما دفعت الأشخاص أنفسهم لعدم الدخول في وعي نقدي لأنفسهم وأدائهم وسلوكياتهم، وبذلك قراءة السياسية خارج منطق “الصح أو الخطأ” نحو منطق أكثر عملية حقيقية، “صالح، أو غير صالح”.

من طرف آخر، بدأ السوريون ينشغلون بالرؤية القطاعية لبعضهم البعض، وهذه هي السياسة التي كان النظام الحاكم يتصرف بها معهم لتفتيتهم منذ عقود. رؤية تفرز الجسم العام على أسس ما قبل سياسية، مناطقية ودينية ومذهبية وقومية..الخ، روح المحاصصة والتوزيع باغتت السوريين وطموحاتهم، ففكرة الحرية والخلاص الاستبداد، كانت فضاء عموميا تلف الثورة كلها، لكن مع التقادم دخلت شياطين التفاصيل، وكأن السوريين دخلوا المناكفات التي تحدث تقليدا بعد الثورات، أثناء ثورتهم. وهو الشرط الذي ساهمت به الطبيعة غير المتوازنة لتوزيع الثورة السورية في أكثر من مستوى.

يساهم إلى جانب ذلك عاملان مهمان: فمن طرف أحست النخب السورية فجأة باهتمام عالمي ودولي بها وبأوجاعها، بعد سنين طويلة من النكران واحتلال النظام منفردا موقع تمثيل الهوية السورية. فهذا الاهتمام الاعلامي والسياسي، وبحكم المعنى المختلف للثورة السورية وتأثيراتها ونتائجها، أٌدخلت كتلة شبه صماء منهم في جو يتطلب حيوية وحضورا غير عادي، فأحدثت إرباكا بالغا في بنيته وطبيعته (شيء شبيه بكسر الثبات الشتوي).

كما أن طول فترة الثورة السورية، أدخلت الكثير من الأجندات والسياسيات الاقليمية والدولية في الشأن السياسي السوري المعارض. فكل ما تحتاجه الثورة السورية من تمثيل بسيط للغاية، وهو عبارة عن جسم سياسي بسيط يعبر عن تطلعات وآمال الثورة السورية أمام المجتمع الدولي والاقليمي، ولحشد أكبر ضغط على النظام السوري عبر تلك العلاقات الاقليمية، وكتلة النخبة السورية الموجودة في الخارج، أو التي لجأت للخارج في فترة الثورة، تفوق تلك الكمية المطلوبة بكثير، وهو ما يدفع إلى الكثير من التصارع على تلك المساحة الصغيرة الممكنة من السياسية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى