صفحات الثقافة

العظم الناقص


    عبد الوهّاب عزّاوي

المكان: قسم العمليات في أحد المشافي الخاصة في سوريا، أنا موجود فيه بحكم عملي كطبيب، الكلّ كومبارس، والبطل الوحيد شاب في السابعة عشرة من عمره ممدد على طاولة العمليات بجرحٍ مفتوح الشفتين تحت الحاجب الأيسر، يمثل فوهة الدخول لطلقٍ ناريّ يخرج من القسم الخلفي للرأس مهشِّماً الجمجمة مع دمٍ كثير لكنه دمٌ ساكن. الشاب شاحبٌ ممدود اليدين ولن يجد أي شخص صعوبةً في اكتشاف أنه متوفى، وفي حالتنا هو شهيد. الغرفة خاوية إلا من جهاز تخدير وطاولة وحشد من المشاعر يتضارب في الفراغ: ألمٌ وغضب وحزن ويأس وحقد وذهول وعجز…

قاعة العمليات المجاورة فيها شابٌ آخر نحيل في الثلاثينات يحتار المرء في وصف حالته: طلقٌ ناريٌ في الصدر ونزيف داخلي وحشي وحشد من الكسور، أكثر من طبيب في الغرفة أحدهم يُجري فتح بطن والثاني يزرع مفجر صدر والبقية يلهثون خلف الكمامات وينظرون بعجزٍ بعضهم إلى بعض، الكلّ منهمك في محاولة أداء عمله على رغم أن النهاية محتومة، من الواضح أنها الوسيلة الأكثر فاعلية لإلهاء الذهن عن فخ الوقوع في الحزن أو التوتر.

الممرّ الضيّق فيه ثلاثة أطباء (كنت أحدهم) وممرضان يتجاذبون أطراف الحديث وكلّهم يحرصون على التصرف بهدوء. يقتحم الباب الرئيسي شابٌّ لاهث ملطّخ بالدماء، من الواضح أنه كان يجري لمسافة ليست قصيرة، يتجه نحو الأطباء بسرعة، ويمد يده ملتعثماً: هل تحتاجون هذه؟ يفتح يده ليرينا قطعة عظمٍ مسطّح من الواضح أنه بذل جهداً في تنظيفها. يقول الشاب موضحاً: لقد سقطت من رأس الشاب بعد تعرضه للرصاصة. إنها جزء من عظم الجمجمة. فترة صمت ثقيلة ننظر فيها بعضنا الى البعض والشاب ينظر إلينا بقلقٍ بادٍ ويده ترتجف. يقطع الصمتَ ممرضٌ هو أكبرنا سنّاً، ويأخذها منه شاكراً ويهزّ رأسه مع ابتسامة غائمة. تتسع عينا الشاب مستفسراً بأملٍ صادق، فيطلب منه الممرض بلطف أن يخرج من غرفة العمليات ليتيح لنا أن نتابع عملنا (على رغم أننا لا نعرف ما هو عملنا فعلياً). يغادر الشاب شاكراً ويعتذر عن دخوله الفظ.

ملاحظة: قد ترتسم ابتسامة على وجه الشهيد في الغرفة الأولى.

■ وقعت هذه الحادثة في ما يسمى الثلثاء الأسود في مدينة دير الزور.

شاعر وطبيب سوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى