صفحات الرأي

«الدولة المأزومة والمجتمع الحائر» لسليمان عبد المنعم

 


عن انحدار النخبة والتحاقها بالسلطة

عمر كوش

يأتي كتاب «الدولة المأزومة والمجتمع الحائر« (الدار العربية للعلوم، 2012) للدكتور سليمان عبد المنعم، ليشكل حافزاً على التفكير في أزمات وإشكاليات كل من الدولة والمجتمع في عالم اليوم، خصوصاً بعد انسداد آفاق التغيير والإصلاح، ووصول أزمات أنظمة الحكم في بلداننا العربية إلى نهاية طريق مسدود. الأمر الذي مهد الطريق إلى ثورات الربيع العربي، وإسقاط الأنظمة الاستبدادية، المتسلطة.

ويجري تناول إشكاليات الدولة والمجتمع، بوصفها جملة من الإشكاليات والقضايا، السياسية والفكرية والأخلاقية، التي يثيرها، ويطرحها، وضع البلدان العربية في عصرنا الراهن. لذلك يتبع عبد المنعم طريقة تحليلية وتفكيكية، تنهض على إنتاج أدوات حفرها، التي توظفها في الموضع المناسب، وعندما تستدعي الحاجة إليها. وهو ما يتطلبه الخوض في استشكال الأزمة واستنطاقها ومساءلتها، بغية خلخلة منطق الوحدة والمطابقة، الذي اعتاد الدارسون سلوك دروبه المعتمة، والغرق في تفاصيله الميتافيزيقية.

والواقع هو أن المفكرين العرب، لم يجهدوا أنفسهم كثيراً في إيلاء كل من الدولة والمجتمع ما يستحقانه من البحث والاهتمام العلمي والتأصيل النظري، فبقي مفهوم الدولة مختلطاً بمفاهيم الحكومة والإدارة وما شابههما، والنتيجة هي ضمور الدولة في الوعي العربي، الأمر الذي أدى إلى نتائج عكسية في نمط ولاء الناس لها، حيث بات عصياً استقرارها في الوعي الجماعي، بسبب ضعف تأصيلها النظري، وفقر خبرتها في التجربة التاريخية، فلم تتأرضن الدولة كوعاء مشترك في المخيال الجماعي للمجتمعات العربية، بل تماهت مع الحكومة والإدارة.

وإن كان الهدف هو إطلاق عنان ممارسة تفكّرية في الإنسان والمجتمع، إلا أن الكتاب يفتح مساحة نقاش في زمن الثورات العربية، إضافة إلى مقاربة الأزمة والحيرة، وفق منطق السؤال والتفكير النقدي، للتعبير عن / وتوضيح رؤية ساعية إلى كشف مواطن الخلل وفضح الزيف، والنفاذ إلى باطن الأمور. إذ من البداية تتجسد مظاهر الأزمة في غياب المسؤولية وغياب المساءلة، وفي فساد السلطة وخراب المجتمع، والانحدار الذي وصلت إليه النخب العربية، بعد تخليها عن الدور المفترض في التغيير، واستسهالها الالتحاق بالسلطة وتبرير فسادها. فيما الحيرة تتجسد في أكثر من موقع ومكان، حيث التنافر يميز تركيبة مجتمعاتنا العربية، والتآكل طاول القيم الوطنية الجامعة فيها، إلى درجة جعلت التنوع الديني والطائفي والعرقي والثقافي مادة صراع واحتراب أهلي، بعد ان كان المأمول منه أن يكون مادة ثراء وغنى وتفاعل بين قوى المجتمع بما يساعد في تقدمه.

ويعتبر عبد المنعم أن جزءاً من الأزمة العامة، يكمن في ظاهرة شيوع المسؤولية وغياب المساءلة، حيث تضيع المسؤولية في عدم معرفة من المسؤول عن كم المصائب والكوارث، فيما تغيب المساءلة كأمر منطقي في حدّ ذاته، لأن السلطة التي تنتج الأزمات والفساد يصعب عليها مكافحتها، فضلاً عن تخريب المجتمع. والحاصل هو أن التنصل من المسؤولية، بات ثقافة رجال السلطة وأبناء المجتمع، بوصفها ثقافة عربية عدمية، تخلو من الشجاعة، التي يتغنى بها كثيرون. إضافة إلى أن جزء آخر من الأزمة الحاصلة، يجسدها الخلط، في غالب الأحيان، بين الأسباب والنتائج، والانشغال بأعراض المشكلة، وإهمال جذورها.

وقد أنتجت الأزمة حيرة عميقة، مع أن الأزمة تتجلى، في جزء منها، في علاقة الإغواء والتمكين، التي تتبادلهما السلطة والنخبة، وتتجسد في قيام أولهما بإغواء الثاني، وقيام الثاني بتمكين الأوّل. وتفعل فعلها في الدوائر الضيقة من النخبة المحيطة بالسلطة، حيث تقوم بإعادة إنتاج الفساد وتبادله مع دوائر أخرى حولها، ثم تقوم هذه الدوائر بالفعل ذاته وتنقله إلى دوائر تالية…إلخ. والنتيجة هي تشكل نخبة سميكة، ملتصقة ولزجة في تحالفاتها، وانتهازية بحكم قانونها غير المعلن، لا تقبل الغرباء، وخاصة الشرفاء في صفوفها. وإن دخلوا، فهي إما أن تلوثهم معها، وإما تدفعهم إلى الفرار. وعليه، فإن النخبة، أصبحت منقسمة في مجتمعاتنا ما بين تلك الدائرة في فلك الحاكم، التي تحجب عنه الحقائق وتزيف له الواقع، لتخون بذلك واجبها في نصح الحاكم وتبصيره؛ وبين نخبة أخرى محبطة، إما أن تعاني الاغتراب الداخلي من دون أن تغادر الوطن، وإمّا تؤثر الاغتراب الخارجي بحثاً عن ملاذ مادي أو نفسي.

ويرى عبد المنعم أن السلطة ليست هي المأزومة فقط في بلداننا، بل المجتمع بدوره يبدو حائراً، وللحيرة تجلّيات يسطع بها المشهد العربي الراهن، من خلال التباين الهائل، الذي يصل إلى مستوى التناقض في المرجعيات الحاكمة لانتماءات العرب، فلا جامع فكري مشترك، ولو في حدّه الأدنى، يحقق التجانس الاجتماعي والوطني المطلوب. مع أن لا أحد يتوقّع أن يصل التجانس الاجتماعي المطلوب حدَّ التطابق، ذلك أن في كل مجتمعات العالم، ثمة شرائح وطبقات اجتماعية ومهنية وثقافية تختلف في اهتماماتها وقيمها ومرجعياتها، بينما الحاصل في المجتمع العربي اليوم أمر مختلف، إذ لو أخدنا، مصر، مثلاً، عشية اندلاع ثورة 25 يناير 2011، لاكتشفنا أنها كانت قد أصبحت «أمصاراً«.

وهناك مظهر آخر للحيرة، ربما يستعصي على الفهم، وهو أن تجد عرباً في مدن عربية، وعلى أرض عربية، يتحدّثون فيما بينهم بلغة أجنبية، حيث العديد من الفتيان والفتيات، لا يتبادلون الحديث في الجامعات والنوادي والمقاهي، وعبر وسائل الاتصال، إلا بالإنكليزية، الأمر الذي يشي بأن اللغة العربية تعاني الاغتراب في ديارها. كما أن منظومة القيم الوطنية الجامعة، في البلدان العربية تتآكل بشكل مقلق، والنظام التربوي التعليمي هو السبب، من ضمن أسباب أخرى، كونه لم يعد يوفّر الحد الأدنى من التجانس الوطني الاجتماعي، لأن هذا النظام ذاته ليس نظاماً واحداً، بل أنظمة متعدّدة.

ولعل أحد تجليات المجتمع الحائر في بلاد العرب، يظهر في أنه لم يحسن بعد توظيف تنوعه الديني والطائفي والعرقي واللغوي والثقافي. وكان يمكن للتنوع أن يصبح مصدراً للثراء الإنساني، لكنه تحول إلى سبب للشقاق والفتن، مع أن دولاً كثيرة استفادت منه، فيما تحوّل التنوع لدى العقل العربي إلى اختلاف، ثم خلاف وصراع ومحاولة للإقصاء.

وحول أمكانية الإصلاح، يرى عبد المنعم أن الإصلاح بحكم اللزوم العقلي، يتطلب حلولاً جذرية لمشكلات عميقة ومزمنة، لكنه يتساءل فيما إذا هو جزء من المشكلة أم جزء من الحل، وهو يتطلب مؤهلات كثيرة، أولها توفر إرادة سياسية، وشجاعة أخلاقية، وانحياز بلا تردد للمصلحة الوطنية، لكن الواقع أثبت أن حديث الإصلاح الذي يمكن أن تقوم به السلطات العربية انتهى مع تفجر شرارة الثورات العربية، وشكلت الثورة البديل الواقعي، بوصفها تغييراً جذرياً، وتحدث قطيعة مع الأوضاع السابقة، التي استمرت في الدولة العربية الحديثة ما يقرب من خمسين عاماً أو أكثر.

وقد بينت الثورات العربية أن القوى الدولية الكبرى، تتوجس من تطلعات وطموحات الشعوب العربي، وجزء من مشكلها هو أن الثورات العربية، كشفت عما تعانيه من حيرة وتناقض، وربما انفصام، فهي تؤيّد الثورات العربية بعواطفها الحضارية والإنسانية، لكنها بعقلها وغرائزها السياسية تتوجس من هذه الثورات. وكذلك العرب حائرون بدورهم بين عاطفة الغرب وعقله السياسي، فيما تنفر وتمانع القوى الكبرى الآسيوية، وبخاصة الصين وروسيا، الثورات العربية وإرهاصاتها، حيث أن مشهد الميادين الغاضبة والتظاهرات المليونية لم يسعد الصينيين والروس، خوفاً من تأثر شعوبهم برياحها.

ولا شك في ان خيار الثورة باهظ التكلفة. وتتصاعد هذه التكلفة في كل ثورة تالية على ما سبقها، لأن كل نظام يستفيد من تجربة غيره في مقاومة الغضب الشعبي، ذلك كانت تضحيات الشعب المصري أكبر من ما قدمه الشعب التونسي، وزادت التضحيات في ليبيا، لكن الثورة السورية هي الثورة الأعلى تكلفة بين سائر ثورات الربيع العربي، بل ويمكن القول بأن الأكثر تضحية في ثورات العالم الحديث برمتها، إذ لم يشهد التاريخ نظاماً يقصف شعبه بكل أنواع الأسلحة، ومع ذلك، فإن الثورة السورية لن تهدأ قبل أن تحقق مطامح ناسها ومطالبهم في الحرية والكرامة والعدالة، وبناء الدولة المدنية التعددية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى