راتب شعبوصفحات الناس

مديح المفاجأة/ راتب شعبو

لأكثر من سنتين ونصف سنة، يجول موت نشط في أصقاع سوريا من دون تعب أو ملل، ويبطش بضحاياه من دون اعتبار لعمر الضحية أو جنسها أو حالتها الصحية، ومن دون اعتبار لما تحمله في سريرتها من أفكار أو تصورات أو مواقف، ومن دون اعتبار لتاريخها الشخصي أو لأي شيء. كل ما يهمّه في الضحية أن تكون حية فحسب. موت لا علاقة له بالموت الذي هو الوجه الآخر للحياة، بل هو موت من نوع آخر، موت معاد للحياة وليس نقيضاً لها. موت لا يحترم طفولةً ولا شباباً ولا أجنّة، ولا يتوقف عند عتبات السلامة الجسدية. موت يستهدف الحياة أينما وكيفما تجلت. هو انقلاب على الحياة وكسر أو خيانة لخطّ التوازن والتداول الأبدي بين بزوغ الحياة وغروبها. أو هو غلوّ في الموت أو تطرف يقتل الموتَ المتوازن العاقل لصالح موت أرعن بلا عقل، تماماً كما هو الورم الخبيث غلوٌّ في الحياة يقتل الحياة.

يتوقع السوري اليوم الموت في أي وقت. كل من هو على هذه البقعة من الأرض، مدرج على قيد الموت. بات الموت الطبيعي في سوريا رفاهية. حتى الاغتيال السياسي بات امتيازاً أو ضرباً من الرفاهية، فقط لأنه يعطي الموت طابعاً شخصياً يضفي على الضحية قيمة أكبر ويلفّه بمسحة من الكرامة والمعنى. الموت السوري اليوم يد مجنونة عمياء، ووجه بلا ملامح، وكتلة تفقد تمايزها أكثر كلما تمددت وازدادت ضخامة. يمكن أن يختبئ الموت للسوري اليوم على باب الفرن، أو في ساحة المدرسة، أو بين قدميه في الشارع، أو على منبر في جامع، أو على سرير في المستشفى …الخ. لا حرمة لشيء أمام هذا الموت الجديد المستشري كالطاعون في أوصال هذا البلد المنكوب.

هنا حيث ينتقي المسعِفُ الضحيةَ الأقل موتاً، أملاً في جدوى الإسعاف. هنا تغدو الحياة في حد ذاتها خصماً لأصحاب الموت لأنها باتت، في نظرهم، رديفاً وتوأماً للتمرد والرفض. هنا حيث المعادلة الأساسية هي: أن تسيطر يعني أن تَقتل. معادلة قابلة للعكس وللتشظي إلى ما لا ينتهي من الاشتقاقات المهلِكة.

حين يستشري الموت تقلّ هيبته، وتقلّ معها هيبة الحياة، فيستسهل الإنسان موته، وترخص حياته، وتغلب لامبالاة المرء على خوفه. ذلك تسلسل نفسي يساعد الشخص على التعايش مع احتمالات موت لا قدرة له على ردّها: كل ما يأتي من الله خير. ولن يموت امرؤ إلا في يومه. وما كتبه الله على المرء سيلقاه. ومن له عمر لن تقتله شدة …الخ. إذاً، عش حياتك كأنك تعيش أبداً، لا خير أن تفكر في أنك سوف تموت غداً.

يتعايش السوريون مع توقع الموت. فقد نجحوا مع مرور الوقت في دفع هذا التوقع إلى مكان بعيد نسبياً عن مجال نشاطهم اليومي، بما يكفي لمواصلة العيش والعمل وحتى الحلم والتفكير في المستقبل. إذا كان ثمة فضل في ذلك، فإنه يعود للاعتباط والعشوائية في حركة الموت السوري. فمن خلال شباك العشوائية يمكن النفس أن تأمل باستمراريتها في الحياة. الفضل يعود للمفاجأة، للموت المفاجئ. لا يعرف أحد في سوريا إن كانت حركة الموت التالية ستطاله أم ستخطئه. مثلاً، سرعة الريح وتوقيت إسقاط البرميل من الهليكوبتر ومقدار ارتفاع الهليكوبتر وسرعتها… كلها عوامل متغيرة يمكن أن تتوافق فتجعلك على قيد الموت أو على قيد الحياة. لكن غريزة الحياة ترجّح لدى النفس ميلها إلى الأمل بالبقاء، فتبعد الموت عن عينيها قليلاً كي تنساه.

من يدركه الموت المخزون في قذيفة أو برميل متفجر أو سيارة مفخخة، يكون قد عاش عمره حتى منتهاه، بفضل فجائية الموت. ذلك أنه حتى اللحظة الأخيرة من عمره كان يأمل، كان ثمة ما يسند لديه الشعور بأن عمره ملك يديه، وربما كان حتى اللحظة الأخيرة ممتلئاً بحلم ما، أو مسروراً لموعد ما، أو كان يخطط لما يجعل حياته أفضل، وقد يكون مقدماً على زواج، أو منتظراً لمولود، أو لعله كان يفكر في الهجرة هرباً من يد الموت الذي وسم لحظاته هذه بأنها الأخيرة. وقد يكون لديه من الطمأنينة ما يكفي لأن يجلس حيث دهمه الموت ويشرب كأساً دافئةً من الشاي مع سيكارة، ذاهلاً عن موته الوشيك.

تستحق المفاجأة الشكرَ من السوريين اليوم، فالمفاجأة تقطف أعمارهم من دون إنذار مسبق، وتعطيهم بذلك حياة كاملة حتى آخر لحظة من أعمارهم المبتورة. المفاجأة تجعلهم يموتون من دون موعد مسبق مع الموت، ذلك أهون وأقلّ وطأة على أرواحهم.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى