صفحات الرأي

مسار متعرج للبروباغندا

 

روجيه عوطة

ما عادت “الإيديولوجيا” تختلف كثيراً عن “البروباغندا”، نتيجة التسلط الإعلامي علينا. فالخطاب الإعلامي أزال الحدود بين النظرية والعمل، فلا يمكن التمييز بينهما بعد أن صار الإنتقال بين الدعاية إلى المقولة سهلاً وسريعاً. فـ”الحقيقة” التي تفترضها “الإيديولوجيا”، وتفرضها “البروباغندا”، يُروّج لها في كل مكان، غير السياسي على وجه الخصوص.

هذا الربط أو “التوحد” ما بين الإثنتين، نتيجة حدثية للطغيان الميدياوي. في حين كانت كل منهما تتكرس منفصلة عن الآخرى، وفقاً لتحولات سياسية عالمية كبرى.

قبل أن ينشر لينين كتابه الشهير “ما العمل؟”، لم يكن العصف الفكري في فضاء الشيوعية قد هدأ بعد. كثرت التفسيرات داخله، وتفرع منه العديد من الاتجاهات التأويلية. وذلك قبل ان يبحث الاستفهام اللينيني في تحويل النظريات إلى أفعال تنظيمية محددة، تساعد “الإيديولوجيا” على الإستقرار في مركز حزبي متين.

تكرس الثبات بعد ثورة 1917 في روسيا، وتعزز أكثر مع وصول ستالين إلى السلطة، بحيث استخدم كل أدواتها العنفية وشرع في تمتين دكتاتوريته. وهذا التحول من العصف إلى الاستقرار، هو ترجمة مباشرة للانتقال من “الإيديولوجيا” إلى “البروباغندا”، بحيث فقد التأويل قيمته، وبات الفعل مرغوباً أكثر. والأخير مقيّد بمعايير واضحة، لا يمكن تغييرها أو تجاوزها، لأن تخطيها يعني التعرض للعقاب.

على ضوء هذا المثال، يمكن القول إن دخول المجتمعات في مرحلة “البروباغندا الإيديولوجية”، يعني تجمدها وتحول مكوناتها إلى مجرد وسائل في يد السلطة. وهذه الحال كانت واضحة أكثر في التجربة النازية، حيث تلازمت “الإيديولوجيا” القومية-الإشتراكية مع “البروباغندا” الدعائية. فلا يمكن الفصل بين النظرية والفعل في كتاب “كفاحي” الذي ألفه هتلر، وتضمن أفكاره حول الحزب والعرق والدولة والتنظيم والأمة إلخ. وذلك، على عكس التطور السوفياتي من “الإيديولوجيا” إلى “البروباغندا”، قبل أن يتطابق الإثنان في سياق سلطوي واحد. فلا يعود الفارق ظاهراً بينهما، بل إن الدعاية تتفلت من الثوابت النظرية، التي تستحيل مجموعة من العبارات المكررة في الخطاب الإعلامي.

تفترض “الإيديولوجيا” أن الوصول إلى الحقيقة مشروط بطريقة معينة من التفكير، تتمحور حول عدد من المقولات. أما “البروباغندا” فتفرض “الحقيقة الإيديولوجية”، ولا تستغني عن أي وسيلة كي تعممها على المجتمع المحكوم بسلطتها. فسرعان ما تتحول من خطاب إعلامي، سمعي وبصري، إلى سلوكيات وتصرفات تظهر في الحياة اليومية. إذ تتضح الدعاية السياسية في جميع الخطابات المتداخلة، والتي غالباً ما تتجمع في مركز واحد، أي شخص الرئيس أو القائد. فهو الوحيد الذي يقدر على التحكم بها، والقبض على مفاصلها، كما يجمعها في خطاب واحد، كلامي وجسدي.

الشرط الأول إذاً، لظهور “البروباغندا” هو اختصار النظريات المتشعبة بنظرية واحدة، بالتوازي مع اختصار الأجسام بصنم واحد، يقيّد حركتها ويملي عليها أوامره البسيكولوجية والإجتماعية. من هنا، تتداخل الحركة الجسمية لبشار الأسد مع خطابه البعثي، فمثلما يلوح الدكتاتور بيده مبتسماً، كذلك، لغته التي “تلولح” بمقولات وشعارات مضادة “للإمبريالية” ومدافعة عن العروبة وعرينها. ومثلما يقتل الأسد بيده الأخرى شعباً كاملاً، كذلك، تخفي لغته معاني استبدادية واعتقالية وراء تلويحها الشعاراتي.

فالدعاية ليست خطاباً لفظياً فقط، بل جسدياً أيضاً، إذ أنها شكل من أشكال الطوطمية الحديثة، التي تستهدف “الجمهور” بوصفه جماعة عصابية، مترددة، متعبة، ومسلوبة اللسان والإرادة. وعلى أساس هذه الصفات، تسيطر “البروباغندا” عليها، وتجمدها في لحظة المشقة، حيث تتعطل قدرتها على التأويل والنقد. فبعد يوم طويل من العمل، تصبح مشاهدة نشرة الأخبار المسائية بمثابة استراحة “إيديولوجية”، لا عناء فيها ولا جهد، بل قبول وتسليم سريع بـ”الحقيقة” التي تفرضها سلطة الميديا المصوّرة. وذلك، بهدف تحديد شعور وسلوك المشاهدين بين الكره والتعاطف، الحقد والتعاضد إلخ. بلا أن يُتاح لهم مجال التحليل أو البحث في الموضوع المطروح، لا سيما عندما يرتبط بعنصر بسيكولوجي كالخوف، وبمقولة إيديولوجية، مثل “الوطنية” و”العدو” وغيرها.

لقد ظن الكثيرون، بعد سقوط جدار برلين، وانتهاء عصر الشمولية الواضحة، أن المجتمعات الحديثة ما عادت تحتمل “البروباغندا الإيديولوجية”، ولا تسمح لها بالتحكم بها. فالفرد الذي لا يهتم سوى في تحقيق رغباته الفردية، لن يعير انتباهاً للقضايا “الإيديولوجية” وللأسئلة الكلية. لكن هذا الإعتقاد كان دعائياً أيضاً، فالسلطة الإعلامية روّجت لغيابها كي تحضر أكثر. غابت الدعاية الشمولية على الطريقة النازية والسوفياتية، غير أنها حضرت بأسلوب إعلاني، استهلاكي وخفيف وفاتن، ما يسهل طغيانها على الحياة اليومية. فالزعيم، القوي والخالد، يستحيل سيارة أو إكسسوار من اكسسوارات المطبخ، على قول عالم النفس السوسيولوجي ألكسندر دورنا، كما لو أن الإستغناء عن صورة الدكتاتور هو ترويج لها أيضاً.

عندما تخرج “البروباغندا” عن مسارها “الإيديولوجي”، يستحيل الخطاب السياسي داخلها كاريكاتورياً. إذ يضخم الإعلام أي حدث من الأحداث، ويبالغ في سرده بغاية جذب “الجمهور”، كما لو أنه يعرضه للبيع. فيسوّق له “إيديولوجياً”، متبعاً الأسلوب نفسه الذي يستخدمه في التسويق التجاري. تعممت آلية التتجير على كل السلطات، فالإعلام، بوصفه السلطة الأقوى اليوم، يتناول مواضيعه بطريقة آحادية، لا تميّز بين الحقول الإجتماعية والسياسية والأمنية.

مثلما تتحدث الوسيلة الإعلامية لمشاهديها عن انفجار سيارة مفخخة في دمشق، تخبرهم عن إطلاق أحدى الفنانات ألبوماً موسيقياً جديد أو عن إطلاق إحدى المؤسسات الإقتصادية لمنتج جديد. وهذا ما يمكن تلمسه في الحملة الإعلانية لشركة “م.ت.ن” السورية، التي يبث التلفزيون السوري الرسمي إعلانها بين نشرات أخباره، المليئة بقصص عن “الإرهابيين” و”جرائمهم”. فيظهر إعلان شركة الاتصالات كأنه يريح المشاهد من كل العنف السوري، وينقذه من “المؤامرة”. فالغاية واحدة من  نشرة الأخبار ومن إعلان “م.ت.ن”، أي جذب “الجمهور”، استمالته، وإغرائه، وشدّه إلى الخوف، والقتل، بالتوازي مع جذبه إلى معاينة المنتج أو الخدمة، وشرائه أو الاشتراك فيها. لقد صيّرت “البروباغندا” الحديثة أي موضوع سلعةً، حتى الحرب، التي لن يتردد المشاهد في شرائها، جاهلاً أنها نهاية “حقيقته” الميديوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى