صفحات العالم

داخل سورية بلا أسلحة


ريتشارد هاس

إن الكثير من الجدال الدائر حول العمل الواجب في الشرق الأوسط يميل إلى تأليب الواقعيين على المثاليين. وتُعَد دولة البحرين حالة كلاسيكية هنا، كما هي حال المملكة العربية السعودية، وفي هذا الصدد مصر أيضاً: فالأصوات التي تطالب الولايات المتحدة وغيرها من الدول ذات المصالح والنفوذ في المنطقة بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان تصطدم بمخاوف تتعلق بالأضرار التي قد تلحق بمصالح الأمن القومي إذا تم طرد الأنظمة الاستبدادية الموالية للغرب. وكثيراً ما يحاول صناع السياسات الأوروبيون والأميركيون تحقيق المستحيل بانتهاج سياسة للتسوية تتسم بالتضارب وعدم الانسجام ولا ترضي أحداً.

وتقدم سورية في هذا السياق تناقضاً صراخاً مع هذا النمط، حيث تتفق المصالح الاستراتيجية والإنسانية، فالعديد من الحكومات لديها رغبة استراتيجية في الإطاحة بنظام يقيم تحالفاً وثيقاً مع إيران و”حزب الله”. وهناك رغبة إنسانية في التخلص من النظام الذي قتل ما يصل إلى 15 ألف شخص- إن لم يكن أكثر- من شعبه.

بيد أن التدخل العسكري سيشكل مهمة ضخمة ثقيلة، لا تتطلب قوة جوية كبيرة فحسب (نظراً لشبكة الدفاع الجوي الشاملة التي تتمتع بها سورية)، بل قوات برية أيضاً، نظراً لوجود ما لا يقل عن فرقتين قديرتين مواليتين للرئيس بشار الأسد. والواقع أن الطبيعة الطائفية للمجتمع السوري تضمن بشكل واضح أن يكون وجود قوات من دول أخرى هناك طويلاً وصعباً.

وهناك بديل للتدخل العسكري المباشر يتمثل في تزويد المعارضة بالأسلحة وغير ذلك من أشكال الدعم. وهذا ما يجري الآن بالفعل. والحجة الداعمة لمساعدة الناس في الدفع عن أنفسهم هنا واضحة. ولكن تسليح المعارضة لا يخلو من بعض المآخذ. فهو يهدد بإشعال حرب أهلية وتشجيع الموالين للنظام على الصمود، فضلاً عن ذلك فإن الأسلحة المقدمة لمحاربة النظام ستستخدم بواسطة الطوائف المختلفة للاقتتال فيما بينها إذا أزيح النظام الحاكم، وهو ما من شأنه أن يجعل العواقب في سورية أكثر عنفاً.

ولكن ليس هناك من الأسباب ما يجعل التدخل عسكرياً بالضرورة أو من خلال تقديم الأسلحة للمعارضة. فهناك الكثير الذي يستطيع العالم- بل وينبغي له- أن يقوم به لتحقيق هدف إزالة نظام الأسد.

فبادئ ذي بدء، لابد من زيادة العقوبات الاقتصادية. وتتلخص القاعدة الذهبية هنا في جعل سورية هدفاً لعقوبات لا تقل صرامة عن العقوبات المفروضة على إيران. ومن الأهمية بمكان أن تغطي هذه العقوبات قطاع الطاقة والقطاع المصرفي في سورية بشكل كامل.

ويتعين على النخب التي لاتزال تدعم النظام في سورية أن تدفع ثمناً إضافيا. وقطع الرحلات الجوية من وإلى سورية من شأنه أن يزيد من الاستياء بين هؤلاء الذين يقومون بزيارة لندن وباريس وغيرهما من العواصم الغربية بانتظام. وعلى نحو مماثل، تستطيع الدول غير الراضية عن الأوضاع في سورية أن تبذل المزيد من الجهد لإحداث التغيير. فبوسعها أن تقطع كل العلاقات مع سورية، ويتعين عليها أن تبدأ بتقليص علاقاتها التجارية والدبلوماسية تدريجياً مع روسيا، الجهة الخارجية الأكثر دعماً للنظام السوري، إلى أن يغير الكرملين سياسته.

وبالإضافة إلى هذا، تحتاج المهمة الدبلوماسية التي يقودها الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان تحت إشراف الأمم المتحدة إلى إعادة الصياغة بشكل جوهري. ولقد فات أوان محاولة التوصل إلى حل وسط مع نظام الأسد شريطة موافقته على الإصلاحات الكافية لإرضاء المعارضة منذ فترة طويلة (إن كان ذلك الاحتمال قد أتيح على الإطلاق). والهدف من الجهود الدبلوماسية الآن لابد أن يتلخص في التوصل إلى مخرج للأسد وبطانته، وتأسيس عملية الانتقال إلى نظام سياسي جديد أكثر تمثيلاً للأطياف المختلفة وقائم على سيادة القانون.

ولقد بدأنا نرى بالفعل بعضاً من أولئك الأقرب إلى الأسد يهجرون ما يرونه عن حق سفينة غارقة. ومن بين الطرق الكفيلة بالتعجيل بهذا الميل، التهديد بتوجيه الاتهامات بارتكاب جرائم حرب بحلول تاريخ معين، ولنقل الخامس عشر من أغسطس، لأي مسؤول كبير يظل جزءاً من الحكومة ومتورطاً في حملتها ضد الشعب السوري. وتسمية هؤلاء الأفراد كفيلة بشحذ العقول في دمشق.

وستزداد حالات الانشقاق أيضاً إذا أظهرت المعارضة السورية أن البديل الذي تعرضه لنظام الأسد نظام منفتح وشامل. إن الأقلية العلوية تخشى أن تلقى مصيراً أشبه بمصير الأقلية السنّية في العراق بعد صدّام. والسبيل الوحيد لطمأنتهم (وتشجيعهم على الانشقاق) يتلخص في وجود معارضة تثبت أنها وطنية حقاً وتحدد المبادئ التي تلقى قبولاً لدى السوريين جميعاً. ويتعين على الحكومات الغربية أن تعمل بشكل وثيق مع المعارضة المنقسمة والقليلة الخبرة نسبياً إذا كان لهذا الشرط الأساسي أن يتحقق.

الأمر باختصار أن الأزمة في سورية تبرر التدخل الخارجي، ولكن في الأغلب بالاستعانة بأدوات أخرى غير الأسلحة. والمطلوب الآن نهج يعجل بزوال نظام الأسد ويزيد من احتمالات ابتعاد الآتي في سورية عن الانغماس في الانتقام والعنف والفوضى. ومن المؤكد أن المخاطر البشرية والاستراتيجية المترتبة على هذا تستدعي الالتزام بما لا يقل عن هذا النهج.

* مدير تخطيط السياسات لدى وزارة الخارجية الأميركية سابقاً، ويشغل حالياً منصب رئيس مجلس العلاقات الخارجية.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى