صفحات العالم

مستقبل محور المقاومة والممانعة في ضوء الثورة السورية


مؤمن بسيسو

 تفتح الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة في سوريا الباب فسيحا لطرح العديد من علامات الاستفهام حول مستقبل محور الممانعة والمقاومة في المنطقة الذي تعدّ سوريا أحد أركانه الهامة وركائزه الأساسية.

 تحتضن سوريا على أرضها مكاتب للمقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركتا المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي، وتقدم دعما سياسيا ولوجستيا لحزب الله اللبناني، وتشكل حلفا سياسيا مع إيران في مواجهة السياسة الإسرائيلية والأميركية.

 ولكن سوريا في الوقت نفسه تواجه احتجاجات شعبية غير مسبوقة، وحراكا جماهيريا يتطور يوما بعد يوم في مواجهة النظام الحاكم، مما يلقي بالنظام السوري في أتون انشغالات لا تحصى، ويؤثر على حجم تفاعله وانخراطه في دعم وإسناد محور المقاومة والممانعة في المرحلة المقبلة.

 ومن هنا فإن محاولة استشراف مستقبل محور المقاومة والممانعة وبدائله المطروحة في ضوء تطورات الواقع السوري الذي تتصاعد غضبته الشعبية في وجه النظام باطراد، تكتسب أهمية بالغة وقيمة كبرى، لكونها تناقش مصير ومستقبل المحور الأهم الذي يواجه السياسة الإسرائيلية والأميركية في المنطقة.

آفاق الوضع السوري الداخلي

لا تبدو سوريا بدعا من دول المنطقة العربية التي تمور بالثورات، إذ إن عناصر الانفجار والثورة تعشعش في كل زاوية من زوايا المجتمع السوري الذي يختزن أمراض القهر والاستبداد الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.

 ومع ذلك، فإن مستوى الحراك السوري الداخلي، ومحاولات النظام الدؤوبة لقمع الاحتجاجات الجماهيرية في المناطق السورية ومحاصرتها وضربها دون هوادة، من شأنه إطالة أمد المدافعة القائمة بين الطرفين، وإعطاء وقت مهم ومساحة لا بأس بها للأطراف المكوّنة لمحور المقاومة والممانعة بغية إعادة تقييم الخيارات وفحص البدائل المطروحة مستقبلا.

 ولا مندوحة من القول إن تطور الاحتجاجات الشعبية في سوريا باتجاه بلوغ سيناريو الثورة الشعبية الشاملة التي تشارك فيها مختلف قطاعات وشرائح الشعب السوري أسوة ببعض الثورات العربية المجاورة، من شأنه أن يُغرق النظام في تفاصيل أزمته الداخلية حتى النخاع، ويمنحها أولوية خاصة على سائر الملفات والقضايا الأخرى.

ومع إدراك نظام بشار الأسد أنه يعيش سباقا مع الزمن لحماية كيانه من نيران الثورة التي تستجلب وقودها من عقم وعود الإصلاح الداخلي الموهوم الرامية إلى الالتفاف على الاحتجاجات الداخلية، وتواصل اشتعال الثورات في الجوار العربي، تبدو الأمور في سوريا مرشحة لمزيد من التصاعد المطرد الذي قد يستغرق فترة زمنية طويلة نسبيا قبل أن تستوي ثورتها الداخلية على سوقها، وتتمكن من تحقيق مقاصدها وبلوغ أهدافها.

 على أية حال، فإن السعة النسبية للمدى الزمني الذي يسبق التحولات السورية المحتملة تُلزم الأطراف ذات العلاقة بمحور المقاومة والممانعة بمراجعة خياراتها، والتحسب لكل الظروف الممكنة، وترتيب أوراقها الداخلية بما يقلل الخسارة الناجمة جراء التطورات الهامة على الصعيد السوري الداخلي، ويجعلها بمنأى عن أي تأثيرات سلبية كبرى قد تتمخض عنها التغيرات المحتملة في صلب الواقع السوري وبنيانه السياسي.

 التأثيرات المحتملة

لا شك أن الضرر المحتمل على أطراف محور المقاومة والممانعة جراء أي تغييرات على المستوى السوري الداخلي لن يكون سهلا أو هيّنا، وقد يعمل على إحداث اختلال في خططها التكتيكية وبعض جوانب أدائها العام، إلا أنه قد يتطور ليمس جوهر عمل بعضها وفعاليته الإستراتيجية، أو يدفع به في أتون الإرباك الواضح وانعدام التوازن بالمعنى الإستراتيجي كما في حالة إيران وحزب الله.

 ومن هنا، ينبغي الإقرار بأن هذه الأطراف لا تستوي في ميزان واحد ولا يمكن وضعها في سلة واحدة قياسا إلى حجم التأثير والانعكاسات المحتملة، فحركات المقاومة الفلسطينية تختلف في درجة استجابتها للمتغيرات المحتملة عما عليه الحال بالنسبة لإيران وحزب الله كما أسلفنا.

كما أن الحركات الفلسطينية نفسها تتفاوت فيما بينها بخصوص مدى احتمالها وتفاعلها مع أي مستجد سياسي قد يجبرها على وقف أنشطتها على الساحة السورية.

لا جدال ابتداء، في أن اضطراب الوضع السوري الداخلي، وانشغال النظام برسم الآليات الكفيلة بحماية ذاته وكيانه من رياح الثورة والتغيير سوف يترك آثارا ذات بعد سلبي بشكل أو بآخر، على طبيعة ومستوى المشاركة والتفاعل مع السياسات والمواقف المتبناة خارجيا في إطار محور الممانعة والمقاومة في مواجهة السياسات المضادة، ويجعل من متابعة الإشكاليات الداخلية أولوية قصوى على ما سواها.

 إن مما لا شك فيه أن الأزمة التي يعاني منها النظام السوري حاليا، وما يمكن أن يتطور إليه الحال مستقبلا، قد صبت في خانة تراجع الدور السوري الرسمي على المستوى الخارجي بشكل عام، وعلى مستوى الإسهام في دعم سياسات المواجهة للدور والمخطط الأميركي الإسرائيلي في المنطقة وأدواته العربية بشكل خاص.

 وفي هذا الإطار فإن الأضرار والآثار السلبية المحتملة التي قد تحيق بأطراف محور المقاومة والممانعة يمكن أن تكون على النحو التالي:

 إيران: لا يمكن التقليل من حجم الضرر المحتمل الذي سيصيب إيران جراء انكفاء سوريا على متاعبها الداخلية، إذ إن حاجة إيران التي تعتنق المذهب الشيعي لسوريا التي يغلب عليها المذهب السني كبيرة بكل المقاييس، وهو ما أسهم سابقا في تجاوز الكثير من المخططات الرامية إلى ضرب إيران وعزلها تماما عن المحيط العربي عبر عناصر التحريض المذهبي.

 ومن البداهة التذكير بأن قوة التحالف والعلاقات السياسية الوثيقة بين البلدين قد جعلت كلا منهما في موقع سياسي أفضل في سياق الصراع والتدافع السياسي في المنطقة، وحرمت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها من الانفراد بكل دولة على حدة، ومنحتهما قدرة واضحة على الصمود، وهامشا جيدا من المناورة طيلة المراحل الماضية.

 ومن هنا فقد حققت إيران مكاسب سياسية وإستراتيجية من وراء تحالفها مع سوريا، وهذا ما يجعل السياسة الإيرانية في موقف أضعف مع ضعف الفاعلية السورية خارجيا، واختلال قيامها بمقتضيات دورها المعروف إزاء السياستين الأميركية والإسرائيلية في المنطقة نتيجة لظروفها الداخلية.

 حزب الله: لا جدال في أن حزب الله يعد أكبر الخاسرين جراء أي تغيرات دراماتيكية قد تطرأ على واقع النظام في سوريا، فالحزب قد لا يكون قادرا على حماية نفوذه واستحواذه الحالي على مساحة واسعة من الحياة السياسية اللبنانية إذا أطاحت الثورة السورية بالنظام، ومن المتوقع أن يتراجع دوره وتأثيره بوضوح على الساحة اللبنانية الداخلية.

 فسوريا لا تقدم دعما سياسيا ومعنويا كبيرا للحزب فحسب، بل إنها توفر له أيضا خدمات لوجستية بالغة الأهمية، تتمثل في تيسير نقل السلاح عبر أراضيها من إيران، مما جعل الحزب القوة الأولى عسكريا على الأرض اللبنانية.

 فلا عجب أن يتبنى الحزب موقفا مناهضا للثورة السورية الشعبية، وأن يوظّف مواقفه، سياسيا وإعلاميا، للدفاع عن النظام السوري بعيدا عن الشفافية والقيم الموضوعية.

حركات المقاومة الفلسطينية: ليس خافيا أن حركات المقاومة الفلسطينية التي تتخذ من سوريا مركز ثقلها الرئيسي تشعر بقلق واسع وارتباك ملحوظ، إذ إن سقوط النظام السوري الذي يحتضن أنشطتها ومكاتبها دون عوائق سوف يضطرها للملمة أبنائها وحزم حقائبها والرحيل.

ومن البديهي أن سوريا تعد الدولة العربية والإسلامية الوحيدة التي رأت فيها حركات المقاومة الفلسطينية موقعا مثاليا وأرضا خصبة لانطلاق وممارسة نشاطاتها المختلفة ضد إسرائيل، مما لا يمكن تعويضه، أو جزء منه، في أي مكان آخر.

 ومع ذلك، فإن حجم تأثر هذه الحركات بأي تطور سوري مستقبلي ليس واحدا، فلا يمكن مقارنة الأثر المترتب على بعض الحركات التي لا تمتلك سوى مكاتب إدارية وإعلامية وكوادر بشرية محدودة نسبيا، مثل حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ببعض الحركات الأخرى التي تمتلك مكاتب ومعسكرات تدريب وزخما واسعا في الكوادر البشرية.

 البدائل المطروحة

لا مفر من الإقرار بأن الاحتجاجات الشعبية في سوريا ستترتب عليها انعكاسات سلبية في قادم الأيام، وأن الأطراف ذات الصلة بمحور المقاومة والممانعة يجب أن تعدّ للأمر عدّته، وترسم البدائل المناسبة، وتضع الآليات والمقترحات العملية الكفيلة بتجاوز هذا “المطبّ الإستراتيجي” وتقليل سلبياته إلى حدها الأدنى.

 أولا: على صعيد إيران وحزب الله، وفي هذا الإطار يمكن القيام بالخطوات التالية:

– نسج التحالفات: ويشمل ذلك التحالفات ذات الطابع التكتيكي والإستراتيجي، فإيران قادرة بما تملكه من مزايا اقتصادية وإستراتيجية على نسج تحالفات هامة، وتحييد أكبر قدر ممكن من الخصوم.

 عربيا وإسلاميا، يمكن لإيران أن تنحو منحى إستراتيجيا في إطار تحالفاتها، فهناك العديد من الدول الوازنة التي يمكن العمل معها، وتوظيف جهدها في إطار اصطفاف جديد في مواجهة أشكال الاستهداف الأميركي، خصوصا في ظل المتغيرات التي حملتها ولا تزال الثورات العربية الراهنة.

 كما أن حزب الله قادر على القيام بنفس الخطوة، وخصوصا على المستوى اللبناني الداخلي، دون أن يعني ذلك إغفال توثيق وفتح أفق العلاقة مع القوى والأحزاب والعناصر الفاعلة عربيا وإسلاميا، بما يرقى إلى مستوى التحالف والاصطفاف الكفيل بحماية ظهر الحزب وإسناده في مواجهة التحديات التي تتربص به من دوائر الاستهداف.

 – الخروج من الإسار الطائفي: من الصعوبة بمكان تصور إمكانية قيام إيران وحزب الله ببسط علاقات متينة على المستوى العربي والإسلامي دون الخروج من أسر العامل الطائفي الذي يوغر الصدور ويباعد بين أصحاب الدين الواحد والقبلة المشتركة.

 ولن يتأتى ذلك إلا بانتهاج سياسة جديدة تجاه أهل السنة، والابتعاد عن أي شكل من أشكال الاستفزاز المذهبي والسياسي لهم، وتكريس رؤى وتصورات جديدة تعزز من أواصر العلاقة مع السنة، وتقلل من مساحات الخلاف معهم إلى أدنى درجة ممكنة، وتعمد إلى حل ملفات الخلاف القائمة مع بعض الدول العربية.

 ومن شأن ذلك أن يكسر الحواجز القائمة بين إيران وحزب الله من جهة، ومعظم الدول والقوى العربية والإسلامية من جهة أخرى، ويزيل العديد من الهواجس والإشكاليات التي أثرت سلبا في شكل وطبيعة العلاقة بين الطرفين.

 بلورة خطاب سياسي وإعلامي متوازن: فلا ينصح بالاستمرار في نفس الخطاب السياسي والإعلامي الراهن ذي اللهجة الحادة والمحتوى الصدامي، وإنما ببلورة خطاب متوازن يحافظ على الثوابت والمواقف المبدئية بعيدا عن الصخب والاستفزاز.

ثانيا: على صعيد حركات المقاومة الفلسطينية، وفي هذا الإطار يمكن القيام بالخطوات التالية:

– نسج التحالفات: تبدو المحاولة في هذا الاتجاه أكثر واقعية في ظل المتغيرات التي تتفاعل في الساحة العربية، فحركات المقاومة الفلسطينية، وخصوصا حماس، تستطيع نسج تحالفات جديدة ترقى إلى مستوى الحلف الكامل أو الجزئي مع بعض الدول العربية والإسلامية، والدول الأخرى التي تعمل خارج منطوق الإرادة الأميركية والإسرائيلية.

ومن شأن ذلك أن يعضد هذه الحركات، ويجعلها أكثر قوة وصلابة في مواجهة المخططات والتحديات التي تستهدفها.

 – نقل مركز الثقل: لا يمكن إبقاء مركز الثقل داخل سوريا لفترة طويلة، إذ إن ذلك يستلزم ترتيبات واسعة للتأقلم مع المتغير الجديد، مما يحتم على حركات المقاومة الفلسطينية، خصوصا الفاعلة منها (حماس والجهاد الإسلامي)، الشروع الفوري في النقل التدريجي لمركز العمل والثقل التنظيمي من سوريا إلى مكان آخر.

ومما يبدو فإن خيارات الحركة الفلسطينية المقاومة تبدو ضيقة للغاية هذه المرة، وتكاد تنحصر في مصر، وهو ما يواجه عثرات الإرباك المصري الداخلي عقب ثورة 25 يناير الذي يجعل من اتخاذ قرار مصري إستراتيجي بهذا الخصوص سابقا لأوانه قبل إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية خلال الأشهر المقبلة.

 ومع ذلك، فإن التوازن والانفتاح المصري على حركات المقاومة الفلسطينية عقب الثورة كفيل بتوفير أرضية خصبة من القبول المبدئي لأشكال معينة من التمثيل السياسي والإعلامي لهذه الحركات يمكن التأسيس عليها في مرحلة ما بعد الانتخابات الموعودة.

 – تقاسم القرار بين الداخل والخارج: فمن المؤكد أن تركيز القرار، أو أرجحيته في يد الخارج يضاعف حجم الإرباك الحاصل في ضوء تطورات الوضع السوري الداخلي، ويضع المستوى القيادي الخارجي لحركات المقاومة أمام أعباء كبيرة ومسؤوليات صعبة.

 ولا مناص من تقاسم مسؤولية صنع القرار بين الداخل والخارج لهذه الحركات، إن لم يكن منح الداخل الأرجحية المطلوبة في ظل وضعيته المريحة قياسا بوضع الخارج، وتحرره من المؤثرات الخارجية الموضوعية.

 – بلورة خطاب سياسي وإعلامي متوازن: ولعل حاجة حركات المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حماس، إلى الخطاب السياسي والإعلامي الهادئ والمتوازن، أكثر ما تكون إلحاحا في هذه المرحلة العصيبة التي تتزامن فيها أحداث سوريا مع تفاقم الأزمة الفلسطينية الداخلية، والتغول الشامل بقيادة إسرائيل والإدارة الأميركية على الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.

باختصار، فإن سوريا تشق طريقها نحو التغيير، وما لم تسارع أطراف محور المقاومة والممانعة الأخرى إلى رسم خططها وإعداد بدائلها للمرحلة المقبلة، فإنها ستواجه متاعب واسعة، وقد تنكفئ إلى الوراء، وتفقد جزءا لا يستهان به من قوتها السياسية ونفوذها الإقليمي ومكانتها المعنوية لصالح الإدارة الأميركية وإسرائيل والاتحاد الأوروبي وحلفائهم في المنطقة.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى