عدي الزعبيمراجعات كتب

مشكلات المعرفة والحرية: تشومسكي قارئاً راسل/ عدي الزعبي

 

 

مراجعة كتاب

مشكلات المعرفة والحرية: محاضرات راسل

نعوم تشومسكي، 1971

بانثيون بوكس، 128 صفحة 1 .

في الثقافة العربية عموماً لا يحتل الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي (1928) ولا البريطاني برتراند راسل (1872-1970) مكانة بارزة. يعود ذلك لأسباب متعددة:

بالنسبة لتشومسكي، يرى معظم القراء فيه إما عالِم لسانيات أو باحثاً في شؤون السياسة. يغيب عن البعض دوره المحوري ومساهمته الأصيلة في تاريخ الفلسفة. بقيت معظم أعمال تشومسكي اللغوية والفلسفية غير مترجمة، في حين يحتفي كثر بأعماله السياسية المباشرة التي تنتقد سياسات الولايات المتحدة.

أما بالنسبة لراسل، فيرى القراء فيه باحثاً في المنطق والرياضيات، مع بعض الإسهامات العامة في الفلسفة. بالرغم من ترجمة معظم أعمال راسل إلى العربية منذ الأربعينيات إلى اليوم، إلا أنه لم يُثِر أسئلة عميقة أو يؤثّر على الثقافة العربية بشكل واضح، باستثناء تيار مصري صغير قاده زكي نجيب محمود 2 .

من خلال مراجعة كتاب تشومسكي الصغير مشكلات المعرفة والحرية، الصادر عام 1971 فيما يُعرف بمحاضرات راسل، أودّ هنا تقديم صورة إجمالية لأعمال الفيلسوفين. يأتي اختيار هذا الكتاب، القليل الشهرة مقارنةً بكتب تشومسكي اللغوية الأخرى، لكونه يلقي الضوء على تأثير راسل في تشومسكي، وعلى ترابط دراسات الفيلسوفين اللغوية والفلسفية بتفكيرهم وطرحهم السياسي. أقترح أن لأعمال راسل وتشومسكي أهمية قصوى، ستجعلنا نعيد التفكير جذرياً في مسائل جوهرية لنا اليوم لفهم أنفسنا وعالمنا، من قبيل طبيعة الثقافات المختلفة والخصوصيات الثقافية والنسبوية المنتشرة . أيضاً، أقترح أننا بحاجة إلى تعميق فكر يساري منفتح، كان له نصيب ما في ثقافتنا، ولكنه لم يقوَ يوماً ليصبح تياراً مستقلاً فاعلاً بحق. تساعدنا أعمال راسل وتشومسكي على تمتين وتطوير هذا التيار.

في القسم الأول سأعرض بشكل عام لإسهام تشومسكي الرئيسي في تاريخ الفلسفة. سيمهّد هذا العرض لفهم ترابط نظرية المعرفة وعلم اللغة بالفلسفة الأخلاقية والسياسية، والذي سنراه في القسم الثاني، حيث سأعرض الأفكار الرئيسية في الكتاب. في القسم الأخير سننهي مع بعض الملاحظات حول أهمية أعمال راسل وتشومسكي لنا اليوم.

المعرفة البشرية وأصولها: الفوضوية والحرية

قاد تشومسكي ما عُرف باسم الثورة الإدراكية في العالم الأنغلو-سكسوني في خمسينات القرن العشرين، وتتلخّص هذه الثورة فيما يلي: لفهم سلوك الكائن البشري، وتحديداً اللغوي، عليك أن تنظر إلى العقل البشري وكيفية عمله، بدلاً من النظر إلى المحيط الاجتماعي والبيئة التي يعيش فيها الفرد.

لماذا شكّلت هذه الفكرة البسيطة ثورة في تاريخ الفلسفة؟

يكمن الجواب في تارخ الفلسفة الغربية. يتمحور تاريخ هذه الفلسفة، منذ القرن السابع عشر، حول صراع التجريبيين والعقلانيين المتعلّق بالإجابة عن السؤال التالي: هل المعرفة البشرية مكتسبة من خلال التجربة أم فطرية؟ قال التجريبيون بأن المعرفة تأتي عن طريق الخبرة والتجربة؛ في حين قال العقلانيون إنها فطرية، غير مكتسبة، وإن جميع الناس يشتركون، بالولادة، بمجموعة معارف ثابتة.

منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، سيطرت التجريبية بشكل شبه كامل. أتت ثورة تشومسكي في اللسانيات لتبعث العقلانية من جديد. لأكثر من خمسين سنة، دافع تشومسكي عن أطروحته البسيطة القائلة بأن قواعد اللغة معطاة بيولوجياً، فطرياً، لجميع البشر، وأن هذه القواعد التوليدية العامة تشترك فيها جميع اللغات البشرية. اليوم، في علم اللغة، يرى الباحثون أن تشومسكي وخلفاءه قد ربحوا المعركة. لم يعد أحد تقريباً يؤمن بأن معرفة اللغة مكتسبة فقط عن طريق التجربة، في العالم الأنغلو-سكسوني على الأقل.

لأكثر من خمسين سنة، دافع تشومسكي عن أطروحته البسيطة القائلة بأن قواعد اللغة معطاة بيولوجياً، فطرياً، لجميع البشر، وأن هذه القواعد التوليدية العامة تشترك فيها جميع اللغات البشرية.

علينا أن نسجّل ملاحظتين لتفادي أي سوء فهم:

أولاً، تستخدم كلمة عقلاني بمعنيَين، معنى فضفاض ومعنى فلسفي تقني. المعنى الفضاض يُستخدم لوصف كل من يتبع العقل ويرفض الخرافات، أما بالمعنى التقني فتعني القول بوجود معرفة فطرية موجودة في العقل. كل التجريبيين كانوا عقلانيين بالمعنى الفضفاض، وحاربوا الخرافات بجسارة منقطعة النظير. يميل البعض اليوم إلى استخدام كلمة «الفطريين» بدلاً من العقلانيين لتفادي سوء الفهم هذا.

ثانياً، يرى العقلانيون بالطبع أن جزءاً كبيراً من المعرفة يُكتسب عن طرق الخبرة والتجربة، ولكنّهم يُصرّون على أن بعض المعرفة يجب أن تكون فطرية. حجم وطبيعة هذه المعرفة الفطرية، وماهيّتها بالضبط، هي السؤال الذي تحاول الفلسفة، وبقية علوم العقل، الإجابة عنه اليوم. في المقابل، يرى التجريبيون الراديكاليون أن لا معرفة فطرية على الإطلاق.

بالنتيجة، نستطيع اختصار أحد أهم أوجه تاريخ الفلسفة، وتاريخ علم اللغة، بهذا الصراع.

لماذا كان لهذا الصراع أهمية فائقة في التاريخ؟

السبب أن الجواب عن أصول المعرفة البشرية يؤثر في كافة أشكال فهم الكائن البشري، وفي كافة فروع العلوم الإنسانية. على سبيل المثال، إن كان للبشر طبيعة مشتركة فطرية، سيؤدي ذلك إلى تغيير جذري لفهمنا لعلاقة الثقافات المختلفة في عصرنا: لو صحّ أن هناك معرفة بشرية مشتركة فطرية، لكانت معظم الاختلافات التي نراها بين الثقافات المختلفة سطحية. في العمق، هناك ثقافة بشرية واحدة، لها تنويعات مختلفة؛ كما أن هناك لغة بشرية واحدة، لها تنويعات مختلفة. نستطيع وضع هذه النتيجة بشكل درامي: فلسفات هيغل 3 . وماركس 4 وأتباعهما، فوكو 5 والبنيويون الفرنسيون وما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة، الأصوليون على أنواعهم، معظم الدراسات النسوية والأنثروبولوجية والنقد الأدبي تقوم على إنكار الطبيعة البشرية المشتركة، وتدّعي أن لا معيار مشتركاً للحكم على الثقافات المختلفة يُتيح لنا فهم اختلافات الجندر أو العادات المختلفة بين الشعوب أو الأدب.

ينبع هذا الإنكار من مفهوم التجريبيين في المعرفة، وكل هذه النظريات خاطئة إن ثبت أن لثورة تشومسكي نصيباً من الصحة. لو كنا نشترك بطبيعة فطرية مشتركة، لكان هناك معيار داخلي، بيولوجي، فطري، يحدّد سلفاً إمكانيات الاختلاف. بمعنى آخر، القول بأن الإنسان ابن بيئته وثقافته، وأنه يتشكل من داخل هذه الثقافة فقط، خاطئ. الإنسان ابن التفاعل بين الطبيعة الفطرية المشتركة والثقافة والبيئة المحيطة. يعني هذا أن الثقافات المشتركة، كاللغات المشتركة، تشترك حكماً بقاعدة فطرية واحدة، وأن الاختلافات بين الثقافات تُبنى على ما هو مشترك، أي الفطرة. كل البشر متساوون في العقل، كما يقول مؤسّس العقلانية رينيه ديكارت 6 . تتيح هذه النظرية فهم الاختلافات من خلال ما هو مشترك. أما التجريبية، ولرفضها ما هو مشترك، تقترح أن لا رابط ولا مشترك بين الثقافات والجماعات الإنسانية المختلفة.

على المرء أيضاً أن يحذر من العقلانيين. ارتبطت العقلانية، في حالات كثيرة، بإيمان ديني يقول أننا خُلقنا بشكل واحد أوحد ثابت، وأن لا إمكانية لتغيير الكائن البشري، كما ادّعى التجريبيون. وبهذا المعنى، وبما أنّ الطبيعة البشرية محكومة سلفاً بما قرّره الله أو الطبيعة لنا، استُخدمت العقلانية تاريخياً لتبرير تفوّق العرق الأبيض ورفض المساواة بين الجنسين واضطهاد مثليّي الجنس والأقليات. بالمقابل، كان لعقلانيين آخرين مواقف متحرّرة بشكل واضح، نذكر هنا ديكارت ولايبنتز 7 واسبينوزا 8 ، وبالطبع تشومسكي.

لا مكان هنا لشرح هذه العلاقة بين نظرية المعرفة والفكر السياسي بالتفصيل. ولكن نأمل الآن أن القارئ على اطلاع على أهمية الموضوع؛ وبالتالي على الموقع المحوري الذي يحتله عمل تشومسكي: لثورة تشومسكي أهمية لا يعادلها في القرنين الأخيرين إلا عمل كانط 9 النقدي، والذي كان، في جوهره، محاولة للتوفيق بين التجريبيين والعقلانيين.

أما راسل فكان تجريبياً إلى درجة كبيرة. في الكتاب الذي نراجعه، كما سنرى، شدّد تشومسكي على العناصر الفطرية في عمل راسل. فيما يتعلّق ببعض أقطاب التجريبية، كـ هيوم 10 ولوك 11 وبرتراند راسل، أوضح تشومسكي أن أياً منهم لم يكن تجريبياً مطلقاً. هذه القراءة وجّهت طعنة للتجريبيين الذين يستمدون نظريتهم من هؤلاء الفلاسفة.

ننتقل الآن من الفلسفة وأصول المعرفة إلى الفلسفة الأخلاقية والسياسية. ينتمي كلا الفيلسوفين إلى تيار فوضوي 12 يساري، ونستطيع تلخيص فوضويّتهم في نقطتين. أولاً أن اشتراكية الدولة التي طُبقّت في الاتحاد السوفييتي، وما رافقها من فكر شيوعي وبلشفي وغيره، كانت خيانة لأبسط مبادئ الحرية. لا يستطيع من يؤمن بالحرية أن يقبل باستعباد الناس على الطريقة الشيوعية. وثانياً، الحرية في العالم الغربي وهمية، طالما لم تترافق مع تحرير الفرد اقتصادياً. والنتيجة أننا بحاجة إلى اشتراكية تحررية، أو فوضوية كما يُطلَق على هذا التيار.

ترتبط نظرية المعرفة بالفلسفة السياسية بشكل مباشر؛ طبيعة هذا الارتباط ستتوضَح في القسم التالي.

تشومسكي قارئاً راسل: تأويل العالم وتغييره

سنستعرض في هذا القسم الأفكار الرئيسية في الكتاب.

يقسم تشومسكي عمل راسل إلى قسمين؛ تأويل العالم، وتغيير العالم:

القسم الأول من الكتاب يناقش الفلسفة وأصول المعرفة وعلم اللغة، أي تأويل العالم، وتغطّيه المحاضرة الأولى؛

القسم الثاني يبحث في الفلسفة السياسية والأخلاقية، أي تغيير العالم، وتغطيه المحاضرة الثانية.

يقول تشومسكي إن اختيار هذين الموضوعين يعكس اهتماماته الشخصية، وليس بالضرورة اهتمامات راسل المتعددة.

سنبدأ مع القسم الأول، تأويل العالم. يبدأ تشومسكي عرضه للسؤال الرئيسي في أصول المعرفة البشرية، ويستشهد بكتاب راسل المتأخّر (1948) المعرفة البشرية: مداها وحدودها 13 . في هذا الكتاب يشرح راسل أن لمنظومتي المعرفة الأساسيتين، الحسّ العام 14 والمعرفة العلمية، أُسُساً غير مستقاة من التجربة.

يقترح تشومسكي، متتبعاً الفكرة الرئيسية لراسل، أن العلاقة بين المعرفة والعقل والعالم يمكن تلخيصها بالشكل التالي: «تركيبنا العقلي يسمح لنا بالوصول إلى معرفة العالم طالما قدرتنا الفطرية على خلق نظريات تتقاطع مع تركيب العالم» (ص20). للذهن/العقل البشري ملكات مختلفة، كالملكة اللغوية، وملكة فهم العلم والرياضيات، والسلوك الاجتماعي، وغيرها. لكل منها طبيعة فطرية محددة سلفاً، تسمح لنا بفهم العالم المحيط بنا. لتركيب عضوي مختلف، كالأرانب والفئران، مقدّرات فطرية مختلفة، وبالتالي تفاعل مختلف مع العالم المحيط، وقدرة مختلفة على فهمه. إذن لفهم مبادئ المعرفة البشرية، ومداها وحدودها، علينا أن نبحث في المعارف الفطرية، وتقاطعاتها مع البيئة المحيطة. هذه هي المهمة التي حددها لنا راسل في كتابه.

يرى تشومسكي أن اللغة هي المثال الأفضل لدراسة مشكلة المعرفة البشرية. يعرف كل شخص اللغة التي يتكلم بها بشكل كامل؛ وبالرغم من أنه لا يعرف كافة القواعد اللغوية إن سُئل عنها، ولكنه يعرف كيف يتكلّم اللغة بشكل صحيح. الأمور أصعب وأكثر تعقيداً في منظومات المعرفة والاعتقاد الأخرى، كالحس العام، والمعرفة العلمية، والسلوك الاجتماعي. الفرضية التي يضعها تشومسكي هي التالية: إن اكتشفنا بعض الميزات الثابتة في اللغة، ستكون هذه الميزات مستقاة من المعرفة الفطرية البيولوجية، وليس من الخبرة والتجربة، التي هي حكماً متغيرة ومتعددة 15 .

نجد هذه الميزات الثابتة على مستويين. أولاً هي ثابتة ومشتركة بين مجموعة من الأفراد يتكلمون اللغة نفسها، ولكنهم عاشوا تجارب مختلفة. من جهة أخرى، نجدها مشتركة وثابتة بين كل اللغات البشرية. إن صحّ وجود مثل هذ الميزات، لكان التفسير الأقرب للمنطق، بما أن التجارب الحية للأفراد وللمجموعات مختلفة تماماً، أن هذه الميزات معطاة فطرياً للذهن البشري. هذه الميزات إذن تعكس قواعد عامة لكل اللغات البشرية، وبالتالي، ولكونها فطرية، فهي تعكس ميزات خاصة بالذهن البشري، ما يسميه تشومسكي «الطبيعة البشرية».

يختم تشومسكي بأن الفكرة نفسها تنطبق على كافة فروع المعرفة. كل الدراسات الاجتماعية والنفسية التي تدرس عادةً استجابة الإنسان لمثيرات محددة، والعادات المتشكّلة من خلال هذه الاستجابة، تفشل بشكل كامل في الاقتراب من الأسئلة المحورية الفعلية، المتعلقة بالمعطيات الفطرية التي تحدد وتحكم سلفاً كل أشكال استجابة الكائن الحي، البشري في هذه الحالة.

لطالما جادل تشومسكي أن كل كائن بشري، دون استثناء، خلَاق ومبدع في استخدامه للغة، بالرغم من اتباعه للقواعد. الأمر ذاته ينطبق على كافة ميادين المعرفة والفن.

هذه المبادئ الفطرية تقوم بعملها على مستويين مختلفين: من جهة، تسمح للمعرفة البشرية بأن تتشكل طالما أنها الأساس لكل معرفة مكتسبة عن طريق الخبرة. من جهة أخرى، تحدّد ما يمكن معرفته، إذ لا يمكن بناء خبرة دون قاعدة فطرية في الذهن؛ أي أن مدى وحدود المعرفة البشرية محددة سلفاً.

هذه الصورة للمعرفة البشرية، لحدودها ومبادئها، تتعارض مع ما يراه البعض من أن غنى وتنوع الحياة البشرية ينبع من التنوع اللامحدود والمفتوح على كافة الاحتمالات. هذه الفكرة التي يقول بها التجريبيون خاطئة، بحسب تشومسكي. لا يوجد إبداع دون حدود: الفنان الذي يعمل دون أية قواعد على الإطلاق لا يُنتج شيئاً. لطالما جادل تشومسكي أن كل كائن بشري، دون استثناء، خلَاق ومبدع في استخدامه للغة، بالرغم من اتباعه للقواعد. الأمر ذاته ينطبق على كافة ميادين المعرفة والفن.

ينتهي القسم الأول بأن المفهوم الإنسانوي للبشر، كما يقول راسل، «يُعامل الطفل كما يعامل المزارع شجرة غضّة، أي كشيء له طبيعة خاصة، ستنمو بشكل يدعو للإعجاب إن مُنحت التربة والهواء والضوء المناسب» (ص52). هذه الطبيعة الجوهرية هي المزايا الثابتة التي نبحث عنها في الذهن البشري 16 .

ثانياً، تغيير العالم. المفهوم الإنسانوي للبشر يشكل قاعدة عملية تغيير العالم، ويشكل أساس المفهوم التحرري للتعليم والتنظيمات الاجتماعية الذي دعا إليه راسل. في المجالين، يريد راسل لطبيعة الفرد أن تنمو بشكل عفوي، مما يتيح للقوى الخلاقة الأصيلة الفطرية أن تزدهر. تعيق سلطات الدولة، وأشكال التعليم المتبعة، وظروف العمل الحالية، إمكانية نمو وازدهار هذه القوى الخلاقة.

يتيح المجمتع الصناعي وتطور العلم للبشر أن يتخففوا أخيراً من الحاجة إلى العمل المُملّ غير الضروري، وأن يتركوه للآلات؛ أي يتيح لهم تطوير مقدراتهم الخلّاقة بحرية أكبر مما سبق. في الوقت نفسه، في المجتمعت الصناعية الرأسمالية، تركّزت السلطات ووسائل الإنتاج في أيدي فئة صغيرة، وتراجعت الحريات الفردية بشكل كبير.

لتحقيق الهدف الرئيسي، الحقيقي والفعلي، للاشتراكية، علينا تحرير الفرد والحرص على أن تكون قدراته الخلاقة حرة بشكل كامل. هنا بالضبط يرتبط تأويل العالم، الذي ناقشناه في القسم الأول، مع الرغبة بتغيير العالم: الطبيعة البشرية المشتركة، الخلاقة والمبدعة، تشكّل محور الفلسفة النظرية وعلم اللغة من جهة، ومحور الفلسفة السياسية والأخلاقية من جهة ثانية. في حين تطرح الفلسفة النظرية أسئلة حول ماهية الطبيعة المشتركة والمعارف والمقدرات الفطرية للذهن البشري، تقوم الفلسفة السياسية على افتراض أن التعليم والمنظومات الاجتماعية يجب أن تحرر قدرات الطبيعة الفطرية الخلاقة وأن تسمح لها بالنمو.

هذا الافتراض قاد راسل، ومن بعده تشومسكي، إلى الفوضوية. تتيح الفوضوية للفرد أن يتحرر بشكل فعلي، وتتعارض مع كل من الرأسمالية واشتراكية الدولة، اللتين تقومان بقمع وتسوير مقدرات الأفراد الخلاقة. منذ عشرينات القرن الماضي، انتقد راسل وبشدة سياسات الاتحاد السوفييتي، كما فعل تشومسكي لاحقاً. ارتبط هذا الانتقاد بنقد أوسع للرأسمالية ممثلة بالولايات المتحدة. حمل الفيلسوفان رؤية لاشتراكية تحررية فوضوية، ورفضا الانصياع لقوانين الحرب الباردة؛ كما رفضا الاختيار بين عبوديتين. تتيح الفوضوية الحفاظ على مكتسبات الحرية التي نادى بها الليبراليون الأوائل، وتحافظ على التراث اليساري الأصيل الرافض للرأسمالية 17 .

يختتم تشومسكي محاضرته بكلمات راسل التالية: إننا نستطيع تغيير عالمنا إلى «عالم فيه تحيا الروح الخلاقة، وتكون الحياة مغامرة مليئة بالبهجة والأمل، مستندة على الرغبة في البناء لا على الرغبة في الحفاظ على ما نملك أو في الاستحواذ على ما يمكله غيرنا» (ص 110-111). في القسم التالي والأخير سأسجل بعض الملاحظات على ما يستطيع راسل وتشومسكي تقديمه لنا اليوم.

تشومسكي وراسل ومستقبل الربيع العربي

يقرأ تشومسكي راسل بعين معاصرة، لا بعين تاريخية. في قراءاته للفلاسفة السابقين، يتجاهل تشومسكي عامداً التأويلات المختلفة والسياق التاريخي للمفكر، ويتجه مباشرةً إلى ما يمكن أن يقدّمه هذا المفكر لأسئلة راهنة في علوم اللغة والفلسفة والسياسة والأخلاق. يقفز تشومسكي فوق عشرات الأسئلة والتأويلات والصعوبات في فهم موقف راسل في المعرفة والأخلاق، ويعيد تركيب وتأويل فلسفته بما يتيح له، ولنا نحن القراء، الاستفادة من هذه الفلسفة اليوم.

نتعلم من شجاعة الفيلسوفين في مواجهة اليسار واليمين، الرأسمالية والماركسية السوفيتية، ألا نستسلم للأيديولوجيات السائدة.

هذا الدرس هو الدرس الأول الذي نتعلمه من عرض كتاب تشومسكي. قراءة الفكر الغربي، أو الإسلامي، أو غيره، يجب أن تتم وعيوننا مشدودة للحاضر، لأسئلتنا ومشاكلنا ومصاعبنا. من هذا الدرس ننتقل إلى الدرس الثاني، والأهم: ما الذي يقدّمه راسل وتشومسكي لنا اليوم.

تزودنا فلسفة تشومسكي وراسل بسلاح عقلاني علمي في طرح حُجَجنا، وتعيد التأكيد على أهمية العقل في عصر اللاعقلانية هذا. آمَن الفيلسوفان بأولوية العقل والعلم، واعترفا بمحدوديته. ولكنهما رفضا التسليم بما لا يستطيع العقل إثباته. أيضاً، نتعلم من شجاعة الفيلسوفين في مواجهة اليسار واليمين، الرأسمالية والماركسية السوفيتية، ألا نستسلم للأيديولوجيات السائدة. انتقد الفيلسوفان نظريات ماركس في أمور محورية، ورفضا الرأسمالية؛ كما دافعا عن مبادئ الحرية التي طرحها الليبراليون الأوائل، وعن إمكانية إعادة توزيع الثروة وصولاً إلى مجتمع أكثر عدلاً. اليوم، نحن بأمس الحاجة إلى هذا الإيمان بموقف اشتراكي تحرري، يعارض الرأسمالية من جهة، ويؤمن بحرية الفرد من جهة أخرى.

من المؤكد أن تشومسكي وراسل سينظران إلى من يقرأ أعمالهما وينتقد أميركا والغرب، متناسياً ما يحدث في مجتمعه وبيئته، باحتقار عميق. شجاعة راسل، الذي سُجن مرتين لمعارضته الحرب العالمية الأولى والبرنامج النووي في الستينات، تأتي من كونه سليل لُوردات إنكليز تحدّت المجتمع الإنكليزي وقيمه ونفاقه. شجاعة تشومسكي تأتي من كونه يهودياً أميركياً تحدى المؤسسة السياسية الأمريكية والأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل. شجاعة المثقف تأتي من تحديه لقيم ظالمة تسود في مجتمعه. القيمة الحقيقية لأي عمل فكري اليوم في الثقافة العربية والمشرقية يكمن في تحدي المضطهِدين. هؤلاء معروفون وبالاسم : الديكتاتوريات العربية من جهة، والإسلام السياسي من جهة أخرى. وبالطبع، وبشكل متساوٍ، طائفية عميقة حاقدة تنتشر بين كل الطوائف والأديان. يُضاف إلى ذلك عقائد قومية فاشية، من عربية وكردية وتركية وفارسية وغيرها. أيضاً، يسار ماركسي متحجر، وعلمانية قمعية تحتقر البشر وتديّنهم. وختاماً، ليبرالية اقتصادية منفلتة العقال ولا إنسانية.

من المؤكد أن تشومسكي وراسل سينظران إلى من يقرأ أعمالهما وينتقد أمريكا والغرب، متناسياً ما يحدث في مجتمعه وبيئته، باحتقار عميق

أخيراً، لم يؤمن راسل وتشومسكي بالنسبوية والخصوصيات الثقافية. دافعا عن مفهوم إنسانوي للطبيعة البشرية تشترك فيه البشرية جمعاء. في عصرنا هذا، المتخم بنظريات ترفض الحقيقة وتدافع عن المعارف والقيم النسبية، نحتاج إلى من يدافع عن الكائن البشري في كل بقعة من العالم في وجه القمع والظلم والاضطهاد الذي تمارسه الإيديولوجيات القومية والدينية والعلمانية وغيرها. تزوّدنا فلسفتا راسل وتشومسكي بعقلانية صريحة وواضحة للدفاع عن البشر بغض النظر عن الفوارق السطحية الموجودة بين الثقافات المختلفة. في عصر تعود فيه الفاشيات القومية والدينية والعلمانية للظهور، بل وتكاد تسود في مختلف بقاع العالم، نحن بأمس الحاجة إلى إيمان عابر للثقافات يجمعنا ويحّرضنا على بناء عالم أفضل، يتمتع فيه البشر جميعاً بحقوقهم السياسية والاقتصادية. لا تقدّم النظريات النسبوية والخصوصيات وما بعد الكولونيالية أية حلول حقيقية. الرأسمالية والليبرالية بشكلها الحالي هي أس المشكلة. اليسار التقليدي والشيوعي، الذي عابه راسل وتشومسكي ورفضاه بحدة، ما يزال على حاله من الجمود العقائدي والتحجر الفكري والخيانة الأخلاقية للمضطهَدين.

في العالم الثالث، كما في العالم الأول، نحن بحاجة إلى حركة تحرر جديدة. اشتراكية راسل وتشومسكي المتحررة، على الصعيدين العملي والفكري، المرتبطة بمفهوم إنسانوي للطبيعة البشرية المشتركة، باستطاعتها أن تلهمنا وتضيء لنا الدرب الطويل.

 

هوامش

1.

↑   Noam Chomsky. First edition 1971, Pantheon books. Printed in the USA, 2003, The New Press.

الكتاب غير مترجم إلى العربية، واعتمدنا في المراجعة على النسخة الصادرة عام 2003 في الولايات المتحدة، ذا نيو برس.

2.

↑   زكي نجيب محفوظ (1905-1993) أكاديمي ومفكّر مصري، من روّاد الفلسفة العربية الحديثة.

3.

↑   فريدريك هيغل (1770-1831) فيلسوف ألماني، يعتبر رائد الفلسفة المثالية في أوربا.

4.

↑   كارل ماركس (1818-1883) فيلسوف وعالم اجتماع ألماني، مؤسّس المدرسة الماركسية وصاحب تأثير منقطع النظير في أوربا والعالم.

5.

↑   ميشيل فوكوه (1926-1984) فيلسوف فرنسي، من أهم روّاد مدرسة ما بعد الحداثة.

6.

↑   رينيه ديكارت (1596-1650) فيلسوف وعالم رياضيات فرنسي، يعتبر من أشهر رموز النهضة الأوربية.

7.

↑   غوتفريد لايبنتس (1646-1716) عالم رياضيات وفيلسوف ألماني من عصر النهضة.

8.

↑   باروخ اسبينوزا (1632-1677) فيلسوف هولندي من عصر النهضة.

9.

↑   إيمانويل كانط (1724-1804) فيلسوف ألماني وأحد مؤسّسي الفلسفة النقدية الحديثة.

10.

↑   ديفيد هيوم (1711-1776) فيلسوف تجريبي ومؤرّخ واقتصادي اسكتلندي.

11.

↑   جون لوك (1632-1704) فيلسوف وطبيب إنكليزي، يوصف بأنه أبو الليبرالية الكلاسيكية.

12.

↑   تستعمل كلمات فوضوي وأناركي وأنارشي ولاسلطوي في اللغة العربية بمعنى واحد، وهي فلسفة سياسية معادية لمفهوم الدولة ولا سيما بصبغتها الحديثة المتغوّلة. للمزيد: http://ar.wikipedia.org/wiki/لاسلطوية

13.

↑   Human Knowledge: Its Scope and Limits. London: George Allen & Unwin.

14.

↑   تعريف الحس العام: مجموعة العادات التي نحيا بها حياتنا اليومية. تتقاطع او تختلف هذه العادات مع العلم والدين في قضايا متعددة ومختلفة.

15.

↑   قد تكون الميزات الثابتة ناتجة عن استراتيجيات تعليم موحّدة، يستبعد تشومسكي هذا الاحتمال لأسباب لا يناقشها هنا.

16.

↑   لم أعرض هنا للأمثلة اللغوية التي يناقشها تشومسكي، لأنها تتعلق بشكل رئيسي باللغة الإنكليزية. كما أنني لم أعرض للأمثلة التي ينتقد فيها رؤية راسل لبعض أساسيات علم اللغة، كالتسمية والتعريف وغيرها.

17.

↑   أسقطت من العرض هنا انتقادات تشومسكي للسياسة الأمريكية، والتي تغطّي حوالي نصف المحاضرة الثانية، مفترضاً أن القارئ مطّلع على الخطوط العريضة لهذه الانتقادات.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى