صفحات الناس

مصالحات ريف دمشق: الحيطان لها آذان/ جنا سالم

 

 

«لا تمل… الإرهاب لا يعرف الملل»، قد يتوجب عليك الذهاب إلى واحدة من مناطق المصالحات في ريف دمشق كي تقرأ هذه العبارة مكتوبة على لوحات كبيرة تملأ الشوارع، وتصور مقاتلاً واقفاً ينظر بثقة وابتسام. تتأمل فاطمة هذه الكلمات عند كل خروج وعودة لها إلى «التل»، ولا تدري هل تفرح أم تحزن لما آل إليه حال مدينتها.

في الأيام الأولى من شهر كانون الأول الفائت، بدأ تنفيذ أولى بنود المصالحة والتسوية في مدينة التل الواقعة شمال غرب العاصمة دمشق، لتنضم إلى قائمة المدن والبلدات الخاضعة لاتفاقيات التسوية في محيط العاصمة، والتي تقتضي بشكل أساسي إخراج مقاتلي المعارضة إلى شمال البلاد، وإنهاء أي تواجد مسلح، وعودة سيطرة الدولة السورية بمظاهرها المختلفة على تلك المناطق «المطهرة» حسب تعبير كثيرٍ من وسائل الإعلام الموالية للنظام السوري.

لم تختلف إجراءات تلك الاتفاقيات في التل عن غيرها من المناطق التي سبقتها أو تبعتها، مثل قدسيا والهامة وخان الشيح، إذ يخرج مئات المقاتلين وعائلاتهم، وآخرون مطلوبون لأفرع النظام الأمنية بتهمة النشاط المعارض ضده، أو لخدمة الجيش الإلزامية والاحتياطية، ليبلغ عدد المُرحّلين الآلاف من كل مدينة وبلدة.

وفور العودة إلى «حضن الوطن»”، تنتهي العقوبات التي أنزلها النظام بالمناطق الخارجة عن سيطرته لسنوات خلت وتعود مظاهر الحياة الطبيعية، فيُفَّكُّ الحصار وتُفتح الطرقات وتدخل المواد الغذائية، ويكون ذلك متلازماً مع رفع العلم السوري وصور القائد المنتصر مع عبارات من قبيل «سوا إيد بإيد»، «سوا منعمرها». صورٌ وعباراتٌ ترى فاطمة أن النظام يخاطب بها معارضيه قبل مواليه والمقاتلين في صفوفه، قاصداً إذلالهم وتحذيرهم من التفكير بالخروج عن طاعته مرة أخرى.

«لا أحد يرغب باستمرار الحرب، وما عشناه خلال الأشهر التي سبقت المصالحة لم يكن إنسانياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لكن كثيرين من سكان التل اليوم فقدوا الأمل بأن تعود الحياة إلى ما كانت عليه. البعض نادم على الموافقة على المصالحة، وآخرون يريدون ‹سلّتهم بلا عنب›، فالحرب لا آخر لها»، تقول فاطمة.

منذ سيطرة مقاتلي المعارضة على التل في العام 2012، تحولت هذه المدينة الجبلية المحاطة بعدة قطع عسكرية إلى ملجأ لآلاف العائلات النازحة، والمطلوبين لخدمة الجيش السوري أو الهاربين من الاعتقال، حتى لُقبت بـ «مدينة المليون نازح». لم تتعرض المدينة لحوادث قصف عنيفة وبقيت آمنة نسبياً، خاصة بعد توقيع اتفاق للهدنة ووقف إطلاق النار في العام 2013، إلا أنها عانت حصاراً خانقاً لأشهر طويلة، لم يمنعه الاتفاق المذكور الذي بدأت ملامح انهياره بعد حوالي عام من توقيعه. ومنذ منتصف العام 2015، لم تعد الحياة في التل سهلة على الإطلاق، فشبابها ورجالها يخشون الخروج من الحاجز الوحيد المتحكم بالحركة من وإلى المدينة، والذي يمنع دخول السيارات. ووقعَ على عاتق نسائها عبء تأمين مستلزمات الحياة، وهو ما كان يعني لفاطمة الاضطرار للسير لمدة تصل حتى نصف ساعة للوصول إلى أقرب سوق، ومن ثم العودة محملة بأكياس من الخضار والفاكهة ومختلف الحاجيات، لتصل إلى منزلها وقد أعياها المسير.

«لم نعد اليوم مضطرين للخروج والشراء، فها هي الأسواق مليئة بكل ما نريد، وإن كانت بأسعار أغلى مما هي عليه في دمشق نتيجة الأتاوات التي تستمر الحواجز بفرضها على سيارات البضائع، كما أن المواصلات باتت متوفرة من وإلى المدينة حيث يمكننا أن نستقل الحافلات التي تنطلق من ساحة التل إلى كراج العباسيين وتكلف مئة وخمسين ليرة. لكن الحياة لا تقتصر على الطعام والشراب والمواصلات، فهناك ما يقضّ مضجعنا أكثر من ذلك».

تروي فاطمة بعض ما يؤرق سكان التل اليوم، وقد يكون الانفلات الأمني وغياب الكهرباء بشكل تام في مقدمته. فرغم الوعود اليومية بعودة التيار الكهربائي إلا أن المدينة لا تزال دون كهرباء منذ أشهر، وهو ما يعني عبئاً إضافياً على العائلات التي استهلكت الحرب مدخراتها وممتلكاتها وفُرص عملها: «فلا حل سوى بشراء مولدات الكهرباء أو ألواح الطاقة الشمسية والبطاريات، والتي يبلغ سعرها مئات الدولارات. يعتقد كثيرٌ من الأهالي أن النظام لا يزال غير راضٍ بشكل تام عن المدينة، ما يدفعه للاستمرار بقطع الكهرباء، رغم أننا نراها تضيء الثكنات العسكرية المحيطة بنا بشكل يومي».

أما الأمان فبات من منسيات الكثيرين، مع انتشار السرقات وفقدان الأمل من أي سلطة يمكن للسكان الالتجاء إليها أو قانون يمكن تطبيقه: «يكاد لا يمر أسبوع دون أن نسمع فيه عن سرقة أموال أو ممتلكات، والمؤسف أن معظم من يتعرضون للسرقة لا يجرؤون على تقديم الشكاوى. البعض يخاف من ‹تفتيح العين› خاصةً إن كان لديه أبناء يمكن أن يتعرضوا للمضايقات، وآخرون لا يرون جدوى من اللجوء للشرطة التي يفترض بها حماية المدنيين. فمرتكبو السرقات أو من يعملون على حمايتهم معروفون للجميع، ولا قدرة لأي كان على الوقوف بوجههم»، وتعني فاطمة بذلك عناصر الجيش والأفرع الأمنية والتشكيلات المختلفة المقاتلة إلى جانب النظام السوري، والتي باتت منتشرة في أرجاء المدينة.

تشمل تلك السرقات، بحسب فاطمة، سرقة المساعدات الغذائية وغير الغذائية، والتي تصل المدينة كي توزع على النازحين والعائلات الأشد فقراً، إلا أنها لا تصل على الدوام لمستحقيها: «خلال الشهرين الماضيين نزحت إلى التل عشرات العائلات من أحياء شرق دمشق إثر الحملة العسكرية العنيفة التي يشنها النظام على مناطق برزة وأحياء تشرين والقابون. وحتى اليوم لم تحصل أي من تلك العائلات على أي نوع من المساعدة أو المعونة رغم معرفتنا بوصولها المدينة. عقوبة أم سرقة أم الاثنين معاً؟ العلم عند الله».

تتخذ معاناة الشباب والرجال في التل منحى آخر، مع عودة حملات المداهمة والسوق لخدمة الجيش الإلزامية والاحتياطية وكذلك الاعتقالات لأسباب أمنية، الأمر الذي يدفع أبو أيمن «للندم» على فرحته بانتهاء الحرب والحصار وتنفيذ المصالحة، حيث بات الخوف على ولديه البالغين من العمر ستة عشر وثمانية عشر عاماً محور اهتمامه الوحيد. ويقول الرجل إن الحياة عادت لما كانت عليه قبل اندلاع الثورة، بل زاد الخوف وفقدان الثقة بين الناس: «لا أحد يجرؤ على التفوه بكلمة. ننظر حولنا لنعتقد بأن الجميع مخبرون للنظام، فنفضل التزام الصمت وعدم الاعتراض على أي شيء. ‹نمشي الحيط الحيط ويا رب السترة› هو شعار معظم سكان المدينة اليوم».

وإذا كان الوضع في بلدة قدسيا بريف دمشق الغربي يبدو أفضل حالاً، حيث لا يشتكي سكانها من غياب الخدمات وارتفاع الأسعار، وتمتلئ أسواقها بمختلف أنواع المواد بعد أن كانت فارغة لأشهر خلت، إلا أن من يعيشون فيها اليوم انقسموا بين مرتاح ومؤيد للمصالحة التي نُفّذت منتصف تشرين الأول الفائت، وبين رافض لها أو نادم عليها.

بالنسبة لسمر التي تعمل في محل لبيع الملابس والأحذية داخل قدسيا، قد تكون التسوية الأخيرة هي أفضل ما عاشته البلدة منذ اندلاع «الأحداث» أو «الأزمة»، وهي التسميات التي يفضل كثيرٌ من السوريين الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام إطلاقها على الثورة أو الحرب، تفادياً لأي مشاكل قد يتعرضون لها.

«عند انطلاق المظاهرات وبعد سيطرة الشباب (أي مقاتلي الجيش الحر) على البلدة في العام 2012، كان لدينا أملٌ بأن يتغير واقعنا للأفضل وأن نعيش انفتاحاً لم نكن معتادين عليه. لكن الأمور ساءت شهراً بعد آخر، ومن خرجوا بهدف التغيير سيطرت عليهم الخلافات والمناحرات لتنتهي بتصفية بعضهم لبعض، وجاء عقاب النظام بفرض حصارٍ شبه مطبقٍ علينا، ومنع دخول المواد الغذائية وتضييق مجال الحركة والقصف المتقطع من حين لآخر، لنشعر بأن خروج المقاتلين من البلدة هو الحل الوحيد لإنهاء أشهر من المعاناة».

وفعلاً، شهدت بلدتا قدسيا والهامة المتجاورتان تحركاً لإنهاء الوجود المسلح فيهما مطلع تشرين الأول من العام الفائت، إثر تصعيد النظام بالقصف وتهديده بالمزيد في حال عدم الانصياع لشروطه التي تقتضي بشكل أساسي ترحيل المقاتلين إلى شمال البلاد. وبعد اعتصام أهالي البلدتين ورفعهم شعارات تطالب بتحييد المنطقة عن أي أعمال عسكرية، بدأ تطبيق بنود المصالحة ورحيل المقاتلين وعائلاتهم بعد أيام، وسمح النظام بفتح الطرقات وعودة حرية الحركة والتنقل، إضافة لإعادة الخدمات ودخول المواد التي ساهمت بانخفاض الأسعار بشكل كبير، الأمر الذي شجع مئات العائلات على العودة، أو القدوم للاستئجار حيث تعد إيجارات المنازل في قدسيا أقل كلفة من غيرها من المناطق القريبة مثل ضاحية قدسيا التي تتضاعف فيها الأسعار.

«إلا أن الواقع ليس وردياً لهذه الدرجة»، تقول سمر متحدثةً عن استمرار حالات الخطف التي عانت منها البلدة في السابق، وبشكل خاص بين أحياء البلدة التي يقطنها سكانها الأصليين وبين الأحياء المحيطة بها، مثل حي الورود، التي يقطنها سكان من مناطق أخرى، وعائلات ضباط وعساكر يخدمون في الجيش السوري والأفرع الأمنية المختلفة. وتضيف بأن هذه الحالات تمنع كثيرين من المرور من أحياء «ليست أحياءهم» بعد مغيب الشمس، خوفاً من التعرض للخطف.

وبالنسبة لأم محمود، شكّلَ شهر تشرين الأول 2016 علامة فارقة في حياتها، مع اضطرار ابنها للرحيل عن قدسيا خوفاً من التعرض للاعتقال، وهو اليوم يقيم في تركيا ويفكر بالسفر إلى أوروبا بحثاً عن فرصة حياة جديدة.

تتمنى أم محمود لو استمر الحصار إلى ما لانهاية، «فالجوع أهون عليّ من فراق ابني. كان حريّاً بهم التوصل لحل آخر غير تهجير شبابنا. من بقي في البلدة اليوم؟ الأطفال والعجائز. معظم الشباب رحلوا، ونحن الأمهات لا نملك سوى الانتظار».

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى