صبحي حديديصفحات سورية

معادلة الجولان في الانتفاضة السورية: اختلاط المغامرة بالمقامرة

 


صبحي حديدي

أنتوني شديد، الصحافي في ‘نيويورك تايمز’، الذي أجرى مؤخراً حواراً ـ صار الآن شهيراً، ليس دون أسباب كثيرة وجيهة في الواقع ـ مع رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة السورية وصيرفي النظام الأوّل، تنبّه إلى الغرض الأبرز من وراء سماح السلطات الأمنية السورية لعدد من الفلسطينيين باقتحام حدود الإحتلال الإسرائيلي في محاذاة بلدة مجدل شمس، على السفح الجنوبي لجبل حرمون، في الجولان المحتل. وكتب شديد: ‘للمرّة الأولى منذ 11 سنة في حكمه، أظهر الأسد لإسرائيل، وللمنطقة والعالم، أنه في سياق انتفاضة شكّلت التهديد الأكبر لأربعة عقود من حكم عائلته، يمكن له أن يفتعل حرباً للبقاء في السلطة’.

ليس عسيراً بلوغ هذه الخلاصة، بالطبع، إذْ تبدو التفسير الوحيد لسلوك مسرحي مفضوح، أخذ يتكشّف ضمن سياق ملموس يصبّ في سيرورة الخيارات الدفاعية التي اعتمدها النظام منذ اندلاع الإنتفاضة السورية، ويواصل اعتماد بعضها، أو طيّ بعضها الآخر، أو التنويع بين أكثر من خيار واحد، ضمن الحلّ الأمني والعنفي الذي ظلّ سيّد الخيارات منذ بدء البدء. ورغم أنّ الحركة المسرحية أسفرت عن سقوط أربعة شهداء وعدد من الجرحى، جلّهم من الأشقاء الفلسطينيين المقيمين في سورية، فإنّ رسالة النظام كانت أكثر تكلفاً من أن تنطلي على شارع سوري أو فلسطيني أو عربي انتظر طويلاً من النظام أن يسمح بأي شكل من أشكال المقاومة الشعبية للإحتلال الإسرائيلي.

أمّا فحوى الرسالة، الذي يتابع ما سبق أن بعث به مخلوف إلى إسرائيل والولايات المتحدة والغرب عموماً، فإنه في الواقع كان أقرب إلى صراخ في وادٍ سحيق، غير ذي صدى؛ أو إعادة إنتاج لمحتوى رسالة مفتوحة أصلاً. ولقد مرّ زمن كافٍ ـ منذ اتفاقية سعسع سنة 1974، بين النظام السوري وإسرائيل ـ طبيعة الصمت المطبق الذي خيّم على وديان وذرى وسهول الجولان المحتلّ، فلم تتردّد في جنباته طلقة من بندقية صيّاد؛ وكذلك طبيعة الخدمات التي تسديها تلك الحال في إدامة النظام عموماً، وفي منجاة بيت السلطة بصفة خاصة. المفارقة، بالطبع، أنّ أحداً من هؤلاء ـ لا إسرائيل، ولا الولايات المتحدة، ولا الغرب ـ يبتهج لمرأى اهتزاز أركان نظام الأسد، أو تسعده مشاهد افتضاح أسطورة ‘الإستقرار’ التي تغنّى ويتغنّى بها أصدقاء إسرائيل مثل أصدقاء النظام، سواء بسواء!

بيد أنّ الحركة المسرحية تلك تعيدنا، كما ينبغي، إلى آراء الأسد نفسه حول الجولان، وكيفية تحريره، وأسباب عدم انطلاق المقاومة الشعبية في بطاحه وتلاله، كما جاءت في حوار مع الإعلامي المصري حمدي قنديل، على فضائية دبي، صيف 2006، في أعقاب العدوان الإسرائيلي البربري على لبنان. ولقد طرح قنديل السؤال التالي (والنصوص مقتبسة ـ بالحرف وبعلامات الوقف ذاتها ـ عن موقع وكالة الأنباء السورية الرسمية، ‘سانا’): ‘أليس في سورية غيرة أن حزب الله حقق ما حققه وأن كل السوريين يجب أن تكون لديهم الغيرة أننا لم نستطع أن نحرر الجولان حتى تاريخه بأي وسيلة سواء كان بالجيش أم بالمقاومة؟’، فتذهب إجابة الأسد، جرياً على عادته في التفلسف، إلى ثلاثة مستويات:

ـ الأوّل يخصّ أبناء سورية والأجيال الجديدة تحديداً (هذه التي تنتفض غالبية شرائحها ضدّ نظام حكمه، اليوم): ‘قبل هذه الحرب بعدة أشهر بدأ الحديث في سورية عن موضوع تحرير الجولان ولو انه بدىء [هكذا في الأصل!] على شكل حديث سياسي تثقيفي للأجيال الجديدة التي لا تعرف سوى عملية السلام ولا تعرف شيئاً عن المراحل التي سبقتها.. يسمعون الكثير عن السلام.. ولكن في الحقيقة لا يعرفون الكثير عن التحرير.. فبدأ طرح هذا الموضوع لأن عملية السلام متوقفة.. ماذا ننتظر! لا خيار سوى المقاومة أو الحرب.. إن لم نكن نرغب بالحرب فلنتجه باتجاه المقاومة. هذا حديث بدأ ينتشر.. خاصة مع الذكرى الستين لعيد الجلاء في سورية في شهر نيسان الماضي.. هذه الحرب كرست هذه المقولة..’.

ـ المستوى الثاني يخصّ الأسد نفسه، كما يلوح: ‘وأنا ذكرتها في الخطاب.. قلت إن تحرير الجولان بأيدينا وبعزيمتنا.. لكن هذه العزيمة بالنسبة لنا كدولة تأخذ الاتجاه السياسي وتأخذ الاتجاه العسكري.. كما قلت بالعودة لموضوع المقاومة هو قرار شعبي لا تستطيع أن تقول دولة ما.. نعم.. سنذهب باتجاه المقاومة.. هذا كلام غير منطقي.. الشعب يتحرك للمقاومة بمعزل عن دولته عندما يقرر هذا الشيء’.

ـ المستوى الثالث يخصّ الجيش السوري، خاصة وأن قنديل يلحّ في السؤال: ‘مادمتم إلى هذا الحد معجبين بالمقاومة اللبنانية وتشيدون بها لماذا أو كيف تكون هذه المقاومة في لبنان دليلاً لكم للحصول على حقوقكم في سورية… كيف ستواجهون الاحتلال الإسرائيلي بالاستفادة من تجربة المقاومة اللبنانية…’؟ هنا جواب الأسد: ‘كما قلت في البداية الدولة تبني جيشاً.. والجيش من مهامه تحرير الأرض.. حرب 1973 التي خاضتها سورية ومصر بنيت على هذا الأساس.. لكن الجيش عندما يخوض حرباً يجب أن تكون الأمور محضرة بشكل جيد.. نحن نعرف أن هناك حصاراً شبه كامل.. خاصة في التسعينيات.. على سورية.. وبالمقابل هناك إمداد كبير لإسرائيل من قبل الولايات المتحدة.. والأسواق الأخرى مفتوحة لها وأحياناً بالمجان. هذا يعني بأننا غيرنا مهام الجيش.. هذه من مهامه.. ونحن نسعى بشكل مستمر.. وفي السنوات الأخيرة قطعنا خطوات جيدة باتجاه التحضير.. على الأقل في المرحلة الأولى للدفاع عن أرضنا لأن إسرائيل بلد توسعي.. وبمرحلة لاحقة إن لم يتحقق السلام.. فعندما تقول اللاحرب واللاسلم سيأتي إما حرب وإما سلم’.

والحال أنّ قراءة هذه الأقوال اليوم، بعد خمس سنوات، وفي ضوء ما فعلته وتفعله بعض وحدات الجيش السوري في درعا وبانياس واللاذقية ودوما والمعضمية وداريا وحمص وتل كلخ… تحيل إلى تفكير جديد تماماً حول المغزى الفعلي لحديث الأسد عن تغيير مهامّ الجيش، وهل يريده النظام لتحرير الأرض أم لحصار المدن المنتفضة وقصف التظاهرات والإعتصامات؟ وهل يتضح اليوم ـ على نقيض ما ظنّ الأسد، أو أوحى ـ أنّ تثقيف السلطة للأجيال الجديدة لم يفلح في خنق طاقاتها الكامنة، أو تجميدها او حرف مساراتها الحقة؛ فلم تتفجّر حين تفجّرت إلا ضدّ النظام ذاته، في سبيل سورية حرّة وكريمة، تتوجه دبابات جيشها ومدافعه على الجولان وليس إلى درعا وبانياس، ويتعالى فيها الهتاف النبيل’ خائن مَنْ يقتل شعبه؟

وما الذي يستنتجه المرء من مستويات الأسد الثلاثة: مقاومة، أم لا مقاومة؟ وهل سيتمّ ‘تحرير الجولان بأيدينا وبعزيمتنا’: 1) عن طريق المقاومة الجماهيرية، أمّ 2) الخطب الرئاسية، أم 3) الجيش النظامي الذي تغيّرت مهامه (وصرنا نعرف اليوم ماذا صارت، بعد تجميد الجيش الوطني لصالح الفرق والوحدات الخاصة التي لا تحفظ إلا أمن النظام، ومارست وتمارس حصار المدن السورية وقصفها وتنفيذ المجازر بحقّ الشعب)؟ لا هذه ولا تلك ولا أختها الثالثة، لا لشيء إلا لأنّ الشعب السوري لم يتخذ بعد قرار المقاومة كما فعل الشعب اللبناني، والملامة تقع على الشعب، إذاً، وليس على القائد ‘الممانع’ و’المقاوم’!

وحين يسأل قنديل عن حدود صبر سورية على الإحتلال الإسرائيلي، يجيب الأسد: ‘هذا ما ستحدده المرحلة القصيرة المقبلة.. وأنا قلت في هذا الخطاب بشكل واضح بأن الأجيال الحالية ربما تكون آخر أجيال تقبل السلام.. فإذاً سينتهي هذا الصبر مع انتهاء صبر هذه الأجيال. بمعنى أن عملية المقاومة هي عملية شعبية.. ليست قرار دولة أن تبدأ بالمقاومة.. فعندها ربما تتجاوز الناس حكوماتها أو دولها وتقوم هي بهذا العمل المقاوم.. فتحرك عملية السلام كما نسمع الآن.. في منطقتنا وفي الغرب.. هناك حديث مكثف عن عملية السلام.. إن تحركت فربما تذهب العملية باتجاه المفاوضات’!

هل التشديد على أنّ قرار المقاومة هو قرار الشعب وليس الدولة يعني أنّ الشعب السوري غير راغب في تنظيم أيّ شكل من أشكال المقاومة في الجولان، وإلا لكان الناس تجاوزوا الحكومة والدولة كما يقول الأسد، واندفعوا إلى مجدل شمس كما اندفعت المقاومة اللبنانية إلى عيتا الشعب. أو، في تأويل ثانٍ، أنّ الأجيال الراهنة ربما تكون آخر الأجيال القابلة بالسلام، وهي بالتالي الأجيال التي ستأخذ قرار المقاومة بمعزل عن الحكومة والدولة؛ ولكن لا نعرف متى؟ أين؟ كيف؟ وما هو النطاق الزمني الذي قصده الأسد حين أشار إلى ‘مرحلة قصيرة قادمة’.

هل يريد الأسد إقناع الناس بأنّ نظامه لا يقاوم في الجولان لأنّ الشعب في سورية لم يتخذ قرار المقاومة بعد، وهذا قرار سيادي للشعب وحده وليس للحكومة أو الدولة؟ وبهذا المعنى، هل من أمل في أن يتخذ الشعب السوري قرار المقاومة في أيّ يوم قريب، أو بواسطة أيّ جيل منظور؟ وإذا لم يكن قد اتخذه حتى الآن، منذ احتلال الجولان سنة 1967 وإعادة احتلاله سنة 1973، فهل هذا شعب إنهزامي إستسلامي؟ وفي نهاية المطاف، ما الذي سيجبر الدولة العبرية على تسليم الأسد أياً من أوراق التفاوض أو المناورة أو تحسين الموقع الإقليمي، وحال النظام اليوم تلوح أسوأ مما كانت عليه في أيّ يوم منذ تشرين الأول (أكتوبر) 1970، حين استولى الأسد الأب على السلطة؟

ثمّ… عن أيّ جولان يتحدّث الأسد، في نهاية المطاف؟ أهو جولان حوارات واي بلانتيشن وشبردزتاون، التي ذمّها الأسد في حديثه مع قنديل، متناسياً أنها تمّت بقرار من أبيه حين كان هو طالباً في الجامعة، وأنّ نائبه الأوّل فاروق الشرع شارك فيها؟ أم هو جولان ‘وديعة رابين’، حيث الوعد المغدور، والجزرة التي ذوت وذبلت؟ أم جولان وساطات اللورد ليفي، مندوب رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير، بين الأسد الأب ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، حين اتضحّ أنّ فتح القناة السورية لم يكن إلا تعمية على إغلاق القناة الفلسطينية؟ أم جولان إيهود باراك، حين شاء النظام منح الأولوية القصوى إلى ترتيبات توريث بشار، قبل وعلى حساب أيّ ملفّ آخر؟ أم، أخيراً، جولان التفاوض السرّي بين ماهر الأسد، الرجل الثاني الأقوى في سورية اليوم؛ وإيتان بن تسور، المدير العام الأسبق لوزارة خارجية الدولة العبرية؛ في العاصمة الأردنية عمّان، أواسط 2003؟

الأرجح، والجليّ، أنّ زجّ الجولان المحتلّ في قلب معادلات الإنتفاضة الشعبية هو دليل إضافي على أنّ النظام ينتقل من يأس إلى يأس في خيارات كسر الحراك الجماهيري، فلا يدافع عن طريق الهجوم المضادّ، بل يستجدي حماية أعلى من حماة النظام الإقليميين والدوليين ذاتهم؛ ويوحي بالقدرة على الإبتزاز، وإمكانية تسخين الجبهات الهادئة، لكنّ رجالاته، على اختلاف مصالحهم واصطفافاتهم الأمنية أو العسكرية أو الاقتصادية، يدركون جيداً عواقب سلوك مسرحي ينطوي على لعب بالنار، وتختلط فيه المغامرة بالمقامرة.

 

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى