صفحات سوريةميشيل كيلو

هل دخلنا أصلاً عصر الدولة الوطنية كي نخرج منه؟

ميشيل كيلو

يبدو الحديث عن «الدولة الوطنية» وكأنه حديث عن شيء بلا موضوع أو هوية، رغم ان هذه الدولة احتلت بعد الحرب العالمية الثانية الكثير من اهتمامنا الكلامي والإعلامي، ورغم اننا اختلفنا عليها وتصارعنا حول وظائفها وادوارها، لكننا نسينا في جميع نقاشاتنا وصراعاتنا تعيين ودراسة هويتها، لأننا كنا نقفز عنها وننفر من تحديدها لاعتقادنا انه مضيعة للوقت، ما دمنا انصارا للوحدة العربية والدولة القومية، التي يجب ان تعطى الأولوية في انشطتنا النظرية وممارساتنا العملية، وستتحقق قطعا في مدى منظور، يغنينا عن ان نعرف عن الدولة الوطنية اي شيء آخر غير انها كيان مضاد لدولة الوحدة، لذلك يستحيل ان تكون الأولى وطنية في ايديولوجيا العروبة، التي جعلت منها كيانا قطريا لا بد من القضاء عليه، بما انه كيان مشوه يمنع الوحدة كنتاج طبيعي لسير التاريخ المضمر في فطرة شعبه الوحدوي، الذي لا يرغب في شيء قدر رغبته في التخلص منها والانتقال الى فردوس الامة الموحدة ودولتها القومية.

بسبب منطق التضاد، الذي كان يعرف الشيء بنقيضه، ويحجم عن وضعه في بؤرة تأمله كشيء مستقل وقائم بذاته، ويرفض بالتالي دراسته كما هو من أجل معرفة وتعيين حدوده وهويته ودوره ومآلاته، والفصل بين نقيضه الوحدوي وبين الهوية المؤدلجة التي يراه من خلالها، لم يسبق تشكُّلَ دولنا الوطنية دراساتٌ أو ابحاث علمية وسياسية انصبت عليها، وتلمست طابعها وكينونتها ووظائفها وعلاقاتها مع داخلها وخارجها، واكتفى الفكر القومي من معرفتها باتهامها بضرب من القطرية الذميمة، لا تبقي لها من وظيفة غير سجن شعبها الوحدوي في إهابها الخانق، والمعادي بصورة مطلقة لحركة قومية ستمر حتما على جثتها البالية وتقضي عليها، بينما رأى الفكر الشيوعي السائد في الدولة الوطنية كيانا برجوازيا صرفا، أو كائنا نصف اقطاعي / نصف برجوازي لن ينجو من الثورة الوشيكة، يكفي من دراستها أن نعرف هوية وسمات وأدوار الطبقة الممسكة بها، ما دام من غير الممكن أن تكون غير جهاز فوقي للمالكين، يستغفل الشعب عندما يتظاهر بحياده الطبقي، دون أن تنطلي ألاعيبه علينا نحن الشيوعيين، الذين نعلم علم اليقين أن تدمير الطبقة البرجوازية، الممسكة به، يكفي لتدميره هو أيضا.

لم يدرس احد في الأحزاب السياسية السورية الدولة ـ ومتى تكون وطنية أو طبقية أو قومية أو برجوازية او محلية وحسب -، لكن الجميع اتفقوا على طابعها الانتقالي والعابر، الذي يجعلها دولة هامشية الدور والتأثير وعاجزة عن فعل أي شيء إيجابي للعرب .وشجع على هذا الموقف ان من أمسك باعنتها كان بالفعل يدا مالكة وضعيفة، أدارت نظاما تمثيليا فاسدا ومتهافتا وتنمية تابعة لبعض مراكز الرأسمالية، تفتقر إلى الرغبة والقدرة على تغيير طابع المجتمع وعلاقاته التقليدية، فلا غرابة أن ممارساته حببت كتلا شعبية واسعة بنظام القائد الفرد القوي، الذي لم تنظر احزابها اليه على انه نظام استبدادي، بل اخبرتهم انه حاكم عادل ومحب للفقراء، ولديه من المؤهلات ما يمكنه من إنقاذها وإنقاذ الأمة أيضا، لكن الدولة القائمة تقف بينه وبين تحقيق مهمته التاريخية الكبرى، فلا بد إذا من أزالتها، علما بأنه كلما تمت إزالتها بسرعة أكبر كان ذلك أفضل وأكثر خدمة لمصالح ورغبات الشعب.

هذا النفور والكره للدولة المحلية ازدادا بعد بروز دولة/ مركز في اعقاب «ثورة يوليو» عام 1952 في مصر بقيادة شخصية تاريخية وكارزمية وصاحبة مشروع وطني وقومي هي جمال عبد الناصر، الذي جعلت سياساته من نموذج الدولة المصرية شكل الدولة الوطنية الوحيد المقبول، ورسالتها القومية بديلا لأية سياسات عربية. بعث الامل في قرب تجاوز الدول العربية الأخرى، التي وصفها البعث بكلمة تحقيرية هي «القطرية»، وصَدَّق قطاعٌ كبير من الشعب ما قيل له، فتمنى زوالها.

واليوم، نقرأ نقدا للدولة يعتبرها وطنية، ويتجاوز ما في صفتها هذه من التباس ينبع من انعدام التطابق بين مصطلحي الوطنية والمحلية، فالدولة المقصودة هي في الواقع دولة محلية درجنا على وصفها بـ«الوطنية»، مع ان هذه شيء والمحلية شيء آخر، فالوطنية مصطلح سياسي مجرد الطابع، والمحلية مصطلح جغرافي مكاني الهوية. هذا التباين يدفعنا إلى طرح بعض الأسئلة: إذا كنا قد امتلكنا بالفعل دولا محلية، فهل كانت هذه الدول وطنية حقا؟ وإذا كنا لم نُقِم دولا وطنية، فهل توطُّدُ المحليةِ يعني بدايةَ تشكُّلِ دول كهذه؟ أخيرا، إذا كنا لم ندخل مرحلة الدولة الوطنية للاسباب التي ذكرتها، فهل يكون علينا، ويكون بإمكاننا الخروج منها، ام يجب علينا تأسيسها كي تكون دولتنا لأول مرة في حياتنا الحديثة والمعاصرة؟

اعتقد ان دولنا لم تكن وطنية، بل كانت محلية بمعنى ضيق ومحدود، وانها افتقرت إلى الطابع الوطني لسببين: أولا: عدم قيامها على مفهوم المواطنة والسيادة الشعبية، وتاليا على الحرية والعدالة والمساواة، ولم تتعين بالنتيجة بإرادة عامة تمثل أغلبية شعبية. وثانيا: لأنها لم تكن دولا ينبع توجهها العربي من طابعها الشعبي المتعين بحرية مواطنيها وإرادتهم العامة، ولم تعرف يوما المساواة بين مواطناتها ومواطنيها أمام القانون، وإلى حد بعيد في الواقع أيضا.

بهذه المعاني ليست ولم تكن اية دولة محلية دولة وطنية. الدولة الوطنية هي بالأحرى نوع من الدولة يتعين بالإرادة العامة لمواطناته ومواطنيه ويستمد شرعيته منها. هي فضاء داخلي مفتوح يدار سلميا عبر تفاوض يقوم على تسويات وتوازنات وتوافقات عامة بين فئاته وطبقاته، تترجمها الى افعال رسمية وقانونية بيروقراطية لا تنتمي إلى أي كيان جزئي، سياسيا كان ام مجتمعيا، تضع جهودها في خدمة مصالح الشعب العليا، التي تحققها بوسائل وممارسات وظيفية قانونية. بقول آخر: بقدر ما تكون الدولة وطنية تكون ديموقراطية وبالعكس، فالوطنية ليست وظيفة برانية أو خارجية للدولة، بل هي وظيفتها الداخلية التي تتجلى في علاقاتها الخارجية وتنعكس عليها، ولها حامل محدد هو المواطن الحر.

نقف اليوم أمام منعطف تاريخي يرجح أن يتيح لنا بناء دول وطنية تتوفر لها جميع الشروط الضرورية للعب دور جديد في حياتنا، بعد نصف قرن من تسلط دولة استبدادية علينا، جعلتنا أحوج ما نكون إلى دولة وطنية، أي ديموقراطية، لطالما حلمنا بها واردنا العيش في حماها.

لسنا إذا في الطريــق إلى خــارج الدولــة الوطــنية، بل نحن على العكس من ذلك: في الطريق إلى إقامتها، مع ما سيترتــب على ذلك من تحــولات جــدية في وعينا ووجودنا السياسي: الداخلي والخارجي، الوطني والقومي، ومــا يتطــلبه من قطــيعة مع الأسس التي قامت عليها الدولة الاستبدادية، التي كانت محلية إلى حد القروية، وعلمتنا في تجربتنا السورية أن غياب المواطنة والديموقراطية عن الدولة يجعلها متوحشة وعدوا خطرا لشعبها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى