صفحات مميزةعمر قدور

معارضة في السبعين وانتفاضة في العشرين!


عمر قدور *

يفيدنا ردّ تعثر المعارضة السورية إلى ظروف المرحلة السابقة في فهم أسبابه، وبوسعنا إجمال الأسباب بتغييب السياسة عن المجتمع لصالح الشمولية والاستبداد، لكن هذا الفهم الذي يمنح ضعف المعارضة ميزات أخلاقية لا يكفي لتسويغ البطء والترهل اللذين تجليا أثناء الانتفاضة، وفي الوقت ذاته لا يعفي المعارضة من تحمل مسؤولياتها الراهنة ما لم تعلن عن استقالتها منها. الحق أن رموز المعارضة لم يستنكفوا عن السياسة، وهم الذين يحتلون شاشات الفضائية والصحف العربية بنسبة غالبة ولذلك أصبحوا معروفين من قبل المجتمع السوري أكثر من أي وقت مضى، من دون أن ينعكس هذا على أدائهم السياسي الذي تميز بالمراوحة ضمن مقولات تجاوزها النظام بالمزيد من أعمال القتل والقمع، وتجاوزها الشارع بحاجته الماسة إلى حماية انتفاضته.

من المشاهد المتكررة أن يظهر معارض ما على التلفزيون ليختزل رؤيته، أو رؤية التنظيم الذي يمثله، بأنه مع مطالب الشعب. تكرار هذه اللازمة يدل بحد ذاته على القصور، فترداد البديهيات ينتمي إلى الخطابة لا إلى الفعل السياسي، كذلك هو الانتماء إلى الشعب. ثم إن استخدام مفهوم «الشعب» على هذا النحو الغائم يتجاهل وقائع الانتفاضة ذاتها، فالسوريون ليسوا كتلة واحدة في تصوراتهم السياسية، صحيح أنهم متفقون على بعض الأهداف لكن التباينات موجودة حول الوسائل، وكلما طال أمد الانتفاضة قد تنعكس هذه التباينات سلباً بفعل الثمن الباهظ الذي يُدفع يومياً. لم تقدّم أية جهة معارضة حتى الآن خريطة طريق لبلوغ الأهداف التي تبنتها مع الشارع، ومن المعلوم أن التظاهرات العفوية وحدها مهما انتشرت وبلغت كثافتها لن تسقط نظاماً يمسك بمقاليد القوة المباشرة، وتحت الضربات الموجعة التي تُوجه يومياً إلى ناشطي الانتفاضة لن يُتاح لهم الانتظام في تكتلات سياسية جامعة.

في الواقع افتقرت المعارضة إلى التفاعل مع تفاصيل ما يحدث ميدانياً، وفي ما عدا بيانات شديدة العمومية نأت بنفسها عن أحداث بالغة الخطورة أو الدلالة (ما حدث في مدينة جسر الشغور ومحاولات إشعال الاقتتال الطائفي في حمص، على سبيل المثال). هذا الافتقار يتذرع بترك التفاصيل الميدانية لتنسيقيات الثورة، وهي ذريعة تخفي إما تهرباً من المسؤولية أو جهلاً بالمقدرة العملية للتنسيقيات، فلجان التنسيق قامت بدورها على أكمل وجه من ناحية ريادتها في التحريض على التظاهر، ويكاد همّ الحفاظ على زخم الانتفاضة وإيصال صورتها الإعلامية الحقيقية أن يستنفذ طاقتها، وليس من العدل أو النبل أن يتحمل هؤلاء النشطاء المسؤولية برمتها تحت ذريعة درايتهم الحصرية بواقع الحال أو احتكار تمثيله من دون أن يدّعوا ذلك، أو أن يمتلكوا القدرة التنظيمية على ضبط إيقاع الشارع.

ليس مطلوباً من المعارضة اليوم أن تأتلف في هيئة جامعة مانعة، ولا أن تشكل هيئة تمثيلية فضفاضة، فلا الوقت ولا الظروف يسمحان بمثل ذلك. ثم إن فكرة الإجماع، على استحالتها، تنتمي إلى زمن ولى، لكن من الممكن والملحّ تشكيل هيئة تحظى بقبول نسبي كبير، ووفق أدائها قد تعزز من حضورها وتأثيرها في الشارع السوري. إن المحك في نجاح مثل هيئة كهذه هو قدرتها على التفاعل المرن مع يوميات الانتفاضة، وكفاءتها في اقتراح مخارج سياسية للأهداف العامة لها، فضلاً عن الاتصال بالقوى الدولية المؤثرة بوصفها تمثيلاً موقتاً مُعترفاً به. هذا لا يعني أبداً احتكار المعارضة من قبل الهيئة المفترضة، لكنه يضع الأساس للتنافس الحقيقي على أكبر تمثيل لها، ويخرج الأمر من دائرة المؤتمرات المتعارضة والمتداخلة في شكل غابت معه صدقية الجميع.

ثمة حاجة تكبر باطراد لكي تستدرك المعارضة تقصيرها وقصورها، فمثلاً، ازدياد حالات الانشقاق في صفوف الجيش وتشكيل هيئات عسكرية منفصلة قد يؤدي إلى انعطافات غير محسوبة في غياب برنامج سياسي واضح. الأهم من ذلك، ربما، الانعكاسات السلبية لتشرذم المعارضة على الشارع السوري واستغلال السلطة لهذه الحالة داخلياً وضمن دائرة حلفائها الباقين.

لقد أدى الشارع، ويؤدي يومياً، واجبه في إنهاك السلطة وإضعافها، وصار يرى من حقه أن يبدأ بقطف ثمار التضحيات اليومية، أو على الأقل أن تدفع هذه التضحيات بالمعارضة إلى فعل سياسي يليق بدماء السوريين، وسيكون من شأن انعدام الأفق السياسي للانتفاضة أن يوهن في عزيمة البعض، وأن يزيد في تردد ما يُعرف بالفئة الصامتة حتى الآن.

في تعبير عن اليأس من أداء المعارضة كتب أحد المدونين على الفيسبوك «علينا أن نكفّ عن محاولة تزويج المعارضة بالانتفاضة لأن الأمر يشبه تزويج رجل في السبعين فتاة في العشرين». لكن هذا التشبيه على رغم وجاهته لا يلغي الحاجة الموضوعية للمعارضة التقليدية، ويرتب عليها اكتساب اللياقة الضرورية للزواج. في الواقع لا يوجد بديل منظور لمثل هذا الزواج، على رغم أنه ليس الخيار المحبب لدى البعض، والشباب منهم خصوصاً. هو اقتران انتقالي موقت بطبيعته، وإذا حافظت المعارضة بشجاعة على رمزية وجودها أثناء عقود الاستبداد فهي اليوم أمام استحقاق تاريخي تتوج به مسيرتها، وقد تكون مُطالَبة بعده بإفساح المجال فعلاً لا قولاً أمام شباب الثورة. لا شكّ في أن كثيراً من النقد قد يبدو قاسياً إزاء نبل ما قدمه المعارضون من تضحيات في زمن الديكتاتورية، ولعل نُبل ما يُطلب منهم الآن يعوّض عن ذلك إن كان لهم شرف المساهمة الفعالة في نقل سورية من الماضي إلى المستقبل.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى