صفحات سوريةميشيل كيلو

معارضة لم تحدد مواقفها!

 


ميشيل كيلو

لن أتحدث عن حال الإعلام السوري هذه الأيام، فهو ليس موضوعي في هذه المقالة. سأكتفي بمثال منه هو مقالة نشرت في الصحيفة الخاصة الدمشقية، تأخذ على المعارضة عدم تحديد موقفها من الأحداث، رغم أن السلطة مدت خيوطا إلى أشخاص وأحزاب فيها، بقصد تلمس ممكنات حوار وطني عام، كما يقول كاتب المقالة.

ربما كان كاتب المقالة لا يملك معلومات كافية عن الطريقة التي تعامل المتصلون الرسميون من خلالها مع المعارضين الذين التقوا بهم، سواء كأفراد أم في التجمع الوطني الديموقراطي، لذلك أود إعلامه بشيء منها، فهي لم تتجه إلى المعارضة باعتبارها جهة واحدة، بل عملت على التمييز بين مكوناتها، فهذا شخصية وذاك تنظيم، وحاولت الدخول عبر قنوات متنوعة متعددة إلى العلاقة معهم، وأخفت ما قيل هنا، عن الذين تم اللقاء معهم هناك، كما لم يتم إعلام أحد من الذين تم الاتصال بهم بوجود اتصالات مع غيره، ولولا لقاءات شخصية بين المعارضين لبقيت الاتصالات مع بعضهم مجهولة من بعضهم الآخر. بما أن هذا دليل عدم جدية، فإن أول مطلب لممثلي المعارضة كان «توحيد قناة السلطة» التي تتصل بهم، والنظر إليهم باعتبارهم «جهة واحدة» وليسوا جهات مختلفة، وإن تباينت أسماء تنظيماتهم أو كانوا من المستقلين، وإلا فإنهم سيوقفون الاتصالات، ولن يستجيبوا لها من جديد. حدث هذا، رغم أن ما سمعه مندوبو السلطة كان واحدا، سواء من حيث التحليل أو النظرة أو فيما يتعلق بالبيئة التفاوضية الضرورية لنجاح حوار وطني شامل. في هذه الأثناء، تصاعدت الضغوط على المعارضين، وتم على سبيل المثال اعتقال الأستاذ فايز سارة، أحد أبرز المستقلين، بعد ساعتين من طلب رقم هاتفه الجوال لإبلاغه بالرغبة في التواصل والحوار معه، كما اعتقل الأستاذ حسن عبد العظيم، أمين حزب الاتحاد الاشتراكي الديموقراطي والناطق باسم التجمع الوطني الديموقراطي واحد أبرز قادة المعارضة السورية، بعد ثلاثة اتصالات معه، بتكليف من الجهات العليا، علما بأنه في الثمانين من عمره، وبأن مرسوما رئاسيا صدر قبل فترة يمنع إبقاء من بلغ عمرهم سبعين عاما في السجن.

المهم: نشر أحد الكتاب مقالة يعيب فيها على المعارضة السورية عدم تحديد موقفها، دون أن يورد أدلة تؤكد صحة ما يقول. أنا من جهتي، لن أطيل في سرد مواقف المعارضة منذ عام 2000 إلى اليوم، وإن كنت أود تذكيره بأن من بيته من زجاج لا يرجم الناس بالحجارة. لن أتوقف كذلك طويلا أمام الأزمة الراهنة وسبل معالجتها، وكيف تتناقض الأقوال مع الأفعال حيالها، وكم وقع في الفترة لأخيرة من تخبط في كل شأن وأمر.

بدأت المعارضة نهجها الراهن عام 1976، فلم تحد عنه قيد أنملة منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، رغم ما تعرضت له من صعوبات ومطاردات وسجون. هذا النهج كان يقول تكتيكيا بأولوية إسقاط النظام سبيلا إلى حل مشكلات البلاد، لكنه عدّل بعد عام 2000 وصار يقول بأولوية حلها بالتعاون بين جميع أطياف السياسة السورية، بما في ذلك السلطة والمعارضة الديموقراطية، من أجل إخراج سوريا من الأوضاع التي ترتبت على سياسات النظام، على أن يتم ذلك في إطار توافقي مختلف عن إطار الجبهة الوطنية التقدمية، تحدد بمعونته المشكلات التي يجب أن تحل، وسبل حلها، وآلياته، ومدته الزمنية، في كل حالة، ضمن شراكة عمل يقوم خلالها كل طرف بما يقدر عليه من دور ومهام، على أن تحل مشكلة السلطة تدريجيا، وفق مخطط إصلاحي انتقالي متدرج وآمن، يقلص الانقسام القائم بين الموالاة والمعارضة، ويمهد لعمل السوريين كوطنيين يضعون أيديهم في أيدي بعضهم لحماية وطنهم وإنجاز التحول المنشود بأقل قدر من الخسائر… في طريقهم إلى نظام حريات تعددي يحفظ حقوق الجميع، ويطوي صفحة الماضي.

هذا هو اليوم أيضا خط المعارضة، لمن يريد أن يعرفه، علما بأنه تكرر الحديث عنه آلاف المرات في السنوات العشر الماضية، لكن بعض «خبراء السياسة السورية لم يجدوا كما يبدو الوقت الكافي لمتابعته أو لأخذ العلم بوجوده، رغم استمراره إلى اليوم، ورغم أن جميع من تحدثوا مؤخرا مع ممثلي السلطة عبروا عنه وتبنوه، ولم يحيدوا قيد أنملة عنه، لاقتناعهم أن الأحداث أكدت صحته، وأن فيه علاجا لأوضاع البلد، وأن السلطة يجب أن تقبله، إن كانت تريد بالفعل تحولا آمنا ومتدرجا إلى نظام جديد فيه خير الوطن والمواطن، يقوم على المواطنة وحقوق الإنسان والدولة المدنية وحكم القانون والعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، ويرفض أي استبعاد من أي نوع يطاول أي مكون من مكونات الجماعة الوطنية السورية، وأي تمييز بين المواطنين على أساس الدين أو المذهب أو العرق أو المنبت الطبقي، ويرى في الإنسان ذاتا حرة وجديرة بالحرية بغض النظر عن تعييناتها، ويعتبر كل مواطن إنسانا يتعرف بحريته دون غيرها، فمن واجب الدولة حمايتها وتنميتها وجعلها هدف نشاطها الرئيس، في جميع الظروف والأحوال.

أليس هذا الموقف مجددا ؟ إنه أكثر المواقف تحديدا، بين المواقف التي عرفتها أية معارضة عربية في العقد المنصرم، وهو أكثر المواقف انفتاحا على الحوار والنزعة السياسية السلمية، وأكثرها قدرة على مساعدة السلطة على إحداث نقلة حقيقية في أبنيتها السياسية وممارساتها، إن صدقت نيتها وأقلعت عن رؤية مجتمعها من خلال موازين قوى تقوم على القوة، وفهمت أن العقد الاجتماعي هو بالأصل والنتيجة عقد سياسي / مدني، يستهدف إدارة تناقضات الدولة والمجتمع بوسائل غير عنيفة، وإلا تحطمت الدولة وتصدع المجتمع، وغدا العنف شريعة من لا يجوز أن يكون شريعتهم، بالنظر إلى أن مهمة الدولة تنمية حرية المواطن لا القضاء عليها. بهذا الفهم، قالت المعارضة خلال لقاءاتها مع بعض المسؤولين إن السلام، والتعاطي السلمي مع الشعب، ووقف الحل الأمني بالتالي، هو بيئة أي حوار مطلوب، فهل هذا موقف غير محدد بدوره ؟ أم أن العنف يجب أن يقبل كوسيلة يتم بواسطتها التخلص من مطالب وصفها المسؤولون بالمحقة، كي يعتبر موقف المعارضة محددا ؟

ليس موقف المعارضة غير محدد. إنه محدد إلى درجة جعلت منه نقطة فارقة في تاريخ سورية الحديث، الذي تجاهل في الماضي المسألة الديموقراطية، ثم بدأ يتركز منذ نهاية السبعينيات حولها بفضل المعارضة الحالية، التي قامت بانقلاب طاول الفكر والسياسة في بلادنا والعالم العربي، استبق ولاقى تيار النهوض العام الحالي في وطننا العربي، الذي حمله الشعب، وتشير الدلائل إلى أنه ذاهب إلى انتصار مؤكد، ما دامت شعوب أمتنا العربية تجتاز بتصميم واقتدار عصر الاستبداد إلى عصر حرية ومدنية بدأته في ثورة تونس، وخطت خطوة هائلة على الطريق إليه في ثورة مصر، وها هي تواصل سيرها نحوه كهدف تاريخي جديد تنشده في بقية البلدان العربية : بقدر عظيم من الألم والتضحية، ولكن أيضا بإصرار وثبات لا سابق لهما في ماضينا وحاضرنا كله!

حددت المعارضة موقفها منذ زمن طويل. بقي أن يحسم النظام أمره ويقتنع بأن بلادنا بحاجة إلى تغيير عميق، وأن تقادمه صار خطرا عليها. هل نأمل أن يتناول الكاتب هذا الموضوع، الذي يهم معظم السوريين دون شك، ولا بد أن يكون المسألة المركزية لأي حوار وطني جاد، في هذا الزمن المخيف.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى