صفحات سورية

معجزة الشعب السوري


أندلس الشيخ

وأنا تلميذٌ على مقاعد الدراسة في ابتدائية ماري العجمي في العاصمة دمشق، كان بقائي يوم الثلثاء من كل أسبوع لمدة ساعة بعد انتهاء الحصص اليومية المقررة بغية حضور ما يسمّى حصة “طلائع البعث”، يثير في داخلي تساؤلات عـدة، لم تتسنّ لي الإجابة عنها بشكل شافٍ إلا بعد تقدمي في السن واكتشافي وأنا في الجامعة لأبحاث حنة آرندت وبيار بورديو عن بنية الدولة التوتاليتارية وقوامها. على ضوء هذه القراءات للفيلسوفة الألمانية وعالم الإجتماع الفرنسي، تبيّن لي إلى أي درجة يمكن اعتبار النظام السوري الحاكم منذ ستينات القرن المنصرم، نموذجاً يجسد، بشكلٍ مثالي، الدولة التوتاليتارية التي تسعى عبر ممارسات منظّمة ومدروسة إلى تأطير المخيلة الجماعية لأفرادها من خلال إخضاعهم إلى عمليات تعبئة وأدلجة وهم في مقتبل العمر.

إن مشهد الطفل السوري وهو في بداية تحصيله العلمي، أمام أستاذ الصف الذي يلقن تلاميذه، وبشكل آلي بحت، المنطلقات النظرية لحزب البعث ومتفرقات من أقوال الأب القائد “المقدسة”، يشرح بعض الشيء إلى أي مدى كان قد تم، وبشكل مبكر، اغتيال المخيّل الطفولي عند الملايين من الأطفال السوريين، الذين كان حريّاً بوطنهم أن يُتيح لهم فرصة تعلّم لغات أجنبية تُعينهم مستقبلاً في الانفتاح على ثقافات الأمم الأخرى أو أنشطة فنية خلاّقة تُغني مداركهم وتُنمّي مواهبهم. تراهم يتعرضون لتعليب من نوع جديد حال دخولهم المرحلة الإعدادية، حيث يتم إجبارهم على الالتحاق بما يسمّيه نظام التسلط والقمع والفساد “اتحاد شبيبة الثورة”. لكم هي بريئةٌ الثورة من هذا التنظيم الذي لا يهدف في الحقيقة إلا لمَذهبة صبايا وصبيان يخرجون، بشكل قسري، في مسيرات عارمة غرضها التأييد الأعمى لـ”القائد الفذ”، تنظّمها الجهات الحكومية في ذكرى الحركة التصحيحية وبيعات النفاق المتعاقبة له، وفي مناسبات أخرى غير مجيدة بسوريا وبتاريخها الحضاري العريق.

لقطع شوط آخر في منهجية التعليب التي يمارسها بعث سوريا عن سابق عمد وعن تخطيط متناهي الدقة والتفاصيل، تقوم المؤسسات التربوية، طبقاً لتعاليم الفروع الحزبية في كل مدينة، بإعداد مسابقات لنيل “شرف العضوية العاملة”، إذ يتحول الحاصل على هذا “الشرف” من منتسب عادي في صفوف حزب البعث إلى عضو فاعل، تُوكل إليه مهام مختلفة، منها عقد الاجتماعات الحزبية وترؤسها على مدار الأسبوع والعمل على التنسيق مع باقي مكاتب “اتحاد شبيبة الثورة” المنتشرة في شتى المدن السورية. للمضي إلى حلقة جديدة من حلقات مسلسل التدجين الطويل والمشوِّه لكيان الفرد السوري وشخصيته، اخترعت سلطات الدولة وقياداتها ما يعرف بـ”التدريب الجامعي” كأداة تعبوية متممة لما كان قد تم البدء به في مراحل الطفولة مع حصص “طلائع البعث” ومعسكراتها. هنا يُجبر الطالب الجامعي على تكريس يوم كامل من أيام الأسبوع، للقاء مئات الطلبة من الكليات الأخرى، الذين “لا يكلّون ولا يملّون” خلال ساعات وساعات من الاستقاء والنهل من نهج الحزب ومن تعاليم الأب القائد وأفكاره الحكيمة السابقة لكل عصر وزمان، وذلك على أيدي مدرّبين عسكريين أوكلت إليهم مهمة مواكبة جيل الطلبة هذا لإتمام إعداده عقائدياً وعسكرياً حتى سنواته الدراسية الأخيرة.

بين حصص “طلائع البعث” في المرحلة الابتدائية واجتماعات “اتحاد شبيبة الثورة” في المرحلة الإعدادية ومسابقات العضوية العاملة في المرحلة الثانوية ودروس التدريب الجامعي في المرحلة الجامعية يكون قد تم الإجهاز بالكامل، والفضل لـ”المناضل حافظ الأسد”، على مخيلة المواطن السوري، التي تمت برمجتها منذ نعومة الأظفار على الإيمان بأهداف الحزب وثالوثه الطنان، “وحدة حرية اشتراكية”، وعلى عبودية القائد الرمز، باعتباره “حامي الديار”، في حين أن راهن ثورة الشعب السوري الأبي في درعا وبانياس وحمص وحماة والرستن وجاسم ودير الزور وتلكلخ وغيرها من المدن السورية المنتفضة، يُثبت أنه ليس سوى مغتصبها ومنتهك حرماتها.

الآن، بعد هذا المرور السريع على سلسلة الأساليب التوتاليتارية التي يتبعها النظام السوري من أجل وضع اليد على حواس المواطن السوري الخمس من المهد إلى اللحد، تعالوا، إن كنتم تتحلون بشيء من الصبر، للاستماع إلى ما يأتي: “منجزات الأب القائد”، “باني سوريا الحديثة”، “القائد الملهم”، “القائد العبقري”، “سوريا قلعة الصمود والتصدي”، “قلب العروبة النابض”، “الحزب القائد للدولة والمجتمع”، “المنطلقات النظرية للحزب”، “المنطلقات العملية للحزب”، “القيادة القطرية”، “القيادة القومية”، ‘الجبهة الوطنية التقدمية”، “الحرس الجمهوري”، “الوحدات الخاصة”، “سرايا الدفاع”، “معسكرات الطلائع”، “معسكرات شبيبة الثورة”، “معسكرات الصاعقة”، “معسكرات التدريب الجامعي”، “مسيرات المبايعة”، “المسيرة الكبرى”، “القسم الطليعي”، “القسم الشبيبي”، “البعث طريقنا”، “نعم إلى الأبد”، “الأسد إلى الأبد”، إلخ… إلخ.

في هذا المنجم من العبارات العبثية، والباء هنا بعد العين لا قبلها، ولدتُ ونشأت مع الملايين من الأطفال السوريين حيث تعكّر صفو عقولنا وأفئدتنا بهذه المفردات الغوغائية والمصطلحات الإنشائية الفارغة المضمون. فيا مخلوقات الأرض ويا ملائكة السماء، كيف لنا في دوامة هذه الصياغات الميتة المعاني واللفظيات الشكلية المنتفخة الأوداج، أن تكون درجة حرارة أجسامنا 37؟! وكيف لا يكون اليوم، في ذلك المناخ التعبوي حتى تصلّب الشرايين لا بل حتى تقطعها، خروج المواطن السوري إلى الشوارع والساحات العامة في تظاهرات يطالب فيها بالحرية والعيش الكريم أشبه بالأعجوبة لا بل “المعجزة”، على تعبير المفكر برهان غليون؟!

يقول نيتشه: “مأساة الإنسان، أنه كان طفلاً يوماً ما”. بهذا، فإن مأساة المواطن السوري مضاعفة، كونه طفلاً ترعرع في ظل نظام أحادي شمولي عسكري بوليسي احتكاري جائر، يُعتبر، إلى جانب كوريا الشمالية وبيرمانيا والصين، من أكثر أنظمة المعمورة انغلاقاً، ومن أشدها هتكاً لحقوق الإنسان على الإطلاق.

لكن، مع هذا كله، وعلى الرغم من محاولة تطويق ذهنية الشعب السوري وأسر تعابيره واحتجاز كلمته الحرة وتكبيل أحلامه وأمانيه على مدار الخمسين عاماً الماضية، يأتي آذار العقد الثاني من الألفية الثالثة حاملاً بشائر ووعوداً للملايين من “الأوادم” الذين عاشوا سنوات عِجافاً في كنف أنظمة الذل والرعب على امتداد رقعة العالم العربي من القامشلي إلى أغادير. يأتي ربيع هذه الألفية الطازجة، بعد طول انتظار وعلى حين غرة، ليبرهن لطغاة الأرض أجمعين، وعلى رأسهم حكام عواصم العرب، أن الحرية فطرة وأن الخوف عَرَض، وأن ما بعد الجلجلة إلا الخلاص. فها هي الآن في وطني الذي هو قيد الأمل، أصوات الأحرار من شابات وشبان ومن نساء ورجال ومن شيوخ وأطفال تعلو، في السر والعلن، لتقول لنظام البعث اليائس البائس إنه مهما حاول تلبيد سماء البلاد بدخان الذعر وسحابات القتل والبطش والتنكيل فإنها آخذة لا محالة بالانقشاع ملوِّحةً بأفق جديد في شرق جديد.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى