صفحات العالم

معضلة الحرية

 


عبد الله الأشعل

لا تزال قضية الحرية في العالم العربي معضلة نبهت إليها تقارير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، ولم تفرق هذه التقارير بين حرية الوطن وحرية المواطن.

فالأوطان العربية المحتلة من جانب المحتل الأجنبي في العراق وفلسطين تفتقر إلى الحرية، كما أن الأوطان العربية التي تعاني من النظم المستبدة الفاسدة تفتقر إلى الحرية.

أزمة الحرية في الدول المحتلة تضفي شرعية على مقاومة المحتل لتخليص الوطن منه لنيل الاستقلال، وكذلك، فإن أزمة الحرية في الدول التي ابتليت بنظم مستبدة خاصة إذا ارتبط الفساد السياسي بالفساد الاقتصادي والاجتماعي والتبعية للقوى الخارجية تبرر المعارضة-المقاومة، ولذلك التقت حركات المعارضة الداخلية مع المقاومة للاحتلال، وهذا هو النمط السائد في العالم العربي.

فقد كان الاستبداد والفساد سائداً في دول تعتز باستقلالها، ولكن في الدول التي تعاني من الاستبداد إزاء الشعوب، والخضوع في نفس الوقت لمشيئة الأجنبي المتسيد على مقدرات الدولة، تصبح المعارضة مقاومة في نفس الوقت لكل من التبعية الأجنبية وفك الارتباط بين التابع والمتبوع. ففي حالة مصر مثلا كانت تبعية النظام وخضوعه للمشيئة الخارجية هو مقابل إطلاق يد النظام إزاء شعبه.

ويثير هذا المقال قضية بالغة الخطر تحتاج إلى دراسة وتأمل وهي هل تنفصل قضية الحرية للمواطن إزاء الحاكم عن قضية حرية الوطن إزاء الهيمنة أو الاحتلال من جانب الدول الأجنبية؟

يشير فحص هذه القضية في العالم العربي إلى أن نخلص إلى نتائج مذهلة طالما نبهنا إليها طويلاً وتوقفنا عندها كثيراً عندما نبهنا إلى أن معيار وطنية الحاكم العربي يجب أن تقاس بمدى حرصه على وحدة وطنه وقوته واستقلاله، ولكن تبين أن المشكلة هي أن هذا الحاكم الذي لم يتم اختياره من جانب شعبه في عملية ديمقراطية يعتمد بالضرورة لكسب شرعيته وتأمين نظامه على الخارج، وهذا الخارج يأخذ المقابل من ثروة الوطن واستقلاله، وكلما ارتبط الحاكم بهذا الخارج صعب على شعبه إزاحته كما يحدث الآن في ليبيا التي كان القذافي فيها، فيما بدا فيما بعد، هو الحاكم النموذجي للمصالح الغربية، فهو يتحدث بعبارات الثوار ويتصرف إزاء شعبه تصرف الحكماء الآباء، وتظل مصالح الغرب مرعية في قسمة عادلة بين الطرفين لا تثريب عليها.

ويمكن ابتداء أن نقسم الحالات الواضحة في علاقة حرية المواطن بحرية الوطن إلى أربعة أنماط. النمط الأول هو أن حرية الوطن تجاه الهيمنة الأجنبية والمؤامرات الأجنبية هي الشغل الشاغل للنظام، وهذا يقتضي التلاحم بين المواطن والحاكم من أجل الوطن، ولكن هذا التلاحم أدى إلى طمس العلاقة بين الحاكم والمحكوم فأضحت الحرية مفترضة حتى يراجع المحكوم الحاكم وحتى يشترك الجميع في إدارة الوطن، فبدأ فرز المواطنين حسب درجة ولائهم للحاكم أكثر من درجة نفعهم للوطن، وبدأ اتهام الراغبين في الإصلاح والديمقراطية بأنهم متآمرون خاصة إذا كانوا قد أتموا دراساتهم في أوروبا والولايات المتحدة، ويصبح الحاكم أشد حساسية وأكثر قبولاً لكل ما يدعم نظامه حتى لو جار على حقوق بعض مواطنيه.

ينتمي إلى هذا النموذج مصر الناصرية وسوريا الأسد. كانت وطنية عبد الناصر وطموحه القومي المشروع سبباً في إشعار المواطن المصري والعربي بالكرامة، التي ارتبطت بالعدالة الاجتماعية فبدت حرية الرأي ضد نظام حكمه ترفا، حتى صحونا على هجمة 1967 القاتلة.

كذلك فإن وطنية بشار ودوره القومي وحمايته للمقاومة العربية ضد أميركا وإسرائيل شغلته عن حقوق الحرية للشعب، فثبت أن النظم الديمقراطية هي التي توفر الوطنية وتنطلق منها الأدوار القومية المشروعة.

لا شك أن العدو الأجنبي حاول أن ينفذ إلى نظم عبد الناصر وبشار بالاحتواء أو الاختراق أو الإزاحة، فاختلطت المطالبة بحرية المواطن بالخوف من أعداء حرية الوطن.

لقد تأجلت الديمقراطية في مصر عقوداً ولم تتحقق حتى اليوم رغم أنها تتصدر مطالب ثورة يوليو/تموز، ولكننا نأمل أن تتحقق بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني، فقد انفتح الباب أمام المواطن، وبقى أن يتسلح المواطن بالثقافة والوعي اللازمين للديمقراطية.

النمط الثاني هو أن حرية المواطن مقدمة على حرية الوطن، هذا هو الشعار الذي رفعته الولايات المتحدة في العراق وظنت أنه يمكن المزاوجة بين حرية المواطن إزاء الحاكم الذي تعينه هي وليس الشعب، مقابل أن ترعى الولايات المتحدة هذه الحرية للمواطن عن طريق سلطات الاحتلال.

وقد حلمت واشنطن بشيوع هذا النموذج في دول عربية أخرى، ولكنها كانت تدرك أن هذا النمط لا يمكن تسويقه، لأنه تسويق للاحتلال ولعملاء الاحتلال، ولم يجن الشعب العراقي سوى الإبادة والضياع والتشرد واللجوء وتفكيك بلاده بطريقة دموية عن طريق سلطات الاحتلال.

ولذلك فإن الثورة في العراق التي تتبلور الآن هي ثورة على الاحتلال والتبعية وتردي الأوضاع ونزعات الانفصال، وتأكيد هوية العراق الموحد.

النمط الثالث هو أن حرية الوطن تؤدي حتماً إلى حرية المواطن، وهذا النمط هو الذي بشرت به حركات التحرر الوطني جميعاً التي اعتبرت أن التحرير من الاستعمار هو الخطوة الأولى، ولكن كانت النتيجة أن الحاكم الوطني التقدمي هو الذي حل محل المستعمر أو المحتل الأجنبي فأعمل في الوطن نهشاً وضياعاً وفساداً وجمد الحياة السياسية وتمسك بالسلطة حتى الموت، وهذا هو حال كل النظم العربية التي شهدت ثورات وطنية ضد المحتل الوطني وهو الأخطر من الاحتلال الأجنبي لأنه احتلال مزدوج، هو احتلال الإدارة الكاملة للحاكم الذي لم يجد سوى التسلط على شعبه.

ولعل المتأمل في نظام مبارك وكمية الفساد والنهب بالمليارات في مجتمع نصفه تحت خط الفقر يطرح تساؤلات خطيرة، يضاف إلى ذلك نهب الثروات العقارية ومصادرة حقوق الأجيال القادمة ورهن مصر كلها لغاصبيها من الأفراد والدول في الداخل والخارج، وكذلك سرقة الآثار ونهب التحف و”الآثاريات” من المتاحف في عملية منظمة تقطع بأننا إزاء نظام عصابي، حرص على بقائه وتوريث الحكم فيه.

ففقدت مصر كل مصادر قوتها وتجرّد شعبها من الأمل حتى في رحمة الله، وقصرت أدواته عن إزاحة الحاكم حتى كانت ثورة 25 يناير/كانون الثاني المباركة التي نراها تصفية لنظام تجرأ على ملك الله وعندما عجز المحكوم عن إعادة التوازن، اختل ملك الله في مصر فانقضت الصاعقة عليهم عنوة وهم ينظرون.

النمط الرابع هو الذي بشرت به ثورة 25 يناير/كانون الثاني التي اعتبرت أن حرية المواطن هي التي تؤدي إلى حرية الوطن من غاصبيه الذين ظلموا المواطن والوطن كليهما.

والملاحظ في حالة مصر أن استبعاد المواطن كان جزءاً من دور الحاكم الذي فرضه الخارج عليه رغم تشدق الخارج بحرصه على ديمقراطية مصر وتنقيتها من الفساد، إذ أدرك الجميع أن تحالف هذا الخارج مع مبارك حتى يظل على قهر شعبه وإفقاره كان عقداً بين مبارك والخارج القريب والبعيد.

هذا بالضبط هو السبب في القلق الذي أصاب إسرائيل والولايات المتحدة، ودفعهما إلى البحث عن طريق للتعامل مع الأوضاع الجديدة في مصر.

نحن لا نتحدث عن نظرية المؤامرة ولكن عن قواعد مستقرة في العلاقات الدولية. فالثابت أن مصر بالغة الأهمية للمنطقة وقوى النظام الدولي، وأن إخضاعها حقق عدة مزايا, أولاها: تأمين طموحات إسرائيل وهيمنتها وشغل الفراغ الذي تركته مصر، ثم الصدام مع تركيا وإيران عندما حاولت التقدم لشغل الفراغ.

الثانية, أن حركة مصر في الإقليم كانت دائماً لصالح شعبها وكرامة الأمة كلها، ولذلك فإن شل مقررات مصر وحصرها داخل حدودها وإثقالها بالهموم لتلعق جراحها منكفئة على نفسها ترك فرصة ذهبية لكل القوى الدولية أن تسرح في المنطقة ولكن لواشنطن بالذات لأن تجعل مصر إمام الراكعين لنفوذها واصطف خلفها كل من سار على مذهب الركوع للهيمنة الأميركية.

في ظل هذا الوضع أصبحت الديمقراطية تساوي الوطنية، والتحرر الوطني، فصارت الديمقراطية مهددا لإسرائيل والولايات المتحدة ما دام عزهما يكمن في إذلال مصر.

ومن الضروري البحث عن صيغة تضمن رسوخ الديمقراطية، بحيث تتحقق مصالح الجميع انطلاقا من المصالح المصرية الجديدة. ولعل العصبية التي أصابت إسرائيل سببها أنها ليست مستعدة لقبول شيوع الديمقراطية وحقوق الإنسان والاستقلال والرخاء في مصر، لأن شطراً كبيراً من مشروعات إسرائيل بني على افتراض غياب مصر عن المنطقة والوجود، فلما أذن الله ببعث مصر مع ثورتها حتى دون أن ينطق أحد اسم إسرائيل أثناء الثورة، لم يكن ذلك كافياً ليهدئ روع إسرائيل التي ضاع مع الثورة كنزها الإستراتيجي وعجلها الذهبي مبارك ونظامه جميعا.

فقد بلغ النفوذ الإسرائيلي في مصر كما أخبرنا كبار المسؤولين الإسرائيليين في تصريحاتهم وتقاريرهم بأنهم هم الذين حددوا مسارات التدهور في قطاعات مصر واختاروا لهذه المهمة القادرين على أدائها، أي أن المهمة ومن يقوم بها كانت من تدبير إسرائيل في مصر.

فهل حرمت من هذه الميزة القاتلة إلى الأبد؟ الثابت أن مصر مصرة على الديمقراطية وعلى الاستقلال كما أنها مصرة على أن تلعب دورها المشروع، وعلى الآخرين أن يعدوا أنفسهم للمشهد الجديد، ولن تجدي محاولة إعادة الساعة إلى الوراء، إنها إرادة الله وإرادة شعب قرر أن يستعيد وعيه في أمنه ومنطقت

الجزيرة نت

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى