صفحات الرأيهوشنك أوسي

حول ذهنيّة الغدر وطقس جلد الذات في التيّارات العقيديّة!


هوشنك أوسي

التيّارات السياسيّة، التي تتبنّى أيديولوجيا عقيديّة، بصرف النظر عن طبيعتها، دينيّة كانت أم يساريّة، وأيّاً كان منسوب حديثها عن الوسطيّة، وأنها الخيار أو البديل الثالث، ومهما قلّت نسبة الدوغما العقيديّة التي تتبنّاها، لا يمكن اعتبار هذه التيّارات أنها تنظر من زاوية منفرجة للحياة وتحوّلاتها، والتاريخ وصيروراته وسياقاته، والمستقبل واتجاهاته. ذلك أن طبيعة الأيديولوجيا العقيديّة، ومواقفها مما سلف تعداده، دوماً تكون صادرة من زاوية حادّة، ودأبها السعي لحشر العالم في هذه الزاوية، على أنها الزاوية المُثلى والأنقى والأجدر لمعرفة العالم والحياة والموت والمجتمع والفرد. وبالتالي، أيّاً كان منسوب الحديث عن الانفتاح على الآخر، والاريحيّة في التعاطي مع المختلف، فإن الأيديولوجيا العقيديّة، عدوّة التنوّع، عبر سعيها الحثيث للاطاحة بالاختلاف والتباين الفكري واجتثاثه من المجتمع، بالاضافة الى تجفيف منابعه، بخاصّة إذا كانت هذه المنابع والمصادر، داخليّة _ ذاتيّة، منضويّة، بشكل أو بآخر، في جسم التيّارات الأيديولوجيّة نفسها. وبالتالي، حين ردد القذّافي، أنه يسعى لتطهير ليبيا: «مدينة، مدينة، زنقة زنقة، دار دار، فرد فرد»، فكان يعني ذلك، ويدرك ما يقول. ولو فشلت الثورة الليبيّة، وكُتب لنظام القذّافي البقاء، لكان أذاق الشعب، ظلماً وطغياناً، أضعاف أضعاف ما أذاقه طيلة سنين حكمه. وعليه، لم يكن كلام القذّافي مجرّد تهديد ناتج من هول الصدمة وحسب. ذلك أنه اعتاد أن يسمع من الشعب، أنه «الأخ القايد»، ويرى في عيون الناس الذلّ والمهانة والطاعة والعبوديّة. وأي شذوذ عن هذه القاعدة، وترديد كلام، خلاف ما سمعه من الشعب طيلة أربعة عقود، اعتبره القذافي «هلوسة»، وليس حقيقيّاً. فكيف يبدي الشعب عهد الولاء والوفاء المطلق حدّ العبوديّة للقائد، طيلة أربعة عقود، ثم ينقلب على القائد ومنظومته العقيديّة، الإرهابيّة، الدكتاتوريّة الفظيعة!؟. طبعاً، ينسحب الأمر على النظامين الايراني والسوري أيضاً، وكل الأنظمة والأحزاب التي على شاكلتهما.

ولئن كانت الأيديولوجيا العقيديّة تسعى لتغيير طبائع الأمور لدى الفرد، وصولاً لتغيير المجتمع، فلا يكون ذلك إلاّ من خلال الاشتغال على تحفيز وتثوير النزوع الإيماني لديه، في مسعى اغتيال النزوع العقلاني، وإبادة الشكّ لدى الإنسان، لبلورة نسق من المنتمين _ التابعين (المُريدين)، مجرّدين من إرادة السؤال ونزعة الشكّ، ومترعين بـ»الإيمان»، (الإذعان الأعمى)، بهدف إيصال المنتمي _ العضو، لمرحلة الحلول والصهر التام في العقيدة _ الايديولوجيا، وتصوير ذلك لدى العضو بأنه الارتقاء الى السمو التامّ، والصفاء النفسي، والنقاء الإيماني. وبذا، ترتفع العقيدة _ الأيديولوجيا، لمرتبة الألوهيّة، ويهبط العضو _ المنتمي لها، لما دون العبوديّة. وهنا، تبدأ أولى مراحل الغدر بالطبيعة البشريّة، النازعة للاستكشاف والتقصّي والتحرّي والاستبيان والاستقصاء والاستفسار، والانعتاق من أغلال الجهل…!. هنا، يتم اغتيال العقل، وسلب الإرادة من الإنسان، بحيث يغدو رهين المنهج الأيديولوجي _ العقيدي، وأوامره ونواهيه. ويخيّل للمنتمي، بأنّه وصل لمرحلة النورانيّة، القلبيّة، والسمو والسؤدد والكمال النفسي والعقلي، حين يذوب في الجسم الحزبي العقيدي!. ويغدو لديه التحليق في التهويمات والأفكار والطروحات والمشاريع اليوتوبيّة والطوباويّة لحزبه، على أنها يقينيّات، لا محيد عنها!.

تمارس الأيديولوجيا العقيديّة، أعتى وأقسى أشكال الإخصاء العقلي لدى المنتمين لها، عبر حملة شعواء من التجهيل والتنميط والتدجين والصهر والتذويب في بوتقة «النحن» العقيديّة/ الأيديولوجيّة. وذلك، عبر ما تطلق عليه اسم التدريب والتثقيف الأيديولوجي، في سياق عمليّة بناء الكادر الحزبي، و»تنويره»، وتنمية وتغذية وتحفيز وتثوير الانتماء الأيديولوجي التام لديه. وتمارس هذه التيّارات على المنتمين لها ما يمكن وصفه بطقس جلد الذات، عبر إجبار الفرد على الاعتراف بما قام به، وإحالة أعماله وممارساته على أنها مروق عن النهج، وخروج عن الأيديولوجيا، والسقوط في الضلال والآثام والخطايا والنكوص الحزبي، العقيدي، واعتبار ذلك، نكثاً بالعهد، وخيانة للشهداء وللجماعة/ الحزب. يتمّ ذلك، في إطار ما تسمّيه الاحزاب اليساريّة، الثوريّة، بملتقيات النقد والنقد الذاتي، فيما يشبه طقس الاعتراف الكنسي، والتطهّر الذاتي، وابداء الندم العميق، وطلب العفو والمعذرة/ المغفرة، وتجديد عهد الولاء والوفاء والطاعة المطلقة للحزب / الجماعة الايديولوجيّة!. وحين ينتهي الشخص من اعترافاته و(نقده الذاتي)، يبدأ باقي الأعضاء / المريدين، رشقه بأشنع الأوصاف والاتهامات والادانات…!، وما على العضو/ المُعترف، إلاّ قبول هذا (النقد)، حتّى لو كان ينطوي على العدوانيّة والبغض والاتهام الباطل. ذلك أنه من شيم وقيم، الكادر الحزبي _ الأيديولوجي الناضج والناجز، قبول هذا الجلد من أقرانه على أنه نقد ذاتي وممارسة ثوريّة، حزبيّة نزيهة ورصينة!. وهنا، لا تدرك التيّارات العقيديّة، أنها، وباتباع هذا المسلك التخريبي نفسيّاً وعقليّاً، تتيح الفرصة أمام نمو وانتعاش الضغائن وتفريخ الاحقاد، وتغذية الكراهية والعدوانيّة بين أعضاء الجماعة (الحزب). ذلك ان عضواً منتمياً للحزب، وحين يبيّت نيّة سيّئة لزميلٍ له، ينتظر بفارغ الصبر، ملتقيات (بلاتفورم) النقد والنقد الذاتي، كي يهاجم ويعتدي على زميله لفظاً، على أنه يمارس حق النقد الثوري، بحق زميله!، وما على الأخير، إلاّ المثول والقبول والإذعان الشكلي والرفض الضمني!.

وحين يسعى أحد المنتمين (المريدين) للشذوذ عن القاعدة بطرح أفكار مختلفة، نوعاً ما، عمّا هو متّبع في طقوس وتقاليد الجماعة الايديولوجيّة، أو الخروج من الجماعة / الحزب، يبدأ التيّار العقيدي، الأيديولوجي، بشنّ حملة تشهير وتشويه وتسفيه هذا العضو (اللامنتمي). وتكون هذه الحملة، في بدايتها، ضمن أطر وتنظيمات الحزب، لئلا يتأثّر بقيّة الكوادر/ المريدين، بأفكار هذا العضو (اللامنتمي)، فيتعكّر صفو انتمائهم الايديولوجي. وتكون الاتهامات التي تكال له في البداية، ذات وقع سياسي، كأنّ تنعته بالوصولي، الانتهازي، صاحب أفكار هدّامة…!. وما تلبث أن تتسع دائرة التشهير بالشخص المارق، لتصل إلى المجتمع وبين الناس، وتصل الاتهامات لدرجة الطعن والتخوين، تمهيداً للتصفية السياسيّة والاجتماعيّة، وربما الجسديّة، وتوريط المجتمع الموالي للحزب، العاطفي المدجّن، في هذه اللعبة القذرة!. ولا تنظر الجماعة الأيديولوجيّة/ العقيديّة الى حجم الجهود الذي بذلها هذا العضو، ولا لمدى الخدمات والمهام التي انجزها، ولا للفترة الزمنيّة التي قضّاها ضمن صفوفه…، لا يسترعيها كل هذه الأمور، ولو بمقدار وزن جناح ذبابة، إذا حاول العضو الشذوذ عن القاعدة الأيديولوجيّة الحزبيّة، وحاول طرح أفكار تنم عن وعي نقدي إزاء سلوك ومنهج الجماعة، الذي هو دستور مقدّس، حرام المساس به، فما بالكم بمحاولة التشكيك فيه!؟. وهنا أيضاً، تتبدّى ذهنيّة الغذر لدى الجماعات الأيديولوجيّة ازاء الذين قضوا في صفوفها ردحاً طويلاً من الزمن (كانوا وقتها مناضلين وثوّاراً ومقاومين!)، كإحدى الخصال والطباع المتأصّلة فيها، للمحافظة على كينونتها وبناها العقيديّة الصلبة، والنأي بها عن الخلخلة والتشويش الذي قد تحدثه بعض الأفكار أو التساؤلات المغايرة، الصادرة من عضو كان منتمياً، وصار لامنتمياَ!. والأحزاب الأيديولوجيّة، بارعة في مزاولة الغدر بجهود الذين كانوا ضمنها، وشذّوا عن مسلكها الذهني والعملياتي.

التيّارات العقيديّة، تسعى لأن يكون المنتمون لها على خلاف وخصام ضمني مع المختلف. وأن يبقى المنتمون لها ضمن دوائر تأثيرها وسيطرتها المُحكمة. ولا تسمح لهم بحريّة الحركة والاحتكاك الحرّ مع الآخر، مخافة التأثّر به. وبالتالي، تسعى هذه الاحزاب الى غرس تصوّر شيطاني عن الآخر في وعي المنتمي لها، وأنه الخصم اللدود، والعدو الأبدي للجماعة الايديولوجيّة، كفعل استباقي لأي احتكاك مستقبلي للكادر الحزبي بالآخر المختلف!. ولذا، حين يحتكّ الكادر الحزبي، المنتمي، بالآخر، ويكتشفه ويجده بالضدّ مما تمّ تصويره له من قبل جماعته الايديولوجيّة، ونتيجة الشحن والحقن والتأليب النفسي والعقلي الذي مارسته جماعته الايديولوجيّة، يظن الكادر، أن ما يراه الآن هو الوهم، وأن الآخر يستبطن العداوة، عكس من يظهر من ودّ!، وأن كلام حزبه عن هذا الشخص _ الآخر، هو الصواب والحقيقة. هنا ايضاً، يتم الغدر بالواقع والحقيقة، وتكريس الظلاميّة الروحيّة والعقليّة لدى الكادر الحزبي تجاه الآخر المختلف.

وبهذه الذهنيّة، ووفق هذا المنهج، تترحّك الجماعات الأيديولوجيّة العقيديّة، الدينيّة واليساريّة، في مسعى خلق فرد مسخ، قزم، عصابي، ومشوّه من الداخل، قادر على التشكيك في كل العالم وفي كل شيء، باستثناء عقيدته الحزبيّة!. والتشكيك بكل المحيطين به، والنظر إليهم على أنهم شواذ ومرضى نفسيون وعقليون، ومارقون وفاسدون، وأنهم خصوم وأعداء منهج وأيديولوجيّة جماعته/ حزبه، وما عليه إلاّ (هدايتهم) إلى سواء السبيل، والطريق القويم، وإلزامهم بدستوره وعقيدته، طوعاً أو كرهاً. وتسعى الجماعات العقيديّة لخلق هكذا الفرد المنتمي، وجعل المجتمع نسخاً منه!. وهنا، يمكن التكهّن بحجم المستقبل المريع ومنسوب الخراب والدمار والفظاعة الاجتماعيّة والسياسيّة والتربويّة والنفسيّة الذي سيحلّ بالأفراد والمجتمعات والأوطان، حين تستبدّ بها الجماعات العقيديّة، أيّاً كان مشربها وطبيعتها، ومهما علا مخزونها البلاغي لجهة الاسراف في مدحها لذاتها وتغنّيها بإنسانيّتها وأمميّتها وتسامحها وديموقراطيّتها، وما إلى ذلك من طيّب الكلام، ورغد الأحلام عن المستقبل الذي ستبنيه وتهديه للمجتمع والشعب والوطن!. وكلما ابتعد الفرد، أو خرج من المنظومة العقيديّة الأيديولوجيّة لهذه الجماعات، يقترب من الحريّة ويشعر بالانتعاش الذهني والروحي، والتحرر الفكري، ويدرك حجم البؤس والخراب الذي كان يعانيه، وحجم الظلم الذي كان يمارسه بحق نفسه والآخر. وسيتيقّن أن سارتر، حين قال: «الآخرون هم الجحيم»، فأنه كان في أوج تشنجه العقيدي الأيديولوجي، الماركسي _ الستاليني!. وأن صاحب «الغثيان»، حين طلّق الستالينيّة، غدا طليقاً، حرّاً، غير مؤدلج، يمتلك العالم ويمتلكه العالم.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى