بطرس الحلاقصفحات سورية

معـاذ الخطيـب، لينـكولن والمسـتنقع

 

بطرس الحلاق

أدرك معاذ الخطيب، بسبب انخراطه سابقاً في جمعيات

العمل المدني، أن الانتصار العسكري على النظام، ان

حصل، لن يكون إلا تمهيداً لمرحلة قد تكون أشد

فـتـكــاً بالوطــن.

ها هو معاذ الخطيب، في مبادرته الشجاعة، ينازل خصومه وأصدقاءه في آن. ومن غريب الصدف أن فيلم سبيلبرغ الأخير، «لينكولن»، يصف معركة مشابهة خاضها الرئيس الأميركي ضد خصومه وضد أصدقائه لتحقيق هدفين ساهما مساهمة فعالة في نهضة الولايات المتحدة: تحرير الزنوج من العبودية، وإعادة توحيد الولايات الجنوبية المنفصلة. ولم ينتصر لينكولن على خصومه إلا لأنه انتصر على أصدقائه.

أثناء مشاهدتي للفيلم، تراكبت في وعيي صورة الزعيم الأميركي وصورة رئيس الائتلاف الجديد. بينهما بعض الشبه في الطلعة، والموقف الرزين في التعامل مع الأحداث والأشخاص، والوفاء المطلق لرسالتهما وفاء يهوّن عليهما المخاطرة بمستقبلهما السياسي في سبيل مصلحة الوطن العليا. ويداهمني حلم: أن يجتمع للخطيب من الحكمة السياسية والظروف الملائمة ما يخوله أن ينتصر حيث انتصر لينكولن، ومن دون أن يدفع الثمن الذي دفعه سلفه.

الخروج من المستنقع

قد يأخذ البعض على معاذ الخطيب أن مبادرته «خفّضت سقف» الشروط الممكنة. ربما! إلا أن ذلك لا ينتقص من أهمية موقف يرمي إلى «الخروج من المستنقع». وكلمة المستنقع هنا لا تشير فقط إلى مستنقع الدم المتضخم يوماً بعد يوم، بل، أولا، إلى مستنقع قيادات سياسية دائخة في حلقة مفرغة تهوي بالوطن وبمناضليه الشرفاء إلى الهاوية. قيادات تكرر منذ البداية الخطاب نفسه (انتصار الخير الذي يمثلونه على الشر الذي يمثله الخصم) وتلتزم بالتصرف نفسه (الولوغ في العنف حتى النهاية)، لتضع البلد اليوم في حالة من توازن الرعب، يأمل كل طرف أن يحوله إلى انتصار حاسم. فمنذ البداية، عمل النظام على وأد الحراك السلمي بالعنف الأعمى، ثم تدرج شيئا فشيئا إلى خطة شاملة قائمة على القتل والاعتقالات الجماعية، وصلت به إلى دكّ المدن السورية بمعدات جيش تحول إلى ميليشيا. أنه يعرف بدون أدنى شك أنه لن يستعيد سيطرته على كامل أرض الوطن، ولكنه مستميت في الدفاع عن وجوده، وإن أدى ذلك إلى تمترسه في المنطقة الساحلية ليطيل أمد وجوده، حسب توهمه. وبدا له أن موقفه قد تعزز، بسبب عجز المعارضة على التقدم في دمشق وتخوف الغربيين من الامتداد الأصولي. فحرَن عند ثوابته البائسة. أما المعارضة، لا سيما في فصيلها المدعوم قطريا، فقد رأت في انتصاراتها الجزئية خارج المدن الكبرى برهانا على حتمية النصر مهما ارتفع الثمن. بقيت هي أيضا جامدة في الموقع الذي تبناه المجلس الوطني منذ أكثر من سنة. حرنت هي أيضا.

والواقع أن توازن الرعب هذا لا ينجم عن قوة ذاتية لكلا الطرفين، بل عن دعم خارجي: «أن القدرة على الحسم لم تعد في يد السوريين، أصبحت رهنا بالتوافق الدولي»، ذاك ما يكاد المحللون يجمعون عليه. ولا شيء يستعجل القوى الدولية على الحسم ما دام الدمار لا يمسها مباشرة (50 قتيلا أسبوعيا في العراق «الديموقراطي» الجديد لا يحرك شعرة في مفرقهم)، فلم لا تترك الوضع يختمر حتى يتعب المتحاربون أو تتوصل إلى تقاسم المصالح في ما بينها؟

مصالح المعسكرين واضحة. فإن كانت روسيا ترفض التخلي عن نظام الأسد، فليس حباً به (مصالح الدول تأنف من العواطف)، ولا رغبة في الحفاظ على موطئ قدم في «المياه الحارة» (أية حاملة طائرات تحل محل أكبر مرفأ)، ولا بسبب بضعة مليارات من الدولارات تجنيها سنويا من بيع الأسلحة. إن هاجسها الأكبر هو كسر الطوق الذي يفرضه الغرب عليها، هو في الواقع طوقان: طوق عسكري يتمثل بالدرع الصاروخية التي أقامها حلف «الناتو» على حدودها مباشرة، ثم طوق اقتصادي يتمثل في خط أنابيب نفطية وغازية قيد الإنشاء يمتد من الخليج إلى أوروبا عبر سوريا وتركيا، يُضاف إلى خطين آخرين ناجزين قادمين من آسيا الوسطى إلى أوروبا بموازاة الأراضي الروسية. بهذه الخطوط يستغني الغرب عن نفط روسيا وغازها، فيضرب اقتصادها المعتمد بنسبة حوالي 90٪ على تصدير الطاقة. في دفاعها عن النظام السوري تدافع روسيا عن قدرتها الاقتصادية وهيبتها السياسية. وانطلاقا من ذلك فإنها تتحالف مع أي نظام آخر يؤمن لها هذه المصالح.

أما المعسكر الغربي المشغول على جبهات عديدة في العالم، فإنه غير قادر على التدخل العسكري لمصلحة المعارضة، لعدم رغبته في استفزاز روسيا التي تشرف مباشرة على جهاز الدفاع الجوي للنظام، لا سيما أن أي احتكاك قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة في ظل الاحتقان الشديد القائم بينهما. اعتمد أولا في إدارة هذا الملف على «حسن تدبير» حكومة أردوغان، وكانت قد فرضت هيبتها في العالم العربي. غير أنه لم ير مانعا، بعد فشل المهمة التركية، من تسليم المبادرة لقطر فيما هو يراقبها عن كثب. وقطر تسعى إلى فرض شرعية الأسرة الحاكمة (شأنها شأن أسرة الأسد) بانخراطها في الاستراتيجية الأميركية بصيغة مختلفة عن الصيغة السعودية، عقائديا واستراتيجيا. لذا تعمل على تطبيع عملاني مع إسرائيل وعلى تحييد دور إيران دون اللجوء إلى التدخل الإسرائيلي ومن ثم الأميركي. وتوظف لهذا الغرض ثروات هائلة بها تستزلم دولاً غربية مفلسة، وبها تؤكد دورها في الجوار القريب وما يليه من خلال دعمها لـ«الإخوان المسلمين» في مصر وتونس وسوريا… بل لا تتردد في دعم قوى متطرفة كما في مالي وحتى في سوريا. وواضح أن سياسة قطر هذه بدأت تثير حفيظة جوارها الخليجي وخوف عواصم الغرب وتساؤلات في واشنطن نفسها، خاصة أن احتضانها للمجلس الوطني ممثلا وحيدا عن الشعب السوري لم يؤد إلى أية نتيجة، واضطرت لاستبداله بهيئة أخرى لم تحصد حتى الآن إلا اعترافاً شكلياً. فها المعكسر الغربي نفسه يبحث عن حل بديل.

مأزق المعارضة

أدرك معاذ الخطيب أنه سيفشل في مهمته إن هو ترك «الائتلاف» يسلك الطريق المسدود الذي انتهجه «المجلس». فالتحالف الإخواني القطري لا يؤدي إلا إلى استمرار مسلسل الرعب، وينسجم مع منطق النظام، فيما يقضي على حاضر الوطن ومستقبله.

فالخروج الفعلي من المأزق يقتضي التأثير على اللاعبين الخارجين الأساسيين، وهذا بدوره يقتضي اللجوء إلى خطة تعيد للقرار السوري دوره في المعركة. فكانت هذه المبادرة (على عواهنها) موجهة شكليا إلى النظام، وفعليا إلى القوى الخارجية. ولأن المجلس (عمليا: «الإخوان») أدرك خطورتها على هيمنته التي يستمدها من الحاضنة القطرية، عمد إلى تحجيمها. ويبدو لي أن ما شجع الخطيب على هذه المبادرة أن قطاعا كبيرا من المواطنين المؤيدين أو المتعاطفين مع الثورة أصبح في حالة يأس من وضعه المعيشي والإنساني، وبات يشكك في كفاءة المعارضة المدعومة عالميا بل في نزاهة بعض قادتها، إضافة إلى تخوفه من هيمنة «الإخوان المسلمين» عليها – تخوف لا يهدئ من حدته لا المشهد المصري منذ وصول السيد مرسي إلى الرئاسة، ولا المشهد التونسي الذي أدى إلى اغتيال المناضل شكري بلعيد. كما أن المقاومة المسلحة هي أيضا في حالة إحباط: لم يستطع العسكريون المنشقون أن يتوحدوا في مجلس عسكري حقيقي يدير معركتهم ويفرض الأمن (بسبب المرجعيات الخارجية)، ويهمش من تستَّر وراء اسمهم وتحت لوائهم من مقاومين متطرفين. أما المواطنون الآخرون الذين انتقلوا قسرا من الحراك السلمي إلى العمل العسكري، فيجدون اليوم أنفسهم في موضع حرج: لا يرضون عن إسناد قيادتهم لقوى خارجية ولا عن الفوضى وتسلل المتطرفين، ومع ذلك يأبون على أنفسهم إلا الاستمرار في المقاومة إخلاصا لمبادئهم ونصرة للوطن. إضافة إلى ذلك، أعتقد شخصيا أن الخطيب أدرك، بسبب انخراطه سابقا في جمعيات العمل المدني، أن الانتصار العسكري على النظام – إن حصل – لن يكون إلا تمهيدا لمرحلة قد تكون أشد فتكا بالوطن.

إن بقي أمل في إنقاذ الوطن قبل أن يستفحل الشر، فمعاذ الخطيب أهم أركانه. لذا يجب أن يلقى الدعم الكافي ليس فقط للصمود بل أيضا لتطوير خطته ضمن المنطق نفسه. أي عزل النظام عن حلفائه الخارجيين – ولا سيما روسيا المشغولة أولا بالدفاع عن مصالحها – لإرغامه على القبول بمرحلة انتقالية لا رجعة عنها، من جهة، وفي الوقت نفسه تحصين الجبهة الداخلية بالتحالف مع القوى المعارضة الأخرى، دون أن يثير شكوك المعسكر الغربي الخليجي. بتصرفه هذا، يبقى معاذ الخطيب مخلصا للمبادئ التي التزم بها حين تولى رئاسة «الائتلاف». ويبدو لي أنه – بحكم نزاهته – ارتعش لهول المسؤولية التي قبل القيام بها وقرر الاستمرار فيها دون أي اعتبار لمصيره الشخصي: عند الشدائد يختبر معدن الرجال (والنساء أيضا، فكلمة رجال هنا تفيد المروءة). وهنا أيضا وجه شبه بينه وبين لينكولن.

الديموقراطية سبيلا إلى النظام الديموقراطي

إن مصلحة الوطن تحتم على كل قوى المعارضة أن تعمل على بلورة وإنجاح منطق المقاومة الذي اعتمده معاذ الخطيب على المستويين الداخلي والخارجي. فعلى المستوى الأول، علينا أن نتعالى على خلافاتنا الثانوية والشخصية وأن ننبذ مبدأ الاستفراد بالرأي في سبيل تشكيل جبهة موحدة. فمن العبث أن نبني نظاما ديموقراطيا على مستوى الوطن إن لم نعتمد الديموقراطية طريقا إلى الهدف. لا إقصاء لأحد ولا هيمنة لأي كان: الأحزاب التاريخية بمن فيهم «الإخوان المسلمون» كما الهيئات الناجمة عن الحراك. من مصلحة الائتلاف وهيئات المعارضة التي خارجه (من «هيئة التنسيق» إلى «تيار بناء الدولة» إلى «المنبر» وغيرهم) أن تتوصل سريعا إلى خطة عمل لإجبار النظام على الدخول في المرحلة الانتقالية، وأن تتفق على برنامج واضح المعالم للمرحلة التي تلي، أي عملية بناء الدولة ومرافقها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ولا بد من استنتاج العبر من تجربة السنتين المنصرمتين ومن تجارب الحركات التحررية في العالم. استقواء فريق على فريق لا يؤدي إلا إلى استبدال نظام قمعي بشبيهه، ولا أدلّ على ذلك من مأزق الحكومتين المصرية والتونسية الذي تفاقم مؤخرا. وأما على المستوى الخارجي، فيجب أن نعطي الأولوية المطلقة لإرادة المواطنين، لا الاصطفاف مع محور خارجي ضد آخر. تعودنا على مدى عقود أن يستقوي طرف منا بمحور خارجي ضد الطرف الآخر، تماما كما فعل النظام المستبد حين فرض على المواطنين شرعية استمدها من الخارج. فماذا جنينا من ذلك إلا الخراب؟ مصلحة الوطن العليا تنبثق من إرادة المواطنين وتعتمد على قواهم الذاتية مجتمعة. كما آن الأوان لننبذ منطق النخبة المستنيرة (أيا كان مصدر نورها) والطليعة الثورية وسلطة الفرد الملهم، لنتبنى منطق التوافق الديموقراطي: فالطريق إلى الديموقراطية هو النهج الديموقراطي. وبعد ذلك، نجمع من حولنا حلفاء يقبلون بمشروعنا الوطني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى