صفحات المستقبل

مع أو ضد المواطنة الديمقراطية

 


ياسين السويحة

لا مكان للهويّات الفرعية التجزيئية في الهويّة الوطنية السورية الجامعة, فلا يوجد مسيحي سوري أو مسلم سوري أو سنّي سوري أو علوي سوري أو كردي سوري.. الخ. بل يوجد مواطن سوري يتساوى مع أي مواطن سوري آخر في الحقوق و الواجبات و الحرّيات و الفرص دون أي تمييز عرقي أو ديني أو جنسي. هذا ﻻ يعني أنه ﻻ يحق للمرء أن يمارس حقّه في اﻻنتماء الديني أو الثقافي بحرّية, القصد هو أن هذا اﻻنتماء الديني أو الثقافي من عدمه ﻻ يجب أن يمتلك أي أثر, إيجابي أو سلبي, من قبل المواطن أو من قبل المجتمع أو من قبل الدولة, على العلاقة بين المواطن و الوطن.

و لأن الهوية الوطنية السورية تتناقض مع أي تسييس للهويات و اﻻنتماءات الفرعية الناتجة عن انتماءات و عصبيات ما قبل (و ما دون) الدولة الحديثة من عشائرية و طائفية فإن تجزئة حقوق و حرّيات المواطنين السوريين إلى مطالب فئوية تخص هذه اﻻنتماءات و تتصرّف بها زعامات غير مدنية بتاتاً (رجال دين, وجاهات عشائرية أو قبلية.. الخ) يتناقض تماماً مع الهوية الوطنية المدنية. فالحقوق و الحريات العامة ﻻ يمكن أن تُترك لكي تتمزّق إلى “مطالب” مجموعة دينية يحملها رجل دين باسمها, أو “احتياجات” عشائرية يوصلها شيخ العشيرة أو القبيلة, أو حتى “طلبات” مناطقية يتحدّث عنها “وجهاء” هم بالنهاية تعبير عن تنظيم غير مدني و غير ديمقراطي للمجتمع, و هذه حالة غير صحّية تؤدي, عدا عن تقطّع الحالة الوطنية الموحّدة للمجتمع, إلى ظهور “زعامات” أو مناصب فعلية يشغلها رجل الدين الذي تُسمع مطالب مجموعته الدينية أو شيخ العشيرة الذي يقدر على إيصال مطالب عشيرته.. هكذا تنشأ الطائفية و العشائرية و هكذا تترسّخ.

ﻻ نريد عشائرية و ﻻ طائفية بل نريد شعباً واحداً موحداً في وطن واحد و متماسك.. و ﻻ طريق إليه إﻻ بالمواطنة الديمقراطية.

تضمن المواطنة الديمقراطية حقوق و حريات المواطنين بمختلف طوائفهم و أعراقهم و ترسّخ مساواتهم أمام القانون المدني و تُمأسس أصول ممارستهم لحقّهم في المشاركة في القرار و السيادة. المواطنة تؤسس لمواطن فرد هو الوحدة الأساسية في بناء الوطن, دون أن يحتاج, في سياق ممارسته لحقوقه و حرياته, لأي مجموعة ثانوية ينضم إليها أو يحتمي فيها, مواطن له حقوق و حريات ينالها و يديرها بعلاقة مباشرة مع دولة المؤسسات و القانون و التمثيل الشعبي البرلماني.

من الواجب أن نضع المواطنة كعنوان عريض و وحيد لمطالب الشعب السوري المشروعة في هذه الفترة (العصيبة و الصعبة و المؤلمة, بدون شك.. لكنها أيضاً فرصة تاريخية و منعطف هام جداً) فهي العقد الضامن لتحقيق كل حقوق و حريات المواطنين بالشكل الأمثل, و لن تقوم للمواطنة قائمة بـ “وساطات” الشخصيات القائمة على منطق ما قبل (ومادون) الدولة الحديثة, فلهؤﻻء منطق (أو مصالح) تتناقض تماماً مع فكرة المواطنة و المساواة.

إن التعبير الصحيح عن مطالب و تطلّعات الشعوب يجب أن يتم عن طريق الأحزاب و الجمعيات السياسية ذات الطابع الوطني المدني, و التي توجّه خطابها إلى جميع المواطنين و تضع برنامجها السياسي تحت تصرّف استحسانهم أو رفضهم, و يكون اقتناع المواطن بهذا البرنامج أو ذاك (من حيث توافقه مع مصالحه و شؤونه الحياتية و منطلقاته الفكرية و الثقافية) هو الفيصل في تقرير منح صوته من عدمه, دون أي اعتبارات انتمائية أخرى (طائفية- عشائرية) تؤدي إلى كانتونات سياسية بدل أن تكون أحزاباً مدنية عابرة لكل الهويات الجزئية و مغطّية لكل الطيف تحت سقف الوطنية الديمقراطية.

علينا, نحن المؤمنون بالمواطنة الديمقراطية كسبيل لبناء و تدعيم و حماية الوحدة الوطنية, أن ننادي و نطالب بحوار وطني على أسس مدنية و وطنية شاملة بعيداً عن التجزئة على أسس دينية أو مناطقية أو عشائرية-قبلية. و إقامة هذا الحوار الوطني, و إن احتاج لجهد الجميع, فهو يحتاج بشكل أساسي إلى نيّة و جهد السلطة و تحركاتها, فالسلطة هي التي تمتلك الآليات والمقدرة الكافية لتوفير أسس الحوار (وقف التعامل العنيف مع المتظاهرين السلميين, إطلاق سراح المعتقلين و طي ملف اﻻعتقال السياسي, التحقيق الجدي و المحاسبة الشديدة لكل من أراق قطرة دم واحدة, وقف حملات التخوين و التحريض في الإعلام, رفع حالة الطوارئ, إطلاق الحريات الإعلامية و دعم حرية التعبير و الدعوة إلى المشاركة الفكرية و الثقافية لجميع أبناء الوطن) و ليس القول بأن توفير أسس الحوار هو مسؤوليتها تجنياً عليها كما يقول البعض, بل العكس تماماً! السلطة هي صاحبة المكان و الصلاحيات و القدرات و هي المخوّلة و القادرة الوحيدة على بناء هذا الحوار. ﻻ نستطيع الحديث عن “طرفين” متساويين كما يفعل البعض هرباً من أن يُصنّف مع هذا و مع ذاك, فالمساواة بين طرفين غير متكافئين لا يمكن أن يُسمّى حياداً (و الحياد هو رابع الغول و العنقاء و الخل الوفي).

إن هذا الحوار (و أقصد الحوار الوطني المبني على الأسس المذكورة سابقاً) هو السبيل, إن توفرت النيّة الصادقة, للحديث بعمق حول الوضع الحالي و كيفية النهوض منه بشكل أقوى و أكثر حمية للوطن, و أكثر عدالة و حرية للمواطنين كافةً. لم يعد الأمر مجرد حديث عن الثنائية القطبية السطحية و اﻻختصارية حول موالاة- معارضة, فهذا حديث ﻻ يغني و ﻻ يسمن من جوع, بل أن المواقف هي مع أو ضد القمع و العنف, مع أو ضد حرية الرأي و التعبير, مع أو ضد التمثيل السياسي الحر و الواسع الطيف, مع أو ضد الشفافية و حرية و استقلالية الإعلام, مع أو ضد المساواة و العدالة اﻻجتماعية.. باختصار: مع أو ضد المواطنة الديمقراطية.

 

http://www.syriangavroche.com/

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى