صفحات الثقافة

مع التغيير في الأردن، ضده في سورية!

 


أمجد ناصر

لم يتخلَّف معظم المثقفين الأردنيين عن اللحاق بركب المنادين بالإصلاح في الأردن، بل نادوا بما هو أكثر من مجرد إصلاح عادي: بملكية دستورية على الطراز البريطاني. لكنَّ الغريب أنَّ قسماً من هؤلاء الذين رأوا في ثورتي تونس ومصر طلائع ربيع عربي لن يعتم أن يعمَّ أرضنا البور وينهي استثناءنا المخجل من الحرية وقف صامتاً أمام الدبَّابات وهي تطوّق المدن السورية وأمام صور ‘الشبّيحة’ وهم يبطحون الرجال على الأرض ويدوسونهم بالأحذية.

أمام ‘مآثر’ النظام السوري، متعاقبة الهول والفصول، التي لم نر مثيلاً لها في تونس ولا في مصر واليمن والبحرين (ولا حتى في بداية الانتفاضة الليبية)، صمت بعض المثقفين والسياسيين الأردنيين، ومن نطق منهم نطق كُفراً.

ليس في الأردن الانقسام الطائفي والسياسي الذي يعيشه لبنان. هذا معروف بطبيعة الحال. ولا نفوذ للنظام السوري في المعادلة الأردنية كما هو الحال هناك. لا وجود لـ 8 آذار ولا لـ 14 آذار. لذلك لم نر نظائر للوجوه اللبنانية التي تطلُّ من التلفزة السورية وبعض الفضائيات اللبنانية لتغطي دم السوريين المباح بالحجج المتهالكة عن ‘الممانعة’ و’المقاومة’. لحسن الحظ لم ير الأردنيون شبيهاً لتلك الوجوه الوقحة التي تعتقد أنها تُحسن للنظام السوري عندما تتبنى روايته المزيّفة عن ‘مؤامرة’ تستهدف البلاد، وتبرر إمعانه، الطائش، في الحل الأمني بدل أن تدفعه إلى أن يرعوي عن بطشه ويلتمس طريقة أخرى للحوار مع شعبه غير الدبابة و’الشبّيحة’.

لم تطلع وجوه أردنية كهذه ولكننا رأينا آثار خرافة ‘المقاومة’ و’الممانعة’ في خطاب بعض المثقفين والسياسيين الأردنيين.. أو في صمتهم. رأينا تقاعساً غير مفهوم من قبل قوى المعارضة الأردنية في الوقوف الى جانب الشعب السوري الشقيق (فعلاً) الذي يجري التنكيل الجماعي به جهاراً نهاراً. الجرائم المتنقلة في طول سورية وعرضها تستأهل، أقلّه، وقفة احتجاجية أمام السفارة السورية التي دعت رهطاً من المثقفين والمعارضين السياسيين الأردنيين إلى وليمة على شرف المذبحة. ولكنَّ هؤلاء لم يتنادوا إلى وقف ما يجري إحساناً فعلياً للنظام الذي يذودون عنه بتناقلٍ ببغائيٍّ لرواية ‘المؤامرة’ وخرافة ‘المقاومة’. ولم يقف بضعة منهم أمام سفارة بهجت سليمان مؤهِّل الرئيس السوري بشار الأسد وريث جمهورية الخوف. من فعل، ويفعل ذلك، كلَّ جمعة، تقريباً، هم أفراد من الجالية السورية المقيمة في الأردن.

‘ ‘ ‘

قرأت تصريحات لساسةٍ ومحترفي جملةٍ قوميةٍ مهترئة في الأردن يتحدَّثون عن المؤامرة المدبَّرة في أقبية مخابرات الغرب لسورية ‘المقاومة’ ولم أتوقف عندها كثيراً فهي من هذه العيّنة التي أسوق لكم، بالحرف، بعض فلتاتها العبقرية: ‘أهداف المجموعات الارهابية التي استهدفت سورية وأمنها واستقرارها تنفيذاً لمخططات أمريكية صهيونية وفئات حاقدة ضالة ارتبطت، أو تقاطعت، مع هذه المخططات انكشفت بعد أن رفعت من وتيرة عدوانها على الشعب والمؤسسات الخاصة والعامة وعلى قوى الأمن وكلما تحقق المزيد من الاصلاحات’، ‘لسورية دور ضد المشروع الامريكي الصهيوني، وجزء كبير مما يجري هناك له علاقة بأجندات خارجية، ومحاولة لإضعاف النظام السوري وإخراجه من دوره السياسي’، ‘هناك قوى عظمى، إضافة إلى أدوات عربية، تشترك في التآمر على سورية’، ‘ نحن لا ننكر على الشعب السوري حقوقه الديمقراطية، ولكن ما يجري على أرض الواقع هو ما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كوندوليزا رايس، عن الفوضى الخلاقة’.

هذه عيِّنة عشوائية من تصريحات صحافية لبعض المشتغلين في ‘السياسة’ لم أعرها انتباهاً لانعدام وزن مطلقيها في الحياة العامة الأردنية لكنَّ ما أدهشني، بل أذهلني، هو القول المنسوب إلى رئيس ‘رابطة الكتَّاب الأردنيين’ القاص المميز والمناضل التاريخي سعود قبيلات. ولكن قبل ذلك سأقتبس مقدمة تحقيق سامح خالد لصحيفة ‘الدستور’ الأردنية بخصوص ما يجري في سورية لكونه يعكس جواً يبدو أنه عام في صفوف المشتغلين في الحقل الثقافي في الأردن وها هي المقدمة تقول: ‘كشفت الاحتجاجات التي اندلعت في سورية، قبل شهرين، مطالبةً بالحرية والديمقراطية، عن بعض الازدواجية لدى الكثير من المثقفين الأردنيين في تعاطيهم مع الثورات العربية وموقفهم منها، واتهم، الكثير منهم، بالانتقائية، وذلك بدعم ثورات: تونس ومصر وليبيا، وإصدار البيانات المساندة لشعوب تلك الدول، بينما يختلف خطابهم حيال الثورة السورية، حيث يتراوح بين صمت مطبق أو مقالات وتصريحات فيها تبرير لما يجري تحت عناوين ‘المؤامرة الأجنبية’ و’النيل من صمود الموقف السوري في الصراع العربي- الصهيوني’، وغيرها من الشعارات والعناوين التي لا يمكن أن تمنح الشرعية لسياسة القمع وتكميم الأفواه أو تبرر اعتقال العشرات من المثقفين السوريين’.

ومن بين الذين تحدث اليهم هذا التحقيق رئيس ‘رابطة الكتَّاب الأردنيين’، الهيئة الشعبية الأوسع للعمل الثقافي في الأردن، الذي نشط، كاتباً ورئيساً للرابطة، في دعم الثورتين التونسية والمصرية، فضلاً عن مشاركته الشجاعة في تظاهرات الاصلاح الأردنية ومن بينها اعتصام ‘دوّار الداخلية’ الذي فضَّته السلطات الأمنية الأردنية، وبلطجيتها، بالعنف.

يبدي قبيلات رأياً هو من أغرب ما سمعت، إذ يبرر امتناع ‘رابطة الكتاب الأردنيين’ عن اصدار بيان يشجب فيه حمام الدم في سورية بالقول ‘هل أصدر المثقفون السوريون أي بيان تضامني مع زملائهم الأردنيين بعد أحداث دوَّار الداخلية’؟! ثم يلاحظ، على ما يبدو، غرابة كلامه فيستدرك قائلاً إنه ضد القمع والبطش، ومع الحرية في أي مكان، لكنه يرى أن لكل بلد ظروفه، ولكل ثورة معطياتها، ووفق ذلك تتخذ الرابطة موقفها!

في ثورتي تونس ومصر تنشط الرابطة وينشط رئيسها باعتبارهما فاعلين في الحياة العامة، باعتبار الثقافة والمثقفين في ميدان التغيير لا في مكان آخر، ولكن عندما يتعلق الأمر بسورية تبدو الرابطة كهيئة سياسية سيادية تعمل بمبدأ التعامل بالمثل!

ينسى الكاتب والمناضل والصديق، الذي أمضى زهرة عمره في سجون النظام الأردني، أنَّه رئيس لهيئة ثقافية شعبية، ثم ينسى أنَّ الحرية لا تتجزأ ولا تكال بمكيالين، ثم ينسى أنه وهيئته منتخبان ديمقرطياً ليمثلا جمهرة الكتاب الأردنيين، وأخيراً ينسى أن ما حدث في ‘دوَّار الداخلية’، رغم عنفه وبشاعته، لا يقارن البتة بما يجري في سورية. العنف هو العنف ولكنَّ عنف ‘دوَّار الداخلية’ لم يوقع ألف قتيل في صفوف المنتفضين، لم يجرح آلاف المواطنين، لم يزجَّ في السجون بعشرات آلاف المعتقلين، لم يشرد آلاف المواطنين عبر الحدود.

أرغب في أن يكون موقفي واضحاً لا لبس فيه. إنني أحمّل السلطات السياسية والأمنية في الأردن مسؤولية كل قمع جرى وسيجري للمتظاهرين الأردنيين، كلَّ إعاقة لطموح الأردنيين في حياة حرة كريمة، كلَّ محاولة لقطع مجرى الاستحقاق التاريخي الذي أزف، ولا يمكن ارجاؤه، في التغيير العميق. وأشجب، بأعلى صوت، ما جرى لمسيرة العودة من عنف حيال المتظاهرين حماية للعدو الرابض على الطرف الآخر من نهر الأردن. ليكن هذا واضحاً رغم أني لم أتلكأ في ايضاحه من قبل. ولكن ما يحصل في سورية تجاوز حدود الفهم والتفهم مهما قيل في نظام الأسد من اماديح الممانعة والمقاومة. ما يجري في سورية مقاومة بالمدفع والدبابة لحق السوريين، القديم جداً، في التحرّر من نظام أعاق خيالهم وكبت أنفاسهم وتصرَّف بهم، وببلادهم، تصرَّف الأغاوات والباشاوات. سورية ليست عزبة والسوريون ليسوا ‘مرابعين’ عند أحد. وقد آن الأوان ليفهم النظام أن العنف المجلجل الذي نفعه في ثمانينات القرن الماضي لن ينفعه اليوم، وأن مواطنيه الذين خرجوا أمام زخات الرصاص لن يعودوا الى ‘بيت الطاعة’. هؤلاء أحرار. طلاب حرية، وقد قالوها من أول يوم: ‘الشعب السوري ما بينذل’.

وسواء وقفت ‘رابطة الكتاب الأردنيين’ معهم أم لم تقف (الأفضل أن تفعل) فهم سائرون في انتفاضتهم حتى ترفرف راية الحرية خفَّاقة في سماء سورية.

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى