مراجعات كتب

مع كرين برنتن وحنه أرندت:”تشريح الثورات” و”في الثورة”/ ماجد كيالي

 

 

في مادة سابقة، عرضت بعض الأفكار التي ضمنها أريك هوبزباوم في كتابه القيّم: “عصر الثورات”، وهذه مادة ثانية أعرض فيها لبعض الأفكار التي قدمها كل من كرين برنتن، في كتابه: “تشريح الثورات“، وحنه ارندت، في كتابها: “في الثورة“، بالنظر لأهمية هذه الكتب لمتابعي أو دارسي أو ناقدي الثورات، وضمنها ثورات الربيع العربي.

وتتأتّى أهمية التركيز على الأفكار المتضمنة في هذه الكتب من واقع ثورات “الربيع العربي”، التي بدت عفوية، وتفتقر إلى النظرية، وأيضًا من المآلات الكارثية التي وصلت إليها في أغلب الأحوال، مع التأكيد هنا أن التنظير للثورات تم بناء على التجربة التاريخية، أو في ضوء الممارسة الثورية، وليس قبلها، وأن الثورات المعروفة، وضمنها الفرنسية (1789) لم تنته بالنصر، ولكنها فتحت الطريق نحو إنهاء الحكم المطلق، وتطوير النظم السياسية وحقوق المواطنة، وأنها أنجزت ما عليها بعد قرن. ومعلوم أن هذا حصل بطريقة أخرى مع الثورة الروسية التي فشلت في 1905 ثم أنجزت التغيير السياسي بإسقاط القيصرية، والتحول نحو حكم الحزب الواحد (الشيوعي)، في 1917، من دون أن تفي باستحقاقات ما طرحته بشأن التطوير الاقتصادي وتحقيق الاشتراكية، ورفاهية الشعب، إذ آلت إلى نظام استبدادي وتراجع اقتصادي وتحكم الدولة بالاقتصاد والموارد، ثم إلى انهيار النظام القائم (الاتحاد السوفييتي) في مطلع تسعينيات القرن العشرين.

وتعني إعادة مطالعة هذه الكتب، في هذه الظروف، عدة مسائل: الأولى، أن هذا التراث النظري يمكن، أو يفترض، أن تستفيد منه التجارب المماثلة، وضمنها النخب المهتمة أو الدارسة لثورات “الربيع العربي”. والثانية، أن الثورات بحاجة للنقد، والترشيد، بل إنها تتطلب ذلك بالضرورة، كونها حالة نقدية في ذاتها للواقع السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي. والثالثة، أن لا شيء يقينيًا في الثورات، فهذه يمكن أن تنجح أو أن تفشل، كما يمكن أن تحقق بعض أهدافها أو يمكن أن تنحرف، لكنها في كل الأحوال تكون فتحت الطريق، لاحقًا أمام العملية التاريخية، بإزالتها الاستعصاء الذي تشكله بعض الأنظمة؛ على ما ذكرنا سابقًا.

“تشريح الثورات”: الأيديولوجيا تقوم مقام الدين

في كتابه المتميّز “تشريح الثورات”، الذي ألفه في 1938 (أصدرته دار الفارابي في بيروت، 2009، في 383 ص)، والذي أّرّخ فيه للثورات الأربع: الإنكليزية والأميركية والفرنسية والروسية، ودرسها بطريقة نقدية، يتقدم كرين برينتن (الأكاديمي والمؤرخ الأميركي) بأفكار غاية في الأهمية. في الفكرة الأولى، ومفادها أن الطبقة الوسطى هي القوة الدافعة وراء هذه الثورات، ما يتناقض مع القول إن الطبقات الكادحة هي التي تحتل هذه المكانة. وعنده فحتى في الثورة الروسية الشيوعية، التي رفعت شعار: “دكتاتورية البروليتاريا”، كانت الطبقة المتوسطة وراء كل ما جرى، بدليل قيادة شخصيات مثل لينين وتروتسكي وبوخارين وستالين وزينوفييف لها… الخ، وأن البرجوازية المتضررة هي التي تدير الثورات في المحصلة (ص66) وأن من يرث الثورات هم من أمثال كرومويل ونابليون وستالين (ص161)؛ ويبدو أن ذلك حصل معنا في عديد من ثورات الربيع العربي، أيضًا، على نحو ما شاهدنا في مصر وتونس وليبيا مثلا. طبعا هذا لا يقلل من دور الطبقات الكادحة (العمال والفلاحين) التي تلعب دور الذراع الضاربة لأية ثورة، لكن برينتن يرفض اعتبار أن السخط الاقتصادي هو العامل الأساس المحرك للثورات، ما يحيلنا إلى النقاش الدائر عندنا بشأن دوافع الثورات، أهي سياسية أم اقتصادية؟، ما يعزز الاتجاه الذي يعتقد أن المحرك الأساس للثورة في بلادنا هو سياسي، يتعلق بالطلب على الحرية والمواطنة والديمقراطية والخلاص من الاستبداد، من دون التقليل من الدافع المتعلق بالعدالة الاجتماعية.

الفكرة الثانية المهمة التي يلفت الكاتب الانتباه إليها، تفيد بأن الثورات تبدأ معتدلة ثم تتطرف، ثم تعود الأمور لعاديتها مع تغييرات تدريجية، ما يفيد بتفنيد فكرة الثورة/ الانقلاب. هكذا فإن الثورات قد تحدث انقلابا ثوريا في النظم السياسية فقط، لكن التغييرات في الأفكار والثقافات والعلوم والاقتصاد والمجتمع تحدث بطريقة تدريجية وسلمية؛ وربما أن هذا ما يحصل عندنا.

الفكرة المهمة الثالثة التي يطرحها برينتن تتعلق بدور الأيديولوجيا، التي رأى، وبشكل مبكر، أنها تقوم مقام الدين في بعض الأحوال عند المؤمنين بها، وهذا ما يؤكد فكرة وجود “أديان” أرضية أو أيديولوجية، على نحو ما نشهد في التيارات الأيديولوجية السائدة في العالم العربي والتي تقوم على مفاهيم ثابتة ومطلقة ولا تقبل الاخر، محولة معتنقيها إلى جماعات أو طوائف أيديولوجية أو هوياتية. ويشرح ذلك بقوله: “يرى الماركسي بخاصة أن القول بوجود جوانب تشبه سلوك الخاضعين للتأثير المعترف به للدين يثير سخطه كثيرًا… والواقع استنادا الى التجارب السابقة يبدو أنه يمكن إرغام الكثير من الناس على أداء أعمال معينة من النوع الذي يريد الشيوعيون تنفيذه فقط تحت تأثير ما نسميه الدين، أي نمط من المشاعر المتشابهة تقريبًا والقوية حتمًا، الطموحات الأخلاقية، العقائد الكونية، والممارسات المتمسكة بالشعائر على نحو مغالى فيه. لقد حققت الماركسية بوصفها عقيدة القدر الكثير، أما الماركسية بوصفها “نظرية علمية” فلم تذهب أبعد من كتاب “رأس المال” والمجلات العلمية” (ص 238). وبالأخير يرى برنتن أنه لا توجد ثورات نمطية (ص 38)، أي أن كل ثورة هي نسيج وحدها وظرفها والمعطيات المحيطة بها، وأن فشل استخدام القوة ضد الثورات هو سبب نجاحها (ص 125).

“في الثورة”: الحرية والدستور

أما في ما يخص حنه أرندت، الفيلسوفة الألمانية الشهيرة، والناقدة للماركسية اللينينية، وللعنف، فهي في كتابها: “في الثورة” (المنظمة العربية للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربية، 2014، 447 ص)، تجادل بشكل رئيسي في فكرة أن الحرية هي الهدف الأساس للثورة، وليس أي هدف آخر، وليس حتى التحرر من الفقر، وهو ما يتقاطع، أيضًا، مع فكرة برنتن، ومع اعتبار أن المحرك الأساس للثورات هو التغيير السياسي أو الحرية. وعن ذلك تقول أرندت: “ما من شيء عفا عليه الزمن أكثر من محاولة تحرير البشرية من الفقر بوسيلة سياسية، فهذا أكثر عبثًا وأكثر خطرًا” (ص157). ولعل هذا ما يمكن استنتاجه من فشل التجربة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي، وهو ما بكرت الكاتبة في قراءته. فوق ذلك فإن ارندت ميزت بين التحرر والحرية، و”أن الشيء الحديث والمميّز والجديد في الثورتين الأميركية والفرنسية هو “ظهور الحرية”، ولا يمكن التفكير في أي ثورة من دون الانطلاق من هذا التزامن بين بدء تجربة جديدة وبين الحرية”، فـ”التحرر قد يكون هو شرط الحرية ولكنه لا يقود إليها آليًا، وإن فكرة الحرية التي ينطوي عليها التحرر لا يمكن أن تكون إلا سلبية، لذا فحتى النية بالتحرر لا تتشابه مع الرغبة في الحرية” (ص 39).

الفكرة المركزية الأخرى التي تحدثت عنها أرندت هي رفض اعتبار العنف قرينا للضرورة، أي بدعوى التقدم، أو العدالة، بل إنها رأت أن “الحرية كانت أفضل صونًا في أقطار لم تنشب فيها ثورة قط، مهما تكن ظروف السلطات الحاكمة فيها مثيرة للاستهجان، وأن هناك من الحريات المدنية حتى في الأقطار التي هزمت فيها الثورة أكثر مما هو موجود في أقطار أصابت فيها الثورات نجاحًا” (ص 159).

أيضًا، احتلت فكرة الدستور مكانة مركزية في فكر المؤلفة عن الثورات، وهذا ما جعلها تنحاز إلى الثورة الأميركية التي نجحت بربط الحرية بالدستور، رغم اعترافها بأن الثورة الفرنسية، التي فشلت بسبب العنف، والتركيز على البعد الاجتماعي، هي التي نشرت إشعاعها في العالم وأعطت العالم مفهوم الثورة، مع تأكيدها أن الثورة الأميركية هي التي نجحت وقدمت للعالم النموذج السياسي، بإيلائها الأولوية للدستور، وحقوق المواطنين، والديمقراطية (ص 76) وعندها فإن “الحقيقة المحزنة.. هي أن الثورة الفرنسية التي انتهت بكارثة صنعت تاريخًا عالميًا، في حين أن الثورة الأميركية (1776) التي كانت مظفرة في نجاحها قد ظلت حدثا لا تتجاوز أهميته المحلية إلا قليلًا” (ص 159) وفي ذلك فإن أرندت تعتبر الثورة حدثا مؤسسًا، أي يصنع شيئا جديدًا، أو رواية جديدة، في تاريخ المجتمعات، وفي ذلك تقول: “تأسيس الحرية يشبه تأسيس الدساتير، غير أن الأولى تحتاج إلى روح ثورية، بينما يحتاج الثاني إلى كيان سياسي يمتلك مشروعية التأسيس” (ص 204). وتتابع “إذا كانت الدساتير هي المحصلة النهائية للثورات، فإن الهدف النهائي التأسيسي للثورة هو الحرية، وكلاهما: الدستور والحرية، لا يمكن بلوغهما إلا من خلال كيان سياسي جديد، يعلن بداية فعل تأسيس يكون الأساس الأول والأخير لصناعة الدستور وتكوين الحرية: إنه فعل الثورة” (ص 228).

من المهم جدًا إعادة قراءة هذه الكتب التي أرّخت للثورات في العصر الحديث، وقراءتها بعقلية نقدية، من أجل دراسة أفضل، واستنتاجات أعمق، للتعقيدات الكامنة في ثورات الربيع العربي، مع تحولاتها ومآلاتها المختلفة.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى