صفحات سوريةميشيل كيلو

مـشـــاهــدات تــركــيـــة

 

ميشيل كيلو

قيّض لي أن أزور تركيـا لأول مرة مـنذ غـادرت سوريـا، قبل نيف وعام. وكنت قد أحجمت مرات عديدة عن تلبية دعوات متكررة لزيارة الدولة الشقيقة، لاعتقادي أن دورها السياسي لم يكن في مستوى التحدي الضاري الذي يعصف بوجود الشعب السوري، وأنها لم تبحث بالقدر الكافي عن مصالحه بل فتشت عن مصالحها، ولعبت دوراً غير حميد في إحداث تبدل طاول موازين القوى الخاصة بالثورة السورية، عندما عملت على حقن أطراف إسلامية معينة من خارج بلادنا إلى داخلها، بعد ان نظمت لها مؤتمرات ولقاءات، وأغرت قطاعاً لا يستهان به من المنتمين إلى تيارات سياسية وأيديولوجية بالعمل معها، بحجة بناء نظام بديل للأسد ونظامه.

ومع أنني لم أغيّر رأيي في هذه المسألة السياسية المهمة، فإنني اكتشفت في تركيا أمرين كنت على خطأ فيهما، هما:

– الدور الذي يلعبه الاكراد في حياة تركيا العامة، وفي جميع مواقعها المهمة، فأنت أينما ذهبت تجد كرداً في مراكز المسؤولية، وهم يتحدثون بلغتهم ويتعاملون بروح رجال وخدم الدولة مع مواطنيهم. كما أنك تسمع اللغة الكردية في كل مكان وموقع، وتستمع إلى أغاني وموسيقى الكرد من جميع الإذاعات، وترى مقدمي البرامج الكردية في التلفاز، بل إنني اعتقد أن مدينة عامرة كأورفا بمئات آلافها الثمانية لا تتحدث غير الكردية أولاً والعربية ثانياً، بينما بالكاد يسمع المرء من يتحدث اللغة التركية في شوارع المدينة وحوانيتها. وحتى في المطار، لا حديث تقريباً بغير اللغة الكرمنجية، وهي لهجة من اللهجات الكردية، التي يستخدمها كل من يعمل في المطار على وجه التقريب. أذكر اننا دخلنا إلى مكتب رئيس بلدية رأس العين التركية، فإذا بالرجل الودود والمضياف يتحدث الكردية، وبزميل كردي في وفدنا يتحدث إليه وكأنه يعرفه منذ زمن طويل. سألناه عن هوية الرجل، فقال إنه من حزب قريب من حزب عبد الله اوجلان، الذي يقاتل انقرة بالسلاح منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي. حين استغربنا الأمر، قال الزميل: هذا رجل منتخَب من الشعب، والبلد ديموقراطي ويقبل المختلف. باختصار: يبدو أن عملية اندماج الكرد في الدولة، وعملية المشاركة الكردية في إدارة الدولة قد تقدمتا إلى الدرجة التي جعلت نصيراً سابقاً لحزب اوجلان أخبرني – والعهدة ليست على الراوي – أن الكرد لم يعودوا يؤيدون مطالب التيار الانفصالي في الحزب وكفاحه المسلح، وأن اندماجهم في وطنهم يمكنهم من وضع أيديهم على مفاصل الحياة العامة أكثر من انفكاكهم عنها، وأن الديموقراطية طبّعت خلال سنوات قليلة علاقة الكرد بالدولة ووسعت مكانهم فيها وزودتهم بالوسائل اللازمة للمشاركة في تحديد هويتها وإدارة عملها، وأن هذه العملية الطبيعية تلطف من حدة نزاعهم القومي مع الترك، خاصة وانها تضع أجزاء مهمة من مصير هؤلاء في أيديهم، التي تزداد خبرة ومعرفة وتوسع دورهم في حياة وطنهم ومواطنيهم. هل تصلح هذه الطريق التركية للانتهاج في البلدان الأخرى التي يوجد فيها كرد؟ هذه مسألة لا بد أن تدرس بعناية، وأن يفكر فيها بعمق وتأنٍ، مع ملاحظة أن الأسلوب التركي يعتمد التفاعل لا الاحتواء، الاندماج في الدولة مع الحفاظ على هوية الكرد الاجتماعية والثقافية وتعزيزها، وليس الاندماج في هوية أخرى كما كانت تريد سياسات تركيا السابق، توظيف الهوية القومية لمصلحة الدولة القائمة وإدخالها فيها بدل فصلها عنها، وأخيراً توسيع مجال التنمية الذاتية في حاضنة النمو العام للدولة والمجتمع وبالتجانس معه عوض التضييق عليها وعزلها وتقليص مجال انتشارها.

– تقدّم تركيا للسوريين تسهيلات جدية بكل المعايير وفي سائر المجالات، حتى أنها سمحت للمواطنين السوريين المقيمين فيها، وما أكثرهم، بالعمل، شأنهم في ذلك شأن المواطنين الأتراك، بينما تمنع معظم الدول العربية الشقيقة دخولهم إلى أراضيها، او تجعله ضرباً من الاستحالة، كما تمنع أي نشاط قد يقومون به لمصلحة شعبهم، في حين تفتح تركيا حدودها أمامهم بلا قيود. ولعلني سأتذكر دوماً أن منحي تأشيرة دخول في مطار اسطنبول لم يتطلب غير نظرة سريعـة ألـقاها رجل الشرطة على جواز سفري السوري، بينما كان يدقق في جوازات الآخرين ويطرح أسئلة على بعضهم. إلى هذا، تفتح مشافي تركيا أبوابها أمام جرحى السوريين ومرضاهم، وتفتح مدن تركيا وقراها بيوتها أمام طالبي السكن فيها، وليس هناك من حاجـب أو بواب يحول دون وصول أي سوري إلى أي موظف إداري تركي، منتخَباً كان أم غير منتخَب، وقد استقبل رئيس بلدية رأس العين التركية وفدنا في مكتـبه وأكرم وفادتنا، رغم أنه كان على موعد مع اجتماع حزبي، ورغم أن زيارتنا إلى رأس العين السورية تعـثرت ولم تتم في يومها الأول. هذا الكردي المضـياف والودود، كسائر بني قومه الذين التقيناهم هناك، لم يـترك مسؤولاً في الدولة التركية إلا وحاول الاتصال به ليمكننا من عبور الحدود المغلقة، ولم يأبه لما يمكن أن يترتب على تصرفه حيالنا من ردود أفعال رسمية، لأنه بكل بساطة مسؤول منتخَب، ولا مرجعية له غير الشعب، كما قال لنا.

عندما سمعت تصريح الوزير احمد داوود اوغلو حول إنفاق تركيا نصف مليار دولار على اللاجئين السوريين، ظننت أن في الأمر مبالغة. بعد أن رأيت الأمور على ارض الواقع، صدقت الوزير وعلمت أن حديثه عن السوريين كأشقاء ليس لغواً ديبلوماسياً فارغاً، او مبالغاً فيه.

رغم تحفظاتي على السياسة التركية، لا بد أن أقول: شكراً أيها الأشقاء في تركيا!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى