صفحات الرأيموريس عايق

مفارقة الدولة في سوريا/ موريس عايق

 

 

المفارقة

تتجلى المفارقة في الجمع بين وجهين متباينين للدولة، فمن ناحية تظهر الدولة مفرطة القوة، تحتكر تقريباً الاقتصاد وتملك جهازاً بيروقراطياً هائلاً يتغلغل في كامل الحياة الاجتماعية، كما تملك غالبية وسائل الإعلام أو تتحكم بها، وهي قادرة على إيقاف أيّ منها في حال لم يعجبها سلوكها. الأهم من كل هذا ما تمتع به سلطة قمع لا يحدها شيء، بدءاً من الجيش إلى الأجهزة الأمنية التي تراقب كل شيء وتتدخل في كل شيء؛ قوة عارية ومهولة يمكن لها تحطيم حياة من يقف بوجهها بشكل تام، وهو ما تقوم به منذ عقود.

على الجانب الآخر، تبدي هذه الدولة نفسها عجزاً يتجلى في صور متنوعة:

– عجزها عن أن تحظى بالولاء التام من طرف مواطنيها بوجود العديد من جماعات الهوية التي تنازعها ولاءهم. وعجزها عن صياغة النظام الأخلاقي والقيمي لهم والذي يبدو مستقلاً عنها ولا يخضع لتأثيرها، كما يتجلى في معضلة الشريعة والقانون.

– عدم قدرة الدولة على تعبئة مواردها ومواطنيها بالشكل الجيد ودفعهم إلى فعل ما تريد وتخطط له، وهو ما يظهر في فقر الأداء الاقتصاديّ والعسكري لها، وحتى على مستويات بسيطة متعلقة بالسلوك اليومي في الشارع والوظيفة. يظهر أيضاً في ضعف أداء بيروقراطية الدولة؛ فالعديد من المشاريع والبرامج تُنفذ بشكل سيء لا يتفق مع الهدف المرجو منها أو تنتهي إلى نتائج مغايرة له، وهو ما يحيل إلى التناقض بين ما يتوقعه رجال الدولة بصدد سلوك مواطنيهم وسلوكهم الفعلي، الأمر الذي يدلل على غياب قدرة الدولة على توقع مثل هذا السلوك أو التأثير عليه.

ربما تكون المقارنة مع دول أخرى مفيدة لإظهار هذه المفارقة. ففي أية دولة أوروبية، ستبدو الدولة أضعف، فهي لا تحتكر الاقتصاد ولا الإعلام، وحقوق المواطن الأساسية مصانة وتقف بمثابة حائط صد أمام الدولة لا يمكن لها التعدي عليها. برغم هذا، فإن الدولة هناك أشد أهمية وحضوراً في تنظيم حياة مواطنيها ودفعهم بالاتجاه الذي ترغب. حيث إنها تحيط بهم تماماً عبر أنظمة الرعاية والتقاعد والتأمين الصحي، وأي قانون تفرضه الدولة هناك يؤثر مباشرة في حياة الناس ويغيرها بطرق عديدة، تماماً على عكس قوانينا عموماً التي نادراً ما تترك أثراً واضحاً على أنماط الحياة.

من ناحية دولة قوية وضخمة بشكل هائل وقادرة على تحطيم أية مقاومة اجتماعية، ومن ناحية أخرى عاجزة أو محدودة القدرة على تعبئة مواطنيها وجعلهم يتمثلون قيمها وأهدافها. يتفق هذا مع ما عبر عنه مرة جمال عبد الناصر بأنهم انتصروا على الاستعمار وأمموا القناة ولكنهم في المقابل بقوا عاجزين عن الحفاظ على نظافة مستشفى قصر العيني.

الدولة

أود تقديم مجموعة من التصورات الأوليّة التي أعتقد أنها تساعد في الوصول إلى فهم أفضل لهذه المفارقة.

بداية، من الضروري التمييز بين مسألتين تتعلقان أساساً بصياغة الإشكالية. الأولى هي تحديد أفضل مقاربة لمفهوم الدولة تسمح بصياغة هذه المفارقة. فليست كل مقاربة للدولة تسمح لنا بالتفكير بمثل هذه المفارقة التي نواجهها. بينما تتمحور الثانية حول الشرعية والسلطة، التي تمتد إلى مسائل المعرفة والسلطة والهيمنة وعلاقاتها ببعضها البعض. سأهتم أكثر بالأولى وسأشير إلى بعض الفرضيات المتعلقة بالثانية.

فيما يتعلق بمفهوم الدولة، فإن الماركسية مثلاً لا تفيدنا كثيراً في طرح هذه المفارقة. تقارب الماركسية الدولة باعتبارها تعبيراً عن السيطرة الطبقية، فالدولة هي التعبير السياسي عن الاجتماعي وأولوية هذا الأخير. حتى مع تبني المساهمات اللاحقة حول الدولة كجهاز للهيمنة الأيديولوجية، تبقى المقاربة الخاصة بالدولة في الماركسية اختزالية وأداتية؛ حيث النظام القيمي الخاص بالدولة تعبير عن النظام القيمي الخاص بالطبقة التي تمثل الدولة التعبير السياسي لهيمنتها. في حالة مثل سوريا، فإن العلاقة بين الدولة والمجتمع مقلوبة تماماً، فالدولة تتولى صياغة النظام الطبقي وليس العكس، فالدولة ومن خلال احتكارها للاقتصادي والطبيعة شبه الريعية للاقتصاد السوري تجعل من الدولة هي التي توزع الثروة، وبالتالي تحدد الموقع الطبقي.

يعرف فيبر الدولة بوصفها المحتكر الشرعي للعنف الفيزيائي في إقليم محدد. يمكن طرح بعض الملاحظات حول التعريف. أولها أنه يقتصر على مركزية احتكار العنف الفيزيائي، فيما تحيل المفارقة إلى محدودية قدرة الدولة على التعبئة وفرض النظام القيمي. وهذا التعريف لا يقدم لنا إجابة حول المسألة، فالدولة في سوريا حققت التعريف لزمن طويل، ولكن المفارقة قائمة. فيبر يضيف الشرعية لهذا الاحتكار، دون تحديد هذه الشرعية وكيفية اكتسابها. هل هي شرعية “حقوقية” تتجلى باعتراف النظام الدولي، أم هي شرعية شعبية؟ وفي حال كونها شرعية شعبية، وهو ما يقربنا إلى المفارقة التي نحن بصددها، سيُطرح السؤال حول مصادرها وكيفية اكتسابها، وهل هي جزء لازم من تعريف الدولة أم لا؟ هذه الأسئلة تبقى مفتوحة ودون إجابة واضحة.

سأقدم سريعاً مقاربتين للدولة أعتقد أنهما تفيداننا في هذا السياق: الأولى لبيير بورديو (Bourdieu 1985, 96 – 136) الذي انتقد المقاربات الفيبرية والماركسية لاقتصارها على العنف الفيزيائي واحتكاره في فهمها للدولة وعلاقتها مع المجتمع، مما يجعلها غير قادرة على تفسير فشل الدولة في التحكم وضبط السلوك الاجتماعي لمواطنيها وتأمين قبولهم بالمعايير التي تفرضها وتنشئهم عليها باعتبارها شيئاً طبيعياً. صناعة القبول وليس الإكراه هو ما يميز الدولة وهو ما يبقى غير مُفسر بالاكتفاء بالعنف الفيزيائي. أعاد بورديو، انطلاقاً من فيبر، تعريف الدولة باعتبارها احتكار كل الاحتكارات، فتشكُّل الدولة نتاج لعملية مركزة واحتكار كل أنواع الرأسمال وخاصة الرأسمال الرمزي. يشترط الرأسمال الرمزي اعترافاً من قبل المجتمع ويتحصل عليه الفرد على أساس من الشرف أو المكانة أو السمعة. يسمح احتكار الرأسمال الرمزي للدولة بتشكيل إدراك الناس بعالمهم المحيط باعتباره العالم الموضوعي ذاته، قدرتها على تحديد المعاني التي تحيل إليها الأشياء المحيطة بنا، وقدرتها على تشكيل “نظام الأشياء” بوصفه النظام الطبيعي وإستدخاله من قبل مواطنيها. احتكار الرأسمال الرمزي هو الذي يمكن الدولة من صناعة القبول/الإذعان، قبول لا يُفسر بالاقتصار على احتكار العنف الفيزيائي، بل بقدرة الدولة على دفع مواطنيها إلى استبطان معايير اجتماعية واخلاقية محددة ومرغوب بها من قبلها بوصفها “نظام الأشياء” نفسه.

بفضل هذا الاحتكار صارت الدولة قادرة على جعل نفسها “معطىً طبيعياً” كالأشياء التي تنتمي إلى الطبيعة، وبذلك تكون خارج التساؤل. إننا نولد في دول، نحمل جنسيتها التي تحدد لنا المساحات التي نتحرك فيها بحرية، دول تنظم حياتنا في فترات منتظمة ابتداء من الدراسة ونوعها وانتهاءً إلى العمل وشروطه، وتحدد ما هو قانوني (وأخلاقي)، وعلينا القبول بسلطتها التامة بالحكم على تصرفاتنا بما ينتهي بنا إلى السجن وربما الموت. قد نناقش في المعايير التي اُعتمدت للبت فيها، ولكن ليس حق الدولة في البت بهذا الشأن.

الرأسمال القانوني/الحقوقي هو أحد الأشكال الأساسية للرأسمال الرمزي. احتكار الدولة لحق التشريع واعتبارها المصدر النهائي للسلطة القانونية يجعلها تقف فوق جميع المصادر الأخرى والممكنة لتحديد السلوك الاجتماعي ومعاييره، مثل هيئات اجتماعية كالقبيلة أو الطائفة، أو حتى مصادر أخرى تزعم لنفسها حقاً أساسياً في تحديد ما هو شرعي أو أخلاقي كالشريعة الإلهية. احتكار الدولة للقانون يتضمن حقها في تحديد المعايير الأخلاقية. يمكن للأفراد أن يلتزموا بمعايير أخلاقية خاصة فيما يتعلق بشؤونهم الخاصة، لكن لا يجوز لهذه المعايير أن تتعارض مع المدونة القانونية التي اعتمدتها الدولة. يبقى الأهم أن الدولة هي التي تتولى وضع حدود المجال الخاص والعام، فتصرح بحيادها تجاه أمور محددة واضعةً إياها خارج نطاق صلاحيتها. لا مصدر لإلزام الدولة سوى الدولة نفسها. لم يعد هناك مصدر متعال للشرعية يحد الدولة كالحق الإلهي أو حقوق الجماعات الطبيعية أو أي شيء آخر. الدولة نفسها تضع حدود لسلطة الدولة، عندما تلزم نفسها بـ”منطق الأشياء” الذي أقرته هي نفسها.

التكون التاريخي للدولة هو العملية التاريخية لمركزة واحتكار الأنواع المتباينة من الرأسمال. يسرد بورديو -معتمداً على تشارلز تيللي الذي سنعود إليه لاحقاً- حكاية بناء الدولة بوصفها حرباً على جبهتين في الآن ذاته، الداخل والخارج. بنت الدولة الجيوش لضم أراض جديدة أو لحفظ أراضيها من الطامعين، ما استدعى فرض التجنيد على أعداد متزايدة من الناس. تجريد الحملات وتنظيم الجيوش احتاج إلى موارد اقتصادية كبيرة، ما فرض الحاجة لاحتكار متزايداً للرأسمال الاقتصادي عبر تملك الأراضي المشاع والصناعات الأساسية بغرض ضمان موارد اقتصادية متزايدة توجه لخدمة الجيش، كذلك إدارة أكثر مركزية للاقتصاد وفرض الضرائب والكفاءة في تحصيلها. دفعت هذه الإجراءات جماعات متنوعة إلى التمرد والعصيان باسم حقوقها، فقد رأت هذه الجماعات في الضرائب نهباً وسرقة تقوم به الدولة، وفي تجنيد أبنائها اعتداء على نمط حياتها وحياة أفرادها. بهدف قمع هذه العصيانات جردت الدولة الجيوش، وبالتالي مركزة متزايدة للعنف. هكذا بدأت دائرة ستتوسع وتتعمق باستمرار، كل احتكار يحتاج لاحتكار أوسع ليضمنه، وكل حرب تلحقها أخرى.

الجيش المكون من أفراد الشعب لن يكون فعالاً وكفءاً بدون حد أدنى من المعارف الضرورية للتعامل مع الأوامر والخطط العسكرية والأسلحة، معارف قياسية وموحدة بمعزل عن اللغات/اللهجات المتنوعة التي قد يتحدث بها الجنود أو البيئات المتباينة التي حضروا منها. ما يصدق على المقاتلين يصدق على العاملين بالمعامل أو في مؤسسات الدولة. تطلب هذا فرض لغة موحدة ونظام تعليمي مشترك يلبي الحاجات الأساسية للدولة ولاحقاً لاقتصادها، نظام يقدم المعارف الدنيا والقياسية التي يجب أن يملكها الجندي والعامل. استخدمت الدولة هذا النظام بكثافة في التنشئة الاجتماعية وتعميم القيم المرغوب بها لخلق المواطن الصالح والملتزم بدولته.

الكفاءة الاقتصادية والقدرة على فرض التجنيد وتحصيل الضرائب بشكل فعال يفرض وجود جهاز بيروقراطي واسع وكفء قادر وبشكل متزايد إلى ضبط مجالات الحياة الاجتماعية والتحكم بها. وهذا بدوره يتطلب استخدام معايير شكلانية وقياسية متزايد، تؤسس لثقافة وطنية معيارية.

رافقت هذه العملية–وبالضرورة- عملية مركزة واحتكار الرأسمال القانوني، من خلال توحيد السلطة القضائية في يد الدولة وبمواجهة الادعاءات الحقوقية لمختلف الجماعات، سواء كانت تحت مسمى النبالة أو الكنيسة أو أعراف الجماعات الأهلية. الحق لا يأتي من الطبيعة إنما من الدولة، التي تملك أن تعطي هذا الحق. مثلاً، كان حق النبالة إشكالياً ليس لكونه حقاً، إنما ادعائه أنه حقٌ طبيعيٌ ومستقلٌ عن الدولة.

احتكار العنف الفيزيائي استدعى احتكار الرأسمال الاقتصادي، وضمان الاحتكارين تطلب قدراً متزايداً من احتكار الرأسمال التعليمي وجهاز بيروقراطي واحتكار حق التشريع والقضاء، في النهاية احتكار كل الاحتكارات. تحقيق هذا تطلب تحطيم وهزيمة كل الجماعات التي وقفت في وجه الدولة. الذين تحدوا الدولة وحاربوها باسم جماعاتهم تحولوا إلى عصاة ومتمردين بعد أن هزموا، فالدولة تحتكر العنف الرمزي تجاههم وتملك حق تسميتهم وتحديد موقعهم في الذاكرة. عملية احتكار الرأسمال الرمزي في وجهها الآخر عملية بناء أمة عبر تشكيل ذاكرة جماعية وتحقيق تجانسها الثقافي واللغوي وحتى الديني، وهو ما تم باستخدام القوة والبطش.

لتعريف بورديو فائدة عظيمة وهي أنه بتناوله مسألة الرأسمال الرمزي (والقانوني) سمح لنا بصياغة المفارقة وفهمها. فالدولة السورية هي تعبير عن عدم نجاح عملية الاحتكار في الوصول إلى نهايتها بعجزها عن احتكار الرمزي واقتصارها على العنف الفيزيائي والاقتصادي. تبقى أمام هذا التعريف مشكلة، فبالرغم من أنه يسمح لنا بفهم هذه المفارقة بوصفها عدم اكتمال عملية احتكار كل الاحتكارات، إلا أنه لا يساعدنا في تفسير هذا الفشل. فقد احتكرت الدولة السورية كل وسائل العنف الفيزيائي وكذلك الاقتصادي وحتى القانوني بحدود واسعة، وهو ما يتوافق مع العملية التاريخية التي وصفها بورديو، لكنها عجزت عن أن تحتكر الرأسمال الرمزي. هنا يتوجب علينا العودة إلى النقطة الثانية التي بدأنا بها، مسألة السلطة والشرعية.

توجد مقاربتان لفهم السلطة: الأولى -فيبر مثال عليها- تنظر إلى السلطة باعتبارها قدرة الشخص على فرض إرادته على الآخرين لدفعهم للقيام بأمر ما يرغب هو به دون أن تكون لديهم الرغبة به أو حتى يتعارض مع رغبتهم، فهماً كمياً قابل للرصد وقائم على الإكراه. الثانية -بورديو- تحيل السلطة لديها إلى القدرة على التحكم بالمعايير التي يعتمد عليها المرء في تحديد سلوكه وإدراكه للعالم. السلطة لا تقوم حصراً على الإكراه، بل على خلق القبول للخاضعين لها، وهو يتم بشكل غير مباشر عبر الثقافة والتربية. تطرح مقاربة بورديو للسلطة مشكلة دائمة بصدد علاقة الأخيرة مع المعرفة، فالمعرفة والحقيقة والقبول لا يمكن فصلها عن السلطة وعن قدرتها على تشكيل المعايير التي تصنع القبول والحقيقة. هذا التصور المعياري للسلطة يطرح تناقضاً ذاتياً أولاً، لكن أيضاً هناك حدود للقدرة التفسيرية له وحتى نتائج مخاتلة له. إن صح تصور بورديو، فإن الدولة الأوربية مثلاً هي أكثر شمولية وسيطرة من الدولة السورية.

يصعب قبول تصور بورديو عن السلطة، فالشرعية (القبول) لا يمكن ردها إلى مجرد عملية تاريخية تلعب السلطة فيها الدور الحاسم. سأختار هنا موقفاً وسطاً، وهو أن الشرعية تقوم على لحظتين لا يمكن رد إحداهما إلى الأخرى وهما القوة والعقل، القبول لا يمكن تفسيره بالهيمنة والسلطة، بل أيضا بقبول طوعي يجد أساسه في الفائدة المبررة عقلانياً التي يجنيها الناس من قبولهم هذا.

المهم في تعريف بورديو أنه يقدم فهماً للدولة يسمح بصياغة المفارقة وتفسير جزء منها، باعتبارها ناتجة عن الفشل في عملية احتار الرأسمال الرمزي من قِبل الدولة. ما نرفضه هو الفهم الميتافيزيقي والكلياني للسلطة.

يرى تشارلز تيلي (Tilly 1985)، الذي سبق واستعان بورديو به، أن أفضل مقارنة للدولة هي مع عصابات الجريمة المنظمة انطلاقاً من فكرة الحماية (الخوة)، وهي حماية مزدوجة ضد الأعداء الداخليين والخارجيين ومن غضب الدولة نفسها. نجاعة الحماية تشترط احتكار العنف، وهنا تصبح مسألة الشرعية تعبير عن نجاعة عملية الاحتكار نفسها وليست مرتبطة بحق سابق عليها. عملية الاحتكار تتم عبر القضاء على كل المنافسين الممكنين للدولة، وقد سبق عرضها آنفاً.

مثل تيلي هذه العملية من خلال أربع وظائف مترافقة تشبه منطق عصابات الجريمة المنظمة: 1- صناعة الحرب: إبادة أو تحييد المنافسين خارج الحدود. 2- صناعة الدولة: إبادة أو تحييد المنافسين داخل الحدود باحتكار العنف. 3- الحماية: إبادة أو تحييد منافسي وكلاء الدولة الذين يتمتعون بحمايتها. 4- استخلاص الموارد والوسائل اللازمة لتحقيق هذه الوظائف الثلاثة السابقة.

تمت عملية بناء الدولة في أوربا الغربية بشكل تطوري خاضعةً لمبدأ البقاء للأقوى، فبقيت الدول الأكفأ القادرة على القيام بوظائفها. كان بقاء الدولة رهناً بتنمية وتطوير مجتمعاتها واقتصاداتها، الأمر الذي جعل من تطورها مرتبطاً بالتطور الداخلي لهذه المجتمعات وغير منفصل عنه. حيث رافق هذا التطور ازدياد قدرة المواطنين -عبر الثورات كما عبر الضرائب- على المشاركة في إدارة الدولة وفرض قواعد ضابطة على سلوكها، فالديمقراطية سوف تتوسع بحسب تيلي (Tilly 2007) من خلال الانتفاضات التي قام بها المواطنون وتقوم على المشاركة والمشاورات والتأثير في صناعة القرار، وتمكن المواطنين من تمثيل أنفسهم داخل الدولة. كانت النتيجة الدولة الحديثة وما رافقها من فصل السلطات والديمقراطية وحكم القانون.

ما أود التأكيد عليه أن هناك عمليتين متلازمتين: الأولى هي بناء الدولة بوصفها احتكاراً للعنف وهنا تشبه الدولة العصابة، والثانية هي حيازة الشرعية المرتبطة بتمثيل المواطنين وتوسع مشاركتهم السياسية، وصولاً إلى تحقيق الديمقراطية. قوة الدولة وقدرتها على تحقيق احتكار كل الاحتكارات لا يمكن ردها إلى عملية واحدة وحسب، بل إلى سياق تاريخي لعمليتين مختلفتين تحيل الأولى لاحتكار السيادة عبر تحطيم الهيئات الوسيطة وإعادة بناء خبرة الحياة اليومية والثانية إلى الشرعية المستندة إلى التمثيل داخل إطار الدولة والتي بدأت من تمثيل السياسي للمدن وصولاً إلى الديمقراطية وحق الاقتراع العام. فالشرعية تقوم على قاعدتين: السيادة والتمثيل. وهو ما يسمح لنا بتجاوز معضلة مفهوم السلطة لدى بورديو.

الدولة والمجتمع

يقترح جويل ميغدال  (Migdal 1988)  و (Migdal 2001) إطاراً نظرياً لوصف العلاقة بين الدولة والمجتمع في العالم الثالث لتفسير ضعف الدولة وعدم فعاليتها برغم تسلطها واحتكارها للثروة وحيازتها لجهاز واسع وكبير للقمع. لا تعدو الدولة سوى أن تكون مؤسسة اجتماعية مثل أية مؤسسة اجتماعية أخرى كالكنيسة أو القبيلة، وليست الفاعل الوحيد العقلاني أو الأخلاقي أو الممثل لإرادة الشعب. هدف القادة في الدول الحديثة حفظ الاحتكار على وسائل الطاعة في المجتمع عبر ضمان السيطرة على الجيش والشرطة بما يكفل استقلال الدولة عن القوى الداخلية والخارجية ويسمح لهم بالتصرف انطلاقاً من تفضيلاتهم، وهو ما يتطلب التحكم بحيوات الناس بشكل أكبر وأكثر تفصيلية وتدخلاً من خلال السيطرة الواسعة على  مصادر الثروة الاقتصادية والعنف وبناء جهاز قادر على التدخل الواسع في حياة الناس من أجل حشدهم لتحقيق أهداف الدولة.

هذه القدرة على الحشد والتعبئة للجماعات تترافق مع قدرة الدولة على التحكم في النظام والسلوك الاجتماعيين المتوقعين من الأفراد. فالحد الأدنى من التحكم الاجتماعي يبدأ بالامتثال، إلى المشاركة وأخيراً الشرعية. الهدف النهائي الذي تُقاس قدرة الدولة بالنسبة إليه هو جعل السكان يطيعون الدولة بشكل أكبر من أية تنظيمات أخرى فيما بينهم، ويلتزموا أولاً بتصوراتها فيما يتعلق بالعدالة والحق أكثر من تصورات جماعاتهم الخاصة.

في هذا النموذج، تقف الدولة والمجتمع في مواجهة بعضهما البعض، قوة أحدهما تعتمد على ضعف الآخر. تجد الدولة نفسها في حالة منافسة دائمة مع أشكال أخرى للتنظيم الاجتماعي. وفي إطار سعيها لتعظيم نفوذها وسيطرتها الاجتماعية، فإنها تسعى إلى إضعاف النخب المحلية وبقية روابط التنظيمات الاجتماعية الموازية للدولة. مفتاح النصر في هذا الصراع يتحقق بالتحكم في المؤسسات المسؤولة عن التحكم باستراتيجيات البقاء للأفراد، والمنتصر هو الذي يكسب ولاء الناس وحكمهم.

يتابع ميغدال التقليد الذي يرى في تأسيس الدولة حرباً على المجتمع، فالجماعات الأهلية تسعى لمنع نشوء دولة قوية تهدد سلطتها، فيما تعمل الأخيرة على تحطيم الروابط المحيطة بالأفراد لتجعلهم يقفون مباشرة في مواجهتها دون وسيط. في هذا النزاع، تلعب الفئات التي تشغل نقاط الالتقاء بين الدولة والمجتمع، مثل الموظفين الذين يتصلون مباشرة مع الأهالي، دوراً حاسماً في تحقيق النتائج وإعادة تشكيل الاستراتيجيات وتفسير أهداف الدولة.

يفسر ميغدال ضعف دول العالم الثالث ببنية مجتمعاتها الفسيفسائية والمشكلة من جماعات متباينة ومختلفة أصغر عدداً، لا تخضع إلى نظام قيمي ورمزي موحد على المستوى القومي للدولة. حيث تملك كل جماعة قواعدها ورموزها ومعاييرها الملزمة لأبنائها. قادة الجماعات يملكون السلطة داخل جماعاتهم ويستطيعون بالتالي التحكم بالسلوك الاجتماعي لأفرادها. تميل الدولة، مع ضعف موارد، إلى التعامل نخب هذه الجماعات والتعاون معهم عوضاً عن مواجهتهم، مما يعزز استقلالية الجماعات، ويحافظ على موقع نخبها واستقلالها النسبي عن الدولة في إدارة شؤون جماعتها الخاصة. هذا يحد في النهاية من قدرة الدولة على الإدارة المركزية والتدخل المباشر في تنظيم والتحكم بالسلوك الاجتماعي لمواطنيها.

لا تظهر الطبيعة المجزأة للمجتمعات العالمثالثية عبر الانقسامات الأهلية وحسب، بل أيضاً بعدم قدرة الدولة على توحيد والتحكم باستراتيجيات البقاء. مثلاً في الحالة المصرية التي درسها ميغدال (Migdal 1988، 181 – 205)، ظهر الرجال الأقوياء كنتيجة للإصلاح الزراعي وكانوا جزءاً من جهاز الدولة، فهم العمد في الضيع ورجالات الاتحاد الاشتراكي الذين حازوا قوة وبنوا شبكات علاقات زبونية للربط بين الفلاحين والجهاز الادراي للدولة. كذلك خوف عبد الناصر من بروز مصدر قوة داخل جهاز الدولة ينازعه سلطته، دفعه إلى بناء مراكز متنافسة تراقب بعضها البعض في الاتحاد الاشتراكي والجيش والأمن. فتت هذه المراكز قدرة الدولة على التحكم باستراتيجيات البقاء وربطت ولاء المواطنين بها وليس بالدولة.

تتحقق قدرة الدولة بفضل سيطرتها على استرتيجيات البقاء، لكن في مجتمعات العالم الثالث الفسيفسائية فإن الدولة تواجه بمقاومة من طرف جماعات متنوعة. وبحكم ضعف قدرة الدول في العالم الثالث ومحدودية مواردها وخارجية نشأتها المرتبطة بالاستعمار وعدم التناسب في التطور بينها وبين مجتمعها، فإن قدرتها على تحقيق هدفها بالتحكم الاجتماعي تبقى محدودة.

بشكل مختصر: إن الشرعية التي تحققها الدولة باحتكارها للرأسمال الرمزي مرتبطة بعمليتين متزامنتين 1- السيادة وقد تمثلت بتحطيم المؤسسات الاجتماعية المنافسة للدولة في الداخل من خلال العنف ونجاحها في السيطرة على استراتيجيات البقاء (الامتثال)؛ 2- التمثيل الذي يشكل جانب القبول من الشرعية، وقد تحقق من خلال تشكل المجال العام ونشوء السياسات الجماهيرية (المشاركة والشرعية). يحضر العامل الثاني بشكل غير مباشر في العروض التاريخية التي تركز على شرح العملية الأولى من خلال أطروحة تناسب التطور بين الدولة والمجتمع. فالدولة، بتحطيمها بقية الروابط الاجتماعية، خلقت خبرة حديثة جعلت منها الإطار الذي يتم فيه خوض الصراع على التمثيل والشرعية والتأثير، وليس من خلال عصبيات خارجية تؤمن الدخول إلى الدولة. تستند الشرعية على السيادة والتمثيل، والدولة الحديثة نتاج العمليات التاريخية التي حققتهما.

الحالة السورية

ما سأقدمه ليس تاريخاً، بل محاولة رصد وتقديم بضعة ملاحظات حول عملية بناء الدولة عبر تدخلها في مجالات الحياة الاجتماعية والسيطرة عليها وفرض القواعد بهدف التحكم فيها، وما واجهته من تحديات وما تبنته من استراتيجيات وما آلت إليه لاحقاً، بما يمكن له أن يشرح المفارقة التي بدأنا منها. سأهتم في صدد الصدد بثلاثة سياقات (عمليات):

توسع ومركزة الجهاز الإداري للدولة ومحاولته إخضاع مجالات متزايدة من الحياة الاجتماعية لسيطرته، في مواجهة جماعات وسيطة مثل الأعيان أو الأقوياء المرتبطين بجهاز الدولة الذين بنوا شبكات شخصية الولاء حولهم أساس القرابة والجماعة الأهلية.

احتكار الرأسمال الرمزي والقانوني، الامر الذي تطلب مواجهة مصادر أخرى تمثلت بالشريعة وطبقة العلماء.

توحيد الجماعة الوطنية في أمة تحتكر ولاء مواطنيها وتمثلها الدولة، وهو ما تطلب إضعاف وتفكيك أشكال الانتماء الأخرى للجماعات الطائفية والاثنية. أود تقديم ملاحظة حول الجماعات الطائفية وإمكانية النظر إليها كجماعات إثنية[1] انطلاقاً من كونها تحوز على ذاكرة تاريخية وقيم مشتركة خاصة ومظاهر خارجية تميزها عن غيرها، بما يعطيها شعور بنحن متميزة. يمكن للحدود التي تفصل الجماعة الإثنية أن تكون لغوية مثل الأكراد، أو أن تكون قانونية وتشريعية مثل المسيحيين والدروز لجهة الأحوال الشخصية. كذلك سأقتدي بفكرة فردريك بارث (Barth 1998, 9 – 38) بالتركيز على الحدود الإثنية عوضاً عن فهم الجماعة الإثنية بوصفها جماعة مستقرة. فهذه الحدود لا تكون عادة صلبة ومستقرة بل مائعة، وتصليبها هو نتاج نزاعات سياسية. أيضاً، يحمل كل منا عدة هويات ممكنة، عربي مسلم سني، وتسييس إحداها مسألة يحددها سياق النزاع.

لا تنفصل النقاط السابقة عن بعضها البعض، فاحتكار الرأسمال الرمزي خطوة اجبارية لتحطيم الحدود التشريعية التي تفصل بين الإثنيات (قوانين العائلة والزواج المخلتط)، ودون تحطيم هذه الحدود لا يمكن للجهاز البيروقراطي أن يدفع بقواعد قياسية ومستقلة عن السياقات المحلية قادرة على تحديد وتوقع سلوك المواطنين. كذلك لا يمكن لاحتكار الرأسمال الرمزي أن يتم دون قدر من القناعة والمشاركة (التمثيل).

البدايات

بعد فترة الحكم المصري، التي وجهت أول ضربة جدية إلى النظام القديم في سوريا، انطلقت التنظيمات بين عامي 1839  و1876 بوصفها ضرورة لإصلاح الدولة العثمانية وبداية تاريخ الدولة الحديثة في سوريا. يمكن تقسيم العهد العثماني بدءاً من عصر التنظيمات إلى ثلاثة عهود أساسية، قدمت استراتيجيات متباينة لبناء الدولة -تعزيز الإدراة المركزية وزيادة قدرتها على إخضاع الرعايا وضبطهم- وهي فترة التنظيمات وعهد عبد الحميد الثاني وأخيراً عهد حزب الاتحاد والترقي. قدمت فترة التنظيمات تجربة التحديث والليبرالية، بينما تشترك فترتا عبد الحميد والاتحاد والترقي بنزعاتهم السلطوية ولكن تحت يافطة الإسلام لدى عبد الحميد والعسكر والقومية لدى جماعة الاتحاد والترقي. سنرى هذه الاستراتيجيات الأساسية مرة أخرى مع الدولة السورية الحديثة.

هدفت التنظيمات -وهي الأهداف التي سنبقى نراها دوماً- إلى تعزيز الحكم المركزي للدولة وقدرة الجهاز البيروقراطي وتقوية الجيش عبر زيادة القدرة الاقتصادية للدولة من خلال الوصول المباشر إلى المنتجين ومصادر الثروة، احتكار القانون والتشريع واستخدامهما بما يسمح بتغيير البيئة الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق أهداف الدولة، وأخيراً التوحيد الرمزي والثقافي للأمة -التي تحولت حدودها بحسب العهد: عثمانية لدى التنظيمات، إسلامية لدى عبد الحميد وتركية لدى الاتحاد والترقي- واحتكار ولاء مواطنيها. الملاحظة الأساسية فيما يتعلق ببرنامج الإصلاح هو أنه كان دوماً بمبادرة من طرف السلطة السياسية لمواجهة تحديات النظام العالمي، ولم يكن من طرف “الشعب” الذي لن يوجد إلا باعتباره نتاجاً للبرنامج الإصلاحي نفسه. احتكار مبادرة الإصلاح بيد السلطة السياسية وخضوعه لتصوراتها وحاجاتها كان بداية العلاقة غير المتوازنة بين الدولة ومجتمعها.

إن أهداف البرنامج الإصلاحي السابقة مترابطة، وتاريخ عملية بناء الدولة هو السعي لتحقيقها والمقاومة التي واجهتها الدولة من طرف المجتمع وما فُرض عليها من استراتيجيات متباينة بسحب الظروف التاريخية لتحقيق هذه الأهداف.

تقوية مركزية الدولة ارتبطت بزيادة جهازها البيروقراطي وتوسيع صلاحياته في مواجهة النخب المحلية للمدن والجماعات الأهلية (نقابات وملل). كذلك فإن السعي إلى تحقيق زيادة في المداخيل وتحسين القدرة الاقتصادية استدعت تحديث الاقتصاد وزيادة الأراضي المزروعة وتهميش دور جامعي الضرائب وتحصيلها مباشرة من الفلاحين الذين سيتملكون أراضيهم ويزيدون من إنتاجيتها وهو ما هدف إليه بقانون الأراضي 1858 وقانون الطابو 1861. أيضاً، هدفت الإصلاحات إلى تأمين احتكار الدولة للمسؤولية التشريعة والقضائية، فتم إقرار قانون العقوبات 1858 وإصدار تقنين شامل للأحوال المدنية في الشريعة الإسلامية باسم “المجلة” وضع بين 1869 و 1876، انتهاء بإصدار الدستور 1876. فلم يعد القاضي عالم دين، وصار عليه أن يقضي انطلاقاً من القانون ونظام المحاكمات، وبهذا  الشكل تم إضعاف دور العلماء (فيلدمان 2014، 93 – 109). المساواة بين رعايا الدولة العثمانية وتحقيق هوية عثمانية مشتركة، افترضت إلغاء نظام الملل والقوانيين والممارسات التمييزية (1856).

عانى العثمانيون من ضعف الموارد وسوء أداء البيروقراطية. فبرغم ازدياد حجم الجهاز البيروقراطي للدولة العثمانية بشكل مهم في المدن السورية، حافظ الأعيان على دورهم الكبير ونجحوا في الاستفادة من الدولة وإصلاحاتها في تأمين مصالحهم. فانتهى قانون الطابو إلى عكس المرجو منه، حيث سجل الأعيان الأراضي باسمهم، مستفيدين من مكانهم الحاسم في الجهاز البيروقراطي للدولة ومن جهل الفلاحين وخوفهم أن يكون التسجيل خدعة من أجل سحبهم على الجندية. شكل الأعيان، بفضل قوتهم الاقتصادية ومكانتهم في بنية المدينة الاجتماعية والربط مع الريف، قوة تقف في وجه الدولة وقدرتها للوصول إلى الجميع واستغلوا ضعف مواردها لدفعها لتحقيق ما يريدون.

حتى مسألة المساواة والتوحيد الرمزي للجماعة العثمانية آلت إلى الفشل وهو ما عبرت عنه الأحداث الطائفية العديدة التي عانتها الدولة العثمانية. فتحقيق المساواة كان مقيداً بشدة بالأنظمة التشريعية الخاصة بكل طائفة (الأحوال الشخصية) التي لم تمسها الدولة العثمانية برغم توحيدها للأنظمة القانونية الأخرى، وقد دَعم الاستقلال القانوني للأحوال الشخصية انفصال الطوائف عن بعضها البعض الذي ترسخ بالحياة في أحياة منفصلة أو حتى في مناطق جغرافية مستقلة كما الحال مع الدروز والعلويين. مشكلة أخرى عانى منها العثمانيون تمثلت بالتدخل الأوربي. فقد أُدمجت سوريا في السوق العالمي وخضعت للهيمنة الأوربية، وأنشأ الأوربيون صلات مباشرة مع السكان المحليين ووضع العديد منهم (خصوصاً الأقليات) تحت الحماية القنصلية، ما سمح لهم بتفادي الخضوع للقوانين العثمانية وقيد قدرة الحكومة على التعامل معهم. بعد أحداث 1860، استطاعت الدولة العثمانية إخضاع المدن الشامية بشكل متزايد، وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر نجحت بشكل كبير في إخضاع البدو.

تبنى عهد عبد الحميد الثاني خطاباً إسلامياً كأساس لهوية الدولة. ولكن عبد الحميد واجه بدوره عدة معضلات: تناقض فكرة الأمة الإسلامية مع الدولة-الأمة لجماعة محددة تعيش في كنف هذه الدولة، ظهور طبقة وسطى حديثة كنتاج للتعليم الحديث تطالب بالدستور والحريات وظهور شريحة من العلماء الذين قدموا تصورات مغايرة للإسلام الصوفي الذي اعتمده عبد الحميد (حادثة المجتهدين)، وقد واجه عبد الحميد هذه المطالب بالقمع. وجدت الجماعات غير الإسلامية التي حققت مكاسب اقتصادية وسياسية نفسها مهددة بالخطاب الإسلامي لعبد الحميد.

بعد الإطاحة بعبد الحميد وتولي حزب الاتحاد والترقي للسلطة، وهو الحزب ذو التوجه القومي التركي المتشدد، وجد الأعيان أنفسهم مهددين بالمركزة والتتريك، فاتجهوا إلى خطاب القومية العربية الذي نجح في حشد عدد متزايد من الناس ورائه. فانحاز الأعيان -الذين بقوا أوفياء للدولة العثمانية- في النهاية للطبقة الوسطى الحديثة وسياسات القومية العربية.

واجهت عملية بناء الدولة مجموعة من التحديات: ضعف كفاءة جهاز الدولة نفسه وعدم قدرته على تحقيق ما يصبو إليه، الإضافة إلى الأعيان ونفوذهم الكبير في الحياة الاقتصادية والاجتماعية لكونهم فئة وسيطة بين مجتمعاتهم والدولة، فاستفادوا من ضعف الدولة واستخدموها لمصلحتهم. عدم قدرة الدولة على حل مسألة القانون واحتكار التشريع والشرعية من الحيز الديني وتأمين شرعية مستقلة خاصة بها، مما شل قدرتها على حل مسألة التنوع الإثني، فلم تنجح في إيجاد هوية عثمانية موحدة. كما بقي سؤال السيادة والشريعة مفتوحاً بغياب هيئة تشريعية، لم تعش إلا لفترات قصيرة جداً.

خلال محاولاتهم تعزيز سلطتهم المركزية وإضعاف النخب المحلية، وجد العثمانيون أنفسهم في مواجهة معضلة ستتكرر لاحقاً: ما الذي على نخبة الدولة المركزية أن تفعله في مواجهة تمردات طرفية ضد نخب محلية وشبه مستقلة؟ من ناحية، كانوا مسرورين لإضعاف النخب المحلية. لكنهم، ناحية أخرى، خشوا تلك التمردات وإمكانية تهديدها للنظام الاجتماعي برمته. في الأغلب لجأ العثمانيون إلى الانتظار قبل أن يتحركوا وعندما تحركوا، فإنهم فعلوا هذا لاحتواء التمرد كما حصل في جبل الدروز 1890. هذه المعضلة واجهتها لاحقا الجمهورية السورية الفتية مع الانتفاضة الشعبية في جبل الدروز 1947، وفعلت نخبتها ما سبق وفعله أسلافها العثمانيين.

بعد فترة استقلال قصيرة، وجدت سوريا نفسها مقسمة تحت الاحتلالين الفرنسي والبريطاني. خدم عدد كبير من موظفي الإدارة الاستعمارية الفرنسية لسوريا في المغرب سابقاً، لهذا حاولوا تطبيق السياسات التي تعلموها هناك على سوريا وخاصة أنها أتت متسقة مع خبرات الاستشراق الفرنسي وتصوره المضمر لطبيعة الواقع في سوريا (خوري 1997) بوصفها مجتمعاً فسيفسائياً.

اعتبر الفرنسيون القومية العربية وحاملها الاجتماعي من نخب المدينة العربية السنية عدوهم الرئيس، فهدفت السياسات الفرنسية إلى مواجهة القومية العربية وإضعاف قاعدتها الاجتماعية عبر تقوية الجماعات الريفية وتعزيز هوياتها الطائفية والتعاون مع عدد من أبناء النخب التقليدية للجماعة السنية  والعشائر البدوية. فصممت السياسات الزراعية الفرنسية لتقوية فقراء الفلاحين وتعزيز مواقعهم في مواجهة المدن، لا سيما أن قسماً كبيراً من الفلاحين لم يكونوا من السنة؛ وهي الطائفة التي انحدر منها معظم أعيان المدن وهم أيضا كبار ملاك الأراضي. أفضت السياسات الزراعية الفرنسية إلى نتائج مختلطة ومغايرة لما أراده الفرنسيون، كما حصل مع العثمانيين سابقاً.

بالمقابل فإن عدداً متزايداً من الفئات المتعلمة حديثاً والمنحدرة من المدن الصغيرة والبلدات الريفية الداخلية رأت نفسها عربية ولم تجنح بقوة إلى خطاب طائفي. كما لعبت الثورة السورية دوراً حاسماً في تكوين الهوية الوطنية السورية -وبرغم وجود عدد من الصدامات الطائفية التي رافقتها- وتمكينها خاصةً في الريف السوري وذلك بفضل عدد من قادتها من الدروز والمسلمين والمسيحيين ممن حظوا بتعليم حديث في المدارس التي أنشأها العثمانيون سابقاً، مثل مدرسة مكتب عنبر التي خرجت العديد من قادة الثورة السورية (Provence 2005). لم ينجح الفرنسيون في تأسيس بنية بيروقراطية مركزية وقوية لقلة قيمة سوريا للفرنسيين من الناحيتين الاستراتيجية والاقتصادية، وما عانته فرنسا من أزمات اقتصادية بتأثير الحروب التي شهدتها.

بنهاية الاستعمار الفرنسي، ورث السوريون كياناً لا يحظى بالشرعية في أعينهم. حتى إن شرعية النخب الحاكمة اعتمدت على الانتقاص من شرعية الدولة وتحديداً مع الصعود الجماهيري للقومية العربية، فكان التناقض المركزي بين شرعية النخب الحاكمة في سوريا على اختلاف أنظمتها وشرعية الدولة السورية بوصفها المركز النهائي للسيادة والولاء.

احتكر أعيان المدن الحياة السياسية السورية حتى الوحدة وبدء سياسات الإصلاح الزراعي. كانت قدرة الدولة على إطلاق مشاريع كبيرة محدودة لضعف مواردها الاقتصادية وضعف قدرتها التدخلية. بعض الأطراف كانت شبه مستقلة في إدارة شؤونها الخاصة مثل الدروز تحت سلطة آل الأطرش جنوباً. حاولت الدولة من حين إلى آخر تعزيز سلطتها وسيطرتها كما في حالة إعدام سلمان المرشد وتعزيز سلطة دمشق على جبال العلويين بذريعة ملاحقة المرشد. ساعد القطع الاقتصادي مع الاقتصاد العالمي في الأربعينيات وازدياد الطلب الداخلي وخاصة من طرف الجيش الفرنسي خلال الحرب بإطلاق عدد من الصناعات التي استفادت منها الدولة، فوسعت من مؤسساتها وخاصة في قطاع التعليم. تعلم معظم القادة الثوريين اللاحقين في المدراس التي نشأت في هذه الفترة، وعدد كبير منهم انحدر من وجهاء البلدات الريفية.

كذلك قامت الدولة 1953 بإلغاء الطائفية السياسية وألغت المحاكم الخاصة بالدروز والعلويين. كان الشيشكلي (Landis 1998) إحدى محاولات تعزيز سلطة الدولة المركزية في تلك المرحلة، حيث أنهى الاستقلال شبة الذاتي لجبل الدروز. أطلق الشيشكلي إصلاحات اقتصادية متجاهلاً جبل الدروز. أمست إنتاجية الأرض هناك أدنى من مثيلاتها في المناطق الأخرى، ما دفع الشبان إلى مغادرة الجبل والاتجاه إلى مناطق أخرى مثل جرمانا بالقرب من دمشق. كان المشروع الاقتصادي الذي نُفذ في الجبل وتمثل بإنشاء شبكة طرق حديثة ذا خلفية عسكرية مكنت المدرعات العسكرية من الوصول بيسر إلى أية نقطة في الجبل. 1953 أطلق الشيشكلي حربه على الجبل منهياً بذلك استقلاله شبه الذاتي ومخضعاً إياه للسلطة المركزية في دمشق.

بالمقابل، فإن المعضلة التي واجهت الدولة الوليدة تمثلت في دور الأعيان والتناقض بين المدينة والريف. فالأعيان، وهم مجموعة قليلة من كبار العائلات المدنية السنية بممتلكاتها الواسعة من الأراضي، سيطروا على جهاز الدولة بشكل شبه تام، التي صارت بدورها أداة في خدمة مصالحهم وتأمين احتكارهم للثروة والسلطة، فاستخدوا رجال الدرك لدعم سلطتهم الخاصة وقمع فلاحيهم وإرهابهم. زاد من وطأة هذا النزاع الطبقي تداخله العميق مع تمايز طائفي، فبينما كان كبار الملاك سنة في غالبية، كان العلويون في غالبيتهم الساحقة فلاحين وخاضعين لكل تعسف وتسلط كبار الملاك والدولة التي في خدمتهم. بدا العلويون طبقة-طائفة، والسؤال الذي صار حاسماً، هو أي بعد سيتم تسييسه في الصراع ضد كبار الملاك وعلى الدولة لاحقاً؟

برغم النجاحات التي حققتها عملية بناء الدولة، توسعها البيروقراطي وقدرتها المتزايدة على التحكم وإخضاع مناطق لطالما بقيت عصية على نفوذها وتوسع طبقة وسطى حديثة من أصحاب التعليم الحديث والمرتبطين بجهاز الدولة وتكوين نواة هوية وطنية ومجال عام بفضل الصحافة والتعليم والنشاط السياسي للأحزاب والحياة البرلمانية، فإن الدولة عانت عيوباً أساسية تمثلت بهيمنة الأعيان (مجموعة العائلات السنية المدنية) وسيطرتها على الدولة وتلاعبها في مؤسساتها لتحقيق هيمنتها. بالمقابل، فإن الطبقة الوسطى الحديثة والعمال بقوا عاجزين عن التعبئة والحشد من أسفل بسبب تذرر المجتمع وانتشار الأمية وغلبة الطابع الريفي على المجتمع السوري والعلاقات التقليدية التي بقيت مهيمنة في المدن. فالأحزاب (الشيوعي والبعث والسوري القومي) التي استندت إلى طبقات حديثة بقيت محدودة في قدرتها التعبوية، وهو ما دللت عليه نجاحاتها المحدودة في الانتخابات. مثلاً نجح أكرم الحوراني في تعبئة الفلاحين في ريف حماة، وهم علويون في غالبيتهم بينما الحوراني نفسه سني من حماة، ونجح في الوصول إلى مقعد برلماني وفتح مكتب للتواصل مع الفلاحين في دمشق، ونجح في تنطيم أول مؤتمر فلاحي حضره ما يقارب أربعين الف فلاح، ولكن هذه التعبئة بقيت محدودة الأثر وتحتاج إلى زمن طويل لتأتي بثمارها.

كان الأعيان هم تناقض الدولة مع غياب قدرة فعلية على التعبئة من تحت. سيطر الأعيان على الدولة، ولكن تعزيز الدولة كان مشروطاً بتحطيمهم. فبدء التصنيع لم يكن ممكناً بدون توسيع السوق الداخلية وتحسين حياة الفلاحين، كذلك فإن تجاوز الهويات الطائفية لم يكن ممكنا بدون توسيع التعليم وكسر دائرة البؤس الريفي وهذا ما لم يكن ممكناً بدون تحسين قدرة الدولة الاقتصادية. كذلك فإن تحسين شروط الحياة السياسية كان مرتهن بتعزيز الطبقة الوسطى ودورها وإضعاف الروابط والجماعات التقليدية، وهذا مرتبط بتغيير القواعد التي حكمت الانتخابات وبناء الأحزاب واستقلال جهاز الدولة. كل هذه الأمور كانت مشروطة بإضعاف الأعيان وإطلاق إصلاح زراعي، لكن الأعيان هم من يسيطرون على جهاز الدولة.

مع عجز الفئات الاجتماعية الحديثة عن التعبئة من أسفل، بقيت جهة وحيدة قادرة على مواجهة الأعيان وهي الدولة نفسها. كان خالد العظم محاولة فريدة في تعزيز دور مؤسسات الدولة من داخل الطبقة السياسية نفسها. الجهة الأخرى التي أظهرت قدرة أكبر على المبادرة ومواجهة الأعيان كانت الجيش بوصفه المؤسسة المنظمة والقوية. طبعاً لا نحتاج للمبالغة في حجم وقوة الجيش أو حتى الدولة نفسها، فالانقلابات وقتها لم تحتج أكثر من ثلة من الجنود لتنفيذها.

لا بأس ببعض الملاحظات حول الجيش الذي توسع خلال الاربعينات والخمسينات مع توسع القطاع التعليمي الذي سمح لأعداد متزايدة، خاصة من أبناء الريف، بدخول الجيش مع صعوبة تحقيق الخيارات الأخرى بسب ضيق ذات اليد. كان لدينا جيش لا يتمتع بتقاليد عسكرية خاصة، يهيمن عليه ريفيون من أبناء الوجهاء والحالمون بالصعود الاجتماعي، أي أنه كان طريقاً للترقي الاجتماعي. كان هؤلاء مسيسين بشكل كبير بسبب الأزمة الاجتماعية في البلاد، ويجدون في أنفسهم القوة الوحيدة المنظمة والقادرة على التدخل ضد الأعيان الذين سدوا منافذ الترقي أمامهم. تسييس الجيش واعتباره خيار في الصراع السياسي لقي دعماً من طرف أكرم الحوراني الذي دعا العديد من تلاميذه ومريديه للالتحاق بالجيش. ترافق هذا مع المسألة الطائفية والجهوية، ريفيون مسيسون في الجيش، ينحدرون من أقليات أو بيئات ذات روابط عائلية قوية، العلويون والدروز والحوارنة، أخوة السلاح يمكن بسهولة أن تكون أخوة الطائفة والمنطقة والقرابة. مركزية دور الجيش برزت خلال الحقبة الأولى للبعث، فالجهاز المدني للبعث في آذار 1963 لم يتعد 200 إلى 400 عضو بحسب تقديرات مطاع الصفدي وعفيف الرزاز. كذلك خلال الصدام بين صلاح جديد وحافظ الأسد، فبينما حاز الأول على ولاء الحزب ودعم المنظمات الشعبية وحتى الجهاز البيروقراطي، حاز الأخير على دعم الجيش وحسم الصراع بسهولة لصالحه.

لعب الجيش دوراً حاسماً في الوحدة السورية المصرية التي وجهت ضربة حاسمة إلى الأعيان. وبعد الانفصال لن يطول الانتظار حتى يأتي انقلاب آذار وبدء حقبة جديدة من تاريخ بناء الدولة.

من فترة التنظيمات إلى عهد الوحدة يمكن تلخيص تحديات بناء الدولة بما يلي:

قوة أعيان المدن في البنية الاجتماعية وفي الدولة نفسها التي استخدموها لمصلحتهم الخاصة بشكل كبير، وهكذا كان دور الدولة مقيد بقوة وسلطة الأعيان. في مواجهة طبقة الأعيان ظهرت المسألة الزراعية التي حددت الحياة السياسية في سوريا لعقود.

بقاء مسألة السيادة والتشريع مفتوحة، خاصة مع غياب أو ضعف الهيئة التشريعية إما لمصلحة السلطة التنفيذية (الحكم الاستبدادي لعبد الحميد والاتحاد والترقي والانقلابات) أو بسبب سيطرة الأعيان عليها.

الهويات الإثنية التي حافظت على وجودها وعلى ذاكرة خاصة بها، وقد ارتبطت في كثير من الأحيان مع موقع طبقي وجغرافي خاص بها مما أعطاها حدود واضحة وعصبية تستند إليها، وخاصة مع تراكبها مع المسألة الاجتماعية (الريف في مواجهة المدينة).

البعث

استولى البعث على السلطة بعد صراعات متنوعة، أولاً ضد حلفائه ولاحقاً ضمن أجنحته، بين اليسار واليمين، المدنيين والعسكريين. كانت الفترة بين شباط 1966 وانقلاب 1970 الأشد جذرية من حكم البعث، فخُفض الحد الأعلى لملكية الأرض وتم التوسع بسياسة التأميم. فأصبحت الدولة تملك كل شيء تقريباً (ثلاثة أرباع الاقتصاد الوطني عام 1979) وبدأت بتنفيذ عدد من مشاريع البنية التحتية الضخمة، بهذا الشكل نجح البعث في تحطيم طبقة الأعيان.

يمكن النظر للنظام الذي شكله البعث بأنه نظام سلطوي شعبوي. شعبوي يستند على تحالف واسع عابر للطبقات والطوائف على أساس من قاعدة ريفية، يهدف إلى إعادة توزيع الثروة لصالح الفئات الشعبية من خلال الإصلاح الزراعي وتوسيع قطاع التعليم والتوظيف وازدياد حجم الاستثمار، وهو ما تجلى في التحسن الكبير في مستوى حياة السوريين خلال الستينيات. سلطوي بوصفه يحصر السلطة في يد جماعة صعيرة ملغياً إمكانية التنافس عليها. تتم العبئة والحشد في الأنظمة السلطوية من أعلى إلى أسفل عبر المنظمات الشعبية التي تدور في فلك السلطة مثل اتحاد العمال والفلاحين والمرأة بالإضافة إلى الحزب. شكلت هذه المنظمات مع الجهاز البيروقراطي والجيش نقاط اتصال الدولة بالمجتمع وأدوات لمركزة السلطة بين يدي الدولة. طرحت نقاط الاتصال هذه بدورها أزمة سلطة فالنظام (الرئاسي لاحقاً) خشي من تشكل مراكز قوة منافسة له داخل النظام وأن تكون قادرة على التعبئة والحشد لمصلحتها، مما دفعه إلى تقسيم هذه الأجهزة إلى مراكز متنافسة تقوم بمراقبة بعضها البعض، مثلاً أصبح في كل محافظة ثلاث مراكز قوى تتنافس فيما بينها: المحافظ وأمين الفرع ومسؤول الأمن السياسي.

كان استيلاء البعث على السلطة انتصاراً للريف على المدينة، وهذا له وجه آخر وهو صعود الأقليات الطائفية القادمة من الريف على حساب السنة، يقدم سامي الجندي صورة طريفة عن هذا الموضوع من خلال هيمنة حرف القاف في دوائر الدولة بعد انقلاب البعث[2]. مع سحق مجموعات الضباط المستقلين والحوارنة (سنة) والضباط الدروز، سيطر العلويون عملياً على الجيش والأجهزة الأمنية، وظهر الدور الكبير الذي لعبته العصبية الأهلية في النزاع على السلطة والسيطرة عليها، لاحقاً تولى العديد من أقرباء الرئيس مسؤولية المراكز القيادية في الجيش والأجهزة الأمنية.

تضررت المدينة من السياسة الاقتصادية للبعث وسيطرة أبناء الريف على الدولة، وعبرت عن معارضتها السياسية من خلال الاخوان المسلمين. فكان تسييس هوية إسلامية من قبل أبناء الطبقات الوسطى والعليا في المدنية كإطار لمعارضة البعث نتيجة للصراع السياسي، خاصة أن النظام يسهل تعريفه بحاضنته الطائفية. بدا مجدياً للمعارضة تحويل صراع المدينة والريف إلى صراع طائفي، بحيث يمكن للنخبة المدنية (السنية) تعبئة قطاعات متزايدة من أبناء المدينة في مواجهة “العلويين” والسعي إلى عزل أبناء الريف السني عن الآخرين، عبر التأكيد على هويتهم السنية في مواجهة الهوية الطائفية للآخرين. كذلك كانت العصبية الطائفية إحدى استراتيجيات النظام في مواجهة التمرد الإسلامي، ولكنها ليست الوحيدة. فلم يكن ممكناً الانتصار دون المؤسسات الجماهيرية التي اعتمدتها دولة البعث، خصوصاً الاتحاد العام للفلاحين الذي أمن دعماً حاسماً من الفلاحين وقسم كبير منهم من السنة في حوران والمناطق الشرقية مثل دير الزور والرقة. بالمقابل كان انحياز الريف السني الأكثر خضوعاً وتواصلاً مع المدينة كريفي حلب ودمشق أقل للنظام، ورغم هذا فقد حقق البعث حضوراً مقبولاً هناك.

بعد انقلاب 1970 ومع النزاع مع الاخوان قام الأسد بخطوات تجاه برجوازية دمشق من تجار وأعيان لنيل دعمهم وتخليهم عن الاخوان المسلمين مقابل عدد من الإصلاحات الاقتصادية والتغييرات في سياسة الدولة، التي فتحت الطريق أمام القطاع الخاص للعمل بحرية أكبر. قامت هذه السياسة على الاعتراف بدور النخبة الدمشقية السنية (تجار ورجال دين) وسلطتها في ضبط السلوك الاجتماعي لجماعتها، بوصفها نخبة محلية تتفاوض مع الدولة وتملك سلطة ما يتم الحكم عبر التعاون معها.

نال رجال الدين سلطة متزايدة في ضبط السلوك الاجتماعي، وضمان تفسير مقبول من السلطة للدين (الإسلام) والنظام الأخلاقي، كما زاد عدد المساجد بشكل كبير خلال عهد الأسد أضعاف زيادة السكان وكذلك معاهد تحفيظ القرآن (معاهد الأسد). لم يقتصر هذا على السنة وحدهم بل عرفت الجماعات المسيحية ازدهار في كنائسها والاحتفالات العلنية بأعيادها، ازدهار الجماعة الملية ترافق مع انكفاء المواطن. مع فشل مشروع التصنيع وضعف الموارد الاقتصادية للدولة وعدم قدرتها على إدامة رعاية الطبقة الوسطى الحديثة وإدامتها بدءاً من الثمانينيات، فإنها أفسحت المجال للجمعيات الخاصة لتولي موضوع الرعاية وخدمة الفقراء، خصخصة الرعاية الاجتماعية. نشأت هذه الجمعيات الأهلية داخل الحيز المكرس طائفياً مثل جمعيات مسيحية أو إسلامية تتولى تأمين حاجات الفقراء الجدد بفضل علاقاتها مع الميسورين من أبناء الطائفة (بيريه و سيلفيك 2016).

برغم البلاغة القومية العربية فإن استراتيجية السيطرة والحكم التي اتبعها الأسد في حكم سوريا تشبه لحد بعيد الاستراتيجية الفرنسية. فاعتمد الأسد بشكل متزايد على سياسات الهوية في تأمين توزيع مضبوط للسلطة والموارد داخل الدولة بين الجماعات الطائفية والجهوية وإعطاء دور متزايد للنخب التقليدية لهذه الجماعات لضمان وضبط سلوك أفرادها. فكان للعلويين حضوراً متميزاً ومركزياً في الجيش والمؤسسة الأمنية، بينما لعب السنة والمسيحيون دوراً في إدارة الجهاز البيروقراطي للدولة والحزب. كان هناك توزيع طائفي غير مصرح به في إدارات الدولة ومجالسها (مجلس الوزراء، مجالس المدن وحتى في النقابات). كذلك تداخلت علاقات الاستزلام في مؤسسات الدولة مع البعد الطائفي، فأن يكون مدير إحدى المؤسسات من منطقة ما، يعني أن عدداً متزايداً من أقربائه وجيرانه ومعارفه سيجدون بفضل “الواسطة” إمكانية أكبر في الحصول على وظائف لديه، وهذا يعني أنهم من طائفته، فشكل الأهلي المرتكز الأساسي للربط بين مؤسسات الدولة والمجتمع.

أدى احتكار الدولة للاقتصاد إلى جعل توزيع الثروة، وبالتالي إنتاج التركيب الطبقي للمجتمع، غير متعلق بالمنطق الاقتصادي بحد ذاته، بل نتيجة لعلاقات السلطة داخل الدولة التي تتولى عملية التوزيع بنفسها بشكل رشوة لطبقات، معامل لديها أضعاف حاجتها من العمال. أو من خلال تسيير الأعمال الاقتصادية بفضل علاقات النفوذ والواسطة مع الدولة، ومن أشكاله بالشراكة الاجبارية التي فرضها الضباط على التجار. لاحقاً سيظهر أغنياء جدد من داخل العصبة الحاكمة نفسها، وهم أغنياء لموقعهم في بنية السلطة. احتكرت الدولة إمكانية الوصول إلى المنافع الاقتصادية، مثل رخص الاستيراد والتصدير التي تكفلت الدولة بتوزيعها أو المناقصات التي عرضتها. وعليه لم يكن هناك إمكانية لبلورة هويات طبقية واضحة على أساس علاقات اقتصادية، فالانقسام الطبقي الآن يتم انتاجه عبر العلاقة مع الدولة ومن خلال علاقات شخصية وقرابية وواسطة. هنا يظهر لدينا “ظلم” عوضاً عن “استغلال”، ظلم يتعرف على نفسه بالبعد (الإقصاء) أو القرب من النخبة الحاكمة، ما يستعيد بدوره منطق العصبية والقرابة، وتظهر الدولة بمثابة ملكية يتم التنازع عليها.

مع تراجع أداء الدولة الاقتصادي في الثمانينيات والضعف الذي أصاب قدرة المنظمات الشعبية على التأثير في القرار الحكومي وتحطيم قوى المجتمع المدني ونقابات المهن الحرة، وجد السوريون مستويات معيشتهم تتراجع بشكل حاد وبدون إمكانية للتعبئة الطبقية لمواجهة هذا التراجع. لهذا عادوا إلى جماعات تؤمن لهم منفذ للوصول إلى مصدر للدخل ما من خلال علاقة ما مع الدولة، أو شبكات حماية ورعاية أهلية في أساسها. لم تعد النقابة هي التي تحمي، بل الشبكات الأهلية.

الربط بين الدولة والمجتمع عبر علاقات الاستزلام الأهلية الطابع، تراجع القدرة الاقتصادية للدولة على إدامة ورعاية الطبقة الوسطى، ودور شبكات القرابة داخل الدولة وتوزيع الثروة، كل هذا أدى إلى تدمير أخلاق الطبقة الوسطى القائمة على الفردانية والكفاءة والجدارة، القيم التي تشكل شرط أي هوية وطنية متجاوزة للهويات الأهلية. الريع والقرابة شكلا عصب الاقتصاد السياسي للخاص بإنتاج وتوزيع الثروة في سوريا، ما جعل من مأسسة وعقلنة البيروقراطية وتشكيل طبقة وسطى واسعة حول الدولة مسألة متعذرة تماماً.

رغم الحضور الكبير للسياسات الطائفية في الحياة اليومية للسوريين، إلا أن أحداً لم يصرح بها علناً، غير أنها شكلت دوماً معايير خفية وسرية يتم الاحتكام إليها، مقابل المعايير العلنية التي يتم التشدق بها ولكنها لا تنظم الحياة الفعلية وأمورها حتى في أكثر مؤسسات الدولة صرامة مثل الجيش. لم تكن الرتبة عاملاً اساسياً في تحديد علاقات القوة والسلطة، حتى عندما كانت تضبط قواعد التحية. أن يكون المرء لواءً في الجيش لا يعني أنه أقوى وأكثر نفوذاً من رائد في المخابرات، على الأغلب العكس هو الصحيح ورغماً عن القانون. هذا يعني أن القانون الرسمي والعلني لم يعد مهماً، وهو نفسه كان معلقاً بفعل حالة الطوارئ المقرة لعقود، بل أن هناك منطق باطني للسلطة وآلية عملها مستقلة عن منطق المؤسسات، وتقوم على شبكة من علاقات الولاء والقرابة. في النهاية يمكن للواسطة والرشوة أن يفتحا أي باب في سوريا. حتى القوانين أصبحت مصدر رزق لرجال السلطة. مما يروى، أنه مع بدء موجات الجفاف في المنطقة الشرقية، تم منع حفر المزيد من الآبار الارتوازية التي تشكل خطر على منسوب المياه الجوفية إلا بإذن خاص من المحافظ. هذا الإذن الخاص تحول إلى مصدر رزق فعلي لمحافظ الحسكة الذي أصدر العديد منها بعد الدفع.

ترافقت السياسات التي تتوسل الانتماءات الطائفية والجهوية مع التدمير التام للمجال العام في نهاية السبعينات وبداية الثمانينيات، مما عنى تدمير المجال الذي يمكن عبره تطوير هوية عامة للسوريين. وجود مجال عام قائم على الصحافة والأندية والأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية كان يمكن له أن يسمح للسوريين بالحوار والنقاش السياسي بحيث يتم تطوير اهتمامات وقواعد مشتركة -حتى لو كانت نقاط انطلاق الفاعلين في المجال العام مرتكزة على هويات أضيق نطاقاً من الهوية الوطنية- عبر تطوير جماعة وطنية “متخيلة” بوصفها المستهلك للخطاب الذي يتم إنتاجه عبر هذا المجال العام، كما حصل في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

رغم التوسع الكبير في التعليم الذي تم توحيده مناهج بعثياً وكذلك التوسع الكبير للمدن، فإن هذا لم يترافق مع انتشار ثقافة وطنية ومدَنية راسخة. فالتمدن بقي يتم داخل إطار الأحياء المغلقة بشكل أساسي، فكانت الأحياء سنية وعلوية ومسيحية ودرزية. فالعلويون الذين قدموا إلى حمص قطنوا عموماً في أحياء خاصة بهم مثل الزهرة، مقابل الأحياء المسيحية والسنية. وصار الذهاب من حي لآخر أشبه بالانتقال بين عالمين مختلفين، تبعاً للاختلافات المتلعقة بالرموز وأنماط السلوك واللباس وخاصة فيما يتعلق بالمرأة. كذلك في حلب استقر الأكراد الذين قدموا إلى المدينة في أحياء خاصة بهم مثل الشيخ مقصود، والحال نفسه مع الهجرات الريفية فاستقرت كل جماعة في حي خاص بها. بقيت الأحياء المختلطة طائفياً قليلة ومرتبطة عموماً (عدا قلة من أحياء الطبقة العليا) بانحدار في المكانة الاجتماعية، فالأحياء المختلطة أرخص من الأحياء “النظيفة”، مثل حي الميدان مقابل حي السليمانية في حلب. فحتى المدينة لم تعد مصدراً لثقافة مدنية جامعة، بل كرست التقليد القديم للمدينة الشرقية في المحافظة على الجماعات مستقلة ومنفصلة عن بعضها البعض.

عانت الدولة من عيوب أساسية رغم تضخم قدراتها الاقتصادية والقمعية بشكل هائل، فاحتكار الحيز السياسي لكل شيء بما فيه الاقتصادي جعل من كل أزمة اقتصادية واجهها النظام أزمة شرعية. ترافق هذا مع حقيقة أن الاقتصاد خضع تماماً للسياسي وحاجاته، فمن جهة استُخدم الاقتصاد لشراء الولاءات على مستوى الأشخاص أو حتى الطبقات الاجتماعية دون الاهتمام بالمنطق الاقتصادي نفسه، ومن جهة أخرى لخدمة متطلبات النخبة الجديدة التي استولت على الحكم وتحقيق ثرائها، مما أضعف قدرة الدولة على تحقيق التحديث الاقتصادي بما يضمن رعاية مستدامة لطبقة وسطى حديثة وواسعة. يُضاف إلى هذا أن قوة الجيش وأجهزة الأمن لم تعد مرتبطة بتطور المجتمع وقدراته الإنتاجية، بل يمولها ريع الدولة لحد ما ولكن الأهم العلاقات الإقليمية للدولة، فتولت الدول الخليجية والاتحاد السوفياتي وإيران هذه العملية، مما زاد من استقلال الدولة عن مجتمعها وفي مواجهته أيضاً.

الاستيلاء على الدولة تم عبر الجيش ومن ثم محاولة تشكيل تحالف واسع (ريفي أساساً) يدعم الدولة عنى محورية علاقات القرابة التي تهيمن على الريف، والتي يمكن قرائتها بشكل طائفي، وهي العلاقات التي استخدمت في النهاية في صراعات الضباط فيما بينهم وفي عمليات الحشد والتأطير التي استخدمها النظام لمواجهة خصومه. النزاع مع المدينة انتهى إلى تسييس الهويات الطائفية ومطابقة الحدود الطائفية مع حدود النزاع السياسي. الطبيعة الشخصية للسلطة الرئاسية دفعت الرئيس إلى تفيت المؤسسات ووضعها في مواجهة بعضها البعض بما يمنع من تشكيل مراكز قوى مضادة تهدد سلطته، بما أعاق ممأسة جهاز الدولة. مركزية القرار التنفيذي وإلحاق السلطتين التشريعية والقضائية به، إضافة إلى تحطيم تحطيم المجتمع المدني (حل نقابات المهن الحرة، المهندسون والأطباء والصيادلة، في 1980)، كل هذا أدى إلى سحق المجال العام الذي يسمح بتطوير هوية وطنية تتجاوز الاثني وإلغاء البعد التمثيلي في العلاقة التي تربط بين والسوريين والدولة ، بما يُكسب الأخيرة شرعية مستقلة وخاصة بها.

ثلاثة عوامل تضافرت في رسم مسار دولة البعث: خارجية الدولة وتفوقها (بالمعنى التقني، أي قدراتها التنظيمية والتقنية مستقلة عن المجتمع وعن مستوى تطور قدراته) والريع والقرابة. هذه العوامل صاغت دائرة مغلقة، سببية دائرية مثل تلك التي رأيناها في عرض بورديو التاريخي ولكن في اتجاه معاكس. فالريع سمح للدولة بضمان الوصول إلى قدرات تقنية وتنظيمية خارجية ومستقلة عن المجتمع، بالمقابل سمحت هذه القدرات للدولة باحتكار الريع ومصادرته لنفسها. استخلاص الريع تم من خلال الاعتماد على القرابة في السيطرة على الدولة، لكن الحفاظ على شدة القرابة تم برعايتها بالريع. خارجية الدولة وقدرتها على تهديد مجتمعها كانت مضمونة بتأمينها بعصبية (عصبية قرابية في الجيش وأجهزة الأمن)، والعصبية حفظت خارجية الدولة.

إن حاولنا أن نعطي تلخصياً لما قام به البعث بالإحالة إلى المجالات الثلاث التي تعنينا في علاقة الدولة بالمجتمع:

توسع الجهاز البيروقراطي بشكل كبير وزادت قدرته على التحكم بمجالات متزايدة، لكن هذا لم يعن زيادة في الكفاءة أو العقلانية المؤسساتية، فالطبيعة الأهلية لبنية السلطة جعلت الربط بين جهاز الدولة والمجتمع يقوم على علاقات استزلام مستندة على روابط أهلية أساساً. مركزية “الرئيس” وخشيته من أي منافسة تسببت في تشظي البنية المؤسسية للدولة.

فيما يتعلق بالقانون، فالسلطة وإن تمتعت باحتكار السلطة التشريعية (عدا الأحوال الشخصية) والقضائية، إلا أنها عطلتها فعلياً بإخضاع السلطتين التشريعية والقضائية تماماً للتنفيذية، بالإضافة إلى قانون طوارئ علق القانون عملياً. كذلك تمتعت السلطة ببنية مزدوجة فيما يخص القانون، فهناك قانون شكلي علني لا أحد -سوى الضعفاء- يعباً به، مقابل قانون غير مصرح به يعبر عن الطبيعة الحقيقية للسلطة. لهذا لم تحظ الدولة بشرعية مستقلة وخاصة بها، ومع غياب هذه الشرعية لجأت السلطة لتعزيز ودعم النخب التقليدية للهويات الأهلية، رجال الدين التقليدين وزعماء عشائر ووجهاء، من أجل تأمين القبول والطاعة من طرف جماعاتهم.

في النهاية وبرغم نجاح فيما يتعلق بالتعليم الموحد، فإن الجماعات الاثنية عرفت إزدهاراً لهوياتها، ففي النهاية كانت بينة السلطة نفسها قائمة على الأهلي والقرابة، فلم يعد الوصول إلى الثروة والسلطة مرتبط بالولاء للدولة، بل بالولاء للجماعة الأهلية أو للراعي في الدولة.

كيف لنا أن نفهم نظام البعث

توجد مقاربتان أساسيتان لفهم تجربة البعث في الحكم، الأولى (Batau، 1999)، (Hinnebusch، 1990) تنظر إلى البعث بوصفه نظاماً سلطوياً شعبوياً يقوم على تحالف واسع وعابر للطبقات يهدف إلى تحقيق مصالح الطبقات الشعبية مع ضعف القدرة على التعبئة الشعبية من تحت بحكم تأخر تطور المجتمع، ولهذا فإن استلام السلطة والتعبئة تتم من فوق وتكون الشرعية من طبيعة كاريزمية. تسعى الدولة إلى زيادة سلطتها ومراكمتها وضمان استقلالها عن الطبقات، بما يجعل من المستوى التنفيذي هو عصب السلطة الأقوى.

المقاربة الأخرى (سورا، 2017)، (سلامة، 1987) ركزت أساساً على العصبية (الطائفية أساساً) في عملية بناء السلطة في سوريا والاستيلاء عليها وعلى دورها في عمليات الحشد والتعبئة التي تسعى لضمان هذه السلطة.

لا تنكر المقاربة الأولى دور الطائفة ولا تنكر الثانية البعد الطبقي، ولكن السؤال هو عن البعد الأساسي في التحليل. المقاربة الأولى قامت أساساً على فرضيات تحديثية ومؤسساتية تحتاج على إعادة نظر ومساءلة (كيف لنا أن نفهم تكتلات الضباط خلال عهد صراع البعثيين؟ أو مركزية الطائفة اليوم في الصراع السوري؟)، والثانية افترضت صلابة في الهويات الأهلية قد لا تحوزها (كيف نفهم انحياز الريف السني أساساً إلى النظام خلال صراع الثمانينات؟).

أعتقد أن المقاربتين تجيبان عن جزء ما من المعضلة. كان الاقتصاد السوري خلال الخمسينيات والستينيات اقتصاداً زراعياً (تناقض ريفي-مدني) حيث تكون الهويات الريفية من طبيعة قرابية، هل نحن أمام رابطة طائفية أم قرابية؟ يمكن قرائتها بالطريقتين. لاحقاً نحن أمام دولة ريعية، يتم تحصيل الثروة عن طريق السلطة. الريع والقرابة هما مدخل فهمنا لتجربة الدولة في سوريا وبناء الهوية، مما يجعل الحدود الطبقية غير واضحة بما يطرح السؤال حول مدى ملائمة مفهوم “الطبقة” تحليلياً.

الملاحظ أن بطاطو وهاينوبش أشارا إلى أن الجماعات الطائفية (الأقليات مثل العلويين) تحظى بسمات طبقية مما يجعل من الممكن الحديث عن طبقة-طائفة، بالمقابل فإن السنة لم يشكلوا طبقة-طائفة، ورغم جهود حركات الإسلام السياسي من أجل تسييس هوية سنية، إلا أنها لم تنجح في جر السنة إلى أن يتصرفوا كجماعة. مقاربة بطاطو وهاينوبش سعت لرد المسألة الطائفية إلى أسباب هيكيلية ومؤسساتية تشرح الطائفية بوصفها لاطائفية، لكن في المقابل علينا أن نشير إلى حضور الإشكالية الطائفية منذ بداية الاندماج بالنظام العالمي الحديث، بدءاً من الثورات الفلسطينية ضد إبراهيم باشا وما تلاها من انتفضات وثورات حتى الثورة السورية الحالية. فلا تخلو ثورة من التباس طائفي، بما فيها تلك الثورات التي حظيت باجماع على مستوى السردية الوطنية المؤسسة مثل الثورة السورية الكبرى أو ثورة فلسطين 1936.

فسر موشيه ماعوز (Ma’oz, 1968) الطائفية بوصفها تعبيراً عن عدم قبول السنة وفشلهم في تبني خطاب الإصلاحات القائم على المساواة واعتبار الطائفية تعبير عن فشل في الدخول إلى العالم الحديث، بالمقابل حاجج أسامة مقدسي (Makdisi, 2000) أن الطائفية (المسيحية المارونية) نشأت بالارتباط مع خطاب المساواة الإصلاحي للدولة العثماني حيث تكون الهوية المسيحية هي هوية الشعب. لكن التعقيد الذي يحيط بعلاقة الخطاب الطائفي وخطاب الإصلاح نجده مثلاً في الحالة الدرزية، فخلال الثورة السورية تداخل الخطاب القومي والهوية الدرزية دون إشكال لدى قيادات الثورة في جبل الدروز. لاحقاً أكد وجهاء الدروز على خصوصيتهم الدرزية في مواجهة الحكومة المركزية في دمشق من أجل الحفاظ على استقلالهم الذاتي. في المقابل فإن المنتفضين على سلطة آل الأطرش في شعبية 1947 تبنوا خطاباً قومياً ووطنياً في مواجهة الخطاب “الدرزي” لآل الأطرش.

إن الخطاب الوطني مثل الطائفي استُخدم من جماعات مختلفة داخل “الطائفة” لتحقيق أهداف سياسية متباينة. إن “الحديث” في المسألة الطائفية، وهو نفسه الحديث في المسألة القومية، ليس الطائفة أو الأمة، بل ظهور السياسات الجماهيرية بما ينقلنا من مجرد “هوية” إلى هوية ممارسة ومسيسة. وهو ما يحيلنا إلى قدرة الدولة على استثمار الرموز والشعائر لتشكيل هوية وطنية لشعب هذه الدولة وتنازعها في هذا مع نخب سياسية تسعى إلى تقييد سلطة الدولة في هذا المجال.

البعد السياسي للهوية الطائفية وقدرتها على التعبئة والحشد تحيلنا إلى مفهوم الحدود الاثنية لبارث والذي أشرنا إليها سابقاً، ويمكن توسيعه للحديث عن الهويات عموماً، أي لحظة تسييس بعد من أبعاد الهويات الممكنة بما يفرضه النزاع السياسي وبناء تحالف سياسي على أساسه. في الخمسينات كان النزاع بين المدينة والريف، وعليه تم تسييس هوية ريفية تجمع العلوي مع السني والدرزي، لاحقاً تم تسييس هوية علوية في النزاع داخل الجيش (في مواجهة مجموعة الضباط الحوارنة السنة بقيادة أحمد سويدان والضباط الدروز بقيادة سليم حاطوم) وفي ضمان بقاء السلطة في مواجهة المجتمع. استقلال السياسي يعني قدرته على تعريف لحظة التنازع وتقديم الهوية التي تناسبها، وهو أيضاً مع فعله الأخوان المسلمون في الثمانينيات بتسييس الهوية السنية. لا يعني هذا أن السياسي يختلق الهوية، في النهاية لا ننسى أن هوياتنا الاثنية لها حدود (تشريعية ورمزية وحتى بيولوجية) تفصلها عن الجماعات الأخرى وتحفظ إعادة انتاجها كجماعات متباينة.

خلاصة

إذا نظرنا إلى الدولة بوصفها عملية تهدف على احتكار السيادة في مواجهة ادعاءات أخرى مضادة، وإخضاع متزايد لمجالات الحياة الاجتماعية لسلطتها البيروقراطية ومن دون المرور عبر هيئات وسيطة تدعي تمثيل جماعات ما، وأن يحوز هذا الاخضاع على القبول باعتبار الدولة ممثلة للشعب، فعملية بناء الدولة لم تنجح في سوريا في الوصول على هدفها برغم نجاحات عديدة هنا وهناك. فهي لم تحز على الشرعية ولا استطاعت أن تقدم نفسها باعتبارها المركز النهائي للسيادة، ولا هي كانت قادرة على تعبئة وحشد الجماهير بشكل مباشر. الدولة السورية بقيت فيما يخص القدرة على التحكم الاجتماعي على الحد الأدنى، ضمان الامتثال دون أن تتجاوزه إلى المشاركة والشرعية.

لم تكن للدولة موارد كافية لتحطيم الجماعات الوسيطة وبالتالي ضمان كامل التحكم باستراتيجيات البقاء لسكانها، أيضاً، عانت بشكل منتظم من معضلة الشرعية وعدم قدرتها على احتكار الرأسمال الرمزي، فلم يطرح أي نظام في سوريا تحدي على القوانين الدينية الخاصة بالأحوال الشخصية مثلاً. كذلك ضعف البعد المدني للمجتمع (المجال العام) وطبيعته الفسيفسائية من جهة ولاتوازنه مع قوة مؤسسة الدولة (الجيش أساساً) سمح للعصبيات الأهلية أن تصبح العامل الفاعل في السيطرة على الجيش ولاحقاً على جهاز الدولة بأكمله. وعوضاً عن أن تكون الدولة صورة عن أمة موحدة، أصبحت صورة عن المجتمع المجزأ وأداة من أدوات جماعاته للصراع فيما بينها، وأصبحت قدرة الدولة على إدامة سلطتها لا تقوم على الشرعية، بل على رعاية الحرب الأهلية في المجتمع. فصارت الدولة مجرد عصابة في علاقتها مع مجتمعها.

هذا يحيلنا إلى غياب العملية الثانية (الديمقراطية والشرعية) في عملية بناء الدولة التي أشرنا إليها بداية، والناتجة عن غياب سلطة تشريعية -بقيت هي والسلطة القضائية تابعتان للسلطة التنفيذية- وتفت المجتمع إلى هويات اثنية مختلفة وعدم القدرة على إنشاء مجال عام مستدام يفسح المجال للمشاركة في السلطة وبناء شبكات الثقة مع الدولة وتشكيل هوية وطنية. إن الاقتصار على مقاربة تستند على القوة والسلطة لن يكفي لشرح مفارقة الدولة في العالم الثالث، وضمناً سوريا، دون الالتفات إلى بناء الشرعية من خلال المشاركة والتمثيل. حدود مقاربة بورديو تظهر هنا، فالدولة بغياب الشرعية ورغم قوتها المفرطة لن تعدو عن أن تكون مجرد عصابة تحكم.

إن الاقتصادر على الديمقراطية والتمثيل في مجتمع مجزأ بدون تفكيك الجماعات الأهلية وإعادة تشكيل سياق الحياة اليومية للأفراد، لن يعني إلا إنتاج سيطرة الجماعة الأهلية الأكبر في مواجهة رفض وممانعة الجماعات الأخرى. بالمقابل فإن الاقتصار على العملية الثانية، سيطرة جهاز الدولة وهيمنته، دون قدر من التمثيلية وما تؤمنه من شرعية مستقلة وخاصة بالدولة، لن يعني سوى أن الدولة تكون مجرد عصابة، تستدعي العصبيات الأهلية مع الحاجة إلى الحفاظ على السلطة وتماسكها.

يمكن فهم جانب من مسألة غياب الشرعية بشكل أفضل بالنظر إلى إشكالية السلطة في التراث الإسلامي. يقدم برتران بادي (بادي 2017) صياغة مثمرة لإشكالية الدولة في الغرب والعالم الإسلامي. ففي العالم الإسلامي لم يحظَ الحيز السياسي باستقلال عن الديني مماثل لذلك الاستقلال الذي تمتع به في الغرب. استقلال سمح بصياغة أسئلة السيادة والشرعية والتمثيل بشكل مستقل بالحيز السياسي. في العالم الإسلامي كانت السلطة (الشوكة) خاضعة للضرورة، أما الشرعية بقيت مرتبطة بالنظام القيمي للشريعة، وعليه فإن السلطة لا تحوز بذاتها على أية شرعية، حيث لا مكان لطرح قضية التمثيل السياسي. هذا ما ترسخ لاحقاً مع الإصلاح الذي بادرت به السلطة السياسية (التنفيذية) انطلاقاً من حاجاتها الخاصة، حيث بقيت مسألة المشاركة مقيدة أو معدومة، إلا في لحظات نادرة. لهذا فإن الثورات والانتفاضات لدينا قامت أساساً بمنازعة الدولة في مسألة السيادة، ولم تدور على مسألة التمثيل السياسي والمشاركة في صنع القرار.

يترافق هذا مع حقيقة أن الانتماء إلى الأمة في العالم الإسلامي لا يحيل إلى جماعة تتماهى مع أرض وتالياً دولة، بل إلى جماعة تعرف نفسها من خلال الانتماء إلى نظام قيمي ومعياري مشترك، يسمح لأناس من أصول مختلفة وعلى مسافات متباعدة بالشعور بالانتماء إلى جماعة واحدة، في الوقت الذي لا يربط، ربما، هذا النظام القيمي والرمزي بين شخصين يعيشان في مدينة واحدة.

إن ديمومة حركات الإسلام السياسي في كونها المعارضة الأبرز للدولة، برغم كل ما نالها من قمع، تعود إلى تجذر لغتها في تقليد الشرعية والعدالة الخاص بغالبية السوريين وفي واقع حياتهم الاجتماعي، لغة عدالة وشرعية تقف في مواجهة الدولة وليس النظام وحسب. على العكس من لغات معارضة مستمدة من تقاليد مغايرة مثل الماركسية والليبرالية والتي لا تتمتع بأي أساس اجتماعي، بل يمكن للدولة أن تستخدمها لبرير قمعها لمجتمعها من جهة، كما أنها استُخدمت من قبل الأقليات في مواجهة الغالبية السنية، فالعلمانية في سوريا عموماً لم تُقصد إلا في مواجهة السنة أساساً[3].

المراجع

Barth, Fredrik. 1998. Ethnic Groups and Boundaries: The social organization of cultrue difference. Edited by Fredrik Barth. Waveland Press, Inc.

Batau, Hanna. 1999. Syria’s Peasantry: The descendants of its Lesser Rural Notables and their politics. Princton University Press.

Bourdieu, Pierre. 1985. Praktische Vernunft. Translated by Hella Beister. Frankfurt am Main: Suhrkamp.

Hinnebusch, Raymond. 1990. Authoritarian power and state formation in ba’thist Syria. Westview Press.

Landis, Joshua. 1998. “Shishakli and the druzes: Integration and Intransigence.” In The Syrian Land, by Philipp Thomas and Brigit Schaebler. Stuttgart: Franz Steiner Verlag.

Makdisi, Ussama. 2000. The Culture of Sectarianism: Community, History, and Violence in Nineteenth-Century Ottoman Lebanon. University of California Press.

Ma’oz, Moshe. 1968. Ottoman Reform in Syria and Palestine 1804 – 1861. Oxford at the Clarendon press.

Migdal, Joel. 2001. State in Society. Cambridge University Press.

—. 1988. Strong societies and weak states. Princeton University Press.

Provence, Michael. 2005. The Great Syrian Revolution and the Rise of Arab Nationalism. University of Texas press.

Tilly, Charles. 2007. Democracy. Cambridge University Press.

Tilly, Charles. 1985. “War Making and State Making as Organized Crime.” In Bringing the State Back, by Peter Evans, Dietrich Rueschemeyer and Theda Skocpol , 169 – 187. Cambridge University Press.

الجندي, سامي. 1969. البعث. بيروت: دار النهار للنشر.

بادي, برتران. 2017. الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وبلاد الإسلام. Translated by لطيف فرج. القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر.

بيريه, توماس, and كيتيل سيلفيك. 2016. حدود “التحديث السلطوي” في سوريا: الضمان الاجتماعي الخاص، الجمعيات الخيرية الإسلامية، وصعود جماعة زيد. تشرين 1/أكتوبر 16. انظر الرابط.

خوري, فيليب. 1997. سوريا والانتداب الفرنسي سياسات القومية العربية 1920 – 9146. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية.

سلامة, غسان. 1987. المجتمع والدولة في المشرق العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

سورا, ميشيل. 2017. سورية الدولة المتوحشة. Translated by أمل سارة and مارك بيالو. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

شيبلر, برجيت. 2004. انتفاضات جبل الدروز – حوران من العهد العثماني إلى دولة الاستقلال 1850-1949. بيروت: دار النهار.

فيلدمان, نوح. 2014. سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها. Translated by الطاهر بوساحية. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

الهوامش

[1] وهو ما قامت برجيت شيبلر (شيبلر 2004، 13 – 22) في دراستها عن الدروز واعتبرتهم جماعة إثنية.

[2] “كان مقياس نجاح الوزير قوائم التسريحات، فالحزبيون وأقرباؤهم وبنو عشائرهم يطالبون بحقوق النضال والقربي. بدأت قوافل القرويين منذ ما ظهر الحزب على المسرح تترك القرى من السهول والجبال إلى دمشق. وطفت القاف المقلقة على وشوارعها ومقاهييها وغرف الانتظار في الوزارات” (الجندي 1969، 136 – 137)

[3] يبقى ياسين الحافظ، ربما، كأول مثقف سوري تناول المسألة الطائفية ومسألة الأقليات صراحة، وأشار منذ السبعينيات إلى العلاقة بين الأقليات والأحزاب ذات الخطاب الوطني مثل الشيوعي والبعث. بالنسبة للحافظ كان من الطبيعي أن يكون للأقليات دور كبير يتجاوز دورها الديمغرافي، وأن تكون الأحزاب الوطنية هي جسر للأقليات لتحقيق الجماعة الوطنية والاندماج فيها. لكن الحافظ أشار إلى علاقة مقلوبة بين هذه الأحزاب والأقليات، فصارت الأحزاب بدورها تعبيراً عن مخاوف الأقليات وفزعها. وقد تناول الحافظ الحزب الشيوعي السوري مثلاً، حيث للأكراد والأرمن دور كبير فيه، وكيف أن هذا الدور انعكس على موقف الحزب الشيوعي من مسالة الوحدة العربية التي صارت تأتي قبل أو بعد مطلب تخفيض سعر الخبز.

كاتب سوري، باحث في الفلسفة السياسيّة وعلم الاجتماع، يدرس الدكتوراه في ألمانيا.

معهد العالم للدراسات

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى