صفحات العالم

مفتاح الالغاز السورية كلها: من سيحكم دمشق غدا؟

 

مطاع صفدي

الجامعة العربية ليست تنظيماً سياسياً زائداً عن اللزوم. فقد جعلها الحكام العرب منذ نشأتها واحداً من أضعف كياناتهم الدولانية الرسمية، ومع ذلك تمسّك الجميع بها سواء كانوا من صنف القادة التقدميين، أو المحافظين. فعلوا ذلك لأن أحداً منهم لا يريد أن يُنظر إليه من خارج العائلة القومية الشاملة. فالجامعة التي قد تلم الشمل الحاكم من قمة إلى قمة. تجعل أعضاءها، أبناءها، يتذكرون أنهم يمتون إلى أصل واحد، رغم أنهم واقعياً متفرقون وأكثرهم مختلف أو متخاصم أو متكاره مع أنداده الآخرين. لكن الكل ولا أحد منهم، لا يرضى لنفسه أن يغرّد خارج العش الدافئ. غرائز الانتماءات الطوعية للاسم الجمعي فاعلة وحاكمة بأمرها، لا أحد في ديار العرب يريد أن يعزل نفسه عن عشيرته، لكن عندما تضطر العشيرة إلى طرد أحد أبنائها تلك هي العقوبة التي تسحب عن المطرود مشروعية وجوده، تحيله إلى مجرد طريد. وكان العرب قديماً يصنفونه صعلوكاً، أي كائناً منبوذاً من القبائل جميعاً، لن تحميه أية اعتبارات أو سلوكيات عامة، يصير مستباحاً في وجوده عينه، لن يطالب بدمه أحد إن لقي حتفه على يد لص أو فارس.

هذا الحدث غير المسبوق في تاريخ الجامعة إلا مرة واحدة، عندما فُرض على الجامعة أن تقاطع مصر خلال حكم السادات بعد زيارته إلى إسرائيل وعقد إتفاقية (كامب ديفيد) التي اعتبرها العرب الرسميون آنذاك خروجاً على الإرادة القومية، وانفراداً بالصلح مع دولة العدو، ويحدث اليوم أن سلطة حاكمة في دمشق تخوض ما يشبه حرب تفان متبادل مع معظم شعبها، عليها إذن أن تتلقى الإدانة والعقوبة من قبل هيئة عمومية، قد تمثلها مؤسسة الجامعة بطريقة ما رمزية، كأنها باسم عشرين دولة وأكثر يتم انتزاع مشروعيتها، وذلك تعبيراً عن حال من الغضب (الأخلاقي) تعتري شعوب هذه الدول، ضد جرائم العنف الهمجي المتمادية دون هوادة منذ عامين وأكثر، وتتكرر فصولها المرعبة هذه كل يوم تقريباً.

لكن تبدأ المشكلة ليس في طرد المذنب، بل فيمن سيحل مكانه. فالرأي العام العربي الغاضب قد يسره سحب المشروعية عن الظالم، ولكنه يتريث متردداً إزاء البديل، فالأمر يتعدى الإتيان رمزياً بالبديل. ههنا يشعر الرأي العام المراقب أن هناك من انتحل إرادته، من مارس حقوق الآخرين بدون إذن أو تفويض من قبلهم. فإذا كان هناك شبه إجماع عربي بل دولي حول إدانة العنف وجلاديه، وبالتالي يفقد المدان الأساس القانوني لشرعيته، غير أن هذه الشرعية المسقطة لن تكون ملكاً مشاعاً لمن يمكن أن يختطفها لنفسه قبل سواه. ما لم يدركه الساسة الفاعلون في كواليس القمة الأخيرة، هو أن الثورة (السورية) ليست مصنعاً يدار بغير مهندسيه وعماله.

ما أضرَّ بهذه الثورة منذ بدايتها هو التلاعب الدولي بمصائرها، والإقبال (الأجنبي) الشره على التدخل في أخص تفاصيلها، ومع انعقاد هذه القمة لأقطاب الجامعة العربية، تدخل الثورة في عهدة التلاعب السلطوي ما بين محاور الأنظمة الحاكمة إقليمياً؛ بينما حاذر شباب الانتفاضة الانتماء إلى أية عباءة تنفلش فوق رؤوسهم من خارج ساحاتهم الأصلية، يسعى بعض (الخليج) لأن يستتبع مستقبل سورية كله، من خلال السيطرة على مقدماته الثورية الراهنة. فالكفاح الشبابي لم يُترك لعفويته، وقد أسيئت كل علاقة معه، ادعت تلبية لحاجاته العملية. فالأغراب لا ينصرون الأبطال لبطولاتهم، بل يجعلون لها أثماناً باهظة يطالبون (القضية) كلها بتسديدها، من رصيد استراتيجيتها عينه. ما يفعله الأغراب هو مضاعفة الثورة بـ ـ اللاثورة، أي بالسياسة. وما أنجزته جامعة الأنظمة في قمة الدوحة هو أنها مقابل عقوبة النظام الأسدي بحرمانه من مقعده فقد جرى توكيل السياسة الرسمية بتعيين قيادة فوقية على رأس واحدة من أنبل ثورات الربيع العربي، ومن أكثرها تضحية وأكلافاً هائلة بكل شيء.

قد لا يهتم شباب الثورة كثيراً بالترتيبات الدبلوماسية الجارية على قدم وساق في الاغتراب العربي خاصة، بعد أن كانت عامرة كثيفة في المجال الأوربي. كأن الأنظمة العربية التي التزمت مواقف المراقبة والتفرّج من بعيد، تحاول أخيراً التعويض عن كسلها الماضي باصطناع وسائل التدخل أو التطفل على جبهات الدم والموت. لكنها لن تبلغ حدود الميادين المشتعلة داخلياً، لذلك كانت تتسابق وراء رهانات المناورات السياسوية وحدها.

إنها تستثمر إلى أبعد الحدود هذه الفروق الجغرافية بين الداخل والخارج، هذا الانقسام بين ميادين القتال، وصالونات الأقوال، حيثما يحلو لأصحاب الألقاب الدبلوماسية تصيّد الرجال شبه العاطلين عن العمل، ممن يتسكعون في هوامش المعارضات على اختلاف عناوينها ومناهجها.

هذا لا يعني التقليل من فعالية النشاط المدني الخارجي، لكن المشكلة تظل هي نفسها، والمتمثلة تحديداً في هذا الاهمال شبه المتعمد لمسألة المرجعيات الفعلية للمواقف والاتفاقات والعهود المعقودة ما بين الفئات والجهات الأجنبية، وفيما بين أجنحتها بالذات. فالاختلاط السائد ما بين التغلغل الاستخباري، ومصطلح العمل النضالي لا يثير الشبُهات فحسب، بل ينال من صدقية الترتيبات التنظيمية المعلنة، سواء على مستوى القيادات أو الفعلاء اليوميين، والمباشرين.

ظاهرة التشرذم ما بين أطياف المعارضة المغتربة لا تقضي فقط على المزايا الإيجابية لحالات التعدد والتنوع المطلوبة والمفيدة، لكنها تدمر وتبدد كل معنى للغِنى الثوري. وفي هذا الوقت الذي تتعرض فيه نوازع التنظيم لهجمات الاختطاف من كل حدب وصوب، يصبح هدف توحيد المعارضة المدنية تحت قيادة تنوعية متكاملة، أشبه بإبداع ثورة جديدة، ولو في بلاد الاغتراب. لكن هذا التوجه ليس مستحيلاً تماماً، فكم من مرة يجتمع فيها عدد من الرجال الغاضبين ليعلنوا عن ثمة تنظيم جديد، إنه التفكير الممكن في تطويع المستحيل أحياناً، وإن لم يكن تفكيراً مجدياً إلا في حالات نادرة. بيد أن محصوله الوافر هو طوائف هذه الشراذم المتناثرة كل يوم على هوامش التنظيمات الأصلية. ما يجعل هذه الأخيرة كأنها باتت بدون أصول وحدود لهوية تعرف بها، أخيراً.

إنه زُحامٌ صاخب من الاختطافات التي ابتدأت أولاً تحت الشكل الأيديولوجي، ثم صارت إلى الشكل التنظيمي، وها هي اليوم تتنافس في صنع السلالم التي توصلها إلى قمم السلطة لما بعد الانهيار الفاشي، وفي هذه المرحلة الثالثة تغدو القوى الدولية هي المتنافسة الأولى فيما بينها على الإمساك بدفّة المبادرة، إمّا إلى الحسم سياسياً أو عسكرياً، بينما تظلّ الدول العربية هي القنوعة كعادتها بأدوار المساعدة للمعلمين الكبار، بعد أن أوكل سلطان (البترول والغاز) نفسه عن الجميع قائداً وحيداً للخطوات الفاصلة القادمة.

هكذا كرست قمة الجامعة في العاصمة القطرية نوعاً من ميثاق شبه جمعي، يحتوي على لائحة من جملة بنود ضمنية، بكل ما هو مسموح أو ممنوع في خارطة التغيير العربي، مشرقياً على الأقل، وذلك إنطلاقاً من الطريقة التي سيتم بموجبها الإجهازُ على نظام دمشق سلماً أو حرباً، ومن تحديد صارم لمخطط توريث السلطة لما بعد الديكتاتورية

بات الجواب على سؤال: من سيحكم دمشق بعد الثورة؟ هو مفتاح كل الألغاز المحيرة التي تتحرك حولها دوائر القرار العربي والدولي في المنطقة. وقد تكون المعارضة المغتربة هي إحدى هذه الدوائر، ولكن من أضعفها. لن تتغير هذه المعادلة البائسة إلا عندما ينجح بعض هؤلاء المغتربين في التحول إلى فصيل ثوري خالص، ملحق بعصب الثورة الكبرى في الوطن الأم. فالمستقبل المختلف/المأمول لعلاقة الداخل والخارج متوقف على تحقق العكس في توجه هذه العلاقة، من المركز إلى المحيط، ومن الواحة إلى الصحراء، وليس من صحراء التيه إلى أية واحة. إذ تصاب هذه حينها بالجفاف والعقم…

سوف يظلّ الغرب يطالب المعارضين بالوحدة، كشرط للسماح بالعون العسكري الجدي، ولكن أية ثورة معروفة في التاريخ، وفي مسيرة الغرب نفسه، كانت أحادية الممارسة، بل كان طريقها الصاعد من الشارع إلى قمة السلطة محفوفاً بالتوجهات والفصائل المتناقضة ما أوجب وقوع التصفيات السياسية وحتى الدموية، ما بين أقطابها. وغالباً قد يتسلم هذه القمة من لم يكن متميزاً أو حتى فاعلاً في القاعدة. وعلى كل حال فالثورة لم تأخذ إذناً، ولم تطلب عوناً من أحد عندما انفجرت أحداثها الأولى. ولقد تمكنت من الصمود وتحقيق الانتصارات النسبية طيلة العامين الماضيين، ما يرشحها للبقاء والاستمرار إلى وقت مستقبلي أطول حتى لحظة الإنجاز النهائي. فالنصائح الغربية المترددة والمتعارضة أساءت بما فيه الكفاية، إلى الحد الذي جعلها تنكشف عن إرادة مبيّتة خبيثة لا تريد للثورة مستقبلاً من صنع عقلها ويدها فحسب.

الغرب وحلفاؤه الإقليميون قد يضطرون في منعطف ما قريباً، إلى سحب الحماية الأخيرة عن النظام والسماح للثورة بتحقيق الضربة القاضية، لكن الصراع المتنوع والمتشعب من مقدماته الحالية، سيبلغ أوجه مع سيناريوهات الحكم الثوري العتيد. فلا يزال صميم الاستراتيجيا الغربية مصمماً على الحيلولة ما أمكنه دون فوز العرب بأية دولة حرة حقيقية.

متى يدرك البعض من قادة الأحلام العربية الكبرى، أن من ندعوهم بحلفاء الضرورة للزمن الحاضر كانوا من أعداء الضرورة طيلة الماضي القريب والبعيد، وسوف يعودون إلى أصلهم ذاك عند أول مناسبة اليوم أو غداً، فليس من ثقافة للضرورة الدائمة إلا للحقيقة وحدها.

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى