صفحات سورية

مفهوم الكرامة في الثورة السورية

هيثم وقاف

تخلق السلطة في النظام الشمولي عالماً من العنف يشمل المجتمع بأسره بمختلف طبقاته وفئاته وجماعاته وأفراده. الانسان في هذه البيئة العنفية لا يسيطر على مصيره، فمصيره بيد السلطة. السلطة التي هي منبع العطاء ومصدر الشقاء. تمنح عطاءها لمن ترضى عنه وتنزل عقابها على من تغضب عليه. هذا ما يجعل الانسان في حالة قلق دائم على مصيره. فلا ثقة لديه في غده، وكل شيء من حوله يثير الريبة والحذر والخوف من كارثة محتملة. إن الخوف الذي يعشعش في داخله بحكم التهديد الدائم لأمنه ورزقه وحياته. يدفعه إلى ضروب من الأمان الزائف تتجلى في الطاعة والامتثال، في الركون الى القدرية، في التعلق بالوهم والخرافة…. تتجسد قوة السلطة بالنسبة ،للإنسان المقهور، في كل رموزها بدءاً من أصغر موظف في دائرتها وانتهاء بالسيد الأعلى. في هذه الدائرة الجهنمية، لا مكانة له ولا حقوق، لا ضمانة ولا قيمة، إلا ما تشاء السلطة أن تتفضل به عليه. هو دائماً مغلوب على أمره عاجز أمام سلطة كليّة القدرة تنشر عنفاً بلا حدود. إن العجز أمام جبروت السلطة يفقده الثقة بإمكاناته وبقدرته على الخلاص، فيؤثر السلامة وينكفئ إلى داخله، صارفاً جهده في ضبط ما يعتمل فيه من توتر وغضب وعدوانية، خشية مواجهة لا يرى طائلاً من ورائها. حتى النخبة تفقد ثقتها بإمكانية الجماهير على الفعل والتأثير، ولا ترى فيها غير الاتكالية والخنوع. في علاقة السيطرة/الخضوع، تتفاقم عند الاتباع نزعة الدونية، وازدراء الذات والاحساس بالعار وبالجبن. وتتخذ الدونية صورة القدر الذي لا راد له. وتتجلى في سلوكيات التزلف والاسترضاء والاستعطاف، وفي تعظيم السيد، والاعتراف بحقه غير المشروط في فرض تسيده كما يشاء. ولعلنا نرى في الشعار:( مطرح ما بتدوس منركع ومنبوس)،الذي رفعه شبيحة النظام السوري، أقصى درجات الخضوع والاستزلام، إذا وصل الأمر بهم حدَّ مماهاة سيدهم بالخالق. هذا الضرب من التعلق بالقائد/الرمز/المقدس، يغذي نرجسية المتسلط ويعزز قناعته بأن الاتباع لا يفهمون إلا لغة القوة ولا يطيعون إلا السوط. وبمقدار ما يتم تبخيس الانسان في عالم السيطرة، يتم تعظيم أنا المستبد، لتبتلع الفرد والدولة والمجتمع. لسان حال المستبد ،والقذافي نموذج، يقول: (من أنتم)؟! (أنا المجد!!) لا سيد إلا أنا، لا وجود لكم إلا ما يسمح به وجودي، لا حق إلا حقي، لا ديمومة إلا ليّ، وكل ما يصدر عني، أو يبدر مني هو الحق عينه. وبمقدار ما تتضخم الذات المتسلطة فإن ذوات الأتباع تفقد أهميتها واعتبارها، حتى لتكاد تتلاشى. ويجب أن تتلاشى، إلا حيثما يجد لها المتسلط مكاناً وضيعاً في احتفالاته ومهرجانات سيطرته. إن علاقة القمع في نموها ودوامها، تحتاج الى تلك النرجسية الخاصة بالمتسلط، إذ من الضروري أن يفقد المتسلط الحس الانساني بالتعاطف، وأن يكون بلا شرف، ولا أخلاق، ولا صداقات، كي تستمر علاقة العنف بالاشتغال في كل مكان في البيت، في المدرسة، في الشارع، في العمل، وحتى في أماكن اللهو والتسلية. إن الكائن المجرد من انسانيته هو شيء. وليس له من قيمة الا بمقدار ما يندرج في مخططات السلطة واحتياجاتها. واذا ما خرج في وقت ما عن قانون سيطرتها، يصبح رمزاً للشر، وتجسيداً للعقوق، وتباح بحقه كل أشكال العنف. لا وجود للغير في حضرة أنا السيد إلا بوصفه تابعاً. وفي الثقافة السائدة، والتي هي ثقافة السلطة السائدة، هيمنت فكرة تخلف الجماهير وعجزها. إذ كيف يرتجى منها وهي الخانعة العاجزة الكارهة للجديد، المتوجسة من كل تغيير، المتشبسة بكل ماهو مألوف وتقليدي أن تقرر مصيرها؟! هذا ما يبرّر ويشرّعن وجود حاكم متسلط يسوسها ويضبط انفلاتها. إن سياسة التبخيس الواعي لإمكانات الشعب على التحرر، جعلت من غير الممكن رؤية الكامن فيه من طاقات عظيمة، وما يعتمل في داخله من رغبات ممضّة بالتحرر. الأمر الذي جعل ساعة الانفجار تصيب بالدهشة، ليس السلطة فقط، بل تلك النخب السياسية المعارضة، التي هيمن على وعيها، مفهوم الطليعة حاملة الوعي الثوري إلى الجماهير من خارجها. أربعون عاماً ونيف قضاها الشعب السوري، راضخاً مستكيناً لسلطة هي في أوج تسلطها. هدرت حقوقه وقيمه، وقيدت طاقاته، واختزلت إنسانه الى مستوى البهيمة. حتى بدا الإذعان وكأنه جوهر هذا الشعب .وأن التسلط المفروض عليه وكأنه قدر لا راد له. هذا التاريخ الطويل من الرضوخ، كانت تتخلله ضروب من المقاومة الخفية، لا تجرح المشهد العلني للخضوع. وحدها أصوات النخب الحرّة المتمردة، كانت تقطع هذا المشهد، بين الحين والآخر، في مواجهة شجاعة، لمختلف صنوف التنكيل والقهر. لكن هذه النخب بقيت وحيدة ومعزولة عن شعبها، وعاجزة عن استنهاضه، ضد الطغيان. هذا لا يعني أن نضالها ذاك، بعجره وبجره، كان نوعاً من العبث في مواجهة السلطة المطلقة. فمما لاشك فيه أنها راكمت نضالات مشهودة كانت معيناً لجيل الثورة لاحقاً . البدايات “الشعب السوري ما بينزل” في 17/شباط/2011 وفي منطقة الحريقة بدمشق، وجه أحد أفراد شرطة المرور، كلاماً مهيناً لاحد الشبان. لكن الشاب لم يهن أمام الشرطي ورد عليه. وتطور الموقف الى ضرب الشاب من قبل الشرطة واعتقاله. وسرعان ما تجمع مئات من المواطنين، تضامناً مع الشاب، وهتفوا مطالبين بالإفراج عنه، ومعاقبة الجناة، وكان هذا الهتاف اللافت “الشعب السوري مابينذل”. في الإهانة التي تعرض لها ذلك الشخص، إهدار لكرامته من قبل رمز من رموز السلطة، تعود النظر إلى الناس بوصفهم مجرد أشياء، يحق له أن يتصرف بها كما يشاء. وفي ردة الفعل عليه، دليل على أن الشخص المعني يعيِّ تماماً ذاته ويحترمها، ويطالب الآخرين باحترامها.. وفي دفاع الجماعة عن ذلك الشخص الذي تعرضت كرامته للإهانة، دليل أيضاً على احترام هذه الجماعة لذاتها، وعدم تفريطها بها، ووعيها بان الدفاع عن كرامة ذلك الشخص، هو شرط للدفاع عن كرامتها هي، وأن اعترافها بكرامته كشخص إنساني، من خلال دفاعها عنه، هو شرط لابد منه للاعتراف بكرامتها هي كجماعة، بل وبكرامة الشعب الذي تنتمي له، إذ لا كرامة لشعب إلا بالمرور بكرامة كل فرد من أفراده .وذوات الآخرين لا تكون جديرة بالاحترام حتى تكون ذات كل منهم محط احترام وتقدير. في هذه اللحظة من الصراع بين تلك الذات الانسانية، وبين رمز من رموز السلطة المطلقة، نستشعر أن الكرامة صارت قيمة في ذاتها. لا بل باتت سيدة القيم وجامعتها. لم يتضامن معه جيرانه لأنه تاجر مثلهم. أو لميزات ما في شخصه قد تكون موجودة، ويستحق عليها الاحترام. لكنهم وقفوا الى جانبه دفاعاً عن كرامته، التي تعرضت للإهانة، دفاعاً عن ذاته الانسانية التي تستحق الاحترام، بغض النظر عن أي اعتبار آخر. أو قل دفاعاً عن كرامتهم هم بوصفهم بشراً مثله، خضعوا ويخضعون لهذه السلطة المتجبرة، التي طالما انتهكت كراماتهم. وهاهم الآن يشهرون في وجهها تحديهم ويفصحون عن وعيهم لذواتهم، وعن رغبتهم الأكيدة في الدفاع عن قيمتها. هذا الرد المباشر وغير المتوقع إن هو إلا عنفوان الاحساس بالكرامة، وبوجوب التمسك بها، مهما كانت النتائج. وفي لحظة الصدام هذه بدا العنفوان أرفع مستوى في علاقته بالكرامة، وأكثر التصاقاً بها، مما يسمى عادة الاعتزاز بالنفس، ذلك لأنه يتصل بالكرامة من حيث ماهيتها لا من حيث كونها استحقاقاً فقط . إن الكرامة غير قابلة للتجزئة. فهي إما أن تكون بتمام حضورها أو لا تكون. وطوال أربعين عاماً من الهدر كانت منقوصة ومنتهكة ،أي غائبة بهذا المعنى. لقد تعرض الكيان الانساني للسوري، إلى الهتك جسداً وروحاً. وما من شأن من شؤون حياة الانسان السوري إلا وكانت عرضة لاستباحة أجهزة السلطة وتلاعبها. في الحريقة، وعلى خلفية الربيع العربي، كان أول ظهور علني لأنا الانسان السوري، الذي يثمن ذاته ويقدرها حق قدرها كذات انسانية، والجدير بنفس الوقت بالحكم على سواها من الذوات حكماً ايجابياً، يعليّ من شأنها. الشخص السوري يقول: هذا أنا لم أعد أقبل أن أكون انساناً مهدوراً ولا مقهوراً، ولا أن تكون كرامتي مضيعة، ولن يشغلني عنها، بعد الآن، أي من متاع الدنيا. وفي الحقيقة عمدت السلطة المطلقة وعلى نحو منهجي، أن ينشغل المواطن عن ذاته، في هموم الحياة اليومية وضغوطاتها المتنوعة، وأن تذلّه في تلبية احتياجاته المادية، كي يبقى غافلاً عن كرامته كقيمة إنسانية عليا. كان إشعال البوعزيزي النار في جسده، إيذاناً بانبثاق الوعي العربي بالكرامة الانسانية وضرورة احترامها وصونها. وما الهتاف اللافت : “الشعب السوري ما بينذل” الذي أطلقه المحتشدون في الحريقة، إلا تجسيداً لهذا الوعي الجمعي في ارتقائه. إلاّ دليلاً على أن الذات السورية، اصبحت ذاتاً فاعلة وعاقلة وحرة وراغبة ومصممة، أن تتجاوز شرطها الذي تعيش فيه، وأن تظفر بما تستحقه من حياة حرّة كريمة. إن وصول وزير الداخلية مباشرة إلى عين المكان وتعامله الليّن، مع المحتشدين لهو استشعار مبكر من قبل السلطة، بخطورة أية حادثة من هذا النوع، وقدرتها على إشعال النار في الهشيم كله. وللأسف فإن النخب المعارضة لم تكن قادرة حينها على هذا الاستشعار. كانت أسيرة مفهومها التقليدي للثورات، وعدم ثقتها بطاقات الشعب على الانتصار على السلطة القاهرة. “أنا انسان ماني حيوان” صرخ أحد السوريين بوجه واحد من جلاوزة النظام كان قد أشبعه إهانة: “أنا انسان ماني حيوان” هذه هي صرخة الانسان المقهور، المطعون في كرامته، المجروح في كبريائه، العاري أمام عاره .لكنها أيضاً صرخة الاحتجاج، على هذا العار، على تلك الحيوانية التي أراد الطغيان، وعلى مدى عقود من الزمن، أن يدفعه للانحدار إلى مصافها. إنها أيضاً صرخة الانسان القادر على الصبر على الفقر والجوع ومختلف صور الحرمان، ولكن الرافض لهدر كيانه الانساني. وها هو يعلن، بالفم الملآن، رفضه لاستباحة كرامته. ممزقاً تلك المظاهر الخادعة، التي كان يتستر بها على عاره، وعلى فقدانه لكرامته واحترامه لذاته. في خطاب الانسان المقهور تحتل مفاهيم الكرامة والعزة والاباء متن الخطاب. ولا شيء يطفئ غضبه المستعر، سوى إعادة الاعتبار لكيانه الانساني. الأمر الذي لن تحققه حزمة تافهة من الاصلاح، مع بقاء رموز الاضطهاد والقهر، ولا تخفف منه زيادة المرتبات وتحسين مستويات المعيشة . ” الموت ولا المذلة” الآن يريد الانسان السوري إعادة الاعتبار لذاته، لكيانه الانساني المهدور، بكل الوسائل المتاحة بما في ذلك العنف المسلح. فأمام سلطة عاتية اعتاد منها كل صنوف العنف، واختبر في تحركه السلمي ضدها مدى قسوتها ووحشيتها، قرر أن يواجهها بلغة القوة، فهي اللغة الوحيدة التي تصل فعلاً إلى مسامعها. إنه أمام خيار حديّ إما المجابهة والانتصار على الطاغية وتغيير نظامه ،أو الموت دون ذلك. هذا ما يستنفر كل طاقاته، ويركزها في بؤرة الدفاع المستميت عن حقوقه المضيّعة. ومنذ اللحظة التي كسر فيها حاجز الخوف، متحدياً الموت، اخترق معادلة التسلط /الخضوع وخلخل أركانها. لقد انتصر على ذاته وهذا شرط أوليّ لا بد منه لتحقيق الانتصار على الاخر/المستبد، الذي مثل على الدوام جحيمه. الآن هو ممسك للمرة الاولى بمصيره، هو من يصنعه وهو مفعم بالثقة بالمستقبل. يستعذب الشهادة في سبيل الحرية، لأنه يثق بحتمية النصر. إن كل شعاراته تدّل على التحدي والاصرار والثبات. لذلك هو يشيع شهداءه بالهتافات والأناشيد والزغاريد. لقد رفع الشعب شعاراً حاسماً هو” الموت ولا المذلة” فدلل بقوة على أن البلاد، ما عادت أبداً مملكة للخوف والصمت والذّل. ولعل في الاصرار المذهل على الاستمرار بالثورة، بالرغم من فظاعات الارهاب الدموي، ما يؤكد بحق على ما يختزنه هذا الشعب العظيم من طاقة جبارة على التحرر، ومن رغبة لا سبيل الى مقاومتها، لنيل الحرية والكرامة، وطيّ صفحة الرضوخ السوداء. لقد مضى عهد اغتراب الانسان السوري عن ذاته، واستمرائه أحياناً العيش في المهانة، ها هو يخرج من دائرة الذّل والهوان، ليواجه أنا المتسلط المستعليّة المتضخمة المسيطرة، رافضاً أي شكل من أشكال التطاول على كرامته أو أية محاولات لنفيها. وهو الآن مليء بالعنفوان، مفعم بالأمل، مستعد لما يتطلبه الصراع مع الآخر، الذي تمادى في إذلاله وإهانته وتركيعه. الآخر/الغريب/المحتل، الذي يتجسد أمامه في رموز السلطة، وفي مختلف مؤسساتها وأنظمتها السلطوية. أخيراً: يلزم لحضور الكرامة عند الكائن الذاتي أن يكون مستقلاً ،حراً، سيداً لنفسه، دون انعزال عن الآخرين أو ذوبان فيهم، بل مساوياً لهم في الكرامة. فهو كغيره من البشر مالك لكرامته كحق طبيعي. لكن الذات الانسانية الجديرة بالاحترام في ذاتها ولذاتها، لم تنل أي اعتبار طوال حكم البعث. وفي علاقة السيطرة/الخضوع التي أرسى قواعدها وشاد بنيانها حافظ الأسد انتفت المساواة في الكرامة بين الأفراد والجماعات. وتجلى ذلك في دوام تعرض حقوق الانسان الطبيعية والسياسية والاجتماعية في عهده للانتهاك. وعندما خرج السوريون في عهد الوريث يطالبون بالحرية، فقد كانوا يطالبون بإعادة الاعتبار لذواتهم يطالبون باحترام كراماتهم، بوصفها قيمة كبرى جامعة لكل القيم التي يجلونها. فالحرية كقيمة والتي تم إهدارها من قبل السلطة الطاغية لا تنفصل عن الكرامة ولا تتحقق بدونها. قد يكون من اللازم التذكير بأن لدى الشعب السوري مسوغه الديني لاعتبار الكرامة قيمة أصيلة وعليا عند الكائن الانساني. فالإنسان في المنظور الديني هو أرفع المخلوقات عند الخالق. ألاّ يقول الله:” ولقد كرمنا بني آدم……” .لكن هذا لا يعني أن مصدر احترام الذات المفكرة لذاتها، هو الدين. ذلك لأن الكرامة عند الانسان هي قيمة عليا أياً كان المذهب الميتافيزيقي الذي ينتمي إليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى