حازم نهارصفحات مميزة

مقاربة لخطاب وأداء المعارضة السورية منذ بداية الثورة


د. حـازم نهار

المحتويات

أولاً: مقدمة

ثانياً: واقع المعارضة السورية… ومعنى وحدة المعارضة

ثالثاً: هيئة التنسيق الوطنية..تشكيلها، بنيتها، خطابها وأداؤها

رابعاً: المجلس الوطني..تشكيله وتركيبته..الخطاب والأداء

مبادرات عديدة لتشكيل مجلس وطني

لقاء الدوحة: المحاولة الأكثر جدية

فترة ما بعد الدوحة والإعلان عن المجلس الوطني في استنبول

ملاحظات سريعة على خطاب وأداء المجلس الوطني

خامساً: المعارضة السورية..الخطاب والأداء

سادساً: العلاقة بين أطراف المعارضة السورية

سابعاً: قضايا ساخنة تحتاج إلى رؤية سياسية

الجيش الحر

القضية الكردية

التدخل الخارجي..مستوياته والموقف منه

ثامناً: التفكير بالمستقبل والأدوار الممكنة

كلمة أولى

تحاول الدراسة التالية ملامسة المسائل المتعلقة بالخطاب السياسي والإعلامي، إلى جانب الأداء والإنجاز السياسيين، للمعارضة السورية كما ظهرت وتبلورت خلال الفترة الماضية بدءاً من 15 آذار لحظة انطلاقة الثورة السورية، وذلك بهدف تجاوز الثغرات والعيوب التي اكتنفت الخطاب والأداء معاً، ومحاولة رسم مخارج وحلول تمكن القوى السياسية من الارتقاء بالخطاب والأداء إلى المستوى الذي تستحقه هذه الثورة العظيمة.

يظهر خلال هذه الدراسة روح شخصية في بعض المحطات، وهذا طبيعي بحكم أنني كنت مشاركاً أو مشاهداً فيها، لكنني بالمقابل أتفهم بكل رحابة صدر التباينات والاختلافات في هذا الحيز وتعدد زوايا الرؤية للمواقف والمحطات التي مررنا بها جميعاً، أملاً في تلافي الثغرات والقصور وإبداع أنماط وأشكال جديدة تليق بثورتنا العظيمة.

أولاً: مقدمة

الخيار بين الصمت والكلام

ليس من السهولة بمكان الاختيار في هذه الفترة ما بين الصمت والكلام فيما يخص شؤون المعارضة وشجونها في سورية، خاصة مع وجود حساسية عالية بين قواها وتياراتها السياسية في هذه الفترة، فإذا انتقد المرء موقفاً أو سلوكاً ما يخرج عليه ألف معترض ليقول: “ليس الآن، المطلوب الآن حشد الصفوف لإسقاط النظام”، وإذا سكت يخرج عليه أيضاً ألف معترض ليقول: “أنتم بصمتكم مشاركون في كل شيء، ولولا صمتكم لما حدث ما حدث”.

على العموم، أشعر أن اللحظة السياسية الحالية مناسبة نوعاً ما لحديث عميق وجدي ومسؤول بعد أن كانت الفترة الماضية مليئة بالشحن والتشنج لدرجة تمنع الجميع من الاستماع لبعضهم وفتح حوارات حقيقية حول ما يجري.

أعتقد أن الكتابة فعل مسؤول، ويشترط وجود مبدئين متلازمين هما المعرفة والأخلاق، وهذان المبدآن يخلقان روحاً هادئة لا عدائية لدى المرء في التعامل مع الخلاف، وحسابات معقدة ودقيقة في مقاربة كل ما يحدث. أقول ذلك لأني لمست في أحايين كثيرة لا مسؤولية طاغية في الكتابة، خاصة في ميدان الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث الجميع هاجسه الأساسي تقييم الجميع وحسب، وليس نقاش القضايا والأفكار المطروحة أو إنتاج أفكار جديدة.

مشاركتي هنا في تناول شؤون الثورة والمعارضة هي محاولة للتنبيه والتحذير وأخذ الحيطة، أو للتذكير بأن الثورة عملية مركبة من البناء والهدم معاً، ففي سياق الهدم نحتاج إلى عملية بناء موازية، ولا يمكن بداهة البناء بأدوات التشبيح ذاتها التي نحاربها….وهو أيضاً إشارة إلى أن التشبيح ثقافة عاشت داخل السلطة تماماً كما عاشت خارجها في المعارضة والمجتمع، ومن يتابع القنوات الفضائية وصفحات الفيسبوك يجد آثار ومرتكزات هذه الثقافة واضحة. وقد يقول قائل إن اللحظة الحالية غير مناسبة لفتح نقاش أو نقد بهذا الخصوص وأنه ينبغي التركيز على الهدف الأساسي والانتهاء من مشكلتنا الكبرى، هنا أقول: نعم ينبغي التركيز على الهدف الأول وألا نضيع البوصلة، لكن أيضاً: من جهة أولى لا مشكلة في النقد طالما جاء من وحي الحرص على الثورة والوطن، وليس من وحي التشبيح والحرص على ذواتنا المتورمة، وطالما كان في حدود الاحترام والأخلاق والإحساس بمسؤولية الكلمة، ومن جهة ثانية لا أدري حقاً إن كان هناك مركبة بإمكانها السير دون أن ترمي خارجها كل ما يعيق حركتها السوية ويشوِّهها، لكن بصبر وحكمة.

هاجس الأسماء والأشخاص

في كل مرة أتناول فيها فكرة أو موضوعاً للنقاش، سواء في مواقع التواصل الاجتماعي أو الصحافة الورقية، تتكرر طرائق في التعليق على ما أكتب يمكن حصرها بما يلي، وأعتقد أن الأمر ذاته يحدث مع كثيرين غيري:

1- الجو العام مغرم بتحديد الأسماء المقصودة بكل فكرة مكتوبة، وهنا أقول إنني أعرض أفكاراً للنقاش والحوار، ولا أعرض أسماء للتشريح…شخصياً لا تهمني الأسماء، إنما الأفكار هي غايتي، وهذه الآلية في التعاطي من قبلي لا يمكن وصفها بعدم الوضوح…المهم وضوح الأفكار…وعرض الأسماء المقصودة لا يخدم إلا التشويش والمهاترات والتشهير، فضلاً عن كونه لا يلتزم بأخلاقيات الكتابة.

2- جزء من الردود التي تصلني لا تتعلق بالفكرة التي كتبتها، أو أحياناً تنم عن قراءة غير دقيقة لما أكتب وتحمِّل النص المكتوب ما لا يحتمل، أو تعبر عن هواجس شخصية سريعة خطرت لدى أحدهم ولا علاقة لها بالفكرة المكتوبة أو المقصودة.

3- بعض الردود تأتي حاملة لشحنة شخصية انفعالية أو حتى عدائية، وأحياناً استعراضية، وهذه مأساة حقيقية تعبر عن شقاء الوعي وبؤسه.

بناء الوعي استناداً للشائعات

من الأمور التي أضرَّت في الأشهر الفائتة ولا تزال تضرنا اليوم بناء وعينا وقناعاتنا ومواقفنا استناداً للشائعات والكلام المنقول وقراءة نصف الكلام، فهذه الطرائق في التعاطي مع الأمور لا تزيدنا إلا تشويشاً وتشكيكاً من جهة، وتقلِّل من وضع طاقاتنا في اتجاه خدمة الهدف الواحد من جهة ثانية. باعتقادي يمكن الوصول للحقائق إما بالذهاب نحو النبع كبديل للكلام المنقول والشائعات أو بالتحليل الموضوعي الهادئ لكل ما نسمع ونقرأ ونرى.

ثانياً: واقع المعارضة السورية… ومعنى وحدة المعارضة:

واقع تنظيمي بائس للقوى السياسية المعارضة بعد عهود من القمع

إن واقع الأحزاب والقوى السياسية في سورية هو واقع بائس، سواء تلك الموجودة اليوم في المجلس الوطني أو هيئة التنسيق الوطنية أو خارجهما. يكفي أن نعلم أن معظم الأحزاب التقليدية (حزب العمل، حركة الاشتراكيين العرب، حزب الشعب/ المكتب السياسي سابقاً، حزب العمال الثوري العربي) لا يزيد عدد أعضاء كل منها عن 100 عضو اليوم، والحزب الوحيد الذي يمتلك قاعدة “جماهيرية” مقبولة نسبياً هو حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي الذي يقترب عدد أعضائه من الألفي عضو. أما الحركات السياسية الجديدة التي تشكلت مع الثورة، وإن كان عدد أعضائها يتراوح ما بين 100-300 فإنها حركات لا يبدو عليها التماسك والقابلية للاستمرار. أما حركة الإخوان المسلمين فهي لا تمتلك رصيداً تنظيمياً داخل سورية، حتى أنني خلال 23 سنة من العمل السياسي لم ألتق داخل سورية بمن قدَّم نفسه لي على أنه ينتمي لحركة الإخوان، وقد يكون هذا مفهوماً بسبب القمع والحظر المفروض عليهم، لكنني لم أجد تعاطفاً مع الحركة في الحد الأدنى في معظم المدن السورية إلا ما ندر. أما بالنسبة للأحزاب الكردية الموجودة داخل هيئة التنسيق أو إعلان دمشق، أو تلك التي تآلفت ككتلة واحدة ودخلت المجلس الوطني فليس لدي اطلاع دقيق على وضعها التنظيمي، لكن ما ألمسه هو وجود افتراق بين هذه الأحزاب والأكراد في سورية، كما إنها تكاد تكون في معظمها تشكلت للتعاطي مع المشكلة الكردية في سورية وحسب. إعلان دمشق الذي هو ائتلاف سياسي وإحدى القوى المشكلة للمجلس الوطني لم يبق منه صراحة سوى حزب واحد هو حزب الشعب إلى جانب عدد من الشخصيات الوطنية المستقلة، خاصة بعد دخول الأحزاب الكردية الموجودة داخل إعلان دمشق إلى المجلس الوطني ككتلة واحدة باسم الكتلة الكردية، وينطبق الأمر ذاته على المنظمة الآثورية الديمقراطية. أما القوى السياسية في هيئة التنسيق الوطنية فإنه بالإمكان القول أن بعض أحزابها السياسية لم يبق منها إلا اسمها وعدد من الأفراد الذين يرفعون يافطة الحزب.

التكتلات السياسية لحظة الثورة:

في اللحظة التي بدأت فيها الثورة، كان هناك في سورية عدد من الكتل السياسية المعارضة، وكل واحدة منها تضم عدداً من الأحزاب السياسية، وكان بعض هذه الأحزاب موجوداً في أكثر من كتلة سياسية:

التجمع الوطني الديمقراطي: وهو تحالف سياسي يمثل المعارضة السياسية المعروفة في سورية، وقد تأسس في عام 1979 في فترة الصدام بين النظام السوري وحركة الإخوان المسلمين. ويضم التجمع الأحزاب التالية: الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، حزب العمال الثوري العربي، حزب الشعب الديمقراطي (كان سابقاً باسم الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي)، حركة الاشتراكيين العرب، حزب العمل الشيوعي (انضم للتجمع الوطني الديمقراطي مؤخراً في العام 2008)، حزب البعث الديمقراطي (لم يحضر أي ممثل لهذا الحزب لقاءات قيادة التجمع منذ 20 سنة على الأقل). وللتجمع الوطني الديمقراطي قيادة مؤلفة من 10 أعضاء بمعدل عضوين عن كل حزب سياسي.

إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي: تأسس بتاريخ 16/10/2005 بمبادرة من لجان إحياء المجتمع المدني والتجمع الوطني الديمقراطي، وكان أوسع تحالف سياسي في ذلك الوقت، وقد ضم القوى التالية:

أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي الخمسة السابقة الذكر، لجان إحياء المجتمع المدني، حركة الإخوان المسلمين، حزب العمل الشيوعي (حيث كان في ذلك الوقت خارج التجمع الوطني الديمقراطي)، أحزاب كردية (الحزب الديمقراطي الكردي في سورية (البارتي) (عبد الحكيم بشار)، حزب الوحدة الديمقراطي الكردي، الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي، حزب آزادي الكردي، الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي..)، المنظمة الآثورية الديمقراطية، شخصيات مستقلة داخل وخارج سورية.

بعد مرور عام تقريباً انضم الإخوان المسلمون لجبهة الخلاص مع عبد الحليم خدام، وفي عام 2008 أوقفوا معارضتهم للنظام السوري خلال فترة العدوان الإسرائيلي على غزة، وكان موقفاً مستهجناً، خاصة أنه تم دون التشاور مع حلفائهم في إعلان دمشق. وفي أواخر 2007 انعقد المؤتمر الأول لإعلان دمشق وكان نتيجته خروج حزبي الاتحاد الاشتراكي العربي وحزب العمل وعدد من الشخصيات المستقلة منه، خاصة المنتمية للجان إحياء المجتمع المدني. وهذا يعني اقتصار إعلان دمشق حتى فترة بداية الثورة على الأحزاب التالية: حزب الشعب الديمقراطي (كان سابقاً باسم الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي)، حزب العمال الثوري العربي، حركة الاشتراكيين العرب، وكتلة الأحزاب الكردية، والمنظمة الآثورية الديمقراطية، وعدد من الشخصيات.

لقد جرت محاولات عديدة منذ عام 2008 وحتى بداية عام 2011 لإعادة الأمور إلى مجاريها في إعلان دمشق، لكن هذه المحاولات (ومنها محاولة قمت بها شخصياً) باءت بالفشل، والجميع اشترك في مأساة الفشل بدرجة أو أخرى، لذا سارت الأوضاع في إعلان دمشق إلى الترهل، خاصة مع اعتقال عشرة من كوادره في كانون الثاني 2008.

تم الإعلان خلال هذه الفترة عن تأسيس تجمع اليسار الماركسي (تيم)، من مجموعة من الأحزاب اليسارية والشيوعية الصغيرة والقليلة الحضور، وهي: حزب العمل الشيوعي، الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي (مجموعة خرجت من حزب الشعب)، تجمع الماركسيين الديمقراطي، هيئة الشيوعيين السوريين، حزب اليسار الكردي.

مع بداية الثورة إذاً كنا أمام الكتل السياسية التالية: التجمع الوطني الديمقراطي، إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، تجمع اليسار الماركسي (تيم)، مجموعة من الأحزاب الكردية خارج إعلان دمشق، الإخوان المسلمون (خارج سورية).

معنى وحدة المعارضة.. والمبادرات المقدَّمة:

بالتأكيد ليس المقصود من وحدة المعارضة السعي نحو إيجاد شكل تنظيمي واحد ونهج واحد وبرنامج سياسي واحد، بل إن هذه الوحدة تعني التوافق على مبادئ وأساسيات عامة، وتوفير إطار تنظيمي يسمح بالحركة الحرة لأطرافها والمحافظة على برامجها الخاصة وهياكلها التنظيمية. الوحدة بهذا المعنى تسمح بتوزيع الأدوار والتكامل بينها، خاصة في هذه المرحلة، لصالح تحقيق الأهداف الأساسية.

هذا يعني أن كل العقليات التي تنطلق من اعتبار نفسها ممثلة لمعارضة الداخل أو تلك التي تتعامل على أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري هي عقليات مدمِّرة ولا تنتج إلا الخراب، لأنها شكل من أشكال الاستبعاد والإقصاء التي هي جوهر النظام السياسي في سورية.

في ضوء هذا الفهم قمت شخصياً في تاريخ 25 آذار بطرح مبادرة لإيجاد شكل من أشكال التوافق على رؤية سياسية وإيجاد إطار تنظيمي لجمع الكتل السياسية الموجودة، وكان ذلك ضمن القيادة المركزية للتجمع الوطني الديمقراطي باعتباري عضواً فيها عن حزب العمال الثوري العربي (الذي هو عضو أيضاً في إعلان دمشق)، وكان هناك حماس كبير لهذه الفكرة.

 ولمعرفتي بالمعارضة السورية وأمراضها، رأيت أن المبادرة إن خرجت من التجمع الوطني الديمقراطي ستجد من يعرقلها، وإن خرجت من إعلان دمشق ستجد من يقف في وجهها، ولذلك كان التوجه الأمثل هو قيام مجموعة من الشخصيات المستقلة بتبني المبادرة وإنضاجها والعمل على تحقيقها، واستقر الرأي على الشخصيات التالية: برهان غليون، ميشيل كيلو، حسين العودات، عارف دليلة، حبيب عيسى، عبد العزيز الخير، حازم نهار.

وُجِّهت الدعوة إلى جميع القوى والتكتلات السياسية، بالإضافة للتواصل مع عدد من الشخصيات المستقلة داخل سورية (حوالي 80 شخصية)، وكذلك شخصيات خارج سورية (حوالي 15 شخصية)، وفي الدعوة تم الاستناد لعدد من النقاط وهي: ضرورة وجود بوصلة سياسية للحراك الشعبي، وعدم إفساح المجال للنظام للعب على خلافات أطراف المعارضة، والتخفيف من التصريحات الإعلامية الذاتية والتصرفات الفردية غير المسؤولة باسم المعارضة السورية، خاصة تلك التي تتجه نحو بناء علاقات غير مدروسة مع دول العالم باسم المعارضة السورية. واكتسب هذا العمل المزيد من الأهمية في ظل حالة إسهال المبادرات والمؤتمرات من قبل السوريين في الخارج بما تسببت به من تشويش.

تم الاتصال وتوجيه الدعوة للأطراف التالية، على قاعدة عدم استثناء أي طرف، شريطة انضوائه في صف المعارضة: التجمع الوطني الديمقراطي، إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، تجمع اليسار الماركسي (تيم)، الحركة الوطنية الكردية (التي تأسست في ذلك الوقت وضمت 12 حزباً كردياً من ضمنها الأحزاب الكردية داخل إعلان دمشق)، شخصيات خارج سورية من الإخوان المسلمين، شخصيات مستقلة داخل وخارج سورية.

أثمرت هذه الجهود التي استمرت 3 أشهر من العمل والحوار المتواصل عن تشكيل “هيئة التنسيق الوطنية” في 30 حزيران التي ضمت طيفاً واسعاً من القوى السياسية، إلا أنها لم تضم جميع أطراف المعارضة، إذ اعتذر إعلان دمشق عن المشاركة آنذاك.

كانت العرقلة داخل سورية من قبل عدد من الشخصيات في إعلان دمشق، وكانت الأسباب المعلنة هي أن الظرف الحالي لا يتوافر على توازن قوى مقبول إزاء النظام (أي يجب الانتظار حتى يتعرض النظام للاهتزاز) وأن مثل هذه المبادرة من قبل المعارضة قد تشكل طوق نجاة للنظام أو محاولة لإنقاذه.

لا أدري هنا حقاً من الذي كان يسعى موضوعياً لإنقاذ النظام؟ هل من سعى إلى هذه البوصلة المشتركة للمعارضة بكل طاقته أم من رفض وعطل أي محاولة لتوحيد الرؤية تحت حجج وذرائع واهية..؟

السبب الأرجح في اعتقادي هو عدم ثقتهم بعدد من الأشخاص أو القوى المشاركة في الذهاب نحو تشكيل هيئة التنسيق الموعودة، أو بسبب علاقات شخصية وتاريخ طويل مبني على عدم الثقة بين عدد من شخصيات المعارضة. السؤال هنا كان ولا يزال هو: هل كان أحدٌ ما يتوقع اختفاء هؤلاء الأشخاص أو إلغاءهم؟؟ ها هم اليوم موجودون ويظهرون على الإعلام ويبنون علاقات مع الدول الإقليمية والدولية والجامعة العربية، وظهر للعلن، للأسف، ما كنت أخاف منه في لحظة معينة وهو وجود أصوات مختلفة ومتعادية في المعارضة بما يعطي للموالين والمعارضين للنظام على حد سواء إحساساً بعدم الاطمئنان تجاه جميع القوى والشخصيات المعارضة.

ثالثاً: هيئة التنسيق الوطنية..تشكيلها، بنيتها، خطابها وأداؤها:

عندما تشكلت هيئة التنسيق الوطنية كانت الغاية إذاً هي وحدة المعارضة في الكلمة والفعل إزاء النظام الشرس، وقد بدأ العمل على تشكيلها، كما قلت، منذ الأيام الأولى للثورة في أواخر شهر مارس الماضي، وكان ذلك ينم عن حسابات واعية ودقيقة لمنع الوصول لهذه اللحظة من التشرذم، فهذه اللحظة متوقعة في ظل معرفتنا بتعدد الميول والتوجهات والذاتيات وحتى الأمراض السياسية التي نمت في ظل الاستبداد.

حاولت شخصياً تأجيل الإعلان عن تشكيل هيئة التنسيق الوطنية ثلاث مرات في الاجتماعات العامة التي عقدت، وقد نجحت في ذلك، وهو ما أزعج بعض الشخصيات والقوى، وكان هذا لمعرفتي بما يمكن أن يحدث في المستقبل، خاصة لجهة وجود قوتين متنازعتين على الشرعية وتتسببان بتشويش الحراك الشعبي برؤيتيهما وتصريحات الشخصيات المنضوية في كل منهما. وللأمانة ظلت في قلبي ما يشبه الـ “غصة” بسبب الفشل في جمع كل قوى المعارضة في إطار تنسيقي واحد، وهي اليوم تحولت إلى جرح في تاريخ المعارضة ومسيرة الثورة، وكانت لقاءاتي الشخصية مع الإعلام مربكة كلما أتت سيرة المعارضة ودورها، إذ يتنازعني موقفان، هل المطلوب التستر على الوضع المزري للمعارضة وإظهارها بمظهر الكتلة الواحدة المتوافقة ضد النظام؟ أم المطلوب نقدها ونشر أمراضها على الملأ في لحظة سياسية مفصلية؟.

لقد كانت رسالة الدعوة الموجهة خلال شهري آذار ونيسان من أجل تشكيل هيئة واحدة للمعارضة واضحة في مبررات وضرورات هذا التشكيل: قطع الطريق على السلوكيات والتصريحات الفردية غير المسؤولة، وضبط إيقاع حركة السوريين في الخارج التي أصيبت بحالة من الإسهال المستشري لعقد المؤتمرات والإعلان عن مبادرات جديدة، تطمين الشارع السوري بإمكانية وجود كتلة سياسية قادرة على إدارة فترة انتقالية، إيصال رسالة للخارج ودوله بوجود بديل مناسب مرحلياً ومؤقتاً (يقال أن خطورة ثورة بلا رأس تكمن في أنها يمكن أن تتحول بعد نجاحها إلى ثورة بألف رأس)، خاصة في ظل إدراكنا أن النظام سيمنع بكل طاقته تشكل تمثيل سياسي من صلب الحركة الشعبية الاحتجاجية، وسيسعى لتقطيع أوصال المدن ومنع السوريين من الاختلاط مع بعضهم، فضلاً عن أن هذا التشكيل سيلزمه بعض الوقت كي يصبح متيناً من الناحية السياسية والتنظيمية.

رغم ذلك وجدت هذه الدعوة من يعرقلها ويشكك بها. ورغم شعور الكثيرين في هيئة التنسيق الوطنية بالنجاح بعد الإعلان عنها إلا أنني كنت أشعر شخصياً بالفشل. ورغم أنني كنت أتوقع هذا الفشل (احتمالات النجاح بتشكيل هيئة واحدة للمعارضة كانت بالنسبة لي 10% في ذلك الوقت)، إلا أنني كنت أراهن على حاجة الجميع لبعضهم في لحظة سياسية مفصلية، واقتناع الجميع بضرورة أن تشكل المعارضة (رغم كل عيوبها وأمراضها) “الجسر المؤقت” بين الثورة والمستقبل.

هيئة التنسيق الوطنية قامت على فكرة الحد الأدنى:

هيئة التنسيق الوطنية ليست حزباً سياسياً، فقد تشكلت من 15 حزباً سياسياً وعدد كبير من الشخصيات المستقلة، وفيها آراء متباينة من الألف إلى الياء، وليس كل من يصرِّح باسمها يعبّر عن رأي الجميع، فالائتلافات السياسية تتكون استناداً للحدود الدنيا من التوافق بين مكوناتها.

لكن ما أقوله منذ زمن طويل، وما زلت مقتنعاً به، هو أن كافة التشكيلات السياسية الموجودة تستحق النقد والتجاوز وهي بالضرورة تشكيلات مؤقتة، والمستقبل سيأتي بالتأكيد بتشكيلات جديدة أقل أمراضاً وأكثر حيوية وأقرب إلى العصر وتعبر حقيقة عن هواجس الناس وأمنياتهم.

هيئة التنسيق والحوار مع النظام:

رغم كل ما قيل عن أن هيئة التنسيق هي هيئة للحوار وإنقاذ النظام من ورطته على حد تعبير البعض، فإنها لم تدخل في أي إطار حواري مع النظام حتى اللحظة، وقد جرت اتصالات من قبل النظام مع بعض شخصيات الهيئة في سورية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الثورة، والجميع كان يدرك أن النظام يريد اللعب على الوقت والخروج من أزمته، وكان هناك انسجام واضح في التعامل مع هذا الموضوع، وقد قمت شخصياً بتاريخ 13 نيسان بكتابة بيان باسم التجمع الوطني الديمقراطي تم فيه تحديد “برنامج النقاط الثمان لأجل إطلاق الحل السياسي في سورية”، وهذه النقاط هي: وقف القتل وسحب الجيش والأجهزة الأمنية، الإفراج عن جميع المعتقلين، وقف الحملة الإعلامية للنظام ضد المتظاهرين، ضمانات قانونية للتطبيق الفعلي لرفع قانون الطوارئ والأحكام العرفية، لجنة تحقيق مستقلة ونزيهة لتقديم كل المسؤولين عن إطلاق النار على المتظاهرين إلى محاكمات عادلة، السماح بدخول مختلف وسائل الإعلام ولجان حقوق الإنسان، ضمان حق التظاهر السلمي بموجب علم وخبر وحسب، الإعلان الرسمي عن البدء بالحل السياسي عبر الإقرار أولاً بإلغاء المادة الثامنة من الدستور والاعتراف القانوني بحق تبادل السلطة.

وعندما تشكلت هيئة التنسيق تم تبني هذه النقاط ذاتها من أجل أي محاولة لإطلاق حل سياسي في سورية، وكانت هذه النقاط هي المسائل الناظمة لعمل معظم الشخصيات والقوى السياسية في سورية، ومن الجدير بالذكر أن الجميع كان يدرك أن النظام غير قادر على تطبيق أي بند من هذه النقاط، وإن حاول فإنه يفتتح باب سقوطه. واليوم مبادرة جامعة الدول العربية التي يتفاعل ويتعاطى معها المجلس الوطني هي أقل من ذلك بكثير.

الخطاب السياسي والإعلامي للهيئة:

كان لدينا عدة أشكال من التصريحات والمواقف السياسية في الإعلام، وكل شخصية كانت تصرح بطريقة مختلفة عن الأخرى إزاء ما يحدث في سورية. لكن لا نستطيع أن ننكر أن بيانات هيئة التنسيق وتصريحات بعض شخصياتها كانت صادمة للرأي العام السوري في لحظات معينة.

وقد تجلى ذلك في طرح شعارات معينة أو في التعاطي غير المدروس مع شعارات بعينها:

– شعار “لا للتدخل الخارجي”:

أولاً، في الوقت الذي يرفع فيه المتظاهرون شعارات الحظر الجوي والحماية الدولية للمدنيين والمنطقة العازلة…..وغيرها، لا تفتأ الهيئة تكرِّر على لسان شخوصها تصريحات ضد التدخل الخارجي، حتى أصبح هذا الأمر الشغل الشاغل للهيئة والنقطة المركزية في خطابها، دون الانتباه إلى أنه يمكن التعبير عن هذا التوجه بتعابير أخرى لا تُظهِر الهيئة وكأنها تشحد الاعتراف بوطنيتها من قبل النظام الذي افتقد بأفعاله وسلوكياته كل الصفات الوطنية. وثانياً، هذا الأمر له علاقة بانتقاء اللحظة المناسبة لأي تصريح إعلامي وعدم وضع الهيئة في سياق من يطمئن النظام باستمرار حول مسألة التدخل الخارجي والسماح له في هذه اللحظة بالذات بتقسيم المعارضة إلى “شريفة” و”غير شريفة”. وثالثاً، إن كل الدلائل في الخارج تؤكد أنه ليس هناك نية باتجاه حدوث تدخل عسكري، وبالتالي يجب عدم الانجرار لتصبح لازمة “لا للتدخل الخارجي” هي الأساس في الخطاب السياسي، وبالتالي تمركز الخطاب السياسي حول أمر لا زال في عداد الوهم السياسي. ورابعاً، لم تتعب الهيئة نفسها في تقديم تصور تفصيلي للبدائل عن التدخل الخارجي باستثناء الحديث عن فكرة عامة حول الاعتماد على الذات، أي لم تقدِّم خطة مناسبة للشعب الذي يتعرض للقتل والاعتقال والتعذيب واجتياح المدن. وخامساً، لم تقم الهيئة بواجبها في تقديم شرح تفصيلي للرأي العام السوري حول المخاطر المترتبة على أي تدخل عسكري والآفاق المحتملة لسورية في ضوء ذلك.

وأخيراً، نستطيع القول إن الحقائق السياسية تبقى أقوى من الشعارات، والجميع مضطر للتعامل مع هذه الحقائق حتى لو لم يكن يرغبها أو يؤمن بها. بالتالي، فإن هيئة التنسيق الوطنية والقوى الأخرى مضطرون للتعامل مع المسائل المتعلقة بالتدخل الخارجي وتفاصيله فيما إذا أصبح هذا الأخير حقيقة واقعة، والأمر ذاته ينطبق على المجلس الوطني-وغيره- فيما لو بقي أمر التدخل الخارجي في عداد الوهم السياسي.

– شعار إسقاط النظام:

في الوقت الذي يرفع فيه المتظاهرون شعار إسقاط النظام، كانت بعض شخصيات هيئة التنسيق تكرِّر بأساليب وتعابير مختلفة أن إسقاط النظام ليس من أولوياتها.

لقد أصبح هذا الشعار مركزياً في الحراك الشعبي للسوريين، وينبغي أن يكون الشعار الأساسي للقوى السياسية خلال الفترة الانتقالية. بالطبع لست مع الغوغائية التي ينحو باتجاهها بعض المعارضين في الخارج، خاصة أولئك الذين استفاقوا مؤخراً وتحولوا بقدرة قادر إلى معارضين، أو أولئك الذين أوقفوا معارضتهم للنظام في لحظات معينة تحت حجج وذرائع مختلفة، أو أولئك الذين كانوا يدخلون في مساومات شخصية مع النظام لتسوية أوضاعهم، أو أولئك الذين يشتركون مع النظام في صفة الفساد…..لكن باعتقادي يمكن إنتاج خطاب سياسي يجمع بين ما يطرحه الناس في الشارع وما نعتقد أنه صحيح سياسياً في اللحظة الراهنة، وهذا يحتاج إلى الكثير من الدقة والتأني والبراعة السياسية.

فالخطاب السياسي والإعلامي لأي تشكيل سياسي ينبغي ألا يكون انعكاساً سطحياً ومباشراً للمزاج الشعبي (كخطاب بعض أعضاء المجلس الوطني السوري، والذي يرتكز إلى المزاودات الفارغة ويخلو من أية تعابير سياسية حقيقية)، لكن بالمقابل ينبغي ألا يكون الخطاب صادماً للمزاج الشعبي ومنفِّراً له (كخطاب عدد من شخصيات هيئة التنسيق) والذي أصبح بشكل أو بآخر يشكل طوق نجاة للنظام ومرتكزاً له في محاربة المعارضين السوريين في الخارج والمزاج الشعبي عموماً.

في أحايين كثيرة يكون الصمت ورفض اللقاء الإعلامي المعروض هو الموقف المطلوب إذا لم يكن المرء قادراً على طرح ما هو مناسب للحظة السياسية، وهذا ما لم ألمسه لدى عدد من شخصيات الهيئة التي كانت تقبل بأي لقاء إعلامي يعرض عليها، والأغرب أن المتحدثين في الهيئة غالباً ما يستخدمون تعبير “نحن في هيئة التنسيق الوطنية نرى….موقفنا هو كذا……..”.

– الروحية العامة للخطاب:

يضاف إلى ذلك أن بعض الشخصيات في الهيئة كانت تتحدث في الإعلام حول ما يحدث في سورية من قتل واعتقال وتعذيب بلهجة مخففة جداً، وكأن ذلك يحدث في سنغافورة أو جزر القمر، ولا يعنينا من قريب أو بعيد، حتى أصبحت معارضة هيئة التنسيق تسمى “المعارضة الناعمة” رغم الثمن الكبير الذي دفعه أعضاؤها في المعتقلات سابقاً. أيضاً هنا ليس المقصود التحول نحو معارضة غوغائية تشبيحية ليس لها من هم إلا الشتم والسب كسبيل لكسب ود المتظاهرين.

معارضة الداخل والخارج:

– هناك فهم وتعامل غير صحيحين في التعاطي مع وجود جزء من المعارضة، حديث أو قديم التكون، خارج سورية، ويجري التقليل من أهمية هذا الجزء بتكرار لازمة “نحن معارضة الداخل” في بيانات هيئة التنسيق، وكأن هذا الأمر بحد ذاته يمنح الهيئة الحصانة والأولوية، وهو ما تجسد في الأشهر الأولى بالاستخفاف بكل النشاطات والفعاليات التي يقوم بها السوريون في الخارج، في الوقت الذي لم تتقدَّم فيه الهيئة فعلاً نحو ضرورة الإمساك بزمام المبادرة وعدم ترك مستقبل البلد ليحدِّده فقط السوريون المعارضون في الخارج، فالحركة البليدة للهيئة واستخفافها بما يحدث في الخارج سحب البساط من تحت أرجلها.

– لا يكفي القول بأن كل النشاطات التي تحدث من قبل السوريين في الخارج هي مجرد “زعبرة”، فهذه “الزعبرة” قد تكون حاسمة في تحديد مستقبل البلد. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل جرى التعامل مع السوريين الموجودين في الخارج المنتمين لهيئة التنسيق الوطنية ذاتها على أنهم مجرد زينة مكملة لشخصيات الهيئة الموجودة في الداخل، دون مهمات واضحة وأدوار معترف بها أو يعتمد عليها.

لقاء استنبول والموقف من المجلس الوطني السوري:

لم يكن لقاء استنبول بتاريخ 28 أيلول في الحقيقة، إلا لقاء مكملاً لما جرى في الدوحة ما بين 5-8 أيلول، رغم محاولات البعض خارج سورية التبرؤ من لقاء الدوحة، فالقوى التي دعيت لاستنبول هي القوى ذاتها التي كانت مدعوة في الدوحة، والدعوة كانت رسمية من قبل “الإخوان المسلمين” و”مجموعة استنبول”، وقد تم تبليغ هيئة التنسيق بذلك قبل أسبوع واحد من اللقاء، ولم أكن شخصياً لأذهب لاستنبول لو كانت الدعوة شخصية. وبعد أن ظهر أن الهيئة لن تشارك رسمياً انسحبت من اللقاء رغم ما سببه لي ذلك من حرج شخصي، ورغم دعوات الجميع لي للمشاركة باسمي الشخصي.

في الحقيقة السبب الجوهري لغياب الهيئة عن لقاء استنبول هو انعقاده في استنبول، ولو انعقد في القاهرة لشاركت هيئة التنسيق، وكأن استنبول كانت بالنسبة للهيئة رجساً من عمل الشيطان.

لم يكن من الحكمة أبداً دخول بعض شخصيات الهيئة في معركة إعلامية مع المجلس الناشئ في استنبول، وقد كررت هذا الرأي مع كثيرين في الهيئة، بل ذكرت أيضاً في مرات عديدة إن موقفي من المجلس هو موقف مبارك له، رغم معرفتي بكل نواقصه وثغراته وعيوبه، وليس من الحكمة الدخول معه في معركة، خاصة وأن الشارع السوري كان ينتظر ذلك بفارغ الصبر، لكن لنتركه لعيوبه ونواقصه وآلياته فهي التي ستحكم عليه مستقبلاً، إذ إن تقديري السياسي لحظة الإعلان عن تشكيل المجلس كان يقول أن المجلس سيفقد الزخم والتأييد الذي أعطي له تدريجياً وخلال فترة قصيرة لا تتجاوز الشهرين.

آليات عمل أقرب إلى أداء “الدراويش”:

للأسف، لم تقم الهيئة أمام التطورات الحاصلة والموقع المحرج الذي وضعت فيه بتشكيل مطبخ مصغر لإعادة صياغة الخطاب السياسي والإعلامي ومعالجة النقاط السياسية المطروحة بشكل جدي، واكتفت بإعلان الرفض واللاءات استناداً لاعتبارات أيديولوجية أكثر منها سياسية.

كما لم تقم الهيئة بتثبيت آليات عمل جديدة وحديثة في بيئة متغيرة ومتسارعة باستمرار، بل تحولت تدريجياً إلى مجرد حزب سياسي تقليدي (رغم أنها مؤلفة أصلاً من مجموعة قوى وأحزاب سياسية ومستقلين)، وسارت في الاتجاه ذاته الذي سار فيه إعلان دمشق عندما تم اختزاله تدريجياً ليكون أداؤه السياسي والتنظيمي كأي حزب سياسي. من هنا جرى التعامل مع ممثلي الحراك الشعبي في هيئة التنسيق بوصفهم “زينة للهيئة”، وليس بوصفهم فاعلين ومقررين ومؤثرين في مسار عمل الهيئة ومجدِّدين لأساليب عملها وخطابها، إذ كان يمكن لهذا الحراك الشعبي أن يخرج الهيئة عن الطابع الحزبي التقليدي في العمل.

بالتالي لم يكن هناك أي معنى أو دور لتشكيل مجلس وطني خاص بهيئة التنسيق في لقاء “حلبون” طالما أن الهيئة ظلت تتعامل بالآليات الحزبية، وطالما أن الأحزاب في المآل هي التي تمتلك سلطة الإقرار. باعتقادي كان يمكن أن يكون الأمر مختلفاً لو تم النظر لهيئة التنسيق بوصفها هيئة فوق الأحزاب، وكانت قرارات مكتبها التنفيذي (المنتخب بالطبع من مجلس الهيئة الوطني وليس المشكل بآليات التمثيل الحزبي) فوق قرارات المكاتب السياسية للأحزاب المنضوية فيها، ولو كانت مرجعية هيئة التنسيق هي مجلسها الوطني أولاً وأخيراً وليس الأحزاب، ولو تم اتخاذ القرارات بالآليات الديمقراطية المعروفة (بعض القرارات من خلال آلية النصف + 1 وبعضها الآخر من خلال آلية أكثرية الثلثين) وليس عبر آلية التوافق الديمقراطي بين القوى السياسية التي أثبتت أنها آلية غير سوية ومعرقلة.

فالأساس في هذه اللحظة السياسية هو إفساح المجال للانتفاضة الشعبية لتعبِّر عن نفسها سياسياً وليس بروز أحزاب المعارضة التي سيعاد تشكيلها وصياغتها في ضوء إنجازات الانتفاضة، خاصة أن كل الأحزاب الموجودة اليوم مؤقتة، وسورية مقبلة بالضرورة على مرحلة يعاد فيها تشكيل الأحزاب ورسم اصطفافات سياسية جديدة.

رابعاً: المجلس الوطني..تشكيله وتركيبته..الخطاب والأداء:

مبادرات عديدة لتشكيل مجلس وطني:

منذ بداية الثورة كان هناك مبادرات عديدة طيبة من السوريين المقيمين خارج سورية لإقامة هيئات ومجالس وطنية، تضامناً مع أهلهم وإخوانهم، لكن المشكلة أن هذه المبادرات كانت تتم بمعزل عن بعضها في استنبول والقاهرة وبلغاريا والأردن وتونس وغيرها. وقد مرت لحظة كان يمكن أن يكون لدينا فيها عدة مجالس وطنية في الخارج، بينما قوى الداخل لم تقدم مبادرة جامعة …عملنا انصب في تلك اللحظة على فرملة المبادرات الجزئية ومحاولة إنتاج مبادرة واحدة يشارك فيها ويصنعها شباب الثورة والمعارضة في الداخل والخارج، لأن السوريين كانوا يتمنون وجود مرجعية واحدة تحترم التنوع والاختلاف وتقدم رؤية وبرنامج عمل لسورية المستقبل.

ومع إدراكنا أن السوريين بحاجة حقيقية إلى واجهة سياسية مؤقتة تعبر عنهم، فإننا كنا ندرك أنه مهما اخترعنا من مبادرات ومؤتمرات سوف تبقى ناقصة طالما لا يوجد إمكانية لانتخابات عامة، لكن رغم ذلك كان هناك إقرار عام بالحاجة لمبادرة تحقق أوسع توافق حولها من أجل تكوين هذا الإطار للمعارضة والثورة.

لا شك أن النوايا الكامنة وراء كل المبادرات التي حصلت هي نوايا إيجابية وتعبر عن مدى حاجة السوريين لذلك، كما تعبر عن ألمهم ورغبتهم في إنشاء جنين لبديل واضح المعالم للنظام القائم، لكن كنا أمام معضلة حقيقية تتمثل بأننا إن قبلنا بحق البعض خارج سورية بتشكيل مجلس ما، فإنه يتعين علينا القبول ديمقراطياً بأن تقوم أطراف وجهات أخرى بالإعلان عن مجالس جديدة وبأسماء أخرى، وسنكون بالتالي أمام وضع غير مقبول وسلبي في تأثيره على السوريين.

لذلك كانت المسألة هي إنضاج مبادرة مقنعة لكل الأطراف توقف حالة إسهال المبادرات والمجالس لصالح هيئة وطنية واحدة وببرنامج واضح لسورية المستقبل…وقد تأخرت المعارضة كثيراً في إنضاج هذه المبادرة وتستحق النقد حقاً بسبب تركها للثورة دون تمثيل أو أفق سياسي.

بعد سلسلة المؤتمرات والمبادرات التي حصلت تبلورت فكرة مجلس استنبول، إذ قام عدد من السوريين باختيار أنفسهم من المؤتمرات التي عقدت خارج سورية وفقاً لمصفوفات لها علاقة بالتكوين المديني والريفي والطائفي والسياسي في سورية، واختاروا منها 77 سورياً لتشكيل المجلس الوطني المرتقب، وكان ذلك بتاريخ 20 آب 2011، وكنت قد خرجت قبل هذا التاريخ بفترة 20 يوماً فقط خارج سورية لحضور ندوة فكرية سياسية في الدوحة، وقد تزامنت الرغبة بالإعلان عن هذا المجلس مع وجود سوريين من انتماءات مختلفة للإعلان عن مجالس وطنية في كل من الأردن وبلغاريا والقاهرة وتونس. اضطرني هذا الأمر للتواصل مع الجميع بهدف تأجيل المبادرات لحين نضوج مبادرة واحدة تجمع معارضي الداخل والخارج، وهذا جعلني أسافر لاستنبول للحوار مع أعضاء المجلس المزمع الإعلان عنه، وخلال ثلاثة أيام من الحوار الإيجابي وصلنا لتأجيل الإعلان عن هذا المجلس الوطني وكتابة بيان يفيد بأن هذا اللقاء هو خطوة في الطريق نحو المجلس الوطني، وأصر الزملاء وقتها بأن أكتب بنفسي هذا البيان.

في كل المحطات كانت القاعدة التي تنتظم سلوك المعارضة السورية بكافة قواها وتياراتها هي: “لا أحد مستعد للانضمام إلى أي أحد….ولا أحد مستعد للتجاوب مع مبادرة أحد….والكل يدعو الكل لمبادرته الخاصة”، وقد اكتشفت هذه القاعدة منذ زمن بعيد داخل سورية بحكم العراك السياسي داخل صفوف المعارضة، وكانت لنا محاولات كثيرة فاشلة في هذا الاطار، وللأسف هذه القاعدة هي التي سيطرت على عمل المعارضة منذ بدء الثورة، ولمعرفتي بهذه القاعدة قلت لشخصيات مجلس استنبول المنعقد بتاريخ 20 آب 2011 بأنكم إن أعلنتم الآن عن مجلسكم لن تجدوا من يتجاوب معها، لذلك انتظروا وتواصلوا مع البقية حتى تضمنوا المشاركة.

وتوصلنا في المآل لاتفاق مفاده تشكيل لجنة للإعداد لمجلس وطني، وقد كنت من ضمن هذه اللجنة وكانت مهمتي هي الاتصال بهيئة التنسيق الوطنية وإعلان دمشق داخل سورية من أجل هذا الأمر، بالإضافة للتواصل مع السوريين الراغبين في القاهرة وتونس بالإعلان عن تشكيل مجلس وطني، وهكذا كان إذ سافرت من استنبول للقاهرة، وهناك كان أيضاً تجاوب السوريين إيجابياً، إذ التقت مساعيهم في القاهرة مع مساعي آخرين في تونس والقاهرة تحت اسم “المبادرة الوطنية” وتم الاتفاق على التأجيل.

بعد ذلك تواصلت مع هيئة التنسيق الوطنية وشخصيات من إعلان دمشق وشخصيات مستقلة لها دورها وبعض الناشطين من الشباب، وتمت دعوتهم للدوحة.

لقاء الدوحة-المحاولة الأكثر جدية:

كان مدهشاً لي حجم الأكاذيب التي أثيرت حول لقاء الدوحة، وللأسف لا زال البعض مستمراً في اختراع ما يحلو له حول اللقاء، ربما أملاً في كسب رضا طرف ما أو الفوز بمقعد ما في المجلس الوطني.

تناولت بعض هذه الأكاذيب، للأسف، الدكتور عزمي بشارة، دون أي مبرر يذكر، وفي حالة بائسة من الافتقار للحد الأدنى من الأخلاق، إذ بدلاً من توجيه الشكر للرجل على محاولته جمع أطراف المعارضة السورية (على الأقل لقاء الدوحة هو المبادرة الأولى لجمع معارضي الداخل، أي هيئة التنسيق الوطنية وإعلان دمشق، مع معارضي الخارج ، أي مجلس استنبول، في لقاء واحد، وقبله لم يكن هناك تواصل يذكر بين الطرفين، فضلاً عن كونه اللقاء الذي أسس للقاء استنبول بتاريخ 28 أيلول الذي تمخض عنه تأسيس المجلس الوطني)، تم الذهاب نحو فتح معركة لا أخلاقية من طرف واحد ضد الدكتور عزمي بشارة، ونسوا سلوكه ومواقفه المعتادة في دعم ثورات الشعوب العربية.

بعض الترهات التي قذفها البعض تناولت الدكتور برهان غليون، كما تناولتني شخصياً. وذلك من باب أننا كنا نحاور الآخرين، من خلال انتمائنا لهيئة التنسيق الوطنية آنذاك، بهدف إقناعهم بمبادرة الجامعة العربية.

لو كنت مقتنعاً بجدوى هيئة التنسيق الوطنية لوحدها لما بادرت بدعوة بقية الأطراف للاجتماع معاً، وفي جميع الحوارات التي تمت لم يكن لقائي مع هذه الأطراف بصفتي عضواً في هيئة التنسيق آنذاك، بل كان بصفتي محاوراً يريد أن يعفي بلده من المأزق المتوقع في لحظة سياسية حاسمة بوجود عدة أصوات معارضة كلٌ منها يغرد في واد، والأمر ذاته بالنسبة للدكتور برهان غليون، والأهم أن المبادرة العربية لم تطرح للنقاش بالمطلق.

شهادتي فيما يخص لقاء الدوحة لا تأتي من شخص شارك في جميع جلسات اللقاء وحسب، بل أيضاً من شخص كان له دور رئيسي في التخطيط والإعداد لهذا اللقاء.

من المعروف أن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي يديره الدكتور عزمي بشارة قد دعا عدداً من الشخصيات الثقافية في سورية بتاريخ 29/7/2011 للمشاركة كمحاضرين في الندوة البحثية حول سورية، وقد كانت هذه الندوة ذات طابع بحثي لخبراء في الشأن السوري، وبالتالي لم تكن معنية أبداً بإصدار بيان أو موقف ما، بل هي محاولة من المركز لحث أصحاب الفكر على التفكير في الشأن السوري بهدوء.

أثناء هذه الندوة برزت الحاجة لمعرفة أوضاع المعارضة السورية وبحث شؤونها وشجونها، وقد قدمت للمركز اقتراحاً باستضافته لندوة سياسية تدعى إليها بعض الشخصيات السياسية المعارضة من داخل وخارج سورية، وقد أيَّد المركز هذه الفكرة ووعد بالعمل على تحقيقها في أقرب وقت.

بعد ثلاثة أسابيع تقريباً جاءني رد رسمي من المركز بالموافقة على الندوة، وبتكليفي دعوة الشخصيات المعارضة المناسبة للمشاركة في هذه الندوة السياسية على ألا يزيد العدد عن 25 شخصية، وفعلاً بدأت التواصل مع القوى السياسية داخل وخارج سورية دون أي محاولة لإقصاء أي طرف، وكان عنوان هذه الندوة “لقاء تشاوري للمعارضة السورية”.

وقد حدّدت هذه القوى كالآتي: هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي، إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي، الإخوان المسلمون، التيار الإسلامي المستقل، وجرى اعتماد عدد تقريبي هو 4-6 من كل اتجاه سياسي، بالإضافة لعدد محدود من الشخصيات المستقلة وعدد من الشباب الناشطين. بعض الشخصيات التي دعيت كان ممنوعاً من السفر وبعضها ليس لديه جواز سفر أصلاً، لكن في المآل حضرت شخصيات من القوى المختلفة، رغم أني ارتكبت خطأ غير مقصود في الدعوة لاعتقادي أن بعض الشخصيات التي جاءت من لقاء استنبول التشاوري تمثل حركة الإخوان المسلمين، وقد تبينا غير ذلك في الندوة.

ووضعت برنامج جلسات نقاشية للقاء تضمن الآتي: أوضاع المعارضة السياسية في سورية، الحراك الشعبي في سورية، التنسيقيات والشباب، خطة عمل المعارضة ورؤيتها للمستقبل والخطوات المطلوبة.

وكان المطلوب أن يحضر المدعوون بتاريخ 4 أيلول ليكون يوم 5 أيلول والفترة الصباحية من يوم 6 أيلول هما يوما عمل اللقاء التشاوري.

بدأ اللقاء التشاوري بكلمة ترحيبية من الدكتور عزمي بشارة، وبعدها أراد المغادرة، لكن معظم الحضور أصروا عليه كي يبقى ويحضر مستمعاً على الأقل، وهكذا كان رغم أنه لم يحضر جميع الجلسات.

أثناء الجلستين الأولى والثانية برزت الحاجة للانتقال سريعاً نحو الجانب العملي الخاص برؤية المعارضة وتوافقها ووحدتها، خاصة مع ضغط الشباب الحاضرين للقاء الذين رأوا أن وحدة المعارضة وتوافقها قد أصبح مطلباً شعبياً ملحاً.

وبعد جلسة نقاش تم التوافق على تكليف لجنة لصياغة بيان توافقي بين أطراف المعارضة الحاضرين في الدوحة، وشارك في اللجنة ممثلون عن جميع الأطراف السياسية، وبعد أن تمت صياغة البيان عرض للنقاش وكان هناك توافق عام في الرؤية، إذ أكد الجميع على إسقاط النظام ورفض الحوار والانحياز الكامل للثورة وتشكيل ائتلاف سياسي مفتوح لجميع القوى السياسية المعارضة وقيام هذا الائتلاف السياسي الأكبر في تاريخ سورية بالتحضير لعقد مجلس وطني تدعى إليه الشخصيات المستقلة والنشطاء وشباب الثورة وممثلين عن المؤتمرات التي عقدت والمبادرات التي أعلنت. لكن مجموعة استنبول عادت ورفضت الانضمام للائتلاف بعد التوافق على أفكاره السياسية، لأن هذه المجموعة أوضحت رغبتها بمجلس وطني لا ائتلاف سياسي، رغم أن الكلام الأخير لعدد من مجموعة استنبول كان هو الموافقة على الانضمام للائتلاف شريطة نسبة محددة من المقاعد في قيادة الائتلاف.

بعد ذلك سافر القادمون من دمشق من هيئة التنسيق الوطنية وإعلان دمشق بتاريخ 7 أيلول على أن يكون هناك مصادقة من قبل هيئاتهم القيادية، وأن يتم الإعلان عن الائتلاف من قبلهم بتاريخ 11 أيلول، وبعد ذلك بأسبوع يتم الإعلان عن أسماء قيادة الائتلاف على أن تكون مؤلفة من 25 شخصاً، 16 داخل سورية و9 خارج سورية، وتم تكليف لجنة ثلاثية للمتابعة حتى ذلك التاريخ مؤلفة من 3 أشخاص هم: برهان غليون، حازم نهار، نبراس الفاضل، مهمتها التواصل مع الإخوان المسلمين وبحث مسألة انضمامهم للائتلاف ومتابعة أمور الائتلاف لحين الإعلان عن قيادته.

جاء وفد الإخوان المسلمين بتاريخ 8 أيلول، ولم يستغرق اللقاء معهم أكثر من ساعتين لإعلان موافقتهم على الانضمام للائتلاف مع بعض التعديلات الطفيفة على النص وعدد أعضاء الهيئة القيادية، على أن يعودوا لهيئاتهم القيادية من أجل المصادقة على الانضمام خلال أيام قليلة، وبالفعل بعد يومين أخبرونا بموافقتهم.

هذه هي قصة لقاء الدوحة الذي انبرى بعض من حضروا، وبعض من لم يحضروا، لإعاقته والتشكيك به والنيل من المضيف ومن بعض الشخصيات التي حضرت وشاركت.

بقي أن أثبت النقاط التالية حول اللقاء:

1- لقاء الدوحة هو لقاء تشاوري برزت الحاجة إليه أثناء الندوة البحثية التي أجريت قبل شهر من قبل المركز، وأثناء اللقاء برزت الحاجة لنقاش عملي، خاصة مع وجود عدد من الشباب الذين هم على تواصل مع الداخل السوري، ولم يكن اللقاء معنياً بإصدار بيان في الأصل.

2- لا علاقة لحكومة قطر باللقاء لا من قريب ولا من بعيد.

3- لم يطلب أحد من هذا اللقاء أي شيء، لا الدكتور عزمي بشارة ولا غيره، وحضوره لبعض اللقاءات كان بناء على رغبة الحاضرين باعتباره شخصية عربية معروفة بانحيازها لثورات الشعوب.

4- لا يعرف عزمي بشارة من الحاضرين إلا بضعة أسماء لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.

5- الشق العملي في اللقاء هو تشكيل ائتلاف لقوى سياسية، وليس مؤتمراً أو مبادرة غير محددين..بالتالي لا يصح هنا فتح موضوع الإقصاء وعدم الإقصاء من قبل من لم تتم دعوتهم.

6- لم يكن الإعلام موجوداً، لأن الهدف المركزي للقاء التشاوري كان حوار أطراف المعارضة حول أمور تخصها في اللحظة الراهنة، وربما هذه هي النقطة التي استغلها البعض لإثارة الإشاعات حول اللقاء، خاصة مع التزام جميع المشاركين بعدم التحدث حول اللقاء في الإعلام.

7- لم يكن هناك خلاف سياسي بين الأطراف الموجودة، لا على أهداف الثورة ولا على الرؤية للمستقبل، لكن كان هناك نقاش حول دلالات ومعاني الكلمات التي تكتب، وهذا أمر طبيعي بين أطراف تتاح لها لأول مرة فرصة الحوار فيما بينها منذ عقود.

8- في هذا النقاش لم يكن هناك حضور للأيديولوجيات الحزبية، ولم يسعَ أي طرف لفرض أيديولوجيته، وكان النقاش سياسياً بامتياز حول الأهداف وبرامج العمل. وأثناء النقاشات تم تناول جميع المواضيع والمشاكل كالقضية الكردية والأقليات في سورية، وغيرها من الأمور المطروحة على جدول أعمال المعارضة السورية، ولم يكن هناك فيتو من أحد على طرح أي موضوع.

9- تزامن اللقاء مع صدور مبادرة جامعة الدول العربية، لكن هذه المبادرة لم تكن مطروحة على مائدة النقاش بالمطلق، ولم يتعامل معها أي طرف سياسي، وجميع من صرحوا في الإعلام حولها قالوا هي مقدَّمة للنظام ولا تعني المعارضة في شيء.

لقد استنفر بعض الحاضرين في لقاء الدوحة ضد اللقاء وهيئة التنسيق تحديداً عندما سمعوا بمبادرة جامعة الدول العربية التي تتحدث عن بقاء رئيس الجمهورية في منصبه حتى العام 2014، وأرادوا إنهاء اللقاء ظانين أن هذه المبادرة (أطلقت بعض الأصوات المعارضة على المبادرة العربية اسم المؤامرة، وهذا أمر مثير للاشمئزاز لأن طريقة تفكير بعض المعارضة لا تختلف بشيء عن عقل النظام السوري، وهو أيضاً أمر مضحك فعلاً، إذ ينم عن جهل غير طبيعي بالنظام السوري، ولو كان هناك حد أدنى من المعرفة بالنظام لاستنتج صاحب التفكير المؤامراتي أن النظام لن يقبل بمثل هذه المبادرة بالمطلق، خاصة في تلك اللحظة السياسية) هي تخطيط من قبل هيئة التنسيق الوطنية وعزمي بشارة وبرهان غليون وحازم نهار.

في الحقيقة كنت أول من عرف بالأمر من قبلهم بحكم أنني الداعي للقاء، وأخبرتهم أنني لم أسمع بالمبادرة العربية إلا منكم، وإذا كان هناك مثل هذا الأمر فيكفي أن أخرج في الإعلام وأقول لا علاقة لنا بالمبادرة العربية من قريب أو بعيد، وهكذا كان. وللأمانة سألت الموجودين من هيئة التنسيق فلم يكن لأحدهم علم بالمبادرة، والأمر ذاته ظهر لدى اتصالي بالموجودين في دمشق من هيئة التنسيق.

10- لم تطرح فكرة أي اتفاق وسط بين المعارضة والنظام السوري من قبل أي طرف سياسي، ولا عرض الأمر من أية جهة.

الواضح أن الافتراءات التي قيلت عن لقاء الدوحة تنطلق مما يلي:

هناك أناس لا يعرفون التقدم إلى الأمام إلا عن طريق التقليل من أهمية الآخر أو الإساءة له والافتراء عليه، وربما أحس البعض أن لقاء الدوحة فعلاً هو الحركة الأنضج والعمل الأكثر جدية كونه قام على حوار بين جهات سياسية موجودة بالفعل على الأرض وذات تاريخ معروف في معارضتها وتضحياتها، وهي الحركة التي ربما كان هناك خوف من نجاحها بدلاً من الحركة الخلبية للمؤتمرات وحالة الإسهال المزمن في المبادرات غير المدروسة وافتتاح الدكاكين الفاشلة، فما حصل من مؤتمرات ومبادرات أثار من الضجة أكثر مما قدَّم فعلياً للثورة. على الأغلب عمل البعض هنا استناداً لمقولة: اكذب عن الدوحة كي تنجح في استنبول أو القاهرة أو غيرها، بما يعني أن المطلوب هو إفشال اللقاء من أجل إبراز غيره، والسؤال هنا: أية مصلحة وطنية تكمن وراء هذه السلوكيات والذهنيات؟

رغم ذلك، باعتقادي كان هذا اللقاء التشاوري ناجحاً وقدم أكثر مما هو مأمول منه، فهي المرة الأولى التي يحدث فيها حوار جدي بين أطراف المعارضة السورية من الداخل والخارج، وكان من المهم لمن يضعون نجاح الثورة السورية في اعتبارهم الانتباه إلى ضرورة المراكمة والبناء على نجاحات هذا اللقاء.

والغريب أيضاً هو خطاب التشبيح الذي ظهر في بعض الأماكن من قبل الأكثر مزاودة في تبني شعار “إسقاط النظام”، وكان الأولى بهم إسقاط ذهنية التشبيح من رؤوسهم أولاً، إذ لن يكون طموح السوريين اليوم هو الإتيان بشبِّيحين متنكرين بزي المعارضة، خاصة تلك الشخصيات التي تريد أن تتصدر المشهد وقد كانت إما جزءاً من النظام القائم ومندرجة فيه أو صامتة تعيش في حالة انقطاع شبه دائمة عن البلد وأهله ومعاناته.

فترة ما بعد الدوحة والإعلان عن المجلس الوطني في استنبول:

انتهى لقاء الدوحة بالتوافق على أن يتم الإعلان عن تأسيس “الائتلاف الوطني السوري” في دمشق بعد أسبوع على الأكثر من مغادرتهم للدوحة، بحيث يكون الائتلاف مكوناً من: هيئة التنسيق الوطنية، إعلان دمشق، الإخوان المسلمين. أما مجموعة استنبول، فقد أخبرني بعضهم (التيار الإسلامي المستقل-عماد الدين الرشيد) أنهم قد يعلنون انضمامهم للائتلاف، وأن هذا وارد حتى لو لم يوافق الإخوان المسلمون.

بدأت اللجنة المصغرة (برهان غليون، نبراس الفاضل، حازم نهار) بالتواصل مع الكتل السياسية: إعلان دمشق لم يرسل أي رسالة، واعتبر نفسه في حل من الاتفاق، هيئة التنسيق الوطنية اجتمعت في دمشق وأصدرت بياناً غريباً ترحب فيه بالائتلاف (وكأنها خارجه ولم تشارك في صناعته) وتطلب إضافة “اللاءات الثلاث” لبيان الائتلاف، كما ذكروا أنهم يحاولون عقد لقاء مشترك مع إعلان دمشق لكن الأخير لم يكن يتجاوب، أما الإخوان فأخبروني أنهم بحاجة لأخذ رأي مجلس الشورى، وهذا غير ممكن قبل 16 أيلول.

أما التيار الإسلامي المستقل فكان مدهشاً في التصريح الذي أطلقه وقتها الدكتور عماد الدين الرشيد من الرمثا بأن المعارضة التقليدية تريد فرض أيديولوجياتها على الثورة، إذ إن الحوار في الدوحة كان في كل محطاته سياسياً ولم يكن للأيديولوجية أي حضور فيه.

بتاريخ 16 أيلول أُعلن عن تشكيل “المجلس الوطني السوري” في استنبول، وتم الإفصاح عن أسماء 71 عضواً خارج سورية (هي الأسماء ذاتها التي أعلن عنها في لقاء استنبول الأول بتاريخ 20 آب)، وتركت مقاعد مخصصة لـ 70 اسماً داخل سورية، وكان الدكتور برهان غليون قد دعي للمشاركة في هذا اللقاء، وبالفعل ذهب لاستنبول، وعاد في اليوم ذاته ولم يشارك. بعد ذلك أصدر إعلان دمشق بياناً يرحب فيه بتشكيل مجلس استنبول معتبراً إياه الأنضج بين محاولات المعارضة، وشارك فيه بممثلين لإعلان دمشق خارج سورية. كما وصلنا خبر آنذاك أن الإخوان المسلمين أعلنوا عدم قبولهم بائتلاف الدوحة، وأنهم بصدد تقديم مبادرتهم الخاصة.

بتاريخ 20 أيلول وصلتني دعوة رسمية خاصة بهيئة التنسيق الوطنية من قبل الإخوان المسلمين إلى لقاء في استنبول بتاريخ 28 أيلول، والغريب أنه وصلتني دعوة أخرى للقاء ذاته من قبل مجلس استنبول الذي أعلن عنه في 16 أيلول. وبالطبع تم تحويل الدعوة الرسمية إلى هيئة التنسيق الوطنية.

تم إذاً تعطيل اتفاق لقاء الدوحة، ولم يكن ذلك مفاجئاً في الحقيقة، فمن يعرف دهاليز وأنفاق المعارضة والقوى السياسية في سورية ليس عليه أن يستغرب.

قبل ذهابنا لاستنبول بتاريخ 28/9 تحدثنا سوية، أنا وبرهان غليون، أننا ذاهبون لاستنبول لأحد أمرين، إما تسهيل إنجاز المجلس في حال حضر الجميع ووافق الجميع، وإما التأجيل في حال لم يوافق أحد الأطراف، لكن الأمور سارت هناك على نحو مختلف.

في الحقيقة ما جرى في استنبول هذه المرة هو استمرار لما جرى في الدوحة مع انضمام قوى جديدة للحوار هي لجان التنسيق المحلية والهيئة العامة للثورة السورية والمجلس الثوري (وهي قوى ليست سياسية وغير محددة المعالم بعد)، ومن يقرأ نص البيان الختامي للقاء الدوحة: ائتلاف سياسي يتبعه تشكيل مجلس وطني للائتلاف، وعملياً هذا ما حدث في استنبول مع فارق بسيط أن البعض كان يعز عليه أن تخرج المبادرة من غيره من جهة، والثاني هو صعود تعبير “المجلس الوطني” إلى السطح وغياب تعبير “الائتلاف”، مع أن ما حدث في استنبول عملياً هو تفاوض ما بين قوى سياسية وتشكيل ائتلاف سياسي، ثم جرى ضم عدد متساو من أطراف هذا الائتلاف وتم الخروج بصيغة “المجلس الوطني”.

بالنسبة لي شخصياً لم أكن مع استخدام تعبير “المجلس الوطني”، واقترحت تعبيراً آخر هو “الهيئة العامة لدعم الثورة السورية”، فقد كنت غير مقتنع بأن اللحظة أو الظروف كانت ناضجة للإعلان عن مجلس وطني يمكن أن يكون عليه ألف إشارة استفهام ونقد لطريقة تشكيله.

رغم ذلك كان موقفي في ذلك الوقت هو تأييد المجلس، وكان تصريحي للإعلام بتاريخ 2 أكتوبر هو التالي: “خطت المعارضة السورية خطوة جيدة بإعلانها عن تشكيل مجلس وطني سوري يعبر عن طيف سياسي واسع، وينبغي من باب المصلحة الوطنية تأييده ودعمه، رغم عدم وجود أطياف أخرى من المعارضة فيه، ورغم وجود بعض الملاحظات السلبية على طريقة التشكيل وعلى عدد من شخوصه كما يرى البعض.. وينبغي أن يستمر الحوار كي يكون المجلس معبراً حقيقة عن الأطياف كافة، مثلما يقع على عاتقنا جميعاً، سواء أكنا داخل المجلس أو خارجه، العمل على تطوير هذا المجلس والارتقاء به ليكون حاضنة السوريين خلال هذه الفترة العصيبة حتى نصل للحالة التي يتم فيها اعتماد مبدأ الانتخاب كأساس في الحياة السياسية في سورية”. ولذلك حاولت إقناع كل من لم يكن في المجلس في ذلك الوقت، كائتلاف القبائل السورية، بتأييد المجلس من باب المصلحة الوطنية، وقد كانوا مستائين من دعوتهم لاستنبول، هم وغيرهم، ووضعهم في فندق آخر وتغييبهم عن المشاركة في حوارات الإعداد لتشكيل المجلس.

لقد حسمت قراري شخصياً بالخروج من هيئة التنسيق في اليوم ذاته الذي لم تشارك فيه هيئة التنسيق في لقاء استنبول يوم 29/9/2012 وذلك لأن المشكلة ذاتها بالنسبة لي لم تحل، وهي تعدد أصوات المعارضة في لحظة المطلوب فيها صوت واحد وبوصلة واحدة، وهذا مختلف عن المناداة الساذجة بوحدة المعارضة. ورغم دعوة الكثيرين لي وقتها بالدخول في المجلس الوطني باسمي الشخصي إلا أنني رفضت ذلك، لأن المشكلة ستبقى قائمة، والقادم سوف يظهر صحة هذا الرأي.

لكنني لم أعلن استقالتي من هيئة التنسيق مباشرة، بل انتظرت مرور أسبوعين كي لا يفسر الأمر على أنه إساءة للهيئة التي ساهمت وشاركت بصناعتها.

في المحصلة خرج المجلس الوطني إلى العلن، لكنني – وإن أيدته شخصياً –وضعت يدي على قلبي من الآتي. واليوم بعد مرور أربعة أشهر على انطلاقة المجلس أستطيع أن أقول إن ما حدث واقعياً يشابه فيلماً سينمائياً رأيته وعرفته للمرة الألف.

المجلس الوطني..تشكيله وتركيبته..الخطاب والأداء

في المحصلة خرج المجلس الوطني إلى العلن، لكنني – وإن أيدته شخصياً –وضعت يدي على قلبي من الآتي. واليوم بعد مرور أربعة أشهر على انطلاقة المجلس أستطيع أن أقول إن ما حدث واقعياً يشابه فيلماً سينمائياً رأيته وعرفته للمرة الألف.

ملاحظات سريعة على خطاب وأداء المجلس الوطني:

– ائتلاف سياسي وليس مجلس وطني:

بالعودة إلى المجلس الوطني ومعرفة آلية تشكيله وعمله، فإننا نكتشف ببساطة أنه مجرد ائتلاف بين قوى سياسية قديمة وأخرى برزت مع الثورة ليس أكثر، وهو لا يمتلك قراره، بمعنى أن جميع أعضائه حتى لو اتفقوا على شيء ما، لن يكون بمقدورهم القيام بأية خطوة دون موافقة القوى السياسية، وهذه القوى تعود عادة لمكاتبها السياسية، وهذا يجعلنا نقول إن قرارات المجلس تصاغ خارجه. وللدقة أكثر فإن القوى الفاعلة في المجلس هي الإخوان المسلمون وإعلان دمشق (حزب الشعب/الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي سابقاً)، وهنا يبدو المجلس الوطني وكأنه تجديد لذلك الود المتبادل بين هذين الطرفين في مرحلة الثمانينيات.

هناك أيضاً – كما ظهر – نفوذ لبعض الأشخاص دون غيرهم بسبب قدرتهم على توفير الدعم المالي للمجلس، إذ يتكرر الحديث على الدوام بوجود دعم مالي غير واضح المعالم للمجلس الوطني، وهذا الدعم مسؤول عنه عدد من الشخصيات، وهذا ما أعطاها قوة وفاعلية غير محببتين داخل المجلس إلى درجة التحكم بتنقلات وحركة بعض الشخصيات في المجلس.

إن الشروع بتشكيل ائتلاف سياسي هو أمر مشروع، فهذا الأمر يبقى من حق القوى السياسية، أما تشكيل مجلس بطريقة غير انتخابية فإنه سيبقى أمراً غير شرعي، لذلك لا ينبغي على المجلس التصرف كسلطة قائمة، وإنما كمشروعية مفترضة في الحد الأعلى، ولذلك ليس عليه تغيير أمور جوهرية اليوم، بل التصرف من وحي الضرورات القصوى وحسب، فلا ينبغي للمجلس اعتماد علم جديد بمعزل عن جميع السوريين، خاصة لما لهذا الأمر من تأثير رمزي سيء بإظهار البلد مقسومة إلى بلدين بعلمين مختلفين.

مشكلة المجلس هنا أنه يحتوي فناءه في داخله، والسؤال الضروري الذي يطرح نفسه هو هل المجلس قابل للاستمرار والصمود ما بعد مرحلة سقوط النظام وإدارة مرحلة انتقالية؟ في اعتقادي لا، إنه غير جاهز للصمود في مرحلة متطلباتها أقل من ذلك بكثير.

– الاعتراف بالمجلس:

في يوم الإعلان عن المجلس الوطني بتاريخ 2 أكتوبر، قلت لعدد من أعضائه في استنبول، وقد كانوا فرحين بتشكيل المجلس وينتظرون بفارغ الصبر الاعتراف العربي والدولي بالمجلس، هناك فرق كبير بين تعبير “الترحيب بالمجلس” وتعبير “الاعتراف بالمجلس”، ولن يكون الاعتراف بالمجلس سهلاً أو أمراً روتينياً، فاعتراف دولة ما بالمجلس الوطني يعني أن هذه الدولة قد قطعت طريق العودة في العلاقة مع النظام السوري وأنها مستعدة للمساعدة في إسقاط النظام السوري بكافة الوسائل والسبل. وقد يكون وجود المجلس الوطني بحد ذاته هو فرصة لدولة ما لمساومة النظام السوري في قضايا أخرى عبر التهديد باعترافها بهذا المجلس.

– تناقضات المجلس:

يحتوي المجلس الكثير من التناقضات داخله، وهناك تناقض حتى على مستوى الأجيال، وتناقض على مستوى العلاقة بين الثورة والسياسة، إذ اجتمعت في المجلس قوى سياسية عتيقة مع قوى ثورية ناشئة، ولكل منطقه الخاص، ولم تعالج فكرة التكامل أو الانسجام ما بين هذه القوى أو على الأقل التفاهم على توزيع الأدوار مع وجود نواظم عامة.

إن التكامل بين الثورة والسياسة أمر ضروري، واختراع العداء بينهما لا يصب في صالح البلد، هذا أكيد. لكن ينبغي الإقرار بأن للثورة مسارها ومنطقها وآلياتها، كما للسياسة مسارها ومنطقها وآلياتها، إذ ليس بالضرورة أن من يقوم بالثورة يستطيع إدارة صراع سياسي أو بناء علاقات خارجية مفيدة أو إدارة بلد. هذا الاختلاف لا يعني أبداً أنهما يختلفان من حيث الذهاب نحو الهدف ذاته، إذ لا ثورة جادة دون رؤية سياسية واضحة، ولا سياسة صائبة دون خيارات جذرية وثورية.

من هنا كانت نصيحتي في لقاء استنبول للهيئة العامة للثورة السورية بعدم الانضواء تحت جناح المجلس الوطني المزمع تشكيله، في محاولة لتخفيف التناقضات المحتملة ضمن المجلس من جهة، ومحاولة للإبقاء على جهة ما كضمانة للثورة في حال وصل المجلس إلى حائط مسدود، وهو ما حصل إذ دعمت الهيئة المجلس لكن دون أن تكون جزءاً منه، فيما التحق المجلس الثوري بالمجلس الوطني.

التناقض الأكبر هو في كون بعض القوى الموجودة داخل المجلس هي قوى فيسبوكية افتراضية تحت مسميات مختلفة، في ظل غياب قوى الحراك الشعبي والقوى الفاعلة على الأرض، لكن لا يمكن استبعاد حدوث تناقض بين القوى الافتراضية والقوى الحقيقية عندما تقرر هذه الأخيرة الظهور والعمل في العلن.

بدت هيئة التنسيق الوطنية أكثر انسجاماً بين مكوناتها، ربما بسبب التاريخ الطويل للعلاقة بين هذه المكونات وكذلك الخبرة النسبية في العمل السياسي، وصرف أكثر من ثلاثة أشهر في نقاش وثيقتها الأساسية وآليات العمل قبل الإعلان عنها. فيما أصدر المجلس بيانه التأسيسي في غضون ساعات بين قوى وجهات لا تعرف بعضها جيداً مستنداً في جزء من البيان على البيان الافتراضي الذي تم التوصل إليه في لقاء الدوحة، وأضيفت له بعض النقاط التي لا تنسجم مع الأصل، ولذلك احتوى البيان تناقضات في متنه، ويمكن اكتشاف ذلك في التصريحين الإعلاميين الشهيرين لبرهان غليون ورياض الشقفة في يوم الإعلان عن المجلس، إذ أخذ كل منهما فكرة من البيان ووقف عندها رغم أن الفكرتين متناقضتين (جاء في البيان رفض التدخل العسكري وفي الوقت ذاته طلب الحماية الدولية بكل السبل). كذلك كان بيان الهيئة العامة للثورة الذي رفض التدخل العسكري وفي الوقت ذاته طالب بكل أشكال حماية المدنيين.

– تأييد الحراك الشعبي للمجلس الوطني:

كان من المتوقع أن يكون هناك تأييد واسع للمجلس الوطني، لكن في الحقيقة إن تأييد الشارع السوري والحراك الشعبي للمجلس الوطني لم يكن استناداً للقوى السياسية الموجودة ضمن المجلس ولبرامجها السياسية التي تصل إلى حد التناقض والتنافر، إنما كان التأييد لفكرة المجلس الوطني بشكل عام، أو لمفهوم المجلس الوطني، أو لتعبير المجلس الوطني بحد ذاته، لأن الاعتقاد كان– بوحي من التجربة الليبية – أن هذا المجلس سيحمل مطالب الثوار وسيكون بوابة سياسية لإسقاط النظام. الشارع السوري المحتج لا يهتم للمعارضة السورية بكافة تلاوينها، ولكنه يتعامل معها كضرورة سياسية في هذه اللحظة، أما المجلس فقد ضاع بين ممارسة السياسة وتمثيل الشارع والمتظاهرين.

من الضروري في اعتقادي أن تبتعد الثورة السورية عن الدخول في لعبة القوى السياسية، وأن تتوقف عن رفع الشعارات وتسمية أيام الجمع بهذا يمثلني وذاك لا يمثلني، والالتفات إلى التصعيد ضد النظام بكافة الوسائل السلمية المتاحة.

– دور الإسلاميين والتيار الإسلامي:

في لقاء استنبول الذي تمخض عن ولادة “المجلس الوطني السوري” قلت لأحدهم: إذا كان الإسلاميون في مصر قد أخذوا الصف الثاني في ثورة مصر، فإنهم في سورية، بحكم تركيبتها، يجب أن يأخذوا الصف العاشر….هذا طبعاً إن كانوا مهتمين بنجاح الثورة في سورية…. وهذا للأسف لم يحدث، ولا يبدو أنه سيحدث، فالتيار الإسلامي عموماً كان ولا زال متعجلاً لتصدر المشهد السياسي في الثورة، وهذا باعتقادي خطأ سياسي كبير.

لا يخفى على أحد اليوم وجود شكل من أشكال الصراع الخفي على السلطة بين أطراف وقوى سياسية مختلفة داخل المجلس الوطني وخارجه، ولا شك أن هذا الصراع يأتي قبل سقوط النظام في غير وقته، وينقل الصراع إلى مرحلة تالية قبل تحقيق مرحلته الأولى، بل هو صراع خطير يؤدي على أرض الواقع إلى تقسيم الحراك الشعبي لأتباع لهذا الطرف السياسي أو ذاك، ويلحق ضرراً كبيراً بوحدة هذا الحراك ويفسح في المجال للنظام باللعب على التناقضات داخل الأطراف الحزبية والسياسية من جهة، وداخل كتل الحراك الشعبي من جهة ثانية، وتكون المحصلة النهائية تغيير طبيعة الحراك وخفض صفته الوطنية العمومية من أجل الحرية والكرامة ليصبح صراعاً على السلطة بين كتل وتجمعات شعبية تتبع كل منها لطرف سياسي ما. ولعل الطرف الأكثر سعياً وراء تأجيج هذا الصراع هو الطرف الأكثر غياباً عن سورية خلال العقود الثلاثة الماضية والأقوى من حيث الإمكانيات المالية والتماسك التنظيمي، إلى جانب كونه الطرف الأقل حضوراً في بدايات الحراك الشعبي. هذا الطرف هو “الإخوان المسلمون” مع ما يلتحق بهم من قوى إسلامية تحت مسميات مختلفة.

– مقهى المجلس الوطني وسياسة الإرضاء:

نلاحظ اليوم أن المجلس يتضخم ويترهل في الوقت ذاته، إذ وصل عدد الأعضاء إلى ما يزيد عن 300 عضو نتيجة سياسة الإرضاء واتقاء “شر” البعض بحجز مقاعد لهم في المجلس، لكن الغالبية العظمى في المجلس ليس لهم عمل أو دور أو وظيفة.

إن تشكيل هيئة وطنية مؤقتة أو مجلس وطني مؤقت في سورية ليس كالدعوة لغداء أو حفل زفاف. إنه مسؤولية وطنية كبرى، ولذا يحتاج لأسماء لها خبرة في الشأن السياسي والعلاقات السياسية كي يكون هناك قدرة على حماية البلد من كل مكروه والمساهمة بفاعلية في عملية التحول الديمقراطي، ولا يكفي إبداع أحدهم أو إحداهن في حقل الفن أو القانون أو الطب أو الدين ….ليكون عضواً في هذه الهيئة، كما لا يكفي أن يكون اسماً معروفاً أو شعبياً حتى يكون في هذه الهيئة أو ذاك المجلس.

اليوم نرى أن سياسة الإرضاء واتقاء الشرور في تشكيل المجلس أدت إلى تضخمه عددياً وتحوله ليكون عبئاً على الثورة لا نصيراً لها. باعتقادي ليس من الضروري أن يكون 23 مليون سوري في “المجلس الوطني السوري”، خاصة أنه مؤقت وله مهام محددة. بعض الشخصيات حاربت المجلس الوطني في البداية وتهجمت عليه، وعندما قدِّم لها مقعد في المجلس دخلت فيه وبلعت لسانها!!.

– مهام المجلس ووظائفه:

طرحت على المجلس ثلاث مهمات أساسية، الأولى دعم الثورة وتوسيع نطاقها، والثانية إسقاط النظام، والثالثة إدارة المرحلة الانتقالية ما بعد سقوط النظام. بخصوص المهمة الأولى لعب المجلس الوطني دوراً سلبياً في تحييد كتل شعبية عن المشاركة في الحراك، سواء بسبب منطق خطابه السياسي والتصريحات الإعلامية “الفذة” لأقطابه أو بسبب نوعية وطبيعة القوى السياسية المتآلفة داخله، ولعل أصدق تعبير تناول هذه الحال هو ما قالته إحداهن داخل سورية: “إنهم لا يشبهوننا ولا يشبهون سورية”، وكانت تقصد المنضوين تحت سقف المجلس الوطني، وقد قالت ذلك رغم أنها من الناشطين على الأرض وفاعلة في الحراك الشعبي. المتظاهرون موجودون سلفاً في الشارع دون أي دور للمجلس، فأين الخطاب الموجه لغير المتظاهرين لتشجيعهم، فإما أنهم ليسوا سوريين أو أنهم غير مهمين في اعتبار المجلس. لقد كان خطاب المجلس موجهاً فحسب للمتظاهرين للحصول على رضاهم، أما غير المتظاهرين فقد نفروا من المجلس وخطابه.

أما المهمة الثانية، فإن المجلس يعتمد فيها كلياً على الخارج كما ظهر، ولا يمتلك أية خطة أو آلية للمساهمة في هذا الشأن، وبخصوص المهمة الثالثة سيكون المجلس عاجزاً بالتأكيد عن القيام بها، إذ تتطلب هذه المهمة الكثير من الدقة والحنكة في الإدارة والكثير من التوافق في الرؤى السياسية بين القوى داخل المجلس، وإلى التحضير لمتطلبات هذه الفترة الانتقالية.

– أداء المجلس وإنجازاته على أرض الواقع:

منذ أن تشكل “المجلس الوطني” وإلى الآن لم يقم بالدور الإيجابي المطلوب، إن كان على مستوى الحراك الشعبي والثورة في الداخل، أو على مستوى بناء علاقلات خارجية بناءة وخطاب سياسي وإعلامي يليقان بالثورة العظيمة.

لا يوجد لدى المجلس الوطني أي رؤية متماسكة للسياسة الخارجية، وما هو موجود مجرد علاقات ساذجة يقوم ببنائها أفراد داخل المجلس، فهذا علاقته بالأتراك جيدة، وذاك بالفرنسيين، وآخر بالقطريين…وهكذا. والمعروف أن المبادئ التي تقوم عليها السياسة الخارجية أمر حاسم فيما يتعلق بمواقف الدول تجاه النظام السوري وإزاء دعم الثورة السورية، ومن هنا يأتي الإرباك في اللقاءات الصحفية والإعلامية مع أعضاء مختلفين في المجلس الوطني عندما يتعرضون للعلاقات المنشودة مع أمريكا وأوربا وروسيا وإيران وتركيا وحزب الله والموقف من الصراع العربي الإسرائيلي والجولان المحتل.

سمعت الكثير من الاعتراضات والشكاوى من أعضاء في المجلس حول نتائج مؤتمر تونس الذي تم الاعداد له بطريقة بدائية، حيث لا أوراق حقيقية للنقاش، وكل المؤتمر كان حول توزيع المكاتب والمناصب، والبيان الختامي للمؤتمر لم يتضمن سوى بضعة نقاط هي ذاتها الشعارات التي أطلقها الشارع، والسؤال هنا إذا كان المجلس مجرد مردِّد لشعارات الشارع فما هي ضرورته إذاً؟

هناك ما يزيد عن 300 عضو في المجلس الوطني، وأعتقد أن 90% من الأعضاء لا شغل لهم، وهم غير موجودين إلا كلافتات إعلامية، وعلى حد تعبير أحدهم فقد وضع أشخاص في المكتب الاعلامي للمجلس الوطني لايفرِّقون بين الحديث الاعلامي وخطبة الجمعة!!.

كيف تعاطت المعارضة مع بروتوكول الجامعة؟ في الحقيقة لم يكن لدى المجلس الوطني أو هيئة التنسيق خطة للتعامل مع لجنة المراقبين العرب، فعندما يقول نبيل العربي: نريد من المعارضة تزويدنا بقوائم المعتقلين، يعني ذلك أن المعارضة (المجلس والهيئة والبقية) تعمل على “السبحانية”، وهي تطلب من الآخرين أن يقوموا بمهماتها بدلاً عنها، أو أن-المجلس خصوصاً- لا يرى أهمية لذلك، ويريد من الجامعة العربية أن تكون فقط ممراً لإحالة الأمر لمجلس الأمن….رحم الله الياس مرقص الذي كان يقول: “من لا يطرق الباب الضيق لا يطرق أي باب”، فمن يترفع عن القيام بالمهام البسيطة من المعيب أن يتنطع للقيام بالمهام الكبيرة.

خامساً: المعارضة السورية..الخطاب والأداء:

دكان جدي:

كان لدى جدي منذ ثلاثين عاماً دكان بسيطة يقضي يومه كاملاً فيها ليبيع ويتعامل مع الزبائن، ولا زلت أذكر كيف كان يدير هذه الدكان. لم يكن يعرف ما هي البضاعة المتواجدة أو غير المتواجدة لديه، فضلاً عن حالة الفوضى في توزيع البضاعة داخل الدكان، كما لم يكن لديه معرفة دقيقة بالأسعار، وأحياناً يبيع عدة أشياء دفعة واحدة، ويقدِّم أشياء أخرى مجاناً، ولا يستخدم دفتره لتسجيل الديون رغم أنه يعرف القراءة والكتابة جيداً، وكثيراً ما قام البعض بالنصب عليه واستغلاله….وكانت الحصيلة في آخر النهار أنه لا يحصِّل حتى رأسماله، ويصمِّم في اليوم التالي على البدء بطريقة مختلفة لكن كانت النتيجة دوماً كسابقتها إن لم تكن أسوأ….عموماً كانت هذه الدكان على ما يبدو للتسلية وقضاء الوقت وحسب.

دكان جدي تذكرني اليوم بدكاكين المعارضة السورية بكل أطيافها….حيث لا رؤية، ولا تخطيط، ولا معرفة بنفسها أو بالواقع أو بحاجات البشر، ولا حساب للزمن، ولا قياس للإنجازات والربح والخسارة…. أخشى أن أقول إنها دكاكين للتسلية وقضاء الوقت فقط.

في مراجعة لمعرفة أداء المجلس الوطني وهيئة التنسيق الوطنية بشكل أساسي يمكننا أن نكتشف ببساطة أن ما يزيد ويرفع من وتيرة الحراك الشعبي في سورية هو غباء النظام السوري، وما يمنع توسعه ليشمل فئات وشرائح عديدة هو غباء المعارضة!!…هذا يعني أن هناك عيوب ما، أو بالأخرى خلل منهجي في خطاب وأداء وممارسة المعارضة السورية.

عناصر مفتقدة في الخطاب والممارسة:

– التواضع بمعانيه الأخلاقية والسياسية:

من البديهي القول أن السياسة دون جناحي الفكر والأخلاق تتحول إلى “زعبرة”، وإلى عمل لا طائل منه.

أكثر ما نحتاجه جميعاً اليوم هو التواضع، فهو شيء مفتقد عندنا جميعاً. كل شخصية معارضة تتصرف وكأنها قائدة أو محركة لثورة السوريين، والأمر ذاته ينطبق على أغلب الأحزاب السياسية أو الشباب أو المتظاهرين، وتكون نتيجة ذلك أن لا أحد يقول كلمة طيبة بحق الآخر، وبالتالي نعجز جميعاً عن العمل معاً. التواضع، بمعانيه الأخلاقية والسياسية، بداية جيدة للعمل المشترك والجماعي، فلنترك للمستقبل مهمة تحديد قيمة أدوارنا جميعاً وفاعليتها ولنركز على الهدف والعمل المشترك، فهذا سيكون في صالح الجميع والبلد.

لقد تكشَّفت الأشهر الماضية عن نواقص وثغرات وعيوب عديدة في المعارضة السياسية بالمجمل، ومنها:

– ظاهرة الكل ضد الكل، وحملات تشهير دائمة على مستوى الكتل السياسية والأفراد.

– ظاهرة الذات الفردية التي تضع نفسها فوق الجماعة والبلد والثورة.

– ظاهرة السعي إلى الكسب المؤقت عبر تبني مواقف يستطيع اليوم كل طفل في سورية إعلانها، على حساب الرؤية الاستراتيجية والحسابات السياسية.

– ظاهرة اختزال السياسة إلى مجرد “شعارات”.

– ظاهرة “الشبيحة الجدد” الذين يستندون إلى أرضية النظام السياسية ذاتها.

– ظاهرة “البلاهة السياسية”، فالجميع صار يفهم ويعرف بكل شيء فجأة. الجميع داخل المجلس الوطني وخارجه يتحدثون في أمور تحتاج إلى الكثير من التدقيق والتفاصيل لإبداء رأي واضح فيها واتخاذ موقف صريح منها، كالحظر الجوي، المنطقة العازلة، التدخل العسكري، العلاقات الدولية…… إلخ، رغم أنه، حسب تعبير البعض، فإن 50% من أعضاء المجلس لم يقرؤوا شيئاً في حياتهم حول هذه الأمور، والغريب لا أحد يقول لك: لا أعرف، فالكل يفهم ويتحدث في كل شيء.

– ظاهرة “التنازع على المناصب”: تشكل حالة تنازع الغالبية العظمى من المعارضين على الجلوس في كراسي الصف الأول حالة مدهشة. فالغالبية لا ينتبهون أن كل التشكيلات السياسية التي قامت خلال خمسين عاماً في سورية، وخلال الفترة الحالية، ما هي إلا تشكيلات مؤقتة ستتعرض لعمليات هدم وبناء متوالية، وأن ثمة فاعلين كثراً لم يظهروا بعد في الساحة، وأن ملامح البشر والقوى الفاعلة لن تتشكل إلا مع زوال النظام. لذلك لا تدل هذه “المطاحشة” إلا على قصر النفس وعدم الثقة بالذات والجهل بمسارات تطور التاريخ.

– أنماط الخطاب السياسي الإعلامي:

• خطاب التشبيح: وهو نوعان، إما خطاب تشبيح ناجم عن الجهل والفقر المعرفي وعدم الدراية السياسية، وإما خطاب تشبيح انتهازي رخيص يقوم على مقولات تستند في ظاهرها إلى مطالب الرأي العام والثورة، ويؤدي أغراضه من خلال اللعب بالعواطف والغرائز والصوت المرتفع والجعجعة، ويستخدم ذلك بخبث لاستبعاد الآخرين والاستئثار بصفة التمثيل للشارع والثورة، وحصيلته التي يطمح إليها هي استبدال النظام القائم بنظام تشبيح جديد، وخطاب التشبيح هذا للأسف هو السائد اليوم.

• خطاب خائف: وهو الخطاب الذي لا يثق بالناس وبقدراتهم ويفترض الهزيمة سلفاً أمام النظام القائم، ولذلك لا تتعدى مطالبه وطموحاته ما هو مطروح من فتات من قبل النظام القائم، ويحاول قدر الإمكان عدم الظهور وتحديد الموقف السياسي حتى تتبين الأمور ونتائجها.

• خطاب وسطي: وهو خطاب يحاول جاهداً الوصول لحلول وسط في لحظة لا تقبل الحلول الوسط على الأقل من حيث الرؤية السياسية للمستقبل، لذلك لا يحصل هذا الخطاب على الرضى من أي طرف، فلا النظام قابل به ويحاربه كي يقنع جمهوره بتطرف المعارضة، ولا من الشارع الشعبي الذي يرى فيه التخاذل وقلة الحيلة.

• خطاب ثوري-سياسي عقلاني: وهو خطاب يجمع بين الجذرية في الموقف السياسي والحكمة في الأداء والخطاب، والجذرية هنا هي الموقف الواضح القطعي من النظام القائم، أما السياسة العقلانية فهي التعامل مع هذا الوضوح في الموقف السياسي بطريقة عقلانية تأخذ في الاعتبار موازين القوى الواقعية، والاستمرارية في العمل من أجل تحقيق الهدف الواضح، وللأسف أصحاب هذا الخطاب ومريدوه قلائل.

ثلاثة أرباع الخطاب السياسي للمعارضة السورية بتياراتها كافة على وسائل الإعلام يعرفه ابني الذي لا يتجاوز عمره الخمس سنوات: إسقاط النظام، دماء الشهداء، النظام الدموي…. وغير ذلك لم يقدِّم هذا الخطاب ما يليق بالثورة العظيمة أو ما يرسم صورة المستقبل الذي يطمح إليه السوريون.

هناك مشكلة نعانيها تتمثل في أن بعض العقلاء والمخلصين في البلد يصرفون أكثر من ثلاثة أرباع وقتهم وجهدهم في التخفيف من آثار تصريحات وأفعال الأغبياء والمصابين بالعمى السياسي، لذلك يصدق القول: ما أحوج الثورة السورية اليوم إلى سياسيين يمتلكون عقلاً بارداً وقلباً حاراً في الوقت نفسه.

هذا لا يعني عدم الانتباه إلى أن الشخصيات الموجودة داخل الهيئة أو المجلس ليست متشابهة أو متساوية أو متماثلة في طرحها ورؤيتها وأدائها وأخلاقياتها، وربما يخرج أحدهم على الإعلام ويتحدث بطريقة ذاتية وشخصية تسيء للإطار التنظيمي الذي ينتمي إليه وإلى جميع الموجودين داخل هذا الإطار، مع أن هذا الإطار التنظيمي قد يكون بعيداً عن تصريحاته وذاتيته المفرطة.

– الشعبوية وضمور الممارسة السياسية:

ما يلفت الانتباه هو ضمور الممارسة السياسية لدى السلطة والمعارضة، ممثلة بخطاب المجلس الوطني خصوصاً، في الوقت ذاته، فالنظام تحول إلى مجرد عصا أمنية أو إلى عضلات دون حد أدنى من العقل، وكذا المعارضة تحولت إلى محض ترديد مقولات الشارع، الذي لا يلام على أي شيء يخرج منه، دون تعديل أو تطوير أو إيضاح أو ترتيب، وكان هاجسها فقط محاولة كسب الشارع بأي طريقة كانت.

نعم للشعب …لا للشعبوية.. فالشعب يقول كلمته دائماً بالاستناد لمعطيات معينة، وعندما تتغير المعطيات يتغير رأي الشعب. فأي قول للشعب هو قول غير نهائي، وأي تأييد من الشعب لفرد أو مجموعة هو غير نهائي.

إذا كان السياسي أو المثقف يبني خياراته ومواقفه بالاستناد فقط إلى رأي الناس في لحظة معينة فلا ضرورة لوجوده، إذ لا معنى لوجود المثقف أو السياسي إذا لم يكن قادراً على التأثير في رأي الناس ومالكاً لرؤية استشرافية للمستقبل بعد فهمه واختزانه لمعطيات الحاضر، وبالمقابل إذا كان هذا السياسي أو المثقف يبني خياراته فقط استناداً للأفكار والأيديولوجيات التي يحملها فهو حكماً في عداد الموتى ولا ينتج إلا سياسات مفتقدة للحياة.

– شخصية المعارض وشخصية رجل الدولة:

قدمت المعارضة السورية إعلامياً خلال الأشهر المنصرمة شخصيات سياسية وثقافية وطنية معارضة متفاوتة في مستوياتها وأدائها، لكنها لم تبدأ حتى الآن بتقديم ما يمكن تسميته بـ “رجالات دولة”، وهذا لا يعني عدم وجود أفراد مؤهلين لذلك، بل يعني أساساً وجود مؤسسات وقوى معارضة قادرة على تقديم أفرادها بهذه الصورة، فضلاً عن انتقاء الشخصيات المناسبة لهذا الغرض. فإذا نجحت المعارضة في ذلك يمكنها عندئذ كسب نقطة هامة في الصراع السياسي مع النظام السوري الفقير سياسياً.

أما المقصود برجل الدولة أو الرجل السياسي فهو ذاك الذي يتوافر لديه إحاطة وفهم واضح وعميق للتعابير السياسية التالية: اللحظة السياسية، التكتيك، الاستراتيجية، القواسم المشتركة، المصالح العليا، المراحل والخطوات، الخطاب السياسي والإعلامي، تقاطع المصالح، الموقف السياسي والتحليل السياسي، آليات العمل، الأهداف المباشرة والأهداف البعيدة، العدو المؤقت والعدو التاريخي، موازين القوى الواقعية، الرأي العام، وسائل الضغط وحدوده، نضج الظروف، منطق العصر، تنابذ الأيديولوجيا والسياسية، مراكمة الانتصارات الصغيرة، وفوق كل ذلك الصبر السياسي والذاكرة السياسية والقدرة على إنتاج الحلول والمبادرات في اللحظات السياسية العصيبة. أما ممارسة السياسة كتشبيح فلا تحتاج إلا لصوت الطبول العالي.

– التنازع بين التطهرية والبراغماتية الفجة:

تتعامل المعارضة السورية مع القضايا والمهام المطروحة عليها بإحدى طريقتين، إما أخلاقيات تطهرية تتعفف عن التعامل مع المسائل المطروحة بجدية في الواقع السوري، أو براغماتية مغالية تصل إلى درجة مرعبة ومخيفة للكتلة الأكبر من السوريين. الأخلاقيات التطهرية مصدرها وقاعها أيديولوجي عفن، والبراغماتية المفرطة مرتكزاتها في الغالب الأعم ذاتية ومصالح شخصية أو حزبية ضيقة. وتترتب على هاتين الطريقتين في التعاطي مع الأمور والقضايا السياسية أمراض وأخطاء خطيرة، إما من فرط التطهّر أو من ارتفاع منسوب القذارة.

– الثقافة السياسة للمعارضة:

انفصال الأهداف السياسية عن الثقافة السياسية:

تطرح قوى عديدة في المعارضة السورية أهدافها السياسية المتمثلة في إقامة نظام مدني ديمقراطي، مع أن ثقافتها وممارساتها لا زالت في إطار النسق التقليدي الاستبدادي الذي لا يتوافق مع الأهداف المطروحة. من المفارقة مثلاً أن تكون طيارات الغرب وصواريخه –لدى بعض القوى السياسية- مرحباً بها، في حين أن ثقافته وعلمه يجدان لديها كل الصد، فهي تريد تدخل الغرب عسكرياً على ما يبدو من أجل إقامة نظام من الطينة ذاتها.

معظم قوى المعارضة السورية هي قوى أصولية في خطابها وممارساتها أياً تكن قشرتها الأيديولوجية، وهذا الوصف لا يقتصر على حركات الإسلام السياسي المتشدِّدة، بل هو تعبير واسع يضم جميع القوى والتيارات التي لا تقبل الآخر ولا تؤمن بالآليات الديمقراطية وتعتقد واهمة أنها تمتلك كل الحقيقة، لذلك ليس من الغريب أن نجد واقعياً قوى قومية أصولية أو شيوعية أصولية أو ليبرالية أو علمانية أصولية.

الديمقراطية بين منطق الفكر ومنطق الأيديولوجيا:

الديمقراطية ليست مجرد صيغة للحكم، بل هي أولاً ثقافة، وإن تبسيطها وتسطيحها إلى مجرد آليات شكلانية فوقية من شأنه أن يمنع أي تغيير حقيقي في الأوضاع السائدة. فالانتقال من نظام شمولي أو استبدادي إلى نظام ديمقراطي لا يحتاج فقط إلى إصلاحات أو تغييرات سياسية ودستورية، وإنما في الأساس والأهم إلى نهضة ثقافية، لذلك لا تكمن وظيفة النخبة الثقافية والسياسية في ممارسة أدوار ومواقف سياسية معارضة وحسب، بل تكمن أولاً وأساساً في إعادة تأهيل فكرها وممارساتها لتتوافق مع القيم والمبادئ الديمقراطية، وثانياً القيام بدورها في تعميم الثقافة الديمقراطية في المجتمع، لأن الديمقراطية في الأساس ظاهرة مجتمعية، فهي نظام للمجتمع إلى جانب كونها نظاماً للدولة.

إن الانتقال من حيز الدعوة الديمقراطية إلى حيز بسط الفكرة الديمقراطية يتطلب التحول على الصعيد الثقافي من الأيديولوجية إلى الفكر. الدعوة الأيديولوجية لا تتجاوز منطق التبجيل والرؤية السحرية والمعجزة. تماماً كما كانت الدعوة الاشتراكية أو الدعوة القومية في السابق. لغة الفكر تتجاوز لغة الدعوة الأيديولوجية إلى دراسة منطق الواقع واتجاهاته وميوله وإمكانياته، وتأخذ بعين الاعتبار البشر وطاقاتهم وأفكارهم والعقبات القائمة والآليات المناسبة. الفكر يبحث عن بشر واقعيين وسياسيين، وعن ممكنات ومداخل واقعية، وعن استراتيجيات ومراحل وتكتيك، أي عن التفاصيل والآليات والمراحل والبرامج، أما الأيديولوجيا وأنصارها فلا يعرفون إلا الدعوة إلى الهدف بمنطق سحري وديماغوجي لا يقدِّم ما هو مثمر بل يساهم في زيادة التشويش والتعمية.

علمانية الثورة والدولة:

أكاد أجزم بأن سر نجاح أي ثورة هو منطقها العلماني، رغم المعارضة الشديدة لتيارات عديدة لمفردة “العلمانية”.

يمكن في هذه اللحظة السياسية تفهّمُ وجود حالة من التنافس المحموم لكسب الشارع السوريّ المنتفض من قبل الأحزاب السياسيّة والنشطاء السياسيين ـ وهذا أمرٌ طبيعيّ بعد حالة الكمون والبلادة السياسية واقتصار العمل السياسيّ على الغرف المغلقة. وبالتالي يعتقد بعضُ الأحزاب السياسيّة بضرورة تفادي استخدام كلمات مرفوضة من الشارع السوريّ كمفردة “العلمانيّة.”

في اعتقادي أنّ هذا الموقف خاطئ من جهتين. فمن جهة أولى، أرى أنّ الأحزاب، تحت هاجس كسب الشارع مؤقتًا، تتخلّى عن أهمّ وظائفها المتمثّلة في الارتقاء بالوعي العامّ. والحقّ أنّ الأحزاب التي تتخلّى عن هذا الدور، وترتكز فقط إلى المزاج العامّ المؤقّت وإلى الحدس والمباشر والآنيّ، تصبح غير ضروريّة مع الزمن؛ ذلك لأنّ الشارع في المآل الأخير لا يحتاج إلى مَن يعبِّر عنه وحسب، بل يحتاج بالقدر ذاته إلى من يرتقي به ويقوده.

وهو خاطئ، من جهة ثانية، لأنّ هذا التشخيص لِما “يريده” الشارعُ المنتفض غير دقيق. هنا أستطيع القول إنّ الشارع السوريّ المنتفض كان علمانيًّا على مستوى السلوك أكثرَ من أصحاب العَلمانيّات المبتذلة أو العَلمانيّات التي تتكشّف عن طائفيّةٍ مقيتةٍ في داخلها. فالشارع لم يخرجْ من أجل إقامة حكم إسلاميّ، ولا تحرّك بإرادة رجال الدين أو الأحزاب الدينيّة، وإنما خرج ثائرًا من أجل الحريّة والكرامة في وجه نظام استبداديّ وفاسد. وقد حدَّد الشارعُ موقفه من الجميع استنادًا إلى اعتبارات المواطنة والوطنيّة ومصالح الشعب: فهو، على سبيل المثال، لم ينظرْ بعين الاحترام إلى عدد من رجال الدين الإسلامي كالبوطي وحسّون، ورفع في كلّ المناطق السوريّة شعاراتٍ وطنيّةً ترى الشعبَ السوريّ كلاً واحدًا موحّدًا. وإذا كانت هناك ملامةٌ من قِبل مدّعي العلمانيّة للمتظاهرين على خروجهم من الجوامع أو على ترديدهم صيحات “الله أكبر،” فإنّ هذا يحدث بسبب نظام القمع والقتل والاستبداد الذي يقوم بكلّ ما هو إجراميٌّ لمنعهم من الوجود في الساحات العامّة. ثم إنه ليس المطلوب بالتأكيد أن يردِّد المتظاهرون أثناء تشييع شهدائهم سمفونيّات بيتهوفن وموزارت!

وإذا كان الشارع يمتلك حساسيّةً خاصّةً تجاه مفردة “العلمانيّة،” فإنما يعود ذلك إلى ارتباط هذه الكلمة بسياسات النظام الاستبداديّ الذي حاول تقديمَ نفسه على أنه نظامٌ علمانيّ، وهو في الحقيقة أبعدُ ما يكون عن العلمانيّة. كما يعود إلى ارتباط المفردة (كما حاول العلمانيون المبتذلون إيصالها) بالموقف السلبيّ والعدائيّ من الدين ــ وهذا الفهم لا علاقة له بالفهم الفلسفيّ والفكريّ للعلمانيّة، وبتجسيداتها السياسيّة.

قد نتفهّم هذا السحبَ لكلمة “العلمانيّة” من التداول في حالةٍ واحدةٍ فقط، هي الحفاظ على مدلولاتها وتعبيراتها ومعانيها في الأهداف والبرامج السياسيّة والتطبيقات العمليّة، وألاّ تكون المفرداتُ البديلة (كالمدنيّة أو غيرها) غائمةً وتنتقص من المدلولات الفكريّة والسياسيّة للعلمانيّة. ذلك أنّ سرّ نجاح أيّ ثورة هو منطقُها العلمانيّ، أيْ عندما يكون الانتماءُ إلى الوطن فوق كلّ انتماء. فهذا الانتماء هو الأساس لبناء الدستور الديمقراطيّ الذي يساوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات.

بقي أن أضيف فكرةً حول ما أسمّيه “العلمانيّة الطائفيّة” التي هي توصيفٌ لتفكير سطحيّ ومختزل لدى قطاعٍ واسع، وبخاصّةٍ أدعياء الثقافة والتحضّر. إذ تُختزل العلمانيّة لديهم إلى “فصل الدين عن الدولة،” ثم تُختزل بعد جولة نقاشٍ بسيطة معهم إلى موقف ضدّ حجاب المرأة ومع حريّة تناول الكحول، وإلى التخوّف على فقدان هذه النِّعَم التي يتيحها نظامُ الحكم في سورية. وهذا الفهم المبتسر والسطحيّ يتكشّف في المآل الأخير عن قاعٍ طائفيّ لدى هذه العلمانيّات المدّعية، وعن موقف متعالٍ ومتعجرفٍ إزاء الآخر المختلف.

العلمانيّة مفهوم أوسع من هذا الذي تقدّمه هذه العلمانيّاتُ الطائفيّة (أو بالأحرى الطائفيّون الذين يتستّرون بقشرة علمانيّة شكليّة، أو بعض المحسوبين على اليسار الذين يعتقدون أن الشبيحة هم حراس العلمانية). إنها رفضٌ لهيمنة أيّ فكر أو دين أو إيديولوجيّة أو حزب أو فردٍ على الدولة وأجهزتها ومدارسها ونقاباتها وشوارعها. بهذا المعنى كان حزبُ البعث منذ استلامه السلطة الأكثرَ سلفيّةً، وكان شأنه في ذلك شأن الحكومات الإسلاميّة السلفيّة. الدولة في النظام العلمانيّ قطاعٌ حياديّ مستقلّ فكريًّا وسياسيًّا عن الحزب الموجود في السلطة، لتكون الدولةُ دولةَ كلّ المجتمع، لا دولةَ البعثيين أو الإسلاميين أو دولة الحاكمين. العلمانيّة لا تتجسَّد إلا في بيئة الحريّة واحترام حقوق الإنسان. والدولة التي تفتقر إلى نظام ديمقراطيّ تفتقر بالضرورة إلى نظام علمانيّ، والعكس صحيح. فاحترامُ الآخر والقبولُ بوجوده وبحريّته هما أساس كلّ رؤية علمانيّة حقيقيّة، وبالتالي ليس ما يحدِّد علمانيّةَ فردٍ أو طرفٍ ما هو الفكر الذي يحمله أو الإيديولوجيّة التي يتبنّاها أو الدين الذي يعتنقه أو الطائفة التي ينتمي إليها؛ وإنما هو ذلك الإيمان الراسخ بحريّة الآخر المختلف.

من هنا، فإنّ المتديِّن الذي يؤْمن بحريّة الآخر المختلف عنه ويقبل بوجوده وينظر إليه نظرةَ الشريك في الوطن هو ما يمكن توصيفُ موقفه وسلوكه بالعلمانيّ. أما ذلك الذي يختزل الحريّة (التي هي جذر العلمانيّة وأساسها) بالموقف من لباس المرأة أو بحريّة تناول الكحول، بمعزل عن جملة الحريّات الأساسيّة الأخرى، فلا يمكن تسميته إلا بالعلمانيّ المبتذل. وليس من قبيل المصادفة أن يكون هذا الابتذالُ مستلهمًا لروحٍ طائفيّةٍ في العمق.

العلمانيّة في المحصّلة ليست موقفًا ضدّ الدين أو ضدّ أيّ فكر أو إيديولوجيّة. إنها موقفٌ راسخٌ مع الحريّة وضدّ الهيمنة والاستبداد من أيّ نوع كان.

سادساً: العلاقة بين أطراف المعارضة السورية:

للأسف دخل كل من المجلس الوطني وهيئة التنسيق في عراك سياسي ضار، ولا مبرر له، خاصة أن اللحظة الراهنة ووضع الثورة يتطلبان الاجتماع على رؤية سياسية جامعة، وليس التنازع على الشرعية والتمثيل.

كان معيباً أن يتعامل المجلس الوطني مع هيئة التنسيق الوطنية وكأنها رجس من عمل الشيطان، في حالة أشبه ما تكون باحتكار صفتي الوطنية والثورية، ومن المعيب على الهيئة التعامل وكأن لها الأولوية كونها داخل سورية، وبالتالي نفي صفة الأحقية عن السوريين خارج سورية في تناول شؤون بلدهم والمساهمة بفاعلية فيها.

حرب الكلمات هي أبشع أنواع الحروب، لأن المصطلحات والكلمات تأخذ معانيها من دلالاتها وشروحها، وليس هناك كلمة أكبر من كلمة، ولا فضل لكلمة على أخرى إلا بالدلالات التي يعطيها أصحابها لها. هذا يعني أن الاتهامات الكلامية فارغة ولا معنى لها إن لم يكن هناك ما يسندها في الواقع والقانون.

ابتزاز غير أخلاقي يقابله سذاجة في التعامل:

دخلت بعض القوى والشخصيات في الخارج في محاولة ابتزاز غير أخلاقية واتهامات لشخصيات معروفة بتاريخها النضالي المعارض للنظام فيما يخص شعار “إسقاط النظام” وجرى تخوين هذه الشخصيات، ولم يتعب أحدهم نفسه في التفكير أن كلفة إطلاق هذا الشعار ستكون رصاصة تطال صاحبه داخل سورية، خاصة وأن أغلب هذه الشخصيات معروفة وعلنية في سورية. وللأمانة لم يطرح هذا الشعار داخل سورية على مستوى القوى السياسية إلا متأخراً في أحد بيانات إعلان دمشق الذي كانت معظم شخصياته متخفية. وبالمقابل يأتي خطأ شخصيات هيئة التنسيق بأنها لم تعتذر عن الخروج على وسائل الإعلام في اللحظة التي وصل فيها خطاب الشارع إلى مرحلة إطلاق شعار “إسقاط النظام” وظلت تردد هذه الشخصيات ما جاء في الوثيقة التأسيسية للهيئة. ورغم أن المعاني السياسية الواردة في برنامج الهيئة هي ذات المعاني السياسية لشعار إسقاط النظام إلا أن البراعة السياسية في تلك اللحظة كانت تقتضي التوافق مع ما يطرحه الشارع السياسي في سورية، أو على الأقل الصمت وعدم التهافت على وسائل الإعلام.

التشكيك المتبادل:

عندما أسمع من قبل قوى المجلس الوطني تشكيكاً بخطاب هيئة التنسيق وسقف المطالب التي تطرحها الهيئة، فإنني في الوقت ذاته أسمع من جوانب أخرى تشكيكاً بقوى المجلس: أليس الإخوان المسلمين هم من جمَّدوا معارضتهم للنظام السوري في العام 2008 أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة، أليس الإخوان المسلمون هم من وضعوا أيديهم بيد عبد الحليم خدام المتهم بممارسة القمع والفساد، أليس فلان الفلاني هو من كان ناطقاً باسم جبهة الخلاص وهو اليوم عضو في الأمانة العامة للمجلس الوطني؟ أليست تلك الشخصيات الأخوانية هي من كانت تفاوض النظام السوري على العودة إلى سورية شريطة أن يعودوا أفراداً لا يمارسون أي عمل سياسي؟

كذلك نسمع: منذ متى أصبح فلان الفلاني معارضاً، ليصبح عضواً في المجلس أو أمانته العامة، وقد كان حتى وقت قريب عضواً في مؤسسة من مؤسسات النظام أو مدافعاً عنه….ما أقصده أن لدى الجميع ملاحظات على الجميع، بعضها شائعات وبعضها حقائق، وبعضها يمكن فهمه وتقديره في العمل السياسي، وبعضها لا يمكن فهمه أو القبول به، لكن ما هو خاطئ هو إنهاك طاقاتنا بحروب لا طائل منها ولا تقدِّم أي فائدة.

التنافس السلبي على مستوى المعارضة كبديل للتكامل وتوزيع الأدوار

هناك قاعدة في علم النفس تقول “نجاح أخي يعني فشلي”، وهي حاضرة بقوة اليوم في ساحة التنافس السلبي على مستوى المعارضة، وتعني أن يرى الفرد في نجاح زميله فشلاً شخصياً له، ليقوم بالتالي ببذل كل جهوده من أجل إفشال جهود الآخرين الذين يتشاركون معه بالأهداف ذاتها، محاولاً بالتالي تحقيق نجاحه الشخصي عن طريق فعل سلبي بالتقليل من قيمة الآخرين وجهودهم وتعطيلهم بما يسمح له بالبروز الشخصي، بدلاً من القيام بفعل إيجابي من خلال دعم المبادرات الإيجابية للآخرين أو عبر تنمية قدراته وقيامه بواجباته ودوره تجاه الأهداف الجامعة والدخول في تنافس إيجابي من أجل المصلحة العامة.

الطموح الشخصي أمر مشروع ومرحب به، لكن صاحب الطموح يحتاج للالتزام بشرطين كي يحظى بالاحترام: الأول ألا يضع طموحه عقبة في طريق المصلحة العامة وبالتالي يعرقل الطموح العام، والثاني ألا يبني طموحه الشخصي على جثة غيره..

باعتقادي آن الأوان لإيقاف ذلك السباق المحموم المرتكز إلى التنافس السلبي، والنظر للمستقبل من وحي هموم وحاجات الثورة السورية العظيمة والمصالح الوطنية السورية العليا.

سلوك تشبيح وخطاب غوغائي:

تعرض وفد هيئة التنسيق الوطنية في المرة الأولى التي جاء بها إلى القاهرة للاعتداء من قبل متظاهرين سوريين يعدُّون بالعشرات استناداً لحجج واعتقادات غير صحيحة حول الهيئة وتوجهاتها، ومن هذه الحجج اعتقاد المتظاهرين وغيرهم أن الهيئة تريد عدم تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية، وأنها تسعى لإعطاء النظام السوري مهلة زمنية أخرى، واعتقادهم أن الهيئة تمثل معارضة قريبة من النظام، وللأسف تكشف التدقيق عن وجود شخصيات محرِّضة من المجلس الوطني.

لقد جاء وفد هيئة التنسيق الوطنية لوضع المبادرة العربية على سكة التطبيق، ولا تتبنى النقاط التي يعتقد المحرِّضون أو المتظاهرون أنها تتبناها، لكن سلوك الاعتداء يعكس بكل تأكيد ما يمكن تسميته بظاهرة “الشبيحة الجدد”، وعدم إيمان حقيقي بالقيم الديمقراطية، وحالة خطيرة من إعطاء القيمة الأكبر للخطاب الغوغائي على حساب الخطاب السياسي، وهذا أمر خطير. وقد استغل البعض هذا الموقف ضد هيئة التنسيق للتبرؤ منها ومحاولة كسب شرفية ثورية ووطنية على حسابها، على قاعدة: اشتم الآخر فتزيد من حصص قيمتك الشخصية.

يعكس هذا السلوك الاعتدائي عدم ثقة بالذات لدى المحرضين والفاعلين على حد سواء، فالخوف من تبني الجامعة العربية لرؤية هيئة التنسيق لا يعني إلا أن أصحاب الرؤية المختلفة لا يثقون بأنفسهم في إقناع الجامعة العربية برؤيتهم. كما يعكس هذا السلوك أيضاً “قلة فهم” لعمل جامعة الدول العربية، فالأمانة العامة هي بمثابة سكرتارية للجامعة، والقرارات يصوغها وزراء الخارجية وليس الأمين العام.

جرعات تقوية من الهيئة للمجلس:

يجب أن يقدم المجلس الوطني الشكر لهيئة التنسيق الوطنية، إذ كلما وصل المجلس إلى طريق مسدود تنقذه هيئة التنسيق بموقف ما، فالمجلس أصبح يعتمد في وجوده واستمراره على الركوب على أكتاف الهيئة، ويأخذ شرعيته إن صح التعبير ليس من طاقته الذاتية على الوجود والاستمرار بل من نقص رصيد الهيئة في الشارع. وبين فترة وأخرى يأخذ المجلس جرعة تقوية من هذا المصدر.

حوارات القاهرة من أجل “وحدة المعارضة”:

قلت لكل من قابلتهم من هيئة التنسيق والمجلس الوطني خلال فترة حوارهم لمدة شهر ونصف في القاهرة: لن يتمخض الحوار عن شيء، والتوافق لن يحدث. فالمجلس لا يقنعه إلا انضمام الهيئة كغيرها من القوى الأخرى التي اندرجت في المجلس، والهيئة لا تقبل بأقل من الاعتراف بها أنها تمثل الداخل السوري، ولهذا يحق لها المطالبة – حسب ما ترى – بتشكيل جديد يكون لها فيه نصف المقاعد. أما باقي المسائل السياسية فأعتقد بسيطة ويمكن حلها من خلال الحوار بوجود عقلاء من الطرفين.

طالما المجلس الوطني هو ائتلاف سياسي من الناحية الواقعية، وليس مجلساً حقيقياً بالمعنى المتعارف عليه، تماماً كما هو حال هيئة التنسيق الوطنية، فكان من المفترض أن تكون حوارات القاهرة التي استمرت لشهر ونصف هي بين القوى السياسية الموجودة في الطرفين. فالمكتب التنفيذي للمجلس الوطني والمكتب التنفيذي لهيئة التنسيق الوطنية لا يملكان من أمرهما شيئاً دون موافقة وتزكية القوى السياسية الموجودة في الطرفين.

لقد شارك في حوارات القاهرة حوالي 15 عضواً من قيادة المجلس الوطني على مراحل، وإن وثيقة الاتفاق التي تم التوصل لها هي حد أدنى في العرف السياسي، وتشكل القواسم المشتركة بين الطرفين، لكن عندما بدأت مواقف القوى السياسية المشكِّلة للمجلس بالظهور تنصل أعضاء المجلس من الاتفاق، بل إن بعض الذين شاركوا في الحوارات كان صوتهم هو الأعلى في الإعلام في رفض وثيقة الاتفاق.

هذا الاتفاق تنصل منه جميع الذين حاوروا من قبل المجلس الوطني، وكان آخرهم الدكتور برهان غليون الذي حملته القوى السياسية قاطبة في المجلس المسؤولية كلها، بل وحاربته وحاولت إظهاره بمظهر “المتخاذل” عن مطالب الشعب السوري، راغبين في الظهور في موقع من ينادي بمطالب الشعب، رغم أن الدكتور برهان جاء ليوقع على ما تم الاتفاق عليه.

لقد جاء هذا المشروع تلبية لطلب جامعة الدول العربية في توحيد رؤية المعارضة لتقديمها إلى مؤتمر المعارضة السورية الذي سيضم المجلس الوطني وهيئة التنسيق الوطنية و كافة أطياف المعارضة الأخرى، لذلك سيبقى هذا الأمر مطروحاً على جدول أعمال المجلس والهيئة رغماً عن الطرفين، لذلك فإن طريقة التبرؤ من الاتفاق من قبل المجلس، دون أن يقدم البديل، لا تنم في الحقيقة إلا عن غباء سياسي دون أي حساب للمستقبل (وكأن المجلس يشتغل هنا بعقلية “المياومة” أي تركز كل همه في التبرؤ من الاتفاق وكسب الشارع لحظياً، دون النظر إلى الطريق الإجباري الذي سيكون عليه السير فيه مستقبلاً، أي طريق إنجاز اتفاق مع الهيئة في كل الأحوال).

مقتضيات المرحلة الانتقالية في سورية:

إن المجلس والهيئة مطالبان بنقاش مقتضيات المرحلة الانتقالية في سورية، وما يمكن أن تتضمنه من مشاكل وعقبات ومخاطر، وهو ما لم يحدث للآن، وقد ركزت الوثيقة التي خرجت إلى العلن بين الطرفين على قضايا تتعلق باللحظة السياسية الراهنة ولم تتناول المستقبل وصورة سورية الجديدة، وهو الأهم.

أصبح من الضروري، أياً تكن تطورات الوضع، التفكير بالمرحلة الانتقالية التي ستمر فيها سورية ما بين الوضع الحالي والدولة المنشودة، دولة جميع السوريين. وحتى تمرر سورية هذه المرحلة بسلام يجب من الآن وضع الخطط والبرامج التي تسمح بتكوين شبكة أمان مجتمعية، وتحديد الخطوات الإسعافية في جميع المجالات، والأهم ضمان مشاركة وتعاون جميع القوى السياسية في تمرير هذه هذه المرحلة (بما فيها حزب البعث ممن لم يتلوثوا بالقمع والفساد)، ومشاركة جميع الفئات الاجتماعية والاقتصادية في سورية سواء التي شاركت أم لم تشارك في الحراك الشعبي، وتثبيت قاعدة التسامح والمصالحة على مستوى المجتمع كأساس، إلى جانب احترام مبدأ العدالة ببناء سريع لجهاز قضائي نزيه ومستقل.

سابعاً: قضايا ساخنة تحتاج إلى رؤية سياسية:

الجيش الحر:

ربما كانت الثورة السورية تطمح، وكذلك المعارضة، أن يقوم الجيش السوري باتخاذ موقف مماثل للموقف الذي اتخذه الجيش المصري أو التونسي، لكن ذلك لم يحدث لأسباب يعرفها القاصي والداني. لذلك من الطبيعي والحالة هذه أن تحدث انشقاقات صغيرة، ومع الزمن واستمرار الثورة واستمرار النظام في عنفه ضد السوريين من الطبيعي أن تسعى الانشقاقات الصغيرة للالتقاء والتنسيق والتعاون وتشكيل جيش مصغر على أمل توسعه وازدياد حجمه مستقبلاً.

لذلك يمكن القول أن أي رؤية لا تضع التعامل مع قضية الجيش الحر على جدول أعمالها هي رؤية قاصرة، إذ إن تحول هذا الجيش إلى حقيقة واقعة، سواء أحب ذلك البعض أم كرهه، يتطلب وضع رؤية للتعامل معه، ولا شك أن منح غطاء سياسي لهذا الجيش يشكل ضرورة سياسية إلى جانب كونه ضرورة أخلاقية بعد أن أصبح جزءاً من الثورة السورية.

بعد تثبيت هذه النقطة يمكن عندئذ التعاطي مع المخاوف المشروعة لوجود جيشين في بلد واحد والبحث في الحلول المناسبة للتخفيف من الآثار السلبية المترتبة على ذلك.

تدور خلافات المعارضة السورية هنا حول حدود دعم “الجيش السوري الحر”، وحول مدى تأييد العمليات التي يقوم بها أفراده المنشقون عن الجيش النظامي ضد وحدات هذا الجيش. والجدل هنا هو حول أهمية المحافظة على تماسك المؤسسة العسكرية بعد سقوط النظام. ذلك أن التهديد الأكبر الذي تواجهه هذه المؤسسة هو انقسامها بين خطوط مذهبية، بحيث تبقى الفرق الموالية للنظام من اللون الطائفي ذاته الذي اختاره النظام لنفسه. لكن باعتقادي هذا الحرص المشروع لا يبرِّر عدم دعم مجموعات عسكرية انشقت عن الجيش، وتعلن أن هدف عملياتها هو حماية المتظاهرين من بطش الآلة الأمنية وحماية القرى والبلدات والمدن من الاقتحامات التي تتعرض لها.

القضية الكردية:

باعتقادي يفترض بالسوريين الأكراد النظر لقضيتهم بعين سورية لا النظر لسوريا بعين كردية، كما يفترض ببقية السوريين النظر للقضية الكردية بوصفها تخصهم أيضاً ولا تخص السوريين الأكراد وحسب. وهذه هي القاعدة الأساسية في التعاطي العقلاني مع هذه القضية.

القضية الكردية في سوريا هي قضية وطنية سورية بامتياز، والوصول إلى توافق سياسي حولها هو هاجس للسوريين جميعاً وليس فقط للسوريين الأكراد.

الشعب الكردي في سوريا جزء أساسي وأصيل، ومن هنا تنبع ضرورة الإقرار والاعتراف بذلك في أي دستور جديد لسوريا الجديدة. وهذا بالتأكيد لا يمنع ولا يتعارض مع كون سوريا جزءاً لا يتجزأ من الوطن العربي، بحكم أن القومية الغالبة في سوريا هي القومية العربية، وأيضاً بحكم قوانين التاريخ والجغرافية التي لا يستطيع أحد نكرانها أو تجاهلها.

أما الأحزاب الكردية فشأنها شأن الأحزاب العربية، لا تمتلك باعتقادي ذلك التأثير الفاعل في الحراك الشعبي، فالثورة بدأت وتستمر ثورة وطنية شعبية بأهداف عامة تطالب بالحرية والكرامة ولم تطرح أية شعارات أو مطالب حزبية. وهذا أمر طبيعي، فالاستبداد هشَّم الأحزاب السياسية وأضعف تأثيرها وشلَّ فاعليتها، وبالضرورة سيعاد بناء أحزاب جديدة وبأشكال ومناهج مختلفة عن الموجودة اليوم على الساحة الكردية.

إذا بقي الأكراد يتحركون داخل المجلس الوطني وخارجه ككتلة كردية وحسب فهذه مشكلة كبيرة، إذ نجد أن الغالبية العظمى منهم لا يتدخلون ولا يستنفرون إلا عند ذكر القضية الكردية، وتراهم ينظرون لسورية برمتها – كما قلت – بعين كردية بدلاً من النظر للقضية الكردية بعين سورية، والأمر ذاته ينطبق على أعضاء المجلس الوطني من السوريين العرب (وكذلك الأمر في هيئة التنسيق الوطنية) الذين لم يفلحوا بعد في التعامل مع القضية الكردية كقضية وطنية سورية بامتياز.

التدخل الخارجي..مستوياته والموقف منه:

مع أو ضد …. الطهرانية والفجور:

لا يكفي مناقشة مسألة “التدخل الخارجي” بكلمات ساذجة كما تفعل معظم المعارضة، سواء الموافقة على التدخل أو الرافضة له، اذ تعالج وتناقش الموضوع بإحدى كلمتين: نعم أو لا، فهاتان الكلمتان تعبران عن طفولة سياسية، ويفترض أن تتجاوز معارضتنا هذه المرحلة في التعاطي مع الأمور. هذا إذا لم نقل أن كل من يسعى لحشر البشر في اتجاهين أو طريقين لا ثالث لهما لا يمت للديمقراطية بصلة، فهذا منطق الاستبداد ومنطق التطرف بجميع أشكاله على حد سواء، وهذا أيضاً شأن كل من يقول للبشر إما أن تفعلوا كذا وإما أن تكونوا كذا. فالاعتراف بالتنوع والاختلاف وتعدد الرؤى هو أساس الديمقراطية، والحياة أوسع من أن تقسم إلى مؤمنين وكفار، وطنيين وعملاء…إلخ.

وهنا نقول أن مسألة “التدخل الخارجي” لا تعالج من خلال طهرانية مريضة، ولا عبر براغماتية فجة، لا التعفف مفيد ولا الفجور مفيد في التعاطي مع مسائل سياسية دقيقة.

ظهرت المعارضة الطهرانية بمظهر الوطني “الدرويش” عندما أصبحت تكرِّر صباح مساء مقولة “لا للتدخل الخارجي” وكأنها تطلب من النظام، الذي افتقد لكل شرعية وطنية، الاعتراف بوطنيتها، وظهر الطرف الآخر من المعارضة متحلِّلاً من أي اعتبارات أو حسابات سياسية لها علاقة بالسيادة الوطنية أو بقسم آخر من السوريين الذين يتخوفون على مستقبل البلد، حتى أن إحداهن علَّقت ساخرة على ذلك وقالت: “لا تستغربوا أن يكون اسم الجمعه القادمة: جمعة (إسرائيل تحمينا)، في الحقيقة لم أعد أستغرب شيئاً”.

التدخل الخارجي في ميزان الربح والخسارة:

هذا يعني أن أي خيار سياسي يمكن أن نختاره يفترض أن يوضع بالمحصلة في ميزان الربح والخسارة من زاوية المصلحة الوطنية. يجب أن نتحدث ونناقش تفاصيل هذا التدخل – إن كان مطروحاً – وآلياته ومراحله ووسائله وأطرافه ومدته وتأثيراته ونقاطه الايجابية والسلبية والمكاسب والخسائر من زاوية مصالح سورية والسوريين. وعندما نناقش ونتفق على كل ذلك يمكن وقتها تحديد موقف واضح من الموضوع، وبمعنى آخر يجب أن نناقش ونتفق على عرض محدد من التدخل الخارجي، أما المواقف العامة التي يجري اختزالها بنعم أو لا فإنها لا تقدِّم ولا تؤخر، وتثير البلبلة والفوضى والتشويش أكثر مما تقدِّم من الفائدة أو الإنجاز الواقعي.

إخراج مسألة التدخل الخارجي من إطار الوهم والتناول الغوغائي:

هناك تفكير سطحي ووهم كبير في تناول أمور تحتاج لنقاش طويل مفصل (منطقة عازلة، حظر جوي، تدخل عسكري….)، وهذا مرده أيضاً لبعض الأصوات غير العقلانية في المعارضة التي تحاول كسب الناس بطريقة زرع الأوهام في العقول، وأحياناً عبر الكذب والتضليل وتحميل عجزهم وقصورهم للآخرين. إذ يعتقد البعض واهماً أن العالم ينتظر رأي بعض الشخصيات أو القوى المعارضة كي يتدخل في الوضع السوري أو لا يتدخل. فالبعض في المعارضة يعتقد أنه إن كرَّر صباحاً ومساء مقولة “لا للتدخل العسكري” فإن كلامه سيمنع الدول الراغبة بالتدخل في سورية عن وضع الأمر موضع التطبيق، ويعتقد البعض الآخر في المعارضة أن سعيه لدفع هذه الدول للتدخل هو الذي سيدفع “الخارج” لحشد الجيوش والتدخل.

وفي الحقيقة لا المطالبين بالتدخل قادرين على إقناع العالم بالتدخل إن كان العالم لا يريد التدخل أصلاً، ولا الرافضين للتدخل قادرون على إقناع العالم بعدم التدخل إن كان الأخير قد عقد العزم على التدخل، فهذا الـ “الخارج” ليس رهن إشارة أحد، ولا أحد يستطيع أن يمنعه أو يحرضه، وهو لا يتدخل إلا إن أراد هو أن يتدخل، وإن تدخَّل فإنما يتدخل انطلاقاً من رؤيته واستراتيجيته ومصالحه. وخير دليل على ذلك يكفي جمع تصريحات المسؤولين الأتراك وتعليقات السادة المعارضين عليها من أول الثورة وحتى الآن لنكتشف حجم الوهم والتصريحات المتضاربة، الصاعدة والنازلة. والحقيقي أن مسألة “التدخل العسكري” لم تصبح حتى اللحظة أمراً محتمل الحدوث حتى نختلف إزاءها ونصنف بعضنا استناداً لها، وهو الأمر الذي أراده النظام، أي محاولة تفريق المعارضة وتشتيتها استنادا لأمور وهمية وغير واقعية حتى اللحظة.

لا المطالبين بالتدخل ولا الرافضين له يقومون بالعمل المطلوب الموازي لثورة الشعب العظيم، ولا زال الجميع يعتاش من أخطاء النظام وحسب وليس من نتاج أفكارهم وأعمالهم ومبادراتهم.

أما إذا انتقلنا للحديث عن الطريقة الفعلية التي يتعامل من خلالها المجتمع الدولي مع الوضع في سورية، فالواضح هو المراهنة حتى اللحظة السياسية الحالية على سقوط النظام السوري من خلال تآكله من الداخل، ربما بإجهاده وتشتيت قدرته العسكرية والأمنية. كذلك فإن إسقاط النظام السوري في تفكير الدول الكبرى لا بد أن يتم من خلال رؤية وعمل متكاملين للمنطقة بأكملها والتعامل مع جميع الملفات التي يرتبط بها النظام السوري.

معنى هذا أن التدخل على طريقة الغزو، كما حصل في العراق، وعلى طريقة الغارات الجوية وحماية الثوار الليبيين من حرب نظام القذافي عليهم، كما حصل في ليبيا، مثل هذا غير وارد تكراره في سورية، على الأقل كما تبدو الأمور الآن. وربما كان الأمر الوحيد المتاح، والذي يجري الحديث عنه في بعض الدوائر الدولية، هو إقامة منطقة أو مناطق عازلة (ما زالت تفاصيلها وملامحها غير واضحة)، يكون الهدف منها حماية المدنيين الذين يلجأون إليها فلا تستطيع قوات النظام ملاحقتهم. لذلك ينبغي الكف عن زرع الوهم وإسباغ التجربة الليبية على الوضع في سورية.

داخل المجلس الوطني هناك بون شاسع بين الأطراف والشخصيات المكوِّنة له إزاء التدخُّل عسكري، فهذا الأخير ليس محل إجماع. فأحد الأطراف الرئيسة في المجلس، أي الإخوان المسلمون، خطابه مختلف تماماً عن تصريحات غليون مثلاً. من هنا لم يجد أركان الإخوان، كفاروق طيفور ومحمد رياض الشقفة مثلاً، حرجاً في إطلاق مواقف مناقضة لتلك التي يعلنها المتحدثون الرسميون باسم المجلس، إذ بهم يكثرون من التبشير بأن التدخل العسكري آتٍ، وأن تركيا سيكون لها دور في هذا السياق، وخصوصاً في مجال تطبيق حظر على الطائرات السورية الحربية وفرض منطقة معزولة من السلاح، ربما أملاً بالتمكن من خلق “بنغازي سورية” تكون منطلقاً لإسقاط النظام!!

كيف نتعاطى سياسياً وإعلامياً مع مسألة التدخل الخارجي؟:

1- النظام هو من يدفع البلاد نحو التدخل الخارجي:

في الحقيقة إن من يدفع باتجاه التدخل الخارجي هو سياسات النظام الحمقاء منذ اليوم الأول للثورة، فالسياسات الغبية هي مصدر وأساس لكل تدخل خارجي من أي نوع، ولا تفيد هنا دعايات النظام حول وجود مؤامرات عربية ودولية ضده، إذ ليس من المعقول أن تتآمر الغالبية العظمى من الدول العربية والعالمية وتتوافق ضد النظام، فهذه الدعاية مفتقدة للحجة وتتناسى أن سلوكيات النظام هي التي تجره من حفرة إلى أخرى، وهذا يذكرنا بالخطاب السياسي لنظام صدام حسين، فلو لم يرتكب هذا النظام حماقته الكبرى بغزو الكويت لما جاءت جيوش العالم لتعلن نهايته. وبالقياس يمكن القول، لو لم يقمع النظام السوري شعبه ويمارس كل فنون القتل والتعذيب والتهجير لما تحرك العالمان العربي والدولي ضده، خاصة وأنهم أمهلوه زمناً طويلاً ولم يقوموا بشيء ضده، بل على العكس، العرب والعالم مدانون بسبب هذا الصبر وهذا التعامل مع النظام السوري كالطفل المدلل الذي يجوز له ما لا يجوز لغيره.

2- الطاقة الذاتية للحراك الشعبي هي الجوهر والأساس:

ينبغي أن يكون للحراك الشعبي في سورية منطقه الخاص وآلياته التي لا تتأثر بحركة المعارضة السورية من جهة، والمجالين العربي والدولي من جهة ثانية، وهذا يعني اعتماد الحراك الشعبي على جهوده وخططه الذاتية، خاصة مع وجود أمراض كثيرة داخل المعارضة تمنعها من القيام بالوظائف المنوطة بها، ومع وجود تصريحات إقليمية ودولية متبدلة صعوداً وهبوطاً، ومتغيرة حسب المصالح المعقدة…أي أن على الحراك الشعبي الاعتماد في تحقيق أهدافه على طاقته وكأنه وحده في الساحة، وأي دعم بعد ذلك يضاف له يكون “خير وبركة” كما يقال.

من هنا تنبع أهمية “إضراب الكرامة” ومتابعة العمل بالوسائل السلمية الأخرى لأقصى مدى ممكن. لا أحد يعرف متى تتغير المواقف الدولية والعربية، لذلك فإن الأساسي هو ألا نتعامل مع هذه المواقف بالفرح أو بالتشاؤم. الأساس والحاسم هو ثورة الشباب وإصرارهم وتصميمهم.

3- التدخل الخارجي قائم والمطلوب إدارة حكيمة له:

لقد دفع النظام الأمور للحد الذي أتاح التدخل في الأزمة السورية لمعظم القوى والدول الإقليمية (تركيا، إيران، العراق، حزب الله) وروسيا والصين والاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، بالإضافة طبعاً لجامعة الدول العربية ودولها. إذ إن مجرد إرسال الجيش السوري إلى الحدود التركية واللبنانية والعراقية والأردنية يستدعي بالضرورة احتمال تدخّل هذه الدول. اليوم، لا يوجد أحد إلا ويتدخل في الشؤون السورية، وإذا استمر النظام بسياساته الراهنة، فإنّ الأزمة سائرة نحو المزيد من التدخل الخارجي في مستويات عديدة. بالتالي المطلوب من المعارضة السورية القيام بإدارة حكيمة لهذا التدخل بالاستناد لمصالح الشعب السوري ككل والمصالح السورية العليا.

4- الحماية الدولية للمدنيين والقانون الدولي الإنساني:

إن طلب التدخل الدولي في هذا المستوى لحماية الشعب السوري من القتل هو مطلب أخلاقي إنساني ولا يخضع لاعتبارات السياسة، وهو حق أساسي للشعب السوري، وهو يشبه تماماً طلب المعونة الدولية عندما تقع كارثة طبيعية كحدوث زلزال أو بركان أو فيضان أو أية كارثة طبيعية أخرى تهدِّد أرواح البشر. وهنا يجب اللجوء لاستخدام واستثمار هذا القانون بما يساعد على حماية المدنيين.

ينبغي في هذا الشأن التخلي عن المثال الليبي في التعامل مع الحدث السوري وإسقاط مرتكزاته وآلياته من الذهن السياسي والشعبي، والعمل على ترجمة مبدأ «التدخل لحماية المدنيين» الذي دخل أروقة الأمم المتحدة والقانون الدولي عام 2005 حسب الوضعية السورية بكل جوانبها السياسية والجغرافية والسكانية والتاريخية. ولأنّ مفهوم مبدأ الحماية الدولية وتطبيقه أمر دقيق وحسّاس بالفعل، فإنّه ينبغي العمل لإيجاد صيغة جديدة غير مسبوقة لترجمته، بما يحقق الهدف المرجو منه، ألا وهو منع النظام من الاستمرار بقمعه من جهة، وتفادي التدخل العسكري المباشر على الطريقة الليبية من جهة ثانية.

وفي هذا الشأن فإن الضغط الخارجي، على شاكلة مواقف وتصريحات وعقوبات خاصة بالنظام وإرسال مراقبين عرب ودوليين وإعلام أجنبي، هو أمر لا خلاف عليه، بل وضروري لحماية المدنيين، لكن يفترض البحث عن وسائل وآليات أكثر نجاعة وتأثيراً.

5- التفريق بين السيادة الوطنية وسيادة النظام الحاكم:

لم تكن سورية خلال أربعة عقود خلت دولة وطنية بالمعنى المعروف، بل لم تكن دولة أصلاً، لأنها ببساطة كانت دولة النظام الحاكم، وبالتالي ليس من الغريب أن تختزل “السيادة الوطنية” لتصبح سيادة النظام الحاكم وحسب، ولذلك عاش السوريون ردحاً طويلاً من الزمن في ظل “الوطنية” المفصلة على مقاس النظام الحاكم، وأصيبوا بتشوهات وأمراض في الانتماء الوطني. في الدولة الوطنية الأمر مختلف، فالشعب هو السيد والحاكم، وهو يسود ويحكم من خلال المؤسسات، وعبر الآليات الديمقراطية، بعد أن يبني الدستور الوطني، وهذا الدستور أساسه ومرتكزه ومبتغاه احترام حقوق الإنسان. لذلك يتحدد المفهوم السوي للسيادة الوطنية بمدى احترام حقوق الإنسان، وهنا يصبح “الوطن” معادلاً للدستور الديمقراطي وحقوق الإنسان وليس مجرد قطعة أرض وجغرافيا.

لم يكن النظام السوري يملك شرعية داخلية في أية لحظة سياسية خلال العقود الأربعة المنصرمة، بل استند إلى المشروعيات الخارجية لبقائه، وعندما بدأ يفقد هذه الشرعية الخارجية، لم يسعَ إلى اكتساب أخرى داخلية، بل حاول ولا يزال يحاول إعادة البحث عن غطاء أجنبي جديد والاعتماد على توازنات وعلاقات خارجية وحسب.

لقد أقامت السلطة السورية خطابها الشعبوي الديماغوجي على تقبيح فكرة تدخل المجتمع الدولي عند الرأي العام السوري، ونجحت في ذلك واطمأنت إلى أنه صار بإمكانها العبث كما شاءت بشعبها دون خوف من أن يتوجه إلى طلب النجدة والمساعدة من الخارج. وينبع هذا الخطاب من الادعاء بأنّ تدخل المجتمع الدولي، خاصة منظماته الإنسانية، يشكل خرقاً لمبادئ السيادة الوطنية، في حين أنّ السيادة الوطنية الحقة هي سيادة الشعب والمؤسسات الوطنية المنتخبة والمستندة للإرادة الشعبية الحرة والملتزمة بمبادئ حقوق الإنسان، ولا يمكن بأي حال تقليص مفهوم السيادة ليقتصر على سيادة النظام السوري، الفاقد للشرعية، وتحويلها شعاراً للاستبداد السياسي وكبت الحريات العامة.

6- مؤتمر دولي لمعالجة الأزمة السورية:

بات الجميع يعلم أن الطرق مسدودة داخل مجلس الأمن للتوافق حول قرار خاص بالوضع السوري، على الأقل في اللحظة السياسية الراهنة. قد يكون البديل لهذا الطريق هو عقد مؤتمر دولي لنقاش الأزمة الراهنة في سورية، بحيث يكون أمام هذا المؤتمر مهمة أساسية هي وضع العالم أمام مهمة رسم خارطة طريق تفصيلية للانتقال بسورية لتكون دولة مدنية ديمقراطية بأقل خسائر ممكنة، والحفاظ على استقرارها وأمنها.

في هذا المؤتمر يمكن أن تكون الأطراف المشاركة: الأمم المتحدة، جامعة الدول العربية، الاتحاد الأوربي، الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، تركيا، إيران، العراق، الأردن، لبنان، قطر.

يقوم هذا المؤتمر بآليات مختلفة ومحدَّدة بالتواصل مع النظام السوري والمعارضة السورية الموحَّدة من أجل تطبيق مقررات المؤتمر، ومن الطبيعي أن تقوم رئاسة المؤتمر في هذا السياق بالتفاوض مع الطرفين.

ربما يكون هذا المؤتمر، طالما أن الأزمة في سورية أصبحت مدوَّلة شئنا أم أبينا، فرصة للأطراف السابقة الذكر للتوافق حول الحلول الممكنة، كونها أطراف مؤثرة وفاعلة وصاحبة مصالح مختلفة في تطورات الوضع السوري.

5- ما هو المطلوب فيما لو تم إرغام السوريين على السير في طريق التدخل العسكري، وما هي المعايير والشروط؟:

في حال وصلت الأمور إلى طريق مسدود، وأرغم السوريون على التعاطي جدياً، ورغماً عنهم، مع مسألة التدخل العسكري، فإنه لا ينفع هنا الموقف الرافض أو المؤيد، وينبغي التعاطي مع هذا الاحتمال بالتفصيل من باب تخفيف أية آثار سلبية قد تترتب عليه:

• التدخل من خلال حضور وازن للأمم المتحدة على حساب القوى الكبرى، وبإشراف وقيادة عربيين.

• التدخل محدود بسقف زمني لا يتم تجاوزه إلا بقرار من معارضة موحدة.

• تدخل لا يترتب عليه انتقاص من السيادة الوطنية، لا على مستوى وحدة الأرض السورية، ولا على مستوى وحدة الشعب السوري.

• تدخل لا يلزم سوريا والسوريين بأي اتفاق تسوية لا يضمن عودة الجولان إلى سورية أو ينتقص من دور سورية تجاه القضية الفلسطينية.

• القرار السياسي من الألف إلى الياء بخصوص التدخل ومستواه وحدوده هو بيد المعارضة السورية الموحدة.

• إدارة المرحلة الانتقالية ما بعد سقوط النظام هي بيد السوريين وحسب وبإشراف الجامعة العربية.

• تصور محدَّد للتكلفة المادية والبشرية للتدخل العسكري وحسابها بميزان الربح والخسارة استناداً للحالة الراهنة.

• عدم المساس بالقدرات الاستراتيجية للجيش السوري.

• التدخل العسكري البري في أضيق نطاق ممكن وفي الحدود التي تقتضيها الحاجة.

• مشاركة قوات عربية كلما كان ممكناً على حساب قوات الأمم المتحدة، وأن تنحصر مهام هذه الأخيرة في الحيز غير البري قدر الإمكان.

• وجود مراقبين عسكريين عرب مستقلين وذوي كفاءة عالية ليقدموا تقارير سريعة حول التزام التدخل العسكري بالحدود التي تم الاتفاق عليها.

• وجود جاهزية إغاثية وإنسانية عالية المستوى من الأمم المتحدة والجامعة العربية ومنظمة العمل الإسلامي للتخفيف من أية آثار كارثية أو ضارة.

• ضمان تحييد أية آثار إقليمية أو دخول دول أو قوى أخرى بما يؤدي لخلط الأوراق وضياع البوصلة.

ثامناً: التفكير بالمستقبل والأدوار الممكنة:

مصطلح “المعارضة” والحاجة لقوى جديدة:

من البديهي القول أن مصطلح “المعارضة” لا معنى له في ظل وجود نظام استبدادي شمولي، لأن الاستخدام الصحيح لهذا المصطلح لا يكون إلا في ظل نظام ديمقراطي شرعي، لكننا استخدمناه في الماضي جوازاً للدلالة على القوى الرافضة للنظام، ولم يبقَ لاستخدام هذا المصطلح أي مبرِّر على الإطلاق مع انطلاقة الثورة السورية، لكننا استخدمناه أيضاً باعتباره جسراً مؤقتاً للعبور لمرحلة جديدة، فالثورة تعني خلق نظام جديد وقوى جديدة، لذلك من الطبيعي أن تتحلل جميع القوى التي اندرجت في الماضي، ولا زالت للآن، تحت اسم “المعارضة”، ولا بد بالتالي من البدء بتشكيل قوى جديدة مدنية وسياسية تقطع مع ثقافة النظام والمعارضة على حد سواء.

الرهان المستقبلي:

أظهرت المحطات السياسية خلال الأشهر الفائتة أنه لا يراهن حقاً في المستقبل لا على المجلس الوطني ولا على هيئة التنسيق، فكلاهما أصبح عبئاً على الثورة، وأن الانتصارات التي تحققت حتى اللحظة للثورة السورية لا فضل للمجلس أو الهيئة فيها، إنما هي تتأتى من إصرار الثورة على الأرض ومن غباء النظام وأخطائه. وأعتقد اليوم أن الحقيقة السياسية والأفعال الهامة تجري وتكمن خارج هيئة التنسيق والمجلس الوطني، رغم احترامي لجميع التعبيرات السياسية والشخوص المعارضة، وأرى أن المظلة السياسية التي يستحقها الشعب السوري وتكون بقامة الثورة العظيمة لم تولد بعد، خاصة وأن الكتلة الأكبر من الفاعلين والنشطاء هي خارج الهيئة والمجلس.

أعتقد أن حلاً مؤقتاً للخروج من هذه الفوضى والأداء الهزيل لقوى المعارضة يمكن أن يتمثل باختيار الحراك الشعبي والقوى السياسية لـ 25 شخصية على الأكثر وتفويضهم بإدارة معركة السياسة الخارجية والإعلامية، ووضع معايير وآليات واضحة وموضوعية لاختيار هذه الشخصيات استناداً للمهام المطلوبة، ولتكن التسمية التي تطلق عليهم “هيئة الحكماء”، وليكن قرار هذه الهيئة داخلها، وتناط بها أيضاً مهمة إدارة المرحلة الانتقالية في سورية، وأن تتفرغ القوى السياسية الموجودة لتجديد أركانها وخطابها أو تشكيل قوى سياسية جديدة ونقابات ومؤسسات مجتمع مدني جديدة.

يمكن تلخيص رأيي الشخصي هنا بضرورة السير باتجاه ما يلي في المستقبل القريب:

– تشكيل هيئة حكماء وتفويضها من قبل القوى السياسية والحراك الشعبي على مستوى إدارة الصراع السياسي والإعلامي مع النظام.

– قيام القوى السياسية في هيئة التنسيق والمجلس الوطني بتطوير الخطاب والأداء وتجديد بناها وطرائقها في الممارسة السياسية في ضوء الملاحظات المذكورة سابقاً.

– قيام المجلس والهيئة بدعم الحراك الشعبي على جميع المستويات من جهة، وفتح حوارات حول مهام المرحلة الانتقالية.

– تشجيع تشكيل قوى سياسية جديدة.

– تشجيع تشكيل وتبلور نقابات مهنية ومؤسسات مجتمع مدني في كافة المستويات.

أخيراً، وكما تقول الآية القرآنية “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ”، أعتقد أن قليلاً من الصبر وكثيراً من العمل بصمت في الاتجاه الصحيح كفيلان بإحياء قلب سورية ونصرة السوريين….

د. حازم نهار

15/1/2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى