صفحات مميزة

مقالات تناولت “أوباما” والثورة السورية

 

المرشحون كلهم أوباما؟/ حسام عيتاني

رغم السمة الداخلية للحملة الانتخابية الأميركية، حتى الآن، يتعين الانتباه إلى أن غياب مسائل السياسة الخارجية التقليدية عن مواقف المرشحين من الحزبين، يشير إلى استمرار السياسة الحالية التي أرساها الرئيس باراك أوباما.

في المواجهة التي جرت أول من أمس بين المرشحين الساعيين إلى الفوز بتسمية الحزب الديموقراطي لهما، هيلاري كلينتون وبارني سندرز (وخصصت تقريباً للجمهور المتحدر من أصول أميركية لاتينية)، اتفق الاثنان على الإشادة بسياسات أوباما في المجالات الداخلية وفي انفتاحه على أميركا الجنوبية والتسوية مع كوبا.

أما المنافس على ترشيح الحزب الجمهوري دونالد ترامب فتبدو مقاربته للسياسة الخارجية أقرب إلى مناخات الانعزالية الأميركية السابقة للحرب العالمية الثانية. المواقف من المسلمين والمكسيكيين ودعوته إلى «بناء جدار عال وجميل» عند الحدود الجنوبية للولايات المتحدة لوقف هجرة اللاتينيين، لا تتعارض مع استمرار إدارة أوباما في ترحيل المهاجرين غير الشرعيين الآتين من الجنوب بالقوة.

بهذا المعنى، يقتصر حضور السياسة الخارجية في الحملات الانتخابية التمهيدية على مسألتي الهجرة والإرهاب، من دون أن يلغي ذلك إمكان بروز القضايا الخارجية بعد اختيار الحزبين الديموقراطي والجمهوري مرشحيهما في المؤتمرين الحزبيين مطلع الصيف المقبل. بيد أن الاعتقاد بإمكان صوغ سياسة خارجية أميركية على النحو الذي كانت عليه في عهدي جورج دبليو بوش أو رونالد ريغان، لن يكون في محله.

لقد ولّت أيام التدخل الأميركي المباشر والكثيف في السياسات العالمية إلى غير رجعة. وبدأت مرحلة السياسة الجديدة التي أعادت تعريف المصالح الأميركية التي تتركز حالياً «في أميركا الجنوبية وآسيا» على ما أعلن أوباما في مقابلة طويلة نشرتها مجلة «ذي أتلانتيك» أمس. المقابلة يصح اعتبارها «التأصيل النظري» لآراء أوباما في السياسة الخارجية والأرجح أن خليفته في البيت الأبيض، بغض النظر عن اسمه أو حزبه، سيتبناها أو سيعمل على الأقل بموجب خطوطها العريضة.

قد تكون هذه واحدة من أكثر مقابلات أوباما الصحافية صراحة ووضوحاً في ما يتعلق بالشرق الأوسط والصراعات الدائرة فيه والتي يعبّر الرئيس الأميركي عن يأسه من الوصول إلى حلول أو تسويات لها واعتباره دول المنطقة محكومة بأيديولوجيات عنيفة وفاشلة سياسياً واجتماعياً ما يجعل الاهتمام بها مجرد إضاعة للوقت على حساب الاستثمار في مناطق واعدة في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية حيث لا يشغل بال الشبان هناك «كيف يقتلون الأميركيين بل كيف يحسنون أوضاع التربية والصحة وكيف ينتجون شيئاً ذا قيمة». وأشار إلى أن عدم الاهتمام بهؤلاء الشباب ناجم عن انشغال الولايات المتحدة «بتدمير وتطويق والسيطرة على الأجزاء المؤذية والعدمية والعنيفة من الإنسانية» في إشارة إلى منطقة الشرق الأوسط.

أما رؤيته لتسوية الصراع العربي – الإيراني فتكمن في «تعلم دول الخليج الشراكة مع إيران» في حكم المنطقة من دون أن يوضح مضمون هذا «الحكم» والأسس التي سيقوم عليها.

الأرجح أن التشخيص هذا لأمراض المنطقة ووضعها سيرافق الإدارة المقبلة التي ستولي اهتمامها الرئيس لمسائل التفاوت الاجتماعي المتفاقم بين الأغنياء والفقراء (وموقف ترامب من هذه المسألة يبدو على يسار موقف كلينتون التي تبدو على أتمّ استعداد للتغاضي عن تغول الشركات الكبرى) والهجرة بصفتها قضية قائمة بذاتها وليست نتيجة انهيار المجتمعات والدول في الأنحاء المنكوبة من العالم. هكذا تبدو العنصرية المتهم ترامب بها، على سبيل المثال، أكثر تعبيراً عن هموم المواطن الأميركي العادية، من مقولات حقوق الإنسان ونشر الديموقراطية والدفاع عن قيم عالمية تضمحل وتختفي.

الحياة

 

 

 

 

أوباما يستعيد أدق مراحل سياسته الخارجية: هكذا «تحرّرت» أميركا من مغامرة ضرب سوريا

لم تعد «عقيدة» باراك أوباما خفيةً على أحد. الرئيس الأميركي لم ينتظر ليغادر البيت الأبيض ليستفيض حولها، فالرجل الذي أمل في إنهاء حربين في عهده ـ أفغانستان والعراق ـ لم يكن ينتظر أن تهب رياح التغيير في العالم العربي، خلال سنوات ولايتَيه، التي أوصلت إلى حمام دم لم يجف بعد.

عندما ألقى أوباما خطاباً في القاهرة في العام 2009، أَسَرَّ للصحافي في مجلة «أتلانتيك» جيفري غولدبرغ، أنه كان يتطلع إلى «المستحيل»، وكان يريد أن يُفهم العالم العربي أن إسرائيل «ليست وحدها سبب أزمته»، وهي الأفكار ذاتها التي أسر بها، خلال العام الماضي، للصحافي في «نيويورك تايمز» توماس فريدمان، ويعيدها مرة جديدة في سلسلة مقابلات أجرتها معه «أتلانتيك»، وبرر فيها سبب عدم شنه ضربة عسكرية ضد سوريا، وندمه على التدخل في ليبيا لإطاحة نظام معمر القذافي، متسائلاً أيضاً عن سر تحالف الولايات المتحدة مع دولة مثل باكستان، ومنتقداً «الراكبين مجاناً»، والذين يريدون أن يحملوا معطف الولايات المتحدة، في الوقت الذي تقوم فيه هي بحل أمورهم.

المقابلات التي تنشرها «أتلانتيك» مع أوباما، جرت في أوقات مختلفة، وهي تستند، في جزء منها، إلى تصريحات لمستشاريه، ولكنها تأتي في توقيت مهم للغاية، قبل أشهر من مغادرة أوباما البيت الأبيض، ولا تسعى إلى «تبييض» صفحة الرئيس الأميركي الذي يكثر من أحاديثه الإعلامية تبريراً للهجوم الذي يشن عليه من الداخل الأميركي والخارج، بقدر ما تلقي الضوء على تفسير سر تراجع أميركا عن الانفراد بالتدخل في العالم. هي سمة ميزت عهد الرئيس الأميركي الحالي، وخلقت حوله الكثير من الأعداء، حتى ممن كانوا يوماً أقرب الحلفاء، وحولت الشرق الأوسط إلى ساحة صراع، تقوده دول عدّة، على رأسها السعودية، التي قررت إدارة أمورها بنفسها في مواجهة إيران بعد «التخلي» الأميركي.

ولعلّ تراجع أوباما عن توجيه ضربة عسكرية لسوريا في العام 2013، على خلفية الهجوم الكيميائي الشهير في الغوطة، يمثل قمة الجبل الذي انهار في العلاقات العربية ـ الأميركية. ولذلك، فقد كانت منطلقاً للتقرير المطوّل الذي نشرته «أتلانتيك» بعنوان «عقيدة أوباما».

وبصرف النظر عن السياق الذي سردت فيه تلك الأحداث التي حبست أنفاس العالم، في شهر آب من العام 2013، والتي انتهت بتراجع أوباما خطوة إلى الخلف قبل السقوط في الهاوية السورية، فإن التراجع الأميركي، كواليسه، أسبابه، يشرحها غولدبرغ، للمرة الأولى، برؤية البيت الأبيض، مستقاة من أحاديث جمعها من أوباما ومستشاريه على مر أشهر، وسنوات.

يعود غولدبرغ إلى الثلاثين من شهر آب من العام 2013، الذي قد يكون، بحسب وصفه، اليوم الذي «أنهى فيه رئيس ضعيف بطريقة غير طبيعية سيطرة أميركا كقوة عظمى أحادية لا يمكن الاستغناء عنها»، أو ربما، والكلام للصحافي ذاته، اليوم الذي «تمعن فيه باراك أوباما، الحكيم، في الهاوية التي يسقط فيها الشرق الأوسط، وقرر الهرب من المستنقع».

يقرأ أوباما جيداً في نظرية «الفِخاخ». في ذلك اليوم، خرج وزير خارجيته جون كيري ليعلن نية واشنطن توجيه ضربة عسكرية ضد دمشق، بعد اتهامها بهجوم الغوطة الكيميائي. هو قرار، بالنسبة إلى منتقدي التراجع عنه، لو حصل لَغَيَّرَ مجرى الأحداث برمتها اليوم، ولكن حتى كيري نفسه، الذي كان من أبرز المتحمسين له يعترف اليوم بصوابية القرار الذي اتخذه لاحقاً الرئيس الأميركي بعدم التدخل.

ولكن ماذا حصل في 30 آب 2013؟

تعود القصة إلى اليوم الذي دخل فيه أوباما إلى البيت الأبيض، بِرِهان الخروج من مستنقعَي العراق وأفغانستان. حينها «لم يكن يبحث عن تنّين آخر ليقتله». بكلمات بن رودس، نائب مستشاره للأمن القومي، فإن أوباما «لو كان وعد بتحرير أفغانستان من حركة طالبان، وبناء ديموقراطية مكانها، لكانت ستتم مساءلته بعد أعوام حول هذا الوعد».

ولكن خطاب كيري حول التدخل الأميركي في سوريا، في ذلك التاريخ من العام 2013، والذي كتب رودس جزءاً منه، كان محاكاً بوعود جريئة، وكان الإحساس داخل إدارة أوباما بأن الرئيس السوري بشار الأسد قد جنى على نفسه، ويستحق العقاب.

وحده، رئيس موظفي البيت الأبيض، دنيس ماكدونو، حذر من مخاطر التدخل في سوريا.

أما كيري فكان يحارج بعنف من أجل هذا التدخل.

خلال إلقائه كلمته، ذكّر كيري برجال التاريخ الذين حذروا من عدم التدخل، وسمى أوباما من بينهم. كان الخط الأحمر بالنسبة إلى أوباما في سوريا هو السلاح الكيميائي.

في العام 2012، قالها بحزم: أوضحنا جيداً لنظام الأسد، الخط الأحمر بالنسبة إلينا، هو حينما نبدأ برؤية أسلحة كيميائية تتحرك وتستخدم. هنا، سأغير حساباتي. ستتغير معادلتي».

ولكن ما هي المعادلة التي كان يرفعها أوباما في ما يتعلق بالأزمة السورية التي اندلعت في العام 2011؟

يعود غولدبرغ إلى أواخر العام 2011، حين طالب أوباما برحيل الأسد «إنقاذاً لشعبه». ولكنه لم يفعل الكثير لتحقيق ذلك، وقاوم الكثير من الدعوات إلى التدخل، والسبب يعود، في جزء منه، لاعتقاده بأن الأسد سيسقط من دون «مساعدته».

ينقل الكاتب عن دنيس روس، مستشار أوباما السابق لشؤون الشرق الأوسط، قوله إن الرئيس الأميركي ظن أن الأسد سيرحل بالطريقة التي رحل بها الرئيس المصري حسني مبارك.

ولكن بقاء الأسد في السلطة، زاد من تصميم أوباما على عدم التدخل. جل ما فعله، وبعد أشهر من التردد، هو السماح لوكالة الاستخبارات المركزية «سي أي آيه» بدعم المقاتلين السوريين.

نعمة المستشارين!

كان أوباما يشارك نظرة وزير الدفاع الأميركي السابق روبيرت غيتس، الذي غالباً ما كان يتساءل خلال الاجتماعات «ألا يجب علينا الانتهاء من الحربَين اللتين نغرق فيهما قبل البحث عن حرب أخرى؟».

حينها كانت المندوبة الحالية للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة سامنتا باور، وهي أكثر المنظرين جهوزية وحماسة للتدخل الأميركي بين مستشاري أوباما الكبار، قد دافعت باكراً عن تسليح مقاتلين سوريين «معارِضين».

في مقابل «عقيدة أوباما»، كانت باور تدافع عن عقيدة أخرى هي «مسؤولية الحماية». ولطالما قاطعها الرئيس الأميركي، حتى أنها سعت جاهدة إلى تضمين تلك العقيدة في «مانيفستو» أوباما الرئاسي، قائلاً لها: «سامنتا، كفى، لقد قرأت كتابك»، وهو بعنوان «أزمة من الجحيم»، حول الرؤساء الأميركيين الذين أخفقوا في إنقاذ العالم من المذابح.

ضربة بلهاء

ولكن لماذا لم يتدخل أوباما في سوريا؟ في بداية الحرب في سوريا، كانت سامنتا باور تشرح أن المقاتلين السوريين ضد بشار الأسد، هم مواطنون عاديون يستحقون تعاطف الولايات المتحدة. آخرون قالوا إن هؤلاء المقاتلين هم فلاحون وأطباء ونجارون، مقارنين إياهم بالمشاركين بالحرب الأميركية لنيل الاستقلال.

هذه الأفكار أدارها أوباما رأساً على عقب. بحسب غولدبرغ، قال له يوماً إنه «عندما يكون لديك جيش نظامي، مجهز عسكرياً بطريقة جيدة، وممول من دولتين كبيرتين، إيران وروسيا، يحارب فلاحاً ونجاراً ومهندساً بدأوا كمتظاهرين ووجدوا أنفسهم وسط حرب أهلية… فإن الاعتقاد بأنه كان بمقدورنا، من دون تدخل على الأرض، أن نغيّر الوضع على الأرض، لم يكن صحيحا على الإطلاق». هكذا بدا الرئيس الأميركي حاسماً حيال هذه المسألة: «لن ينتهي به الأمر كالرئيس السابق جورج بوش الإبن.. لن يقدم على خطوة بلهاء».

هذا التردد أحبط العديد من مستشاري أوباما وفريق عمله. كانت باور واحدة منهم، وكذلك وزير الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، التي قالت لغولدبرغ، في العام 2014، إن «الفشل في المساعدة على بناء قوة مقاتلة موثوق بها من أولئك الناس الذين خرجوا في تظاهرات ضد الأسد، ترك فراغاً كبيراً سرعان ما ملأه الجهاديون». وعندما نشرت «أتلانتيك» كلامها، ثار غضب أوباما. «خطوة بلهاء»، كيف من الممكن أن تكون جدلية إلى هذا الحد؟

شكلت سوريا، بالنسبة إلى أوباما، منحدراً قوياً قد يؤدي إلى الانزلاق تماماً كما حصل في العراق.

في بداية عهده، توصل أوباما إلى استنتاج أن أخطاراً تعد على أصابع اليد الواحدة، هي وحدها يمكن أن تؤدي إلى تدخل أميركي في الشرق الأوسط،: خطر «القاعدة»، خطر على وجود إسرائيل، والخطر من النووي الإيراني.

وأما الخطر من نظام بشار الأسد، فلم يصل أبداً إلى مستوى هذه التحديات.

ولهذا السبب، فإن الخط الأحمر الذي وضعه أوباما في العام 2012 حول سوريا كان بحد ذاته صادماً، حتى لوزير دفاعه في ذلك الوقت ليون بانيتا. أما نائبه، جو بايدن، فقد نصحه بعدم وضع خطوط حمر حول سوريا، مخافة ألا يتمكن من التقيد بها.

كواليس التراجع

كان أوباما قد وصل إلى استنتاج أن الضرر الذي سيلحق بمصداقية بلاده في منطقة ما في العالم، سيكون مثل حجر الدومينو، وسينزف في دول أخرى. ولذلك اتخذ قراراً بالتدخل بعد هجوم الغوطة. بدا الأسد في ذلك الوقت، وكأنه تمكن من معاقبة الرئيس الأميركي، والأخذ به إلى مكان لم يكن يرغب في الذهاب إليه، لأن أوباما كان يعتقد أن منظومة السياسة الخارجية الأميركية، التي يحتقرها في سره، «تؤلّه» كلمة المصداقية، خصوصاً تلك التي يجب الحصول عليها بالقوة. برأيه «المصداقية» تلك، هي التي قادت إلى حرب فيتنام.

في الأسبوع الذي سبق الإعلان عن ضربة أميركية لسوريا، كانت الدول الحليفة لواشنطن، في أوروبا والشرق الأوسط، تعرف أن الولايات المتحدة تهدد بالتدخل، وكانت سعيدة لذلك.

في أيار 2013، قال رئيس الوزراء البريطاني، من البيت الأبيض، إن «تاريخ سوريا يكتب بدم أبنائها، وهذا يحصل أمام أعيننا».

قال أحد مستشاري كاميرون لاحقاً لغولدبرغ إنّ خطاب رئيس الوزراء البريطاني كان يستهدف إثارة حماسة أوباما.

السفير السعودي لدى واشنطن، في ذلك الوقت، عادل الجبير، أسرّ لأصدقائه، ورؤسائه في الرياض، أن «الرئيس الأميركي أصبح أخيراً مستعداً ليضرب. أوباما أدرك كم هو مهم هذا الأمر. سيضرب سوريا بكل تأكيد».

كان أوباما قد طلب من البنتاغون تحديد الأهداف التي سيتم ضربها في سوريا.

الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، أكثر المؤيدين للتدخل في أوروبا، كان جاهزاً للضرب أيضاً.

طوال الأسبوع الذي سبق 30 آب، كان البيت الأبيض يسوّق لفكرة أن الأسد ارتكب جرائم حرب. وكان المراد من خطاب كيري أن يوصل هذه الحملة الى نقطة الذروة.

لكن ساعات قليلة كانت ثقيلة جداً في عهد أوباما. هل نتدخل من دون تفويض من الكونغرس؟ الشعب الأميركي لم يكن متحمساً، وكذلك المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

في29 آب، رفض البرلمان البريطاني تفويض كاميرون بالتدخل في سوريا.

في هذا الوقت، كان لمدير الأمن القومي الأميركي جيمس كلابر دور أيضاً. دخل إلى مكتب أوباما، ليقول له إن المعلومات حول استخدام دمشق لغاز «السارين»، وبالرغم من أنها «متينة»، إلا أنها ليست «ضربة دانك» (حاسمة).

لم يكن كلابر يريد تكرار تجربة جورج تينيت، وأسلحة الدمار الشامل في العراق.

نظرية الفِخاخ

في الوقت الذي كان يسير فيه الجميع نحو ضربة أميركية لسوريا، كانت بضع ساعات كافية ليشعر أوباما أنه «وقع في فخ»، نصبه له الحلفاء والأعداء.

وبعد ظهر الجمعة، كان أوباما متيقناً أنه، بكل بساطة، لن يأمر بضربة عسكرية على سوريا. استدعى نائب مستشاره، الذي يؤمن مثله بـ «نظرية الفِخاخ»، وتقاسم معه شعوره بالتعب من رؤيته واشنطن تُستدرَج من دون تفكير إلى حروب في العالم الإسلامي.

عندما عاد الرجلان إلى المكتب البيضاوي، أبلغ أوباما مساعديه بأنه سيتراجع عن قراره.

في وقت لاحق، طلب منه غولدبرغ وصف شعوره في ذلك اليوم، فقال له إن جملة أسباب دفعته إلى ذلك، منها تراجع البرلمان البريطاني عن دعم كاميرون، ومنها إيمانه بأن القرار التنفيذي حول الأمن القومي الأميركي لا يجب أن يكون بلا حدود.

كان أوباما يعلم أن قراره سيغضب الكثير من حلفائه. ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد آل نهيان، الذي كان غاضباً أصلاً من تخلي أوباما عن مبارك، وصفه بـ «الرئيس الأميركي الذي لا يستحق الثقة». ملك الأردن عبد الله الثاني قال: «أعتقد أني أؤمن بقوة أميركا أكثر مما يؤمن به الرئيس الأميركي». السعوديون أُحْبِطوا أيضاً. لم يثقوا يوماً بأوباما الذي كان يصفهم، حتى قبل مجيئه إلى البيت الأبيض، بـ «أولئك الذين يُسمّون حلفاء أميركا». كتب الجبير لرؤسائه في الرياض حينها: «إيران هي القوة الكبرى الآن في الشرق الأوسط… الولايات المتحدة هي القوة القديمة».

يختزل غولدبرغ ما كان يجول في ذهن أوباما حين حُسم أمر التراجع عن توجيه ضربة عسكرية لسوريا بالقول: لقد كان هذا بمثابة «يوم التحرير».

 

 

كيف يدير «أوباما» ظهره إلى السعودية وحلفائها السنة؟

ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد

يبدو أن الكثير من المعلقين قد غاب عنهم أهمية الانتقادات اللاذعة التي وجهها الرئيس «أوباما» إلى المملكة العربية السعودية والدول السنية المتحالفة معها لإثارة الكراهية الطائفية والسعي لجذب الولايات المتحدة إلى خوض الحروب الإقليمية نيابة عنهم. في سلسلة من المقابلات المطولة مع «جيفري غولدبيرغ»، نشرت في مجلة «ذا أتلانتيك» أنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة مواصلة سياستها التقليدية التي عن طريق تقديم الدعم التلقائي للسعوديين وحلفائهم.

تبدو حجج «أوباما» في هذا الصدد مهمة لأنها ليست مجرد تصريحات مقتطعة عن سياقها ولكنها مفصلة، ​​واسعة النطاق ومدروسة بعناية وتؤسس لانطلاقات جديدة في السياسة الأمريكية. وجاءت نقطة التحول الحاسمة في 30 أغسطس/آب 2013 عندما رفض «أوباما» شن ضربات جوية في سوريا. كان يفترض أن يكون الأمر بداية لعمل عسكري تقوم به الولايات المتحدة لتغيير النظام في دمشق، وهي دورة العمل التي اقترحها عدد من وزراء «أوباما» وكذا المختصين في السياسة الخارجية الأمريكية.

كانت المملكة العربية السعودية وتركيا ودول الخليج على قناعة أنهم سوف يحصلون في نهاية المطاف على النتائج التي كانوا يأملونها. وقد زعموا أن هذا الأمر من السهل القيام به على الرغم من أنه يستلزم تدخلا أمريكيا واسع النطاق وأنه من الممكن أن ينتج فراغا في السلطة يتم استغلاله من قبل الحركات الإسلامية الأصولية كما هو الحال في العراق وأفغانستان وليبيا. وينقل «غولدبيرغ» عن «أوباما» أنه عبر رفضه قصف سوريا، فإن كان قد قرر تحطيم قواعد اللعبة المعتادة التي طالما خاضتها واشنطن، وقد كان هذا هو يوم تحرره.

ومنذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول، تسعى الولايات المتحدة إلى تجنب وضع اللوم على المملكة العربية السعودية في خلق السلفية الجهادية أو تأجيج الكراهية الطائفية بين السنة والشيعة إضافة إلى بعض العادات الاجتماعية القمعية بما في ذلك تهميش المرأة.

ويبدو أن السيد «أوباما» على دراية كافية بأصول نشأة تنظيمات مثل القاعدة أو «الدولة الإسلامية» وهو يشتكي من أن الإسلام، الذي يخبره بحكم نشأته في أندونسيا، قد صار أكثر تعصبا وانغلاقا. وردا على سؤال حول أسباب حدوث ذلك فقد أجاب «أوباما» بالقول: «إن السعوديين وغيرهم من العرب قد قاموا بتصدير المال وأعداد كبيرة من الأئمة والمدرسين، إلى البلاد (مثل أندونسيا) في التسعينيات، كما قاموا بتمويل المعاهد الدينية الوهابية التي تقوم بنشر النسخة الأصولية للإسلام التي تفضلها المملكة العربية السعودية». هذا التحول نحو الوهابية يؤثر على الغالبية العظمى من المسلمين حول العالم والذين ينتمي أغلبهم إلى المعسكر السني.

وقد قامت الدول العربية النفطية ببسط نفوذها من خلال العديد من الوسائل بالإضافة إلى التبشير الديني، بما في ذلك استقطاب الأشخاص والمؤسسات ذات النفوذ. وقد أظهرت المؤسسات الأكاديمية التي طالما تمتعت بسمعة رفيعة في واشنطن لهثها وراء المعونات الخليجية وكذا للتمويل من قبل أمراء الحرب الفاسدين في العراق وسوريا ولبنان وغيرها.

السيد «غولدبرج»، الذي طالما تمتع بتواصل رفيع المستوى مع «أوباما» وموظفيه على مدار فترة طويلة، أورد في تقريره أن «الشعور السائد في البيت الأبيض هو أن العديد من مؤسسات الفكر والرأي الأبرز في واشنطن يخضعون لتوجيهات من قبل العرب وإسرائيل» ، في الوقت الذي تقوم فيه الصحف بالمسارعة إلى الاقتباس نقلا عن هذه المراكز كما لو كانوا أكاديميين غير حزبين وأن موضوعيتهم لا تشوبها شائبة.

وسيكون من المهم أن نعرف بعد الانتخابات الأمريكية إذا ما كان الرئيس الأمريكي الجديد سوف يستمر في إعادة التوازن للسياسة الخارجية الأميركية بعيدا عن الاعتماد على القوى السنية التي تسعى إلى استخدام جيش الولايات المتحدة وعضلاتها السياسية لخدمة مصالحها الخاصة. وقد قام قادة الولايات المتحدة في السابق بإغلاق عيونهم على العواقب الوخيمة لهذه السياسة في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا. ويقول «غولدبيرج» إن «أوباما» تساءل في كثير من الأحيان بقسوة، حول الدور الذي يقوم به حلفاء أمريكا من العرب السنة في إثارة الإرهاب المناهض للولايات المتحدة. ويبدو أنه غاضب من أن عقيدة السياسة الخارجية للولايات المتحدة تدفعه إلى اتخاذ المملكة العربية السعودية كحليف.

ما هو غريب حقا حول المنطلقات الجديدة في السياسة الخارجية الأمريكية هو أنها أخذت وقتا طويلا كي تحدث. منذ أن وقعت هجمات 11 سبتمبر/أيلول من العام 2011، فقد كان من الواضح أن 15 من أصل 19 من منفذيها كانوا من السعوديين، كذلك كان «أسامة بن لادن» وأبرز الممولين للعملية. وعلاوة على ذلك، فقد ذهبت الولايات المتحدة إلى معاملة المملكة العربية السعودية وتركيا وباكستان ودول الخليج كما لو كانت قوى عظمى، في حين أن الأدلة كانت تشير إلى أن ولاءهم للغرب كان محدودا.

على الرغم من أنه كان من الواضح أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على هزيمة طالبان طالما أنها تحصل على الدعم والمأوى من قبل باكستان، فإن الأميركيين لم يواجهوا باكستان بشأن هذه المسألة. ووفقا للسيد «غولدبيرغ»، أن «أوباما» قد تساءل بشكل خاص حول الحكمة من كون باكستان، التي يعتقد أنها بلد مختل بشكل كارثي، ينبغي أن تكون حليفا للولايات المتحدة على الإطلاق. وفيما يتعلق بتركيا، فقد كان الرئيس الأميركي يعلق آمالا على رئيسها «رجب طيب أردوغان»، ولكنه يشعر منذ فترة أنه حاكم سلطوي قد فشلت جميع سياساته.

من الملامح البارزة للسياسة الخارجية لـ«أوباما» أنه يتعلم من الفشل والأخطاء. يبدو ذلك على تناقض صارخ مع بريطانيا «ديفيد كاميرون» التي لا تزال تدعي أنها فعلت الشيء الصحيح بدعم المعارضة المسلحة التي حلت محل «معمر القذافي» في ليبيا، في حين أن «جورج أوزبورن» يرثي رفض البرلمان للتصويت على قصف سوريا في عام 2013.

ليس من المستغرب أن «أوباما» يبدو تقريبا أنه يزدري «ديفيد كاميرون» و«نيكولا ساركوزي»، الرئيس الفرنسي الذي لعب دورا قياديا في المطالبة بحملة جوية للناتو في ليبيا. وبعد 3 أعوام من هذه الحرب ومع الفوضى والانهيار وحكم أمراء الحرب في ليبيا، فإن هذا المشهد قد دق ناقوس الخطر وعمل بمثابة تحذير لـ«أوباما» ضد التدخل العسكري في سوريا خوفا من تكرار كارثة ليبيا. لم يكن للكارثة الليبية أي تأثير من هذا القبيل على «ديفيد كاميرون» أو وزير خارجيته «فيل هاموند»، الذي يستمر في مناصرة العمل المسلح باستخدام الحجج التي تخلت عنها إدارة «أوباما» وفقدت مصداقيتها بفعل الأحداث.

وسوف تصبح الأمور أكثر وضوحا بعد الانتخابات الأمريكية بخصوص إذا ما كان النهج الواقعي لـ«أوباما» بخصوص المملكة العربية السعودية وتركيا وباكستان وحلفاء الولايات المتحدة الآخرين، سوف تصبح سياسات راسخة للولايات المتحدة في عهد الإدارة المقبلة. الطوالع ليست جيدة في هذا الصدد، حيث دعمت «هيلاري كلينتون» غزو العراق في عام 2003، والتدخل في ليبيا في عام 2011 وقصف سوريا في عام 2013. وإذا ما نجحت «كلينتون» في الوصول إلى البيت الأبيض فإن السياسة الأمريكية الراسخة تجاه المملكة العربية السعودية سوف تتنفس الصعداء.

المصدر | ذي إندبندنت

 

 

 

 

 

سورية وأميركا… كيسنجر يلجأ لحافظ الأسد وكيري يستعين ببوتين/ أنيس الوهيبي

واجه وزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، في العام 1975، معضلة استراتيجية في لبنان. كان حليفه الإقليمي الجديد، الرئيس المصري أنور السادات، إضافة إلى العراق وليبيا، يدعم “الحركة الوطنية”، لمواجهة “الجبهة اللبنانية” التي كان الغرب يتعاطف معها ويسلحها. وأمام سورية حالياً، وجد زعيم أميركي نفسه أمام معضلة مشابهة.

تشكلت “الحركة الوطنية” من خليط من الأحزاب والحركات العروبية والشيوعية والاشتراكية، المعادية لأميركا والإمبريالية. ترأس الحركة زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، كمال جنبلاط، الحائز على نجمة (فلاديمير) لينين، الزعيم المؤسس للاتحاد السوفييتي، القطب الدولي المنافس للولايات المتحدة في الحرب الباردة. ليس ذلك فقط، كانت الحركة متحالفةً مع منظمة التحرير الفلسطينية، العدو اللدود لكل من إسرائيل والأردن، حليفي أميركا المركزيين في المنطقة.

أسس الرئيس المصري السابق، جمال عبد الناصر، علاقات جيدة مع الحركة الوطنية. وعلى الرغم من أن السادات أحدث قطيعة مع النهج الناصري، محلياً وإقليمياً ودولياً، إلا أنه عزز العلاقات مع الحركة الوطنية، وأراد المحافظة على “اتفاقية القاهرة”.

تعقدت المعضلة التي واجهها كيسنجر في لبنان، بسبب قرب الجبهة اللبنانية من فرنسا والفاتيكان، وتوثق علاقات أطراف في الجبهة (حزب الكتائب) مع إسرائيل، حليفة واشنطن في المنطقة.

“وجد كيسنجر أن حافظ الأسد سيحقق كل عناصر الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط”

تتالت التناقضات أمام كيسنجر؛ فانتصار الحركة الوطنية على الجبهة اللبنانية، مدعومةً بالسلاح الفلسطيني، سيقوّي السادات (والنفوذ المصري في لبنان، ويخل بتوازن القوى المفضل لدى كيسنجر) ومنظمة التحرير، ويزيد الضغوط على إسرائيل والأردن في لحظةٍ حرجةٍ بالنسبة لدبلوماسية الشرق الأوسط. لكن انتصار الجبهة الوطنية (السيناريو الأفضل)، سيتسبب في ردة فعل داخل مصر والعالم العربي. خشي كيسنجر من أن تؤدي ردة الفعل هذه إلى ارتكاس الرئيس المصري عن تحوله الاستراتيجي نحو الولايات المتحدة، وتأييده عملية السلام مع إسرائيل.

قدّر كسينجر أن ميزان القوة المحلي في لبنان لا يتيح للجبهة اللبنانية الانتصار، بل هو يحتم أن تهزم على يد خصومها في الحركة الوطنية. لذلك، كان لا بد من تعديل الميزان العسكري المائل ضد الجبهة، عبر تدخل طرف إقليمي أو دولي.

نتيجة جراح فيتنام، كان تدخل واشنطن في النزاع اللبناني خارجاً عن التصور بالنسبة لكيسنجر. رفض تورّط فرنسا (الراغبة) في الساحة اللبنانية، لأنّ من شأن تدخلها هناك أن يؤثر على التزامها داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأن يغري الاتحاد السوفييتي بردٍّ مشابه. لم يكن كسينجر يريد للسوفييت أن يعودوا إلى الساحة الدبلوماسية في الشرق الأوسط من نافذة الأزمة اللبنانية، بعد أن عزلهم عن دبلوماسية الشرق الأوسط، عبر استراتيجية “خطوة خطوة”.

إذا كان خيار تدويل الأزمة اللبنانية سيقود إلى عودة سوفييتية مظفرة إلى شؤون الشرق الأوسط، فإن لأقلمة النزاع تداعياتها أيضاً. وألقى كسينجر نظرة فاحصة على الأطراف الإقليمية المستعدة للتدخل، فرأى أنها تنقسم إلى سورية وإسرائيل ومصر.

بالنسبة لكيسنجر، كان تعاون واشنطن مع القاهرة بشأن لبنان سيتطلب قبولاً أميركياً بانتصار الحركة الوطنية، وبالتالي، تعزيز نفوذ مصر في الهلال الخصيب. أما الخيار الإقليمي الثاني، فتمثل في منح واشنطن موافقتها على توسيع إسرائيل دورها في تزويد الجبهة اللبنانية بالأسلحة والمال. خشي كيسنجر هذا الخيار، ليس لأنه سيورّط إسرائيل في حربٍ دينيةٍ خاسرة، فحسب، بل لأنه سيقودها إلى حربٍ بالوكالة مع مصر على الأرض اللبنانية. هذه الحرب بالوكالة كانت ستهدد عملية السلام التي كان كيسنجر ينسج خيوطها الدقيقة بين القاهرة وتل أبيب.

محص كيسنجر خياره الأخير؛ سورية. كان حافظ الأسد حليفاً للاتحاد السوفييتي، لكنه قبل بالوساطة الأميركية لفصل القوات في الجولان؛ كان الأسد عدواً لإسرائيل لكنه على جفاء مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، أيضاً؛ بعثياً عروبياً، لكن علاقاته متوترة مع بعث العراق. أخيراً، كان حافظ الأسد سيبقى على الهامش ومعزولاً، طالما ظل الدور المصري في الشؤون الفلسطينية واللبنانية والعربية طاغياً.

تابع كيسنجر استراتيجية حافظ الأسد في سورية والمنطقة. قامت هذه الاستراتيجية على تصدير الأزمة العميقة التي أحدثها وصوله إلى السلطة في سورية، إلى الخارج. من هذا المنطلق، دخل حرب أكتوبر/ تشرين أول 1973، وسعى إلى الهيمنة على سورية الكبرى. وقف عدد من المنافسين عقباتٍ أمام مساعي حافظ الأسد، من مصر والعراق وإسرائيل والسعودية، إلى الملكية الأردنية، منظمة التحرير الفلسطينية، الجبهة اللبنانية والحركة الوطنية. أراد تحييد الأكثر خطراً، مصر ومنظمة التحرير. ففي وسع سورية التلاعب على التنافس المشتعل بين العراق والسعودية على كسب ود دول الخليج حديثة الاستقلال. أما في لبنان، ولولا العامل الفلسطيني، لأمكن لحافظ الأسد ضرب الحركة الوطنية بالجبهة اللبنانية. أما الأردن فلا يزال يعاني من عزلةٍ عربيةٍ قاسيةٍ نتيجة أيلول الأسود، وموقفه من الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية.

“بعد أن ضمن أمن سورية في الجولان، نتيجة اتفاق فض الاشتباك. ومن ناحية العراق المتورط في الحرب على التمرد الكردي، وجد حافظ الأسد أن الساحة اللبنانية مهيأة لكي تكون منصة إطلاق استراتيجيته الإقليمية”

بعد أن ضمن أمن سورية في الجولان، نتيجة اتفاق فض الاشتباك. ومن ناحية العراق المتورط في الحرب على التمرد الكردي، وجد حافظ الأسد أن الساحة اللبنانية مهيأة لكي تكون منصة إطلاق استراتيجيته الإقليمية. لكن الرجل الحذر بطبعه، خشي من رد فعل أميركا وإسرائيل ومصر على تحركاته. لذلك، جاءت التحركات السورية في بدايتها، تجاه لبنان، سرّية وعبر أدوات فلسطينية.

خشي حافظ الأسد من انتصار الحركة الوطنية المتحالفة مع منظمة التحرير. اعتبر أن هذا الانتصار سيقوّي المنظمة، ويجعلها رقماً صعباً في سورية الكبرى. كما رأى أن هذه النتيجة ستعزّز دور مصر فيما يعتبره الرئيس السوري السابق منطقة نفوذ خاص به. كما أقلق الأسد احتمال التدخل العسكري الإسرائيلي في لبنان، لمنع انهيار الجبهة اللبنانية.

من جهة أخرى، وبسبب التداخل بين لبنان وسورية، لم يكن في وارد حافظ الأسد ترك الميزان اللبناني الرهيف يعمل من دون تدخله، لأنه يشكل خطراً بعيد المدى على سلطة الرجل في دمشق.

ربط حافظ الأسد بين تنظيم “سورية الكبرى”، وبالقلب منها لبنان، واستقرار السلطة الحاكمة في سورية. ويتطلب تنظيم سورية الكبرى، وفقاً لمخطط حافظ الأسد، تعديلاً لبنية السلطة في لبنان، بما يتيح سيطرة سورية عليه (عبر ضبط ميزان للقوة تسهر عليه دمشق بين الحركة والجبهة). وقبل أن يتحقق الإصلاح الدستوري، لا بد من تحييد أثر منظمة التحرير. تقتضي استراتيجية حافظ الأسد وضع المنظمة تحت الجناح السوري، بوصفها ورقة تفاوضية مع أميركا، والاتحاد السوفييتي، وإسرائيل والعرب.

وتتمثل الخطوة الأولى، وفقاً لحافظ الأسد، في إبعاد المصريين عن الشؤون الفلسطينية واللبنانية. يتحقق ذلك بهزيمة الحركة الوطنية ومنظمة التحرير، وعلى الرغم من تحالفهما المعلن مع الاتحاد السوفييتي المزود الرئيس لسورية بالسلاح في حروبها ضد إسرائيل.

هكذا وجد كيسنجر أن حافظ الأسد سيحقق كل عناصر الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط. أولاً، إبقاء السوفييت خارج الوضع الدبلوماسي والعسكري في الشرق الأوسط. ليس ذلك فقط، بل، أيضاً إضعاف النفوذ السوفييتي، المتراجع أصلاً في المنطقة، عبر هزيمة حلفاء موسكو (العراق – ليبيا – منظمة التحرير – الحركة الوطنية). ثانياً، إعادة رسم موازين القوى الإقليمية، عبر طرد مصر من سورية الكبرى، وكفّ يدها عن التدخل في الشؤون الفلسطينية واللبنانية. وسيقلص هذا الترتيب نفوذ القاهرة وقوتها الإقليمية، ويجعلها أضعف أمام الضغوط الأميركية. ثالثاً، وضع الحريق اللبناني تحت الإدارة السورية، بما يمنع هذا الحريق، ويلهي دمشق، عن التأثير “سلباً” في عملية السلام بين مصر وإسرائيل. رابعاً، إضعاف العامل الفلسطيني في الهلال الخصيب، وترويضه حتى يتراجع عن مطلبه، وهو إزالة إسرائيل. أخيراً، إعادة التوازن السياسي (عبر الورقة الدستورية) والعسكري (عبر تقليص قوة الكتلة الوطنية) إلى لبنان.

بالنسبة للعنصر الأخير، كان كيسنجر يعتقد بضرورة إحداث تعادل في السلطة بين المسلمين والمسيحيين في لبنان، يعكس التحول في الموازين الديمغرافية للبلاد. وبوصفه مؤرخاً، كان كيسنجر يعتقد أن الوضع في لبنان بحاجة إلى إدارة خارجية بين مكوناته المتناحرة. ولأنه مؤمن بتأثير العوامل الجيوبوليتيكية، كان يعتقد أن دوراً سورياً في لبنان طبيعي جداً بل حتمي. لذلك، قرّر كيسنجر ألا يقف في طريق التدخل السوري، مفضلاً أن يساوم عليه، ويحدد شروطه.

أبرق كيسنجر إلى سفيره في دمشق، ريتشارد مورفي، يأمره بالتفاوض مع الأسد حول التدخل في لبنان، ولعب “الورقة الإسرائيلية” في لحظةٍ اقتربت فيها الحركة الوطنية من تحقيق نصر على الجبهة اللبنانية. كما أمر كيسنجر دبلوماسييه في لبنان باللعب على مخاوف المسيحيين، ووضع الخيار أمامهم، بين قبول معونة حافظ الأسد أو الهجرة عبر المتوسط. بهذه الطريقة، أطلق الوزير الأميركي مناورته الكبرى التي انتهت إلى التفاهم على اتفاق الجنتلمان “الخطوط الحمر”. قسم الاتفاق لبنان إلى مناطق نفوذ بين سورية وإسرائيل تحت الإشراف الأميركي.

بنيله التكليف الأميركي، توصل حافظ الأسد إلى ما يريد. سيعيد ترتيب لبنان بدعم أميركي وتأييد أردني ومباركة سعودية، بينما العراق منشغل بمشكلاته الداخلية والإسرائيليون على الحياد. دخل الجيش السوري في أعقاب قوات “العاصفة الفلسطينية”، إلى لبنان، مراعياً اتفاق الخطوط الحمر. هُزمت الحركة الوطنية ومنظمة التحرير، وتمكّنت الجبهة الوطنية من استعادة أنفاسها. لكن ذلك لم يتم فوراً بل بنهج تدريجي.

“تكاملت عناصر المأزقين، السوري واللبناني، أمام كيري وكيسنجر. وابتدع الوزيران الحل. الالتجاء للخصم. كيسنجر لحافظ الأسد. كيري لبوتين”

بهزيمة حلفائه، اضطر السادات للرضوخ. عُقدت قمتان عربيتان مصغرة وموسعة، أدت خلالهما السعودية دور الوسيط بين حافظ الأسد والسادات. اتفق الزعماء العرب على تشكيل قوات ردع عربية في لبنان، عمادها الجيش السوري. بهذا القرار، أسبل العرب شرعيتهم على التدخل السوري في لبنان. أما مصر، فقد أُخرجت من الهلال الخصيب، ليس على يد كيسنجر وبسلاح أميركي، بل على يد حافظ الأسد، وبسلاح سوفييتي. وعقب هذه الأزمة، أصرّ السادات على السير وحيداً في طريقه العنيد نحو كامب ديفيد.

دفعت الجبهة اللبنانية ثمن التدخل السوري بالموافقة على الورقة السورية المتضمنة للإصلاحات الدستورية. أمنت السعودية المؤيدة “الحل السوري” انفضاض الزعماء التقليديين للسنة في لبنان من حول جنبلاط ومنظمة التحرير. في المقابل، سحب مؤسس حركة أمل، الإمام موسى الصدر الطائفة الشيعية بعيداً عن الحركة الوطنية واليسار. وهكذا ذوت الحركة. كان من الطبيعي، من وجهة نظر حافظ الأسد وحتى هنري كيسنجر، تخليص لبنان من عنصر عدم استقرار دائم هو كمال جنبلاط.

وبعد أربعين عاماً، كان على إدارة أميركية أخرى أن تواجه معضلة انهيار ترتيبات حافظ الأسد الداخلية والإقليمية. فبعد سنتين من الخلاف، تعاونت السعودية مع تركيا وقطر في سورية. أثمر التعاون عن شن قوى المعارضة هجماتٍ متزامنةً على مواقع النظام في كل من إدلب وحلب ودرعا وريف دمشق. خسر النظام تلك المواجهات. خلال أشهر معدودة، تمكّن التعاون السعودي التركي من قلب المعادلة الميدانية، وحشر إيران والنظام في الزاوية. لكن واشنطن لم تكن سعيدة بالآثار الجانبية “زيادة قدرة المتطرفين”، واختلال التوازن الإقليمي. في مايو/ أيار 2015، زار وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من أجل إعادة تفعيل المسار الدبلوماسي بشأن سورية، وعزلها عن الخلاف الروسي الأميركي بشأن أوكرانيا. ولكن، اتضح أن موسكو كانت تخطط لأشياء مختلفة.

كيري.. كيسنجر.. معضلتان والحل واحد

في ربيع العام 2015، وجد كيري نفسه في مواجهة الأزمة السورية أمام المعطيات نفسها التي واجهها كيسنجر في لبنان، قبل حوالي أربعين عاماً. حلفاء لأميركا يتبعون سياسات تتعارض والاستراتيجية الأميركية الشرق أوسطية، والأسوأ من ذلك، إنهم يدعمون الأطراف الخاطئة في المعادلة. أما خصوم أميركا، فهم يملكون مفاتيح ترتيب حلٍّ يتوافق مع متطلبات التوزان الإقليمي الذي تنشده إدارةٌ تعيد النظر في التزاماتها حول العالم. والأهم، أن عزل أولئك الخصوم عن القضية أمر صعب من الناحية الجيوبوليتكية. وأخيراً، منطقة يجري إعادة بنائها وتركيبها في ظل متحولات دولية وإقليمية كبيرة.

بالنسبة لكيري، بدت سياسات حلفاء أميركا (فرنسا، تركيا، قطر، السعودية) في سورية متعارضةً مع الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط والعالم. هدّدت سياسات هؤلاء الحلفاء بجر واشنطن إلى المستنقع السوري الذي لا مصلحة أميركية مباشرة فيه، وحيث ستجد أميركا نفسها في مواجهة قوى كبرى (روسيا)، إقليمية (إيران) ومحلية (النظام، داعش والنصرة). في بداية الحرب اللبنانية، خشي كيسنجر من أن الاصطفاف مع إسرائيل ضد مصر سيؤدي إلى خسارة أميركا صداقة السادات، وعودته إلى الاتحاد السوفييتي. أيضاً، قلق كيسنجر من أن تقود معاداة سورية في لبنان إلى تصعيد كبير، يتورّط فيه الجباران النوويان.

“ضغط كيري على حلفاء بلاده لوقف دعم المعارضة السورية، فهو يرفض هذا الدعم. ويريد أن يتوقف الدعم، لأنه يصل، في النهاية، إلى “الأيدي الخطأ””

خشيت واشنطن من أن يؤدي تورطها في سورية إلى استمرار الانخراط الأميركي الكثيف في الشرق الأوسط، في وقت تعمل إدارة أوباما على إعادة تشكيل الموقف الأميركي في المنطقة، من أجل إعادة نقل مواردها وتركيزها في الشرق الأقصى واحتواء الصين الصاعدة. وبالمثل، كانت خطط كيسنجر تتمحور حول إعادة توزيع الموارد الأميركية من عموم الشرق الأوسط إلى الخليج العربي، لملء فراغ انسحاب القوة البريطانية من شرق السويس (عام 1971)، والسيطرة على منابع النفط.

وبسبب القيود التي وضعها الرئيس الأميركي، باراك أوباما، والرأي العام الأميركي، على التدخل العسكري في الخارج، بعد حربي أفغانستان والعراق، تزايدت الرغبة داخل الإدارة الأميركية بالبقاء بعيدةً عن الأزمة السورية. تشابه تلك القيود الحدود التي فرضت على استخدام القوة إبّان عهدي الرئيسين، ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، بعد حرب فيتنام. نتيجة تلك الحدود، ابتكر كيسنجر استراتيجية “الوكلاء الإقليميين” الذين عهد إليهم بحماية المصالح الأميركية في مناطقهم. وبالمثل، خططت إدارة أوباما لتوكيل أطرافٍ إقليميةٍ بحماية مصالحها، ودعمهم من الخلف (القيادة من الخلف). في الشرق الأوسط، كانت رغبة أوباما الدفينة في الاعتماد على إيران، لكن استمرار أزمة النووي ورغبات وكالة الاستخبارات المركزية عطلت المشروع، حتى تعيين كيري وزيراً للخارجية.

من جهة أخرى، كان حلفاء واشنطن يدعمون المعارضة السورية التي تحتوي على بعض الفئات المتطرفة، تماماً كما كانت مصر المرشحة لتصبح حليفة واشنطن، تدعم “الحركة الوطنية” المتحالفة مع منظمة التحرير الفلسطينية (الإرهابية في ذلك الوقت) في لبنان.

وفيما كانت إدارة أوباما تعيد النظر في التزاماتها الشرق الأوسطية، برزت روسيا وإيران. شكلت الدولتان المعسكر المقابل لحلفاء واشنطن. لكن، بالنسبة لأوباما، مثلت طهران وموسكو مفتاحيْن لا غنى عنهما، لإنهاء التورط الأميركي في أفغانستان والعراق، وحل أزمة النووي الإيراني. وعلى الصعيد الأوسع، رأى البيت الأبيض في الكرملين شريكاً فعالاً لإدارة أزمة انهيار اتفاقية سايكس بيكو، بعد حوالي المائة عام من توقيعها.

جيوسياسياً، لم يكن بإمكان أحد تجاهل القواعد الروسية في سورية. أيضاً لم يمكن من الواقعي تجاهل التطويق الإيراني لسورية من البقاع (عبر حزب الله) ومن العراق عبر المليشيات الشيعية. والأهم أن أوباما عقد في العام 2010 شراكة مع الإيرانيين لإدارة شؤون العراق الذي من الصعب أن تتخلى واشنطن عنه لأي من القوى الكبرى المنافسة.

وكيري الذي فرغ لتوه من عقد صفقة النووي مع إيران (في يونيو/ حزيران 2015)، لم يعد مهتماً كثيراً بالضغط على طهران في سورية، بل، بات أكثر اهتماماً بفرش السجاد الأحمر أمام ممثلي المرشد الأعلى، عله (كيري) يعيد إيران إلى حضن الولايات المتحدة. أما روسيا فبإمكانها ملء بعض الفراغ الذي سيخلفه تراجع الدور الأميركي في المنطقة، وبإمكانها لعب الدور في تسوية الأزمة السورية التي تتيح قتال داعش، وتشكيل النظام الشرق الأوسطي الجديد.

فكما أدت حربا 1967 و1973 إلى تفكك الشرق الأوسط الذي هيمنت عليه مصر، وجهت تداعيات غزو العراق (2003) ضربة قوية للهيمنة الأميركية، وكاد الشرق الأوسط، لولا الأزمة السورية، أن يسقط تحت الهيمنة الإيرانية، برضى واشنطن. هذه الأزمة التي ترافقت مع الفوضى الإقليمية التي خلفتها سياسات إدارة جورج بوش الابن، جعلت أوباما يتوصل إلى أهم أهدافه. إنهاء أزمة الملف النووي، وتشكيل توازن إقليمي، لا يسمح بهيمنة أحد، ويمكن واشنطن من سحب مواردها بسلاسة أكبر إلى الشرق الأقصى.

وعلى مدار السنوات الماضية، دعمت إيران وروسيا النظام بشدة. لم تدفعهما خسارة بشار الأسد المحتملة إلى التوقف عن دعمه، بل على العكس كثفتا مساعداتهما، وزادتا التعاون والتنسيق فيما بينهما، من أجل منع سقوطه. واقتربت الدولتان من زيادة دعمهما النظام بشكل خطير في يوليو/ تموز الماضي. وبدل أن يرفض كيري الأمر، اختار أن يساوم عليه. ولذلك، أطلق عملية فيينا التي مثلت تحديداً للجهد العسكري الروسي الإيراني المشترك في سورية.

في المقابل، ضغط كيري على حلفاء بلاده لوقف دعم المعارضة السورية، فهو يرفض هذا الدعم. ويريد أن يتوقف الدعم، لأنه يصل، في النهاية، إلى “الأيدي الخطأ”. أما الحلفاء فهم يشترطون، لوقف الدعم عن المعارضة، التوصل إلى حل للأزمة السورية يلحظ مصالحهم. لكن هذا يناقض مخطط كيري الذي يريد ألا يقصي أي حل النظام وإيران وروسيا.

يختلف كيري مع حلفائه بشأن النتيجة النهائية المرغوبة في سورية. هؤلاء الحلفاء يريدون إما أن تنتصر المعارضة عسكرياً، بغض النظر عما سيرافق انتصارها من فوضى شاملة وزيادة حدة التدخلات الروسية والإيرانية واستفادة داعش والنصرة، أو استمرار حرب الاستنزاف حتى يستسلم النظام، وهذا مستحيل، طالما تدعمه موسكو وطهران. أما كيري فهو يريد إعادة تركيب السلطة في دمشق، بما يتيح إعادة بناء المنطقة والقضاء على داعش.

تتقاطع هذه المقاربة، على الأقل، مع غايات موسكو التي ترمي إلى إعادة ترتيب المنطقة بما يتوافق والعودة الروسية إليها. ولقد تعهدت كل من إيران وروسيا سلفاً بإعادة إنتاج دستور جديد لسورية، الأمر الذي يبدو أن لعاب كيري قد سال عليه.

وأخيراً، هناك جانب شيطاني في مساعي كيري. فهو يريد أن يكسر المعارضة (حلفاء حلفائه). وسيؤثر تحقيق هذه الغاية على التحالفات الأميركية. لذلك، قرّر الوزير الأميركي الاستعانة بالروس والإيرانيين. كما أنه يريد أيضاً أن يحول عداء المتطرفين الإسلاميين عن بلاده باتجاه روسيا.

هكذا تكاملت عناصر المأزقين، السوري واللبناني، أمام كيري وكيسنجر. وابتدع الوزيران الحل. الالتجاء للخصم. كيسنجر لحافظ الأسد. كيري لبوتين.

العربي الجديد

 

 

 

أميركا قدراتها محدودة/ علي بردى

يحار مسؤولون أميركيون على أرفع المستويات في كيفية التعامل مع سوء الفهم العميق عربياً لما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة حيال التحولات الكبرى في الشرق الأوسط. يعترف بعضهم بأن أميركا قدراتها محدودة على التحكم بالأحداث التي تشهدها المنطقة. يسوقون المثل تلو الآخر على هذا الإستنتاج: فلسطين واسرائيل، سوريا والعراق، ليبيا واليمن، السودان وجنوب السودان، السعودية وايران وهلم جراً.

يعرفون ما يهمس في الدواوين العربية من أوصاف للرئيس باراك أوباما بأنه “ضعيف” أو “متردد” أو “مسالم”. يكشفون أن أصدقاءهم القدامى لا يعبرون صراحة – لأسباب غير مفهومة – عن هذه “المشاعر” في اجتماعاتهم مع المسؤولين الأميركيين. لا يوافقون على أن واقع الحال يعبر عن ضعف أو وهن بدأ يصيب القوة العظمى. غير أنه يعكس في الحقيقة تغييراً جوهرياً في طبيعة الدور القيادي الذي تضطلع به الولايات المتحدة عالمياً.

التحديات الراهنة مختلفة.

بدأ القرن الحادي والعشرون أميركياً بواقعة كبرى: هجمات 11 أيلول 2001 الإرهابية التي ضربت قلب أميركا. لن تمحى الصورة. لن يندمل الجرح. ستعمل على تجنب “خطأ” فادح على غرار غزو العراق عام 2003. فتح ألد أعداء صدام حسين الحدود أمام “مقاومة” الغزاة. وجدت “القاعدة” أراضي خصبة في العراق واليمن. يا لها من مفارقة، يأسف الأميركيون.

أدركوا أن الإهتراء أصاب هياكل النظام الإقليمي القديم، عربياً وغير عربي. استبشروا بالإنتفاضات الشعبية في تونس ومصر وليبيا وسوريا أملاً في مستقبل أفضل. ماذا حصدوا؟ حصدوا المزيد من الخوف من اتساع الرقعة الجغرافية لجماعات أشد وحشية وخطراً من “القاعدة”. لـ”الدولة الإسلامية – داعش” أياد طويلة تضرب ارهاباً عبر الحدود وعبر العالم. تبدي الولايات المتحدة كل عزيمة من أجل دحر هذا التنظيم وتدميره. غير أنها لن تنزلق الى حرب على غرار ما حصل في العراق. نقطة على السطر. هذه حرب العرب على أرضهم قبل أن تصير حرب الأميركيين على أرض غيرهم.

ضغط الرئيس باراك أوباما بشدة لإزاحة الرئيس بشار الأسد. غير أنه رفض منذ البداية أن يزج الجزم الأميركية في هذه المهمة لاعتبارات عدة. اكتفى بتدمير ترسانة الأسلحة الكيميائية. يعتقد الأميركيون الآن أن الرئيس فلاديمير بوتين “ينتصر” في سوريا ولو على حطام. ضغط أيضاً ولكن من دون جدوى ستة أعوام على اسرائيل. لم ينجح في تسجيل اختراق في النزاع القديم. جدار الفصل أوجد واقعاً جديداً ضد الفلسطينيين أصلب من عناد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

قدم الاتفاق النووي مع ايران نموذجاً يمكن الإقتداء به من أجل “الحد” من الإنتشار النووي عبر العالم. غير أنه ساهم في تظهير الخلافات المتزايدة بين الولايات المتحدة وبعض أقدم حلفائها عبر العالم العربي. البعض بدأ يقتنع أن خيارات أميركا قليلة وقدراتها محدودة.

النهار

 

 

أوباما في إمرة بوتين؟/ راجح الخوري

كان من المضحك ان ترد واشنطن على اتهامات المعارضة السورية لها بأنها تقدم تنازلات لروسيا، جون كيربي قال ان واشنطن لا تقدم تنازلات لموسكو وإنما “تعمل معها” لوقف الحرب وإحلال السلام في سوريا!

“تعمل معها”؟

كان الأصح ان يقول إنها “تعمل بإمرتها”، في رده المضحك على رياض حجاب، الذي اتّهم الأميركيين بأنهم يتنازلون لمصلحة الروس في الكثير من المسائل، وفي الواقع لم يكن أحد في حاجة الى تصريح حجاب لكي يعرف مثلاً ان جون كيري أصبح في نظر الديبلوماسية الدولية كأنه مجرد معاون لسيرغي لافروف !

قبل فضيحة ابتلاع واشنطن جريمة استعمال السلاح الكيميائي في الغوطتين في ٢١ آب ٢٠١٣، كان من الواضح ان أوباما يعمل على خطى فلاديمير بوتين في سوريا، سواء في صمته المتكرر على استعمال الفيتو الروسي ثلاث مرات في مجلس الأمن، أو في تعاميه عن الجسر الجوي لتسليح الأسد، وسواء عندما لم يتردد في القول له في ايلول الماضي: “معكم ٢٠ دقيقة للخروج من الفضاء السوري فالأمر لي بعد الآن”!

من الذي أحبط مؤتمر جنيف الأول على خلفية إسقاط البند الذي يدعو الى عملية انتقال سياسي كمدخل الى حل الأزمة السورية، أولم يكن كيري الذي ينفذ سياسة أوباما لإغراق بوتين في الوحول الدموية السورية، وهو ما أشار إليه لماماً أكثر من مرة، ومن الذي سيحبط المفاوضات المقبلة التي سبق لها ان تأجلت في جنيف، أوليس كيري الذي وافق لافروف على نظرية التآمر التي ينفذها دو ميستورا ضد المعارضة السورية؟

نعم المؤامرة التي وضع لافروف خطوطها لنسف محتوى القرار الدولي ٢٢٥٤، عبر الحديث عن تقديم الانتخابات الرئاسية والنيابية السورية التي يقترحها الأسد، على تغيير الحكومة في عملية انتقال سياسي وإقرار دستور جديد، وكل ذلك في ظل ذلك الكلام المخادع على ان الشعب السوري هو الذي يقرر مستقبله، في حين ان نصف هذا الشعب في اللجوء، وان من يقرر مستقبله تقاطع المصالح الدولية المتنازعة على أشلاء الشعب السوري؟

فعلاً نظريان

ذات يوم قال الوزير آرتور نظريان من ضيقه وألمه وحسرته مما وصلت اليه الأمور: وهل أجيء بالكهرباء من بيت أبي؟

يبدو انه يحاول فعلاً ان يجيء بالكهرباء من سهره وتفانيه وصحته، “معالي الوزير المستقيم والنظيف الذي يعمل في صمت وتفانٍ” هذا الكلام وصلني في رسالة موقعة من ١٢٠ مواطناً في جونية، تقول إنه سهر حتى الأولى ليلاً وهو يتابع عملية تأمين محوّل بديل من آخر انفجر واغرق المنطقة في الظلام، والأهم انه كان يشرك حتى زوجته في الرد على المكالمات… لو ينظر الوزراء الآخرون ويتعلموا من نظريان.

النهار

 

 

مقدمات “السلم البارد”/ محمد ابرهيم

في المقابلة الصحافية الأخيرة للرئيس الأميركي باراك أوباما مجموعة من المؤشرات التي تشكل خلفية ما يمكن اعتباره اتجاه النزاع الأصلي، السني- الشيعي، نحو التهدئة. في شكل مباشر دعا أوباما السعوديين والإيرانيين الى “سلم بارد” بينهما، أساسه بالطبع اعتراف كل طرف بمصالح الآخر. لكنه في شكل غير مباشر أشار الى ما يشكل خلفية هذه الدعوة، إذ تبيّن ان بديل “الانظمة الشمولية” في المنطقة العربية هو تفكك الدولة الى مكوّنات طائفية متنازعة، كما ان التدخل الخارجي المباشر، دون الذهاب به الى مداه الأقصى، تكون نتيجته الفوضى كما حدث في ليبيا. وفي “الضوء الليبي” أكّد أوباما أنه غير نادم على قراره عدم التدخل المباشر في سوريا بتوجيه ضربة للقدرات الجوية السورية في أزمة استخدام النظام للأسلحة الكيميائية ضد معارضيه.

هذه المواقف تعطي بعدا ثابتا للقاء الأميركي- الروسي في شأن سوريا، والقائم على دعم وقف النار والدفع في اتجاه نجاح التسوية السياسية. وبعد الاتفاق على أن وقف النار لا يشمل “داعش” و”النصرة” تكون الاستجابة قد حصلت للدعوة الروسية الملحاحة لاعتبار محاربة الإرهاب الوجه الأبرز للحرب السورية. ولم يبق خارج الاتفاق سوى مصير الطاقم السوري الحاكم بعد التمييز بينه وبين أجهزة الدولة السورية التي بات جميع “الخارج” متفقا على دعمها باعتبار ذلك الدرس الأبرز للتجربتين العراقية والليبية، وما بينهما.

هذا التوافق الأميركي- الروسي تلاقيه ملامح توافق إيراني- تركي، بعد فترة من التوتر في العلاقات الذي تسببت به الحرب السورية. والإعلان المشترك عن دعم وقف النار في سوريا ومعه العملية السياسية التفاوضية، واكبه ما هو معلن من الحاجة الى تعميق العلاقات الاقتصادية، خصوصا بعد فك الحصار عن الاقتصاد الإيراني، علما أن تركيا كانت دائما في موقع معارضته، كما واكبه ما هو غير معلن من احتجاج مشترك على التوافق الأميركي- الروسي على دعم الأكراد في شمال سوريا مما يشكل تهديدا كيانيا للبلدين. ويضاف الى ذلك ما يمكن اعتباره لقاء من موقعين مختلفين بين طهران وانقرة على رفض محاولات “القوى العظمى” فرض إرادتها على المنطقة.

هذا كله “يحشر” الصراع السعودي – الإيراني بحرمانه من المديين الواسعين الإقليمي والدولي اللذين غذّياه خلال السنوات الأخيرة. وربما تكون النهاية السلمية للمناورات العسكرية التي شهدها شمال المملكة أخيرا، وبدء المحادثات السعودية السرية مع الحوثيين في الرياض، مؤشرين إضافيين على الاقتراب مما سمّاه أوباما “السلم البارد” بين طهران والرياض.

النهار

 

 

سوريا تمثل تراجعاً للقوة الأمريكية في المنطقة وتحرراً للرئيس من مطالب حلفائه العرب: أكبر صائد للإرهابيين في تاريخ الرئاسة وخيبة أمل من نتائج خطاب القاهرة/ إبراهيم درويش

لندن ـ «القدس العربي»: يقول جيفري غولدبرغ في تحقيقه المطول حول «عقيدة أوباما» الذي نشر على موقع مجلة «أتلانتك مونثلي» إنه تعرف على أفكار باراك أوباما في السياسة الخارجية عام 2006 في خطاب ألقاه في شيكاغو بتظاهرة معادية للحرب، وكان حينها سيناتوراً عن ولاية إلينويز. وأكد فيه أوباما أنه لا يشك في وحشية صدام حسين يرى أنه يشكل تهديداً محتوماً على الولايات المتحدة أو ضد جيرانه.

ويرى الكاتب أن أوباما كان يعرف تداعيات تدخل أمريكا في مستنقع الحرب أفضل من هيلاري كلينتون وجوزيف بايدن وجون كيري وغيرهم من خبراء السياسة الخارجية. وهذا الوعي هو مفتاح لفهم رؤية أوباما حول السياسة الخارجية. ففي الأشهر الأخيرة قابل غودلبرغ أوباما وتحدث معه في قضايا متعددة بعضها لا علاقة له بالشرق الأوسط.

وفي واحد من اللقاءات قال أوباما «تنظيم الدولة ليس لا يشكل تهديداً وجودياً على الولايات المتحدة» ولكن «التغيرات المناخية هي تهديد وجودي محتمل إن لم نقم بعمل شيء إزاءه».

العالم حسب رؤيته

ومن هنا يحاول غودلبرغ قراءة العالم من خلال عيون أوباما وكيف يرى دور أمريكا في العالم. ويرى أن الرئيس أوباما يواجه تحديات متعددة من سوريا وهي أهمها ومن روسيا وتهديدها للناتو ومن كوريا الشمالية. وأقام الكاتب رؤيته بناءً على لقاءاته السابقة مع الرئيس ومن هم حوله ودراسة في خطاباته وتصريحاته.

ويرى الكاتب أن أوباما خلال السنوات الأخيرة من رئاسته أصبح «قدريا» حول قدرات أمريكا لتوجيه الأحداث الدولية رغم أنه حقق إنجازات في السياسة الخارجية مهمة وإن كانت جدلية مثل التطبيع مع كوبا واتفاق المناخ في باريس واتفاقية الشراكة التجارية مع دول المحيط الهادئ وأخيراً الإتفاق النووي مع إيران.

ورغم إيمان أوباما بأهمية تحديد أمريكا اجندة العالم إلا أنه «واقعي» في رؤيته للسياسة الخارجية «أعتقد أننا لا نستطيع في أي وقت تخليص العالم من مآسيه». ولكنه ضد العزلة التي يقول إن أمريكا لا تستطيعها ولا داعية للتدخل أو السياسة الدولية في الرؤية الخارجية «رغم كل الهفوات فالولايات المتحدة كانت قوة للخير في العالم».

ولهذا فهو يتردد في استخدام القوة الأمريكية إن لم توافق معايير المصلحة الوطنية. ويعتقد أنه محق في الطلب من الرئيس السوري بشار الأسد التنحي عن السلطة حتى لو لم يفعل شيئاً لإجباره على الخروج من السلطة.

فالعالم كما يراه أوباما «قاس ومعقد وفوضوي مكان سيئ ومليء بالمعاناة والمآسي. ومن أجل تحقيق مصالحنا القومية ومثلنا وقيمنا التي نحرص عليها علينا أن نكون عنيدين في الوقت الذي نحمل فيه قلوبا كبيرة، ونختار النقاط ونعترف بأن هناك شعاعاً سيحدث في منطقة بسببنا ووضعاً رهيباً سينتج في منطقة اخرى بدون الإعتقاد بقدرتنا على الحل». وعليه فمن أهم ملامح رئاسته دفع الدول الأخرى بأن تتخذ قرارات بنفسها. وهو في هذا يمقت فكرة «الأمة التي لا غنى» عنهاـ وأخبر أخيراً ديفيد كاميرون بأن على بريطانيا أن تنفق 2 % من ميزانيتها على الدفاع إن ارادت الإحتفاظ بـ «العلاقة الخاصة» مع أمريكا.

ويرى أن الدفاع عن النظام الدولي الليبرالي ضد الإرهابيين ونزعة المغامرة عند روسيا وضد البلطجة الصينية يعتمد في جزء منه على استعداد بقية الدول الأخرى لتحمل العبء مع أمريكا.

ومن الأسباب التي تدفع الرئيس إلى المشاركة في القيادة مع الدول الأخرى في القضايا التي لا تمس الأمن القومي هي السيطرة على دفعة «الغرور» التي يظهرها تاريخ أمريكا في الماضي «لدينا تاريخ مع إيران، وتاريخ مع أندونيسيا وأمريكا الوسطى».

وعليه يجب أن نكون واعين لتاريخنا عندما نبدأ في الحديث عن التدخل وفهم مصدر شكوك الآخرين». ولكن عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي فهو لا يتردد في التحرك. فقد أصبح اكبر صائد للإرهابيين في تاريخ الرئاسة الأمريكية. فبحسب بن رودس مستشاره للأمن القومي «مثلاً، فرغم الريبة التي رافقت موقفه من سوريا إلا أنه لم يتردد في استخدام الطائرات بدون طيار» ضد الإرهابيين.

ويقول غولدبرغ إن أوباما كان راغباً في البحث حول الكثير من الملامح المتعلقة بالسياسة الخارجية التقليدية. فقد رمى تقاليد سنوات من العداء وفتح علاقات مع كوبا وتساءل عن سبب عدم إرسال قوات إلى باكستان لقتل قادة القاعدة وتساءل لماذا يجب أن تكون دولة عاجزة حليفاً لأمريكا.

وتساءل عن السبب الذي يجعل أمريكا ملزمة بالحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي على حساب الدول السنية العربية حسبما نقل الكاتب عن بانيتا. ولكنه لم يتردد بانتقاد هذه الدولة بإثارة المشاعر المعادية لأمريكا والإرهاب.

وشعر بالسخط لأن السياسة الخارجية تجبره على التعامل مع السعودية كحليف. ولهذا قرر منذ البداية العمل على التقارب مع عدوة أمريكا: إيران. ولم يكن الاتفاق مع إيران هو محاولة لفتح علاقات أمريكية- فارسية كما قال البعض «بل كان براغماتياً ولتحقيق الحد الادنى، وكان الهدف جعل بلد خطير أقل خطورة، ولا أحد يتوقع أن تتحول إيران للاعب لطيف» حسب سوزان رايس مستشارة الأمن القومي.

ويرى الكاتب أن علاقة أوباما مع الشرق الأوسط قائمة على الخيبة. ويريد لحظة أن يشهد فيه لحظة كتلك التي واجه فيها 200.000 ألماني في برلين 2008. ففي عام 2009 ألقى خطابه المعروف في القاهرة الذي تحدث فيه بعاطفية عن علاقة جديدة مع العالم الإسلامي. وعندما سأله غودلبرغ عما حققه منذ ذلك أجاب أنه يحاول إقناع المسلمين بالبحث في جذور تعاستهم «ما كنت أود قوله، دعونا نتوقف عن التظاهر أن سبب مشاكل الشرق الأوسط هي إسرائيل» و«نريد العمل من أجل تحقيق دولة وكرامة للفلسطينيين ولكن ما أملت تحقيقه من خطابي هو إثارة نقاش يفتح مجالاً للمسلمين كي يواجهوا المشاكل الحقيقية – مشاكل الحكم وحقيقة أن بعض تيارات الإسلام لم تتعرض للإصلاح بدرجة تساعد المسلمين لتكييف عقيدتهم كي تتواءم مع الحداثة».

ويقول غودلبرغ إن أوباما تحدث بتفاؤل عندما بدأ الربيع عام 2011 وظل متفائلاً حتى بدأ الربيع يتحول شتاءً. واليوم يقول أوباما ساخراً «كل ما أحتاجه هو مجموعة من المستبدين في الشرق الأوسط».

ومن بين الخيبات التي يتحدث عنها هي علاقته مع بنيامين نتنياهو، الذي كان يعتقد أنه قادر على تحقيق حل الدولتين. ولم يكن أوباما يطيق أن يقوم نتنياهو وقادة الدول الشرق أوسطية المحاضرة عليه لاعتقادهم أنه لا يعرف عن شؤون المنطقة. وكذا شعر أوباما بخيبة امل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي اعتقد أنه مسلم حداثي ولكنه «فاشل وديكتاتوري» الآن.

وزاد تشاؤم أوباما مع انحدار المنطقة العربية للفوضى. خاصة بعد فشل التدخل في ليبيا. ولم يكن أوباما متحمساً للتدخل لولا الضغط من كلينتون وسامنثا باور، سفيرة واشنطن في الأمم المتحدة.

ويقول أوباما اليوم إن «التدخل فشل» ويعتقد أن أمريكا خططت للتدخل بشكل جيد لكن البلاد لا تزال في وضع كارثي. والسبب يعود للذين يستسهلون التدخل. ويشير هنا إلى «إيمانه بالأوروبيين» فبعد سقوط القذافي توقف كاميرون عن الاهتمام بالبلد «وانحرف اهتمامه لأشياء اخرى».

وألقى أوباما جزءا من الفشل على الدينامية الداخلية الليبية أي الإنقسام. وأثبتت ليبيا له أن على أمريكا تجنب الشرق الأوسط «علينا تجنب الإلتزام بحكم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» و «سيكون خطأً أساسياً فادحاً».

ومع ذلك لم يأت إلى البيت الأبيض مهموما فقط بمشاكل الشرق الأوسط ولكن بالإرهاب. وهذا يقود للحديث عن تنظيم «الدولة»، ففي عام 2014 كان التقدير الأمني المقدم له من الإستخبارات يرى في تنظيم «الدولة» خطراً ثانوياً.

وبعد سقوط الموصل وإعدام الرهائن الأمريكيين أصبح أوباما أكثر ميلاً للتعامل مع خطر الجهاديين أكثر من الأسد. ويرى الكاتب أن صعود التنظيم زاد من إيمان أوباما بأن مشاكل الشرق الأوسط لن تحل على الأقل في عهده. وتظل سوريا أهم امتحان لرؤيته الخارجية.

امتحان سوريا

فقد مثلت سوريا للرئيس الأمريكي باراك أوباما منحدراً منزلقاً مثل العراق. ففي ولايته الأولى توصل لاعتقاد أن تهديدات معينة في الشرق الأوسط تستدعي تدخلاً عسكرياً مباشراً، احدها تهديد «القاعدة» والخطر النووي الإيراني. أما سوريا، فخطر نظام بشار الأسد لا يصل لمستوى تحدي «القاعدة».

ولكن الرئيس أوباما كما يقول غودلبرغ ورط نفسه وهو الرجل الذي يؤمن بالواقعية السياسية ويرفض التدخل العسكري في حروب جديدة في الشرق الأوسط فاجأ مستشاريه عندما رسم خطاً أحمر أمام نظام بشار الأسد طلب منه عدم تجاوزه في عام 2012. وعلق وزير دفاعه في ذلك الوقت ليون بانيتا «لم أتوقع أن يأتي هذا» بل وحذر جوزيف بايدن الرئيس من رسم خطوط حمر لأنها يجب أن تطبق في يوم ما. ولم يكن يدري أوباما أنه بوضعه خطاً أحمر للأسد كان يضع مصداقية الولايات المتحدة كقوة كبرى على المحك.

وجاءت اللحظة في 30 آب/أغسطس 2013 عندما تراجعت أمريكا كقوة وحيدة وأولى للعالم بخطاب ليس من الرئيس ولكن من وزير خارجيته جون كيري في رد على الهجمات الكيميائية التي نفذت في الغوطة الشرقية وأدت لمقتل أكثر من ألف مدني.

وكان الخطاب الذي ألقاه كيري يشير إلى ضرورة معاقبة الأسد. وكان الشعور لدى الكثير من مستشاري الرئيس بضرورة عدم تعريض «مصداقية» الولايات المتحدة للخطر.

صحيح أن أوباما يسخر عادة من كلمات مثل «مصداقية» التي يقول إن الحفاظ عليها أدت لكارثة فيتنام. ويقول أوباما «إلقاء القنابل على البعض لإثبات أنك مستعد لإلقاء القنابل هو أسوأ سبب لاستخدام القوة».

إلا أن نائبه بايدن دعاه لأن لا يتخلى عن حلفائه في أوروبا أو يخيب آمال من هم في الشرق الأوسط. ويشير الكاتب لتصريح ديفيد كاميرون الذي قال إن «تاريخ سوريا يكتب بدم شعبها وأمام أعيننا».

وكان تصريحاً يقصد منه تشجيع أوباما على أن يكون حاسماً مع الأسد. واعتقد عادل الجبير، السفير السعودي في واشنطن (قبل أن يصبح وزيراً للخارجية) أن أوباما حاسم «وسيضرب» الأسد وهو الشعور الذي أرسله للمسؤولين في الرياض.

وبدا أوباما المعارض للتدخل على أهبة مرحلة تاريخية في ولايته. حيث طلب من البنتاغون تحضير قائمة بالأهداف وأمر بنشر بوارج حربية في البحر المتوسط. وكان الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند – المتحمس الأكبر للتدخلات العسكرية – جاهزاً للتحرك.

شكوك

كل هذه التحضيرات في الوقت الذي ساورت أوباما الشكوك ولم يكن كما أخبر الكاتب مرتاحاً لفكرة التحرك بدون غطاء دولي أو موافقة من الكونغرس.

في وقت لم يبد فيه الشعب الأمريكي تحمساً للتدخل وكذا المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل التي يكن لها الرئيس احتراماً بالغاً وأخبرته أن بلادها لن تشارك في الحملة.

أما التطور المفاجئ فقد كان قرار البرلمان البريطاني التصويت في 29 آب/أغسطس ضد المشاركة في عمل عسكري ضد الأسد.

وتشوش تفكير أوباما أكثر عندما زاره جيمس كلابر، مدير الإستخبارات الوطنية الذي أخبره أن تقييم المخابرات الأمريكية حول استخدام نظام الأسد السلاح الكيميائي وإن كان قوياً لكنه «ليس قاطعاً».

وكان المجتمع الأمني حذراً في عدم المبالغة في التقييم كما في حالة أسلحة الدمار الشامل مع العراق والتي تبين عدم صحتها. وفي الوقت الذي كان فيه البنتاغون والبيت الأبيض وأجهزة الأمن القومي تحضر من أجل الحرب التي كان يتوقعها كيري بعد خطابه بيوم، شعر أوباما أنه كمن يمشي في مصيدة نصبها له حلفاؤه وأعداؤه.

ولم يكن يعرف أحد ممن حوله عمق الشكوك التي كانت تدور في عقل أوباما. ومن هنا دعا الرئيس مدير طاقمه دينس ماكدونو للتمشي في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض.

ولم يكن اختياره لماكدونو عشوائياً فالأخير يعارض بشدة التدخل العسكري. وعبر أوباما له عن مخاوفه من استخدام الأسد المدنيين كـ «دروع بشرية» ومن انتشار الدخان الكيميائي وإمكانية عدم إصابة المواقع الكيميائية.

وشارك ماكدونو الذي يمقت فكرة دخول حرب جديدة مع العالم الإسلامي الرئيس مخاوفه. وبعد عودتهما للمكتب البيضاوي فجر أوباما القنبلة عندما أعلم مسؤولي الأمن القومي بقراره إحالة الموضوع للكونغرس وإلغاء الضربة.

وحاولت سوزان رايس مسؤولة الأمن القومي المناقشة فيما كان الآخرون يحاولون فهم القرار إلا أوباما فقد كان مرتاحاً كما قال مستشاره للأمن القومي بن رودس.

وفي تبريره لقراره سرد الرئيس سلسلة من الأسباب، منها وجود المفتشين الدوليين على الأرض في سوريا وفشل كاميرون بالحصول على دعم من البرلمان. أما الأمر الثالث الذي تحدث عنه أوباما «في الوقت الذي يمكننا فيه الإضرار بالأسد، فإننا لن نستطيع تدمير القدرات الكيميائية عبر الغارات الصاروخية. وعندها سأواجه منظور نجاة الأسد من الهجوم والزعم أنه تحدى وبنجاح الولايات المتحدة، وأنها تحركه بطريقة غير قانونية. وسيقوي هذا موقفه بدلاً من إضعافه».

غضب الحلفاء

وكان أوباما يعرف أن قراره سيغضب الحلفاء وهو ما حدث. فقد علق رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس أن حكومته كانت تخشى من تداعيات عدم التحرك مبكراً في الأزمة السورية «لقد خلقنا وحشاً من خلال عدم التدخل المبكر». و»كنا واثقين من قول الإدارة الأمريكية نعم. وعملنا مع الأمريكيين على تحديد الأهداف، وكانت مفاجأة، ولو ضربنا حسبما كان مخططاً لكانت الأمور مختلفة».

أما ولي عهد الإمارات المتضايق أصلاً من قرار أوباما التخلي عن حسني مبارك فقد أزبد قائلاً إن أمريكا يقودها رئيس «لا يمكن الثقة به».

واشتكى العاهل الأردني عبدالله الثاني «أؤمن بالقوة الأمريكية أكثر مما يثق بها أوباما»، والملك الأردني غير راض عن تخلي الرئيس الأمريكي عن حلفائه التقليديين من السنة مقابل تحالف مع إيران.

وغضب أيضا السعوديون الذين لم يثقوا أبداً بأوباما وكان يشيرون إليه بـ»ما يطلق عليها الحليفة أمريكا» وأخبر الجبير مسؤوليه في الرياض «إيران هي القوة العظمى الجديدة في الشرق الأوسط والولايات المتحدة هي القديمة».

ولم تكن تداعيات قرار الرئيس أقل سوءاً في واشنطن. فصقور التدخل من الجمهوريين مثل جون ماكين وليندزي غراهام صعقوا، أما جون كيري فلم يعلم عن القرار إلا متأخراً.

قرار مصيب

وفي تعليق لبايدن أكد أن الرئيس كان محقاً في ذهابه للكونغرس. ولم يكن الغرض الخروج من المصيدة بل أن تكون متأكداً من دعم الجميع له «في ظل الشكوك التي تراودك».

ووسط الفوضى التي تسبب بها قرار أوباما جاء المخرج عبر روسيا. ففي اجتماع قمة الدول العشرين الذي عقد في سانت بطرسبرغ، نحى أوباما جانباً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأخبره «إن قمت بإجبار الأسد على التخلص من أسلحته الكيميائية فإن هذا سيلغي الحاجة لضربة عسكرية».

وبعد أسابيع كان كيري يعمل مع نظيره الروسي سيرغي لافروف على حل الأزمة. ونال أوباما ثناء على هذا الإنجاز من بنيامين نتنياهو الذي قال إن نزع أسلحة سوريا الكيميائية هي «شعاع الضوء الوحيد في منطقة مظلمة».

واكتشف كيري لاحقاً منطق الرئيس وكما قال للكاتب «لو بقيت الأسلحة هناك فربما قاتلت تنظيم الدولة» عليها. ولكن كيري يعتقد ان فكرة الخط الأحمر اكتسبت حياة خاصة بها. وفي النهاية يبدو أوباما انه راضٍ عن قراره رغم وعيه أن التخلي عن الحرب وانتهاك خط هو وضعه بنفسه سيكون محل جدل من المؤرخين.

ويقول «أنا فخور بهذه اللحظة»، لأن ما فعله هو التفكير بعقلانية تحت الضغط «التفكير بمصلحة أمريكا ليس فيما يتعلق بسوريا ولكن بديمقراطيتنا، وكان قراراً صعباً اتخذته وفي النهاية كان صائباً».

خرق قواعد اللعبة

وهو القرار الذي خرق فيه «قواعد اللعبة» في واشنطن والتي يجب على الرؤساء الأمريكيين اتباعها.

ويعتقد أوباما أنه مثير للجدل عندما يتعلق الأمر بالقوة العسكرية واستخدامها. وقواعد اللعبة قد تكون حسب رأيه صائبة في قضايا السياسة الخارجية وقد تكون «مصيدة» و»تحديات دولية مثل سوريا يتم الحكم عليك بقسوة عندما لا تتبع قواعد اللعبة حتى في ظل وجود أسباب لا تستدعي تطبيقه».

ويقول الكاتب إن 30 آب/أغسطس 2013 كان يوم الحرية ليس بتحديه مؤسسة السياسة الخارجية وقواعد لعبتها العسكرية ولكن حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط الذين اشتكى لأصدقائه ومستشاريه منهم ومحاولاتهم استغلال «عضلات» أمريكا لخدمة اهدافهم الضيقة والطائفية.

وفي عام 2013 يقول الكاتب إن مشاعر السخط لدى أوباما كانت واضحة من القادة العسكريين الذي يريدون منه اتخاذ قرارت ومن مراكز البحث في السياسة الخارجية. وهناك شعور لدى مسؤولي البيت الأبيض من أن الكثير من هذه المراكز تخدم مصالح الممولين العرب والإسرائيليين.

وفي المقابل يرى مسؤولو السياسة الخارجية في الإدارة أن موقف أوباما من سوريا أضر بسمعة أمريكا. وبحسب بانيتا «عندما يقوم القائد الأعلى بوضع خط أحمر، فهو يضع مصداقية القائد الأعلى وأمته على المحك إن لم يفرضه».

ونقل عن شادي حميد الباحث في معهد بروكينغز قوله «بشكل عملي تمت مكافأة الأسد على استخدامه السلاح الكيميائي بدلاً من معاقبته كما خطط في الأصل» و»استطاع التخلص من تهديد الضربة الجوية ولم يقدم إلا القليل مقابل هذا».

وكتب غديون روس في «فورين أفيرز» أن طريقة أوباما في التعامل مع الأزمة السورية هي «حالة دراسة في الإرتجال المحرج وقليل الخبرة». وفي المقابل يرى المدافعون عن أوباما أن الضغط العسكري نجح في إجبار الأسد على التخلص من سلاحه الكيميائي «كان التهديد باستخدام القوة كافياً للتخلص من أسلحته الكيميائية» كما قال السناتور الديمقراطي من فرجينيا و»هددنا باتخاذ العمل العسكري وردوا، وهذه مصداقية ردع».

ومن هنا يرى غولدبيرغ أن 30 آب/أغسطس 2013 هو اليوم الذي منع فيه اوباما أمريكا الدخول في حرب كارثية أخرى في العالم الإسلامي. ولكنه اليوم الذي سيتذكره الناس عندما ترك الشرق الأوسط يخرج من يد الولايات المتحدة وتسليمه لروسيا وإيران وتنظيم «الدولة». وستظل سوريا الماضية في طريقها نحو الفوضى التحدي الأكبر لعالم الرئيس أوباما. وإذا كانت المقامرة التي عملها جورج دبليو بوش في الشرق الأوسط معياراً للحكم عليه بقسوة. فإن معيار الحكم على مقامرة أوباما في الشرق الأوسط ستكون بناء على الأشياء التي لم يفعلها.

القدس العربي

 

 

 

 

أوباما يريد «مستبدين أذكياء» في الشرق الأوسط/ وائل عصام

أكثر ما هو لافت في الموضوع الذي كتبه الصحافي غولدبيرغ في مجلة «أتلانتك»، هو التعليقات التي أطلقها أوباما بعيدا عن الإعلام برغبته بالاعتماد على «مستبدين أذكياء» في الشرق الأوسط.

وهي تماثل السياسة الواقعية التي يعتمدها الأمريكيون فعلا في الشرق الأوسط منذ عقود، بدعم انظمة غير ديمقراطية طالما حققت للولايات المتحدة مصالحها في المنطقة، بعيدا عما تروجه المؤسسات والمنظمات العربية المرتبطة بالغربيين، والمفعمة برومانسيات الديمقراطية والدولة المدنية وغيرها من المفاهيم التي دأبت على ترويجها للجمهور العربي.

بحسب الصحافي الأمريكي غولدبيرغ فإن أوباما كان يقول ساخرا: «كل ما أحتاجه في الشرق الأوسط هو بعض المستبدين الأذكياء»، ولعل هذا أحد الأسباب التي دفعته للعدول عن قراره بضرب النظام السوري، بعد عملية الكيماوي، إضافة طبعا لما شرحه الصحافي الامريكي من عوامل طرأت ونصائح وردت إليه من بعض مستشاريه، وعوامل اخرى رأها وجيهة بعدم توجيه ضربة. ويبدو أنه وجد أن إضعاف الاسد سيهز أحد المستبدين الأذكياء الذين يرى وجودهم أفضل من الفوضى في الشرق الأوسط، كما هي سياسة الاحتواء الامريكية. وهو يؤكد ما ذهبت إليه هيلاري كلينتون في مذكراتها، عندما وضحت سبب حيرة المسؤولين الأمريكيين في اتخاذ قرار حاسم بالملف السوري، وهو ما وصفته بـ»المعضلة الخبيثة»، وإضافة إلى الفشل بالعراق فإن الامريكيين يخشون بلا شك من صعود قوة التيارات الاسلامية السنية والجهادية، خصوصا التي تبدو السيطرة عليها غير مضمونة، إذا أصبحت في عاصمة استراتيجية كدمشق، بالنظر لقدرتها على بناء كيان قادر على تحقيق قدر من الاجماع الشعبي في عدة دول عربية، مستفيدة من أزمة كتلة جماهيرية عربية ممتدة يعتريها غضب عارم من واقع أنظمتها، وفي الوقت نفسه يسكنها توق وحنين كبير إلى مشروع قوة ووحدة عربية أو إسلامية سيكون معاديا للغرب.

هذا المشهد في نظري بدا مهددا إسرائيل، بل ومهددا كافة حلفاء الامريكيين من الأنظمة المستبدة التي يرونها ربما بمقياس «مستبد حميد موال»، خير من «مستبد خبيث متمرد». ورغم أن هذه النظرة تبدو واقعية بالنسبة للامريكيين، ولأوباما، إلا أن المفارقة تكمن في أن بعض المسؤولين العرب يريدون أن يعلموا أوباما ما هي مصلحة امريكا، وكما يروي الصحافي غولدبيرغ فان مسؤولين عربا وسفراء في واشنطن أطلقوا تعليقات غاضبة عندما تراجع أوباما عن ضرب الاسد، قائلين «إننا نظن أن امريكا يجب أن تكون اقوى من ذلك»، وكأنهم يعتقدون أن مهمة امريكا على كوكب الارض هي الراعي الابدي والاب الحنون الذي يسهر على حل مشاكل حلفائه، من الحكومات العربية العربية والدخول في حرب نيابة عنها ومهاجمة اعدائها، وكأنهم يؤمنون أكثر من كيسنجر نفسه بأمريكا عندما قال «إن لقوة أمريكا حدودا»، وهكذا تعتقد تلك الانظمة الضعيفة التي تستمد قوتها من الخارج غير القادرة على صناعة مشروع قوة يؤمن لها حماية ذاتية لمصالحها كما فعلت ايران، بدلا من الاعتماد على «ماما امريكا». وفي هذا السياق يذكر المقال أن أحد السفراء العرب في واشنطن علق غاضبا، بأن نتيجة سياسة امريكا هي أن ايران اصبحت القوة الجديدة الكبيرة في الشرق الأوسط، واللافت أن هذا المسؤول نفسه وإعلامه يتحدث يوميا للجمهور العربي عن ضعف ايران وانهزامها، وغيرها من التوصيفات التي تهدف لإبقاء وعي الناس بعيدا عن الواقع المر الذي تسببت فيه سياسات انظمتنا العتيدة.

ولعل المهم أيضا الاشارة لما يعانيه أوباما من تردد ناتج عن حذره من الوقوع بأخطاء العراق مجددا، وهو الذي اعترف بخطاب علني أن الامريكيين تعلموا «درسا قاسيا» من حرب العراق، وارتكبوا اخطاء، وتوصلوا إلى أن القوة العسكرية لا يمكن أن تفرض حلا دائما ومستقرا، ولذلك هم لا يريدون الغوص في رمال النزاع السوري مجددا، هذه النظرة المتوازنة للامريكيين انطلاقا من مصالحهم، لا يفهمها الكثير من الجمهور العربي، الذي يرى امريكا كإله وقوة عظمى لا تقهر ولا حتى تخطئ، وأنها قادرة على إنهاء أي مشكلة تواجهها وعلى هزيمة أي عدو بكبسة زر، من دون الالتفات للظروف الموضوعية وتوازنات القوة المحلية، التي لا يمكن لامريكا ولا لأي قوة قطبية في العالم تجاوزها عند التدخل في منطقة ما، بل إنها لا تستطيع التدخل إلا من خلال تحالفات محلية تمنحها موطئ قدم.. باختصار الجمهور العربي يرى أمريكا أقوى مما يراها رئيسها! وحتى الصورة النمطية التي ترسخت لدى قطاع واسع من الناس بأن اسرائيل تدير امريكا تماما، وبشكل مطلق لا تبدو دقيقة، وما جاء في الموضوع من خلافات بين أوباما ونتنياهو يشير لذلك، رغم أنه لم يكشف سرا أن أوباما أغضب اسرائيل باتفاقه النووي مع ايران، وهذا ايضا يوضح أن من يملك رؤية ونفوذا سياسيا في الشرق الأوسط يستطيع أن يفرض على الامريكيين بعض مطالبه، وإن على حساب اقرب حلفائهم الإسرائيليين.

ولذلك ننتهي بما انتهى به المقال الذي تحدث عن بعض تعليقات أوباما عن الذهنية السائدة للجمهور العربي، وإحباطه من تعليق العرب مشاكلهم على اسرائيل، وربما ايران اليوم، بدلا من أن يواجهوا انفسهم ويلتفتوا لمشاكلهم وعيوبهم التي جعلتهم في ذيل الركب، وهو بتقديري جوهر المعضلة التي تجعل العرب غير قادرين على مواجهة اعدائهم في اسرائيل وإيران، لأن عليهم بناء انفسهم ليتمكنوا من الوقوف على أقدامهم بداية ثم مواجهة الآخر، وهذا لن يحدث قبل معالجة جروحهم التي أقعدتهم وأعجزتهم عن الوقوف، وهذا أيضا وببساطة لن يحدث قبل أن يعترفوا بوجود هذه الجروح والهنات في جسدهم، الذي يبدو أنه بحاجة ايضا للإيقاظ من حالة تخدير تعتريهم تمنعهم اصلا من الاحساس بالألم.

٭ كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

القدس العربي

 

 

 

صنفان في نظريّة الانكفاء الأميركي العالمي/ أسعد أبو خليل

تسود في الصحافة العربيّة مقولة «الانكفاء الأميركي». ونظريّة الانكفاء نبعت في المواقع النيو ـ محافظة في داخل الحزب الجمهوري. تغيّر الحزب الجمهوري عمّا كان عليه قبل عصر ريغان عندما كان يمثّل «الانعزاليّة» في السياسة الخارجيّة (وهذه المقولة كانت تستثني دوماً أميركا الجنوبيّة لأنها تُعتبر «الحديقة الخلفيّة» —قارّة بمثابة حديقة).

لكن الحزب الجمهوري بات يمثّل الاندفاع أو ما يسمّيه منظّر «الواقعيّة الجديدة» في العلاقات الدوليّة، جون مرشهايمر، بـ«الواقعيّة الهجوميّة»، أي النزوع نحو افتعال القلاقل والحروب كوقاية من نظام عالمي يتسم بالفوضى. لا يختلف الحزب الديمقراطي عن الجمهوري في توخّي استعمال القوّة في العلاقات الدوليّة، لكن الحزب الديمقراطي منذ عهد جيمي كارتر موصوم (ظلماً) بالتمنّع والانكفاء والتردّد في استعمال القوّة المُحبّذة (شعبيّاً).

وقد طلع ستيفن وولت (المؤلّف مع مرشهايمر لكتاب «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الأميركيّة الخارجيّة») أخيراً بمقولة انه ليس للولايات المتحدة من سياسة خارجيّة. لكن ما يعنيه وولت هو غير مقولة منتقدي السياسة الأميركيّة من منطلق المحافظين الجدد وناقليهم العرب. الصنف الأوّل من نظريّة الانكفاء يعتمد على الرغبة بمزيد من الجموح والجنوح في السياسة الخارجيّة وعلى ضرورة استسهال أكبر لشنّ الحروب في المنطقة العربيّة. إن المُتلقّين في صحف النظاميْن السعودي والقطري يعيبون على الحاكم الأميركي ليس شنّه للحروب واعتماده على القوّة في أكثر من مكان في العالم، على العكس، هم يعيبون عليه تمنّعه عن شنّ مزيد من الحروب والفتن والغزوات. وكالعادة، يظنّ أدوات الاستعمار أنه بخنوعهم نحو المُستعمر باتوا في موقع تقرير سياسات المُستعمر (مثل ان يطير زعيم ٨٠٪ من ٥٪ من شعب لبنان إلى واشنطن لحثّ جورج بوش على شنّ مزيد من الحروب كرمى لعيون «بيك المختارة»، أو أن يكتب معلّقو صحيفة سلمان بن عبد العزيز مخاطبين أوباما كأنه لا يفوّت تعليقاً لأبواق آل سعود).

يمكن النظر إلى النقاشات (المسموحة) في وسائل الإعلام العربي على أنها ليست نتاجاً محليّاً بل هي انعكاس وترجمة لنقاشات في السياسة الخارجيّة في إعلام «المركز»، بلغة نظريّة التبعيّة في الاقتصاد العالمي. إن الكثير من الآراء الموجودة في إعلام النفط والغاز هي ترجمة (أحياناً حرفيّة أو مُستقاة أو مستعارة أو مُتأثّرة بـ) آراء المحافظين والمحافظين الجدد في الإعلام الغربي. باتت صفحة الرأي في «الشرق الأوسط» وباقي صحف النفط عبارة عن ترجمات أمينة (أو غير أمينة) لآراء صهاينة الغرب (إن مقولة عبد الرحمن الراشد ان «ليس كل المسلمين هم إرهابيّين لكن معظم الإرهابيّين هم مسلمون» منقولة بالحرف عن عتاة كارهي العرب والإسلام في الإعلام الصهيوني، وينقلها عنه كتّاب عرب على أنها عصارة فكره النيّر). وسياسة أمراء النفط والغاز باتت منذ عهد بوش (بعد إروعائه من الحقبة القصيرة اللفظيّة عن ضرورة نشر الديمقراطيّة —كان فوز حركة «حماس» كافياً كي تُدرك الإدارة الأميركيّة مدى الضرر الذي تلحقه الديمقراطيّة بمصالحها ومصالح العدوّ الإسرائيلي) تتجه للحث على المزيد من الاندفاع العسكري الأميركي. والحزب الجمهوري كان دائماً تاريخيّاً أقرب إلى أنظمة الخليج: هو كان سابقاً يمثّل مصالح شركات النفط وشركات التسلّح وآراء المستعربين الذين كانوا يدعون لسياسة «التوازن» في السياسة الخارجيّة (وكانت أنظمة النفط آنذاك تتصادم مع دولة العدوّ التي كانت تخشى من تسلّح تلك الدول، فيما بات اللوبي الإسرائيلي اليوم من دعاة ضخ السلاح إلى أنظمة الخليج ــ طبعاً ليس بدرجة التقنيّة العسكريّة نفسها التي تحوزها دولة العدوّ). وكانت صحف النفط والغاز تعكس تقليديّاً مصالح الحزب الجمهوري وتناصر مصالحه الانتخابيّة فيما هي اليوم تناصر مصالح الحزب الجمهوري الانتخابيّة (لا ينطبق هذا على حملة دونالد ترامب الآتي من خارج المؤسّسة الجمهوريّة التقليديّة، والذي عبّر عبر السنوات عن احتقار وعداء للنظام السعودي).

كانت أنظمة الخليج تثق أن ريتشارد نيكسون في حملته الانتخابيّة الثانية سيضغط على إسرائيل (لا بل ان الإعلام الخليجي، بما فيه بعض كتّاب جريدة «الحياة»، روّجوا عبر السنوات لأسطورة ان الصهاينة كانوا وراء فضيحة ووترغيت لإسقاط الرئيس الذي وقف ذات مرّة في لقاء مع غولدا مائير وقال لها: إن الطريقة الوحيدة للتعامل مع العرب هي في… وأخذ وضعيّة إطلاق الرصاص بيديْه من رشّاش حربي ثم ضحك).

إن نظريّة الانكفاء ما هي إلّا مقولة نقد سياسة أوباما من منظور الحزب الجمهوري. والمحافظون الجديد المُتربّعون في دوائر «حكومة الظلّ» الأميركيّة، أي في مراكز الأبحاث اليمينيّة، مثل «أميركان إنتربرايز إنستيتيوت» (وهذه المؤسّسة تغيّرت بالكامل، من واحدة خاضعة حتى الثمانينيات لنفوذ الجمهوريّين التقليديّين إلى واحدة خاضعة بالكامل لنفوذ المحافظين الجديد، وهذا يعكس تغيّر أهواء المُموّلين، أو تغيّر المُموّلين بين جيل وجيل منذ الثمانينيات من القرن الماضي) لم يتوقّفوا منذ صعود أوباما عن نقد سياساته على أنها مهادنة ومسالمة كثيراً. وتتطابق هنا (ليس بالصدفة) الرؤية بين المحافظين الجديد وأنظمة الخليج في النظر إلى ما يرونه من انكفاء لسياسة أميركا في عهد أوباما.

هم يأخذون عليه أوّلاً عدم تصدّيه للمخاطر الإيرانيّة ثم قبوله اتفاقيّة نوويّة تتيح للاقتصاد الإيراني التوسّع والازدهار. وكانت حكومة العدوّ منذ عهد بوش (باعترافه في كتابه) تسعى للحصول على إذن أميركي لضرب إيران من الجوّ لشلّ قدراته النوويّة. والأحاديث الخليجيّة من قبل حكّامها والتي تسرّبت في وثائق «ويكليليكس» لا تترك مجالاً للشك بنوايا انظمة الخليج. لم تكن تقبل بأقل من إسقاط نظام الحكم في إيران، ولو بغزو أميركي. ونظرة المحافظين الجدد تتطرّف أكثر من بوش الذي لم يعط إذناً للعدوّ الإسرائيلي بالهجوم على إيران (وأسباب تمنّع بوش أو أوباما عديدة، وهي لا تتعلّق بالتمنّع —وهم راغبون— بقدر ما هي تتعلّق بأسباب عسكريّة تقنيّة لا تضمن تحقيق النتائج المرجوّة من خلال هجوم جويّ خصوصاً وان المعلومات عن البرنامج النووي المدفون تحت «سابع أرض» لم تكن موثّقة أو أكيدة. وقد أكّد ذلك الجنرال لويد أستن، قائد المنقطة الوسطى في القوّات المسلّحة الأميركيّة في مقالة في «واشنطن بوست»، عندما شكّك بقدرة القوة العسكريّة على إحداث تغيير مُرتجى في الشرق الأوسط). إن البدء بعمليّة الاتصالات السريّة بين الإدارة الأميركيّة والنظام الإيراني بدأت في عهد بوش (وقد كشف عن جوانب جديدة منها تتعلّق بتفادي الاشتباك العسكري فوق أجواء إيران عند بدء الغزو الأميركي للعراق الدبلوماسي الأميركي السابق، زلماي خليل زاد، في كتابه الذي صدر للتوّ بعنوان «المبعوث»). كما أن الإدارة الأميركيّة (خصوصاً في القيادة العسكريّة) كانت تخشى من العواقب العسكريّة والاستخباراتيّة للهجوم على النظام الإيراني لأن الردّ كان سيعرّض المصالح الأميركيّة -بما فيها العسكريّة- في المنطقة إلى الخطر).

وفكرة التواصل بين الإدارة والنظام الإيراني الذي تدعو إسرائيل ودول الخليج إلى إسقاطه، هي مرفوضة في المبدأ. لكن لا العدوّ الإسرائيلي ولا انظمة الخليج تملك خطّة واضحة لإسقاط النظام. وفكرة غزو إيران من البرّ والجو والبحر مستحيلة لأسباب سياسيّة وعسكريّة، وإن كانت هي محط آمال التحالف الإسرائيلي ــ الخليجي. طبعاً، إن إدارة بوش كانت تعوّل على غزو العراق لتحقيق أغراضها بأثمان اقل: كانت تأمل ان تؤدّي نتائج الغزو الأميركي إلى سقوط تلقائي (مثل سقوط الثمار اليانعة) للنظاميْن الإيراني والسوري. والخطاب الأميركي في عام 2003 كان لا يترك مجالاً للشك في توقّعات زمرة بوش الحاكمة (التي أصابت بقدر ما أصاب ميشال حايك في 2004 في توقّع العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق، وفي استتباب الأمن والسلام للعراق تحت الاحتلال).

وزادت أصوات انتقاد «الانكفاء» الأميركي في سنوات الأزمة السوريّة الأخيرة. سعت انظمة الخليج إلى حثّ الإدارة الأميركيّة على القيام بعمل عسكري لإسقاط النظام السوري. وكان خط أوباما الأحمر هو الفرصة الذهبيّة، ولهذا فإن التقارير من إعلام الخليج عن «دلائل» على استعمال النظام للسلاح الكيميائي والبيولوجي (والنووي في بعض التقارير) باتت يوميّة (من المؤكّد هنا ان النظام السوري وبعض فصائل المعارضة المُسلّحة استخدما أسلحة محظّرة دوليّاً ومن مختلف الأصناف). وعندما أحبط النظام الروسي خطة الإدارة الأميركيّة للتدخّل العسكري (الجوّي المحدود فقط، أي بعيداً عن أحلام أنظمة الخليج) فإن نظريّة الانكفاء الأميركي، او التمنّع العسكري بدأت بالانتشار. لكن الآراء في أوساط صهاينة أميركا وإسرائيل لم تكن متفقة: كان هناك من يريد تدخّلاً عسكريّاً أميركيّاً بأي ثمن (وهذا كان موقف السيناتور جون ماكين، واحد من دعاة الصهاينة التقليديّين والمحافظين الجدد، والذي أصبح واحداً من دعاة الفصائل السوريّة المعارضة، وهو وهيلاري كلينتون -التي تمثّل الصهاينة الجدد والقدماء في الحزب الديمقراطي)، في مقابل من خشي على مصلحة إسرائيل وأميركا من سقوط النظام السوري. وهناك في الحملة الانتخابيّة الرئاسيّة للحزب الجمهوري (دونالد ترامب وراند بول) ممّن عبّر صراحة عن تفضيل لبقاء طغيان النظام السوري على أي بديل عنه وذلك بسبب الخوف من الإسلاميّين، على أنواعهم. وغياب الإجماع الصهيوني على طبيعة التدخّل الأميركي ووجهته أفشل مخطّطات التدخّل.

كما ان أنظمة الخليج والعدوّ الإسرائيلي عابوا على الإدارة الأميركيّة التمنّع عن الحفاظ على حسني مبارك بالقوّة. لكن الإدارة فعلت ما تستطيع، كما انها سمحت لمبارك بقتل المئات من المتظاهرين للبقاء في السلطة، وهي —للتاريخ— دانت المتظاهرين السلميّين عندما قتلهم من قبل نظام مبارك (قبل سقوطه) ودعتهم للتوقّف عن استعمال العنف. وحاولت الإدارة الأميركيّة استبدال مبارك (بعد ان فشلت جميع المحاولات للحفاظ عليه في السلطة) بعمر سليمان لكن الغضبة الجماهيريّة أفشلت هذا المخطط. وهيلاري كلينتون، في محاولة للظهور بمظهر المُختلف عن اوباما في الإحجام عن التدخّل العسكري، تذكّر هذه الأيّام دائماً انها كانت من المنادين بالحفاظ على الغالي مبارك، كأن كان هناك وسيلة للحفاظ عليه.

لكن ما هو الحقيقي وما هو الخيالي في نظريّة الانكفاء الأميركي وما هي دلائلها؟ يذكّر أصحاب النظريّة بالانسحاب الأميركي من العراق. لكن ليس صحيحاً ان أوباما كان ينوي الانسحاب من العراق بالرغم من وعوده الانتخابيّة (مثلما وعد بإقفال معسكر غوانتنامو). وقد أعدّ الجنرال الأميركي لويد أستن خطّة تفصيليّة لإبقاء قوّة من 24,000 جندي في العراق، لكن معارضي ما يسمّونه بالانكفاء الأميركي ينسون ان سبب عدم إبقاء هذه القوّة في العراق لم تكن بسبب تمنّع أوباما. لقد رفضت الحكومة العراقيّة الطلب الأميركي بإبقاء قوّة أبديّة في العراق (على غرار القوّات الأميركيّة المُنتشرة في كل بلدان مجلس التعاون الخليجي في قواعد سريّة وعلنيّة، عدا عن قواعد المخابرات الأميركيّة في تلك البلدان —وتستضيف دبيّ واحدة من أكبر محطات المخابرات الأميركيّة في العالم، حسبما ورد في الصحف الأميركيّة قبل سنوات) بالرغم من إلحاح أوباما. طبعاً، إن القوّات الأميركيّة تعود تدريجيّاً إلى العراق تحت جنح عنوان محاربة الإرهاب.

لا يزال الإنفاق العسكري الأميركي أكبر من كل دول العالم. والصين، التي تأتي في المرتبة الثانية، لا تنفق إلّا نحو خُمس الإنفاق الأميركي (وأميركا توبّخ الصين على سخاء إنفاقها العسكري وتعتبره تهديداً لها). وتنتشر القوّات الأميركيّة في أكثر من 130 دولة في العالم، وهي موجودة في 800 قاعدة عسكريّة (غير السريّة) في 70 بلداً في العالم (ويقارن ديفيد فاين في مقالة في «بوليتيكو» بين أميركا وحلفائها، فيضيف أن فرنسا وبريطانيا وروسيا لا تملك أكثر من 30 قاعدة عسكريّة أجنبيّة في العالم). وديفيد فين له مؤلّف بعنوان «أمة القواعد: كيف تضرّ القواعد العسكريّة الأميركيّة حول العالم بأميركا وبالعالم»، ويعدّد تلك المضار التي تأتّي عن القواعد، من المضار البيئيّة والاقتصاديّة إلى الجرائم الجنسيّة التي يسبّبها وجودها. وكانت الأكاديميّة النسويّة، سينتيا إنلو —في كتابها «الموز والشواطئ والقواعد»- أوّل من لفت إلى ضرر القواعد العسكريّة الأميركيّة على العالم بوضع النساء والأطفال إذ ان كل قاعدة عسكريّة اميركيّة تفرّخ حولها بؤراً من الاستغلال والاعتداء الجنسي على أنواعه (بمعنى الانحرافات الجنسيّة التي تتعارض مع القوانين التي تحمي الأطفال والقاصرين).

وأين هو الانكفاء الأميركي فيما تشنّ الإمبراطوريّة الأميركيّة حروباً حول العالم. هي تخوض في أميركا اللاتينية باسم «الحرب على المخدّرات» حروباً ضد الفقراء والفلّاحين، والقيادة العسكريّة الأميركيّة وسّعت من نطاق عمليّاتها لأوّل مرّة في التاريخ في القارة الأفريقيّة حيث لم تعد أميركا تثق بحلفائها من الاستعماريّين «السابقين». وبحسب تعداد لنيك ترس في كتابه «مسرح عمليّات الغد: حروب أميركا بالواسطة والعمليّات (العسكريّة) السريّة في أفريقيا» أن القوّات العسكريّة الأميركيّة ضالعة في عمليّات وحروب متنوّعة مع 90٪ من الدول الأفريقيّة. وفي العلن، لا تحتفظ أميركا إلا بقاعدة عسكريّة في جيبوتي بينما تبقى باقي العمليّات والقواعد العسكريّة وراء ستار من الكتمان. ومن المحاولات التي أجريت من قبل بعض الصحافيّين الأميركيّين لسؤال «قيادة أفريقيا» في القوات المسلّحة الأميركيّة تتيقّن (وتتيقّنين) أن العمليّات العسكريّة الأميركيّة في أفريقيا هي في معظمها سريّة للغاية. تعلن الحكومة عن بعض العمليّات فقط (مثل الصومال ومالي، بعد أن يفتضح أمرها). لكن تلك العمليّات تودي بحياة الأبرياء من دون سؤال او اعتراض من قبل قادة الدول الأفريقيّة. وقد لاحظ الرفيق غلين غرينوولد في مقال على موقع «إنترسبت» هذا الأسبوع ان الحكومة الأميركيّة زعمت انها قتلت في يوم واحد هذا الأسبوع 150 «إرهابيّاً» في الصومال من دون تقديم دليل واحد على انهم كانوا بالفعل إرهابيّين. والحكومة الأميركيّة تزيد من وجودها المُستفزّ في آسيا متحديّة بذلك القوّة الصينيّة، حيث ترى أن من حقّها عرض عضلاتها هناك لكن ليس من حق الصين.

أما الصنف الثاني من نظريّة الانكفاء التي مثّلها ستيفن وولت في مقالة في موقع «فورين بوليسي» بعنوان «على الولايات المتحدة ان تقرّ انه لم يعد لديها سياسة شرق أوسطيّة». لكن وولت يأخذ على الحكومة الأميركيّة جموحها لا تمنّعها. أي ان الصنف الأوّل من نظريّة الانكفاء يحثّ الحكومة الأميركيّة على ارتكاب المزيد من الحروب والاجتياحات فيما يحثّ الصنف الثاني الحكومة الأميركيّة على ارتكاب المزيد من أفعال السلام. لكن وولت يصل إلى خلاصة ان الحلّ السلمي لمشاكل الشرق الأوسط، ولمشاكل أميركا المتأتيّة عن تدخّلاتها في الشرق الأوسط، يكمن في الانكفاء (غير المُتحقّق) عن الشرق الأوسط والامتناع عن التدخّل فيه لأن هذا التدخّل جرّ الويلات على الشرق الأوسط وعلى أميركا. لكن من صلب نقد وولت للسياسة الأميركيّة غياب سياسة حقيقيّة فيما يُسمّى بـ«المسيرة السلميّة» التي لم تعد تعني، ولم تكن يوماً تعني، غير تبنّي كل حروب وجرائم العدوّ الإسرائيلي تحت ستار من وهم مسيرة سلام لا يعترف بوجودها عربيّاً إلى المنتفعين منها ماليّاً في سلطة أوسلو (أو أدوات أميركا وإسرائيل في المنطقة العربيّة التي تردّ على جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيّين العزّل عبر تصنيف حركة المقاومة الوحيدة ضد العدوّ الإسرائيلي بأنها «إرهابيّة»). لكن الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط يجب ان يحصل من كل مناطق الشرق الأوسط ومن كل جوانب سياسات الشرق الأوسط لأن التدخّل الأميركي هو سبب الويلات. لكن الأنظمة العربيّة لا تعترض على التدخّل الأميركي بل على وجهة وطبيعة التدخّل، مطالبة إما بزيادته أو بتغيير طفيف في وجهته. ولقد ارتكب ياسر عرفات جريمة في حق الشعب الفلسطيني عندما اعتنق نظريّة أنور السادات بأن الحلّ —لا المشاكل— يكمن في يد الحكومة الأميركيّة: اي أنه روّج لمقولة مسيرة السلام الأميركيّة في أوساط شعب كان يعتبر لعقود وعن حق أن أميركا هي عدوّ الشعب الفلسطيني.

لا تزال الإمبراطوريّة الأميركيّة تسود في العالم، ولم يخبُ بعد حلم السيطرة العالميّة (والكونيّة في حال وجود مخلوقات على كواكب أخرى). لكن التدخّل الأميركي في عهد أوباما أصبح مختلفاً من حيث الاعتماد على القوّات الخاصّة والسلاح الجوّي والعمليّات السريّة أكثر من نشر الجيوش الجرّارة على طريقة بوش، التي يحبّذها طغاة الخليج وأبواقهم في الإعلام. والحديث عن انسحاب أميركي يترافق مع إعادة نحو 2400 جندي أميركي إلى العراق، من غير القوّات السريّة المنتشرة في الإقليم الكردي. وقد باشرت القوّات الأميركيّة بناء قواعد عسكريّة في سوريا، بالإضافة إلى قواعدها في العراق.

كما ان هناك عنصر آخر في نشر القوّة الأميركيّة وزيادة التدخّل العسكري الأميركي حول العالم: باتت الولايات المتحدة تعتمد على وكلائها في مناطق مختلفة من العالم للقيام بحروبها وجرائمها توفيراً للمال الأميركي وللدم الأميركي. عندما يستمع المرء إلى مناظرات المرشحين الرئاسيّين في كلا الحزبيْن يخالهم (ويخالها) من معتنقي الإسلام السنّي لكثرة ما يرد على ألسنتهم من صياح عن ضرورة تشكيل قوّات عسكريّة سنيّة لقتال «داعش» وأعداء أميركا. كما ان الحكومة الأميركيّة باتت تحثّ حلفاءها الأوروبيّين والآسيويّين على بذل المزيد من المال والسلاح للقيام بمهام عسكريّة كانت الحكومة الأميركيّة تقوم بها عبر السنوات: واليابان ألزمها دستورها الذي كتبه لها جنرلات أميركيّون بان يقتصر قطاعها العسكري على الدفاع لكن الحكومة الأميركيّة تريد ان تغيّر من معنى حدود الدور العسكري الأميركي كي تحمل بعض أعباء المُسيطِر الأميركي العالمي. وبطلب من الحكومة الأميركيّة قرّر مجلس النوّاب الياباني عام ٢٠١٥ أن يعيد تفسير المادة التاسعة (الواضحة) في الدستور الياباني التي تحدّ من قدرة الدولة على إنشاء قوى عسكريّة.

إن عصر السيادة العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة الأميركيّة لم ينته بعد. وهناك اعتراضات على هذه السيادة في داخل أميركا، لكن هذه السيادة العالميّة الأميركيّة لم تروِ ظمأ أنظمة الطغاة العرب. هم يطالبون جهاراً بمزيد من القنابل والصواريخ فوق رؤوس العرب والمسلمين. المزيد من الحروب الأميركيّة عند هؤلاء وعند إسرائيل هي الخلاص الوحيد لهم، ومعقل آمالهم. لكن، أليست الحروب الاستعماريّة الغربيّة هي التي وضعتهم في عروشهم وحافظت عليهم؟

الأخبار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى