صفحات العالم

مقالات تناولت الأحداث في تركيا

 

هل يمكن الحديث عن ربيع تركي؟

حسن شامي

من السهل جداً على أي كان، خصوصاً في بلدان الربيع العربي، أن يرى في حركة الاحتجاجات التركية ضرباً من الترف والبذخ العاطفيين. من أجل حديقة وبسبب قطع بضع أشجار؟ يقول الواحد مستهجناً. ونستهجن أكثر أن تجري المقارنة بين تمرّد باذخ في جماليته البيئوية وبين بلدان كانت، ولا تزال ربما، تتخبط في مشكلات كبيرة مثل البطالة والاستبداد وضعف الشرعية السياسية وتعاظم الفقر واللاتكافؤ، ومصادرة الفضاءات العامة ومساحات التعبير من قبل نخب أمنية واقتصادية متسلطة.

وهذا ما يجعل توصيف حركة الاحتجاجات المتواصلة في ساحة تقسيم في إسطنبول وفي مدن أخرى بأنها تعبير عن «ربيع تركي» يحاكي الربيع العربي، يبدو غنياً من ناحية الإثارة الدعوية فقط. هناك بالطبع توصيفات أخرى أطلقت على الاحتجاجات ذات الطابع المدني البارز أو أدمجت في صفة الربيع. من ذلك تشبيه التمرد بحركة «الساخطين» في أميركا وأوروبا، خصوصاً في اليونان ضد سياسات نيوليبرالية قادت إلى الأزمة الاقتصادية الحالية. أو أيضاً تشبيه التمرد التركي بانتفاضة الشباب عام 1968 ضد نمط في الحكم وفي أسلوب العيش وإخضاعهما لمعايير محافظة وسلطوية ضاق بها كثيرون، وذلك على خلفية ازدهار اقتصادي وفائض نمو عرفته «الثلاثون المجيدة».

والحاجة إلى عنوان معروف بمقدار ما تكون مرجعيته جاهزة هي ما يفسح المجال لانتشار مثل هذه التوصيفات التي تقول الكثير ولا تقول شيئاً في آن. وقد لا تتوقف هذه الإسقاطات في المدى المنظور. فالحديث عن ربيع تركي يستلهم الربيع العربي ويقيم صلة تناظر بين ساحة تقسيم وميدان التحرير في القاهرة، وفق ما ردد عدد من الشبان الأتراك المحتجين، يبدو ضرباً من الاستسهال والافتتان الإشهاري المثقل بالعواطف فيما يبقى فقيراً من حيث القدرة على تعقل ظاهرة الاحتجاجات التركية المحيّرة لكثيرين.

محيّرة بالفعل هذه الاحتجاجات التي جمعت فئات من مشارب مختلفة وضمت فنانين وناشطين مدنيين ثم انضمت إليها بعد خمسة أيام نقابتان كبيرتان لموظفي القطاع العام. فهي لا تعترض على شرعية التمثيل السياسي لرئيس الحكومة رجب طيب أردوغان وحزبه الإسلامي الفائز في الانتخابات، ولا تمتلك خلفية اقتصادية – اجتماعية تقود إلى المطالبة بتغيير في السياسة الاقتصادية المعتمدة التي جعلت تركيا في أحسن أحوالها إلى حد أنها أعلنت قبل أقل من شهر تسديد آخر دفعة من ديونها، ما يجعلها عرضة للحسد مقارنة بأحوال أوروبا الغربية المتخبطة في أزمة الديون السيادية وما تستدعيه من سياسات تقشف قاسية وثقيلة النتائج، وينطبق هذا أيضاً، وإن بمقدار مختلف، على أميركا. وما يزيد حيرة المراقب أن هذه الإنجازات تعود بالضبط إلى أردوغان وحزبه المحافظ اجتماعياً والحاضن لبرجوازية متدينة ولفئة واسعة من رجال الأعمال.

كما استطاع أردوغان إبعاد العسكر ورجال البيروقراطية الإدارية عن مسرح اللعبة السياسية وقلص دورهم إلى حد بعيد، بحيث إن «الدولة العميقة أو الخفية» التي كانوا يرعونها باتت أقرب إلى ذكرى صفحة طويت، وإن كانت احتمالات تدخلهم غير معدومة. وفي سجل إنجازات أردوغان أيضاً رسم خريطة طريق لتسوية تاريخية مع الأكراد وقضيتهم المزمنة عبر التفاهم مع زعيمهم المسجون عبدالله أوجلان، وتعاظم الوزن الإقليمي لتركيا على غير صعيد وفي غير مسألة وإن كانت سياسة «صفر مشاكل» التي يقودها وزير الخارجية بدأت تتعثر وتكتشف حدودها.

فما رشح من تغطية الاحتجاجات ومقاربتها إخبارياً وتحليلياً يكاد أن ينصبّ على نقطتين متصلتين الواحدة بالأخرى. الأولى تتعلق برمزية الساحة وحديقة «غيزي» في وسط إسطنبول حيث يريد أردوغان وبلدية المدينة إنشاء مركز تجاري ضخم وثكنة من الطراز العثماني، وقد تحفل بأشجار يفوق عددها عدد الأشجار المقطوعة حتى الآن. النقطة الثانية وهي التي تشكل عصب الاحتجاجات تتعلق بأداء وسلوك رئيس الوزراء أردوغان المتهم بالاعتداد بالنفس وقلة التواضع، والتعامل مع المواطنين باستعلاء وغرور.

يبدو للوهلة الأولى أننا حيال تعبيرات عن اشمئزاز فئات متنوعة من شخص أردوغان بالذات ومطالبته بالاستقالة لاعتبارات جمالية. سقط ثلاثة قتلى حتى الآن، أحدهم شرطي، ومئات من الجرحى ولم تنفع اعتذارات نائب أردوغان ولا تصريحات الرئيس غل المتفهمة لخلفية الاحتجاج والمحرجة لأردوغان، إذ تعمق الهوة بين أركان حزب واحد. وانصبت المطالبة في النهاية على التراجع عن المشروع الإعماري. من الصعب أن يتراجع أردوغان أو أن يستقيل. قد يقوم بترشيق أدائه بعض الشيء بعد أن تحدث عن مؤامرة داخلية وخارجية في آن وعن صلات مع إرهابيين، فيما يتهمه خصومه بتوريط تركيا في علاقات مع مجموعات إرهابية مثل «جبهة النصرة» وبأنه مسكون بهاجس عظامي وسلطاني وبأنه يوظف الإنجازات المتحققة والفوز الانتخابي لمصلحته الشخصية ولمصلحة أقاربه والمقربين منه. وهذا ما يجعل فكرته عن تجديد العثمانية ملتبسة وعرضة للتجاذبات. فالتوقف الحصري عند وجه العظمة في الماضي العثماني كسردية قومية ناجزة يفوته أن الماضي نفسه هو مادة سرديات مختلفة وربما مناقضة هي مدار تاريخ جماعات وفئات ومشكلات مختلفة. المدافعون عن حديقة غيزي ورمزية ساحة «تقسيم» يتمسكون بفضاء لذاكرتهم التاريخية والشخصية القريبة ولا يريدون التضحية بها لمصلحة زواج مرتجل بين ماض عثماني يقدم على نحو أسطوري، وفخامة إعمارية استعراضية تليق بالدول الريعية.

ثمة من يعتقد بأن الأزمة السورية والموقع التركي الحساس فيها وتباين التقديرات بين أردوغان والإدارة الأميركية، تشكل خلفية أو قطبة خفية للقلقلة الحاصلة. وقد توقفت تقارير إعلامية عند حديث أردوغان في المؤتمر الصحافي مع أوباما إثر اجتماعهما في واشنطن قبل أسبوعين. وكان لافتاً، وفق جريدة «الحياة» في 19 أيار (مايو)، أن يعلن أردوغان عدم وجود مكان في سورية الجديدة «لمجموعات إرهابية» علماً أنه كان يقول قبل الزيارة، وفق التقرير الإخباري ذاته، إنه سيصارح أوباما برأيه «أن واشنطن تعجلت في إعلان جبهة النصرة مجموعة إرهابية». وهناك من يتهم جهات خارجية أخرى بالتآمر على أردوغان. لكن استجماع احتجاجات متفرقة للقول إن واجهات تركية هي أيضاً من زجاج أمر مفيد، لكنه لا يصنع ربيعاً.

الحياة

اسطنبول تمهد الطريق لتغيير أميركي في سورية؟

جورج سمعان

قطع «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية»، في اجتماعات اسطنبول، خطوات كبيرة في الطريق نحو إعادة تنظيم صفوفه، والأصح نحو إعادة شيء من التوازن بين مكوناته. توازن بين القوى الإسلامية وما يسمى الكتلة الديموقراطية التي تضم علمانيين وليبراليين ومستقلين وعسكريين. وتوازن بين القوى الإقليمية والدولية التي تقف خلف أطرافه المتعددة. بقي عليه أن يجتاز النصف الأكثر صعوبة. أمامه منتصف هذا الشهر، في اجتماعات مقررة مبدئياً في القاهرة، اختيار 29 عضواً بينهم 15 يمثلون تشكيلات «الجيش الحر» و14 يمثلون «الحراك الثوري» في الداخل، ليضم «الائتلاف» 114 ممثلاً لشرائح واسعة من السياسيين في الخارج والمقاتلين والناشطين في الداخل. وأمامه إثر ذلك انتخاب قيادته ورئيسه الجديدين في ضوء التشكيلة الموسعة.

لكن التحدي الأهم أمام «الائتلاف» سيكون تشكيل وفده إلى المؤتمر الدولي في جنيف والتفاهم على الخطوط العريضة لورقة التفاوض، أي على موقف واحد ومشترك. وكما حصل في اسطنبول سيكون على جملة من الدول المؤثرة والفاعلة أن تكون حاضرة مع كل أدوات الضغط. فما تحقق أخيراً في المدينة التركية لم يكن ليرى النور لولا هذا الجهد الكبير الذي بذله «الأصدقاء» الأميركيون والأوروبيون والعرب والأتراك، وما رافقه من ترغيب وترهيب وإنذارات وتهديدات. حتى الآن أعلن رئيس الائتلاف بالنيابة جورج صبرا أن المعارضة لن تشارك في «جنيف – 2» ما لم يتوقف ما سماه «غزو إيران وحزب الله» منطقة القصير وغيرها من الأراضي السورية. أي أنها لن تحضر في ظل «انتصارات» يحققها النظام وحلفاؤه على الأرض.

لا يحتاج هذا الموقف إلى توضيحات. يحتاج إلى ترجمة على الأرض. بالطبع بريطانيا وفرنسا اللتان نجحتا في دفع الاتحاد الأوروبي إلى رفع حظر السلاح إلى المعارضة السورية ليستا مستعدتين لتنفيذ رغبتهما قبل انعقاد مؤتمر جنيف. وليس هناك طرف خارجي مستعد للتدخل من أجل تعديل ميزان القوى على الأرض أو ترجيحه لمصلحة المعارضة. لذلك، قد تلجأ دول عربية إلى توريد بعض السلاح لمجموعات «الجيش الحر»، بعد رفع الحظر عن السلاح الأوروبي. أي بات بمقدور الدول والجهات الراغبة أن تتجاوز منطوق اتفاقات تحظر عليها تسليم معدات من أسلحتها المستوردة إلى طرف ثالث. أو سيكون على القوى العسكرية المعارضة في الداخل السعي إلى تغيير المعادلة القائمة اليوم على الأرض بكل ما يتوافر لها من أسباب القوة. وإلا فإن النظام ومن سيمثله في جنيف سيتمسكان بما عبر عنه الرئيس بشار الأسد في حديثه التلفزيوني الأخير، والذي ينسف فكرة «حكومة انتقالية تتمتع بكامل الصلاحيات» من أساسها، والذي تعززه في النهاية المتغيرات الميدانية الأخيرة التي قد يفرضها هذا النظام، في القصير وغيرها.

المعارضة لا يمكنها المشاركة في جنيف تحت وطأة ما يمكن اعتباره «هزيمة» في القصير أو محافظة حمص عموماً. هي في الأساس رضخت وترضخ لضغوط كبيرة مارستها الإدارة الأميركية من أجل التوجه إلى طاولة المفاوضات. وإذا كانت واشنطن سهلت للديبلوماسية الروسية تحقيق «نصر» واضح، بتراجعها عن التفسيرات السابقة لخطة جنيف التي أقرت في حزيران (يونيو) من العام الماضي، وغيبت عن حديثها كل ما يتعلق بدور الرئيس الأسد في المرحلة الانتقالية، فإن المعارضة لا تجد نفسها مضطرة إلى مجاراتها في هذه الموقف إلا بسبب حاجتها إلى الدعم السياسي والعسكري، ولتأكيد رغبتها في تسوية تعتقد بأن الأيام القريبة ستظهر أن النظام لا يرغب فيها. أي أنها لا تريد أن تخسر «أصدقاءها» من العرب والغربيين الذين يصرون على التسوية السياسية. وهي في المحصلة لا يمكنها القبول بأي حل لا يلحظ في النهاية الانتقال السلمي للسلطة واستعجال رحيل رأس النظام ورموزه الأساسيين. علماً ان التنازل الذي قدمته واشنطن الى موسكو يعني بقاء الأسد حتى نهاية ولايته، اذا اخذنا بالاعتبار المدة الطويلة التي سيستغرقها التفاوض.

وليست المعارضة وحدها في موقع المتحفظ عن المواقف الأميركية الأخيرة، فالبريطانيون والفرنسيون (فضلاً عن قوى إقليمية أخرى) الذين يماشون رغبة واشنطن ويتمهلون في توريد السلاح للمعارضة، يصرون على أن يتفاهم الراعيان الأساسيان للمؤتمر الدولي على كل عناصر التسوية قبل التوجه إلى جنيف. ما قد يستدعي على الأرجح تأجيل انعقاده إلى ما بعد قمة الرئيسين فلاديمير بوتين وباراك أوباما على هامش قمة مجموعة الثماني في إرلندا في السابع عشر والثامن عشر من الشهر الجاري. ولا يثق «الائتلاف» بموقف روسيا وقدرتها على إقناع النظام وإرغامه على القبول بما قد يتوصل إليه المؤتمر. لكنه قد يجاري واشنطن في اختبار لسياسة روسيا يعتقد بأنه قد يكون الأخير إذا فشل «جنيف – 2».

في الواقع ثمة رهانات كبيرة على أن الإدارة الأميركية ستضطر إلى تغيير موقفها من الأزمة السورية بعدما نأت بنفسها عن الانخراط فيها طوال سنتين ونيف، لأسباب كثيرة باتت معروفة. بين هذه الأسباب ما أنتجه «الربيع العربي» في تونس وليبيا ومصر من أنظمة تسعى إلى تكرار تجربة الأنظمة الاستبدادية البائدة. وما أنتجه أيضاً من تنامي قوى متشددة تهدد مصالح أميـركا وحـلفائها في المنـطـقة. وبينها الرغبة في إرضاء غرور روسـيا والـتسليم بمصالحها في سورية، لـعل ذلـك يـقود إلى تعاون في ملفات كثيرة أخرى بينها الملف النووي الإيراني وقضية الانسحاب من أفغانستان والصراع مع الصين في جنوب شرقي آسيا… وغيرها من الملفات.

ويعتقد كثيرون بأن الرئيس أوباما استنفد كل الوسائل والذرائع التي دفعته إلى الترقب وكسب مزيد من الوقت تلافياً للانخراط في الأزمة السورية. وإذا كان من دواعي رغبته في تسوية سياسية الخوف من وقوع سورية في الفوضى والتفكك وانتشار هذا «الوباء» في المنطقة كلها بما يهدد استقرارها وأمنها والمصالح الأميركية فيها، فإن تطورات هذه الأزمة بدأت فعلاً تهدد دول الإقليم والأمن القومي الأميركي. ويصعب أن تقف إدارته موقف المتفرج ببساطة على تحول بلاد الشام إلى صومال آخر. كان وزير خارجيته جون كيري يدعو إلى انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية. لكن الصورة في طهران باتت واضحة ولا تحتاج حتى إلى انتظار أسبوعين، موعد هذا الاستحقاق الذي لا ينبئ باحتمال أي تغيير على سياسة الجمهورية الإسلامية.

بخلاف ذلك تخوض الجمهورية الإسلامية الحرب في سورية، سياسياً وعسكرياً، مباشرة وعبر حلفائها في بيروت وبغداد. تخوضها حرب وجود لا مكان فيها لمهادنة أو تسوية من دون الرئيس الأسد وأركان نظامه. بل لا مكان فيها لقرار مستقل ليس لدمشق فحسب بل لموسكو أيضاً. نجحت إيران حيث أخفق الآخرون. نجحت على مر سنوات طويلة في بناء قوى سياسية وعسكرية محلية، من «حزب الله» في لبنان إلى «عصائب أهل الحق» و «كتائب حزب الله» وغيرهما من ميليشيات شيعية في العراق، إلى الحوثيين في اليمن، إلى مساهمتها في تنشئة «قوات الدفاع الوطني» السورية. وكل هذه القوى تنغمس اليوم في الحرب السورية بطرق أو بأخرى.

حتى الآن أفادت الولايات المتحدة من استنزاف الساحة السورية نظام الأسد وقواته، وإيران وحلفاءها، والقوى السنّية المتشددة وعلى رأسها «القاعدة». لكن هذا الاستنزاف بدأ ينتقل إلى ساحات أخرى. لبنان الذي بدأ في السنوات الأخيرة يستعيد قدرته على إدارة لعبته السياسية بعيداً من وصاية دمشق، عاد أخيراً ليؤكد التصاقه بهذه الوصاية وإن في شكل وأدوات مختلفة، فلا انتخابات برلمانية ولا حكومة أصيلة. أما في العراق فقد ساهمت حكومة نوري المالكي في تعليق السياسة إلى أمد غير منظور. ولا يحتاج الوضع السياسي في الأردن إلى شرح. ويكفيه ما يخلفه هذا الكم الكبير من اللاجئين من تهديدات أمنية واجتماعية. وفي تركيا التي لم تنجر إلى النار المشتعلة على حدودها الجنوبية بدأت اسطنبول، كبرى مدنها، تهتز على وقع احتجاجات تهدد حكومة رجب طيب أردوغان، أكبر حلفاء واشنطن في المنطقة.

في ضوء هذه التطورات التي لا تهدد استقرار المنطقة فحسب، بل تنذر بتعديل موازين القوى والتحالفات القائمة وشبكة المصالح التقليدية فيها، تتوقع دوائر واسعة أن تجد إدارة الرئيس أوباما نفسها قريباً مدفوعة إلى الانخراط في الأزمة السورية. وتتوقف عند الجهود التي بذلها الوزير كيري وسفيره إلى دمشق روبرت فورد من أجل إعادة هيكلة «ائتلاف» المعارضة السورية، ومنح «الجيش الحر» بقيادة سليم إدريس حصة كبيرة من التمثيل (طالبت واشنطن بإعطائه 25 مقعداً لكنه حصل على 15). فهل توفر التركيبة الجديدة لهذا الائتلاف بعد اكتمالها قريباً، بسياسييها وعسكرييها، أرضية مطمئنة لتحرك أميركي فاعل كان غائباً طوال سنتين؟ هل المطلوب من المعارضة أن تقدم إلى «أصدقائها»، خصوصاً الولايات المتحدة، نموذجاً مختلفاً عما قدمت القاهرة وتونس وطرابلس الغرب فتختصر طريق العذاب أمام السوريين، وتساعد واشنطن على تغيير موقفها من أزمة تحولت بنداً أول في الأجندات الدولية والإقليمية؟ وهل تعجل في هذا التغيير ما شهدته اسطنبول أخيراً وما تشهده هذه الأيام، ام ان على السوريين انتظار سنة اخرى من الحروب الطاحنة حتى يبدأ الحل السياسي والمرحلة الانتقالية التي يكتنفها ضباب كثيف؟

الحياة

تظاهرات اسطنبول لحماية النظام… لا لإسقاطه

حازم الأمين

ردد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في أعقاب انتفاضة ساحة تقسيم ما قاله الرئيس السوري بشار الأسد عند بدء الثورة السورية، حرفياً. الأول قال: «من يقول ان ما يجري في ساحة تقسيم ربيع تركي، لا يعرف تركيا»، والثاني قال: «لن تنضم سورية الى مجموعة الدول التي شهدت ثورات، ومن يقول ذلك لا يعرف الشعب السوري»! أردوغان وصف متظاهرين بأنهم مجموعات إرهابية تريد استغلال التظاهرات، وهذا ما كان ردده صديقه القديم بشار وما زال.

لا تهدف هذه الملاحظة للقول ان تشابهاً بين حالي سورية وتركيا يفضي بالثانية الى مصير الأولى. لا إطلاقاً، انما هــــذا التشابه يثير فعلاً قلقاً على تركيا، ذاك ان رئيس حكومتها قليل الحساسية حيــال بداهة من هذا النوع. فالاقتراب وإن الشكـــلي مــن أداء الرئيس السوري في ادارة أزمة بلاده يبعث على التساؤل: ما الذي دار في عقــــل أردوغان عندما قال ما قالـــه؟ وعندمـــا قـرر أيضاً تحدي المتظاهرين ومتابعة البناء في «حديقة غازي»؟

البحث عن اجابة عن هذا السؤال المحير لا بد ان يسبقه تذكر ان رجلاً كأردوغــــان فاز في الانتخابات لثلاث دورات متتالية كانت الأولى منها رئاسة بلدية اسطنبول، ويجمع الأتراك على نجـــاحات اقتصادية هائلة حققها لبلده، وعلــــى تصديعه «الدولة العميقة» التي كانــــت تحكم تركيا (المؤسسة العسكرية)، ونـقــــل تركيا من استغراقها في تركيتها الى موقع اقليمي قيادي وفعال في الملفــات الرئيسة للمنطقة. واذا بهذا الرجل يهـــوي على وقع احتجاج موضعي في البداية حصل في ساحة تقسيم، ثم يُمعن في الإنزلاق ويتابعه بدأب مبدداً محاولات الرئيس عبدالله غُل الذي قال للمتظاهرين: «وصلت رسالتكم»، ونائب رئيس الحكومة بولنت أرينش الذي اعتذر عن عنف شرطته. فأطل أردوغان من تونس وقال: «سنتابع العمل في بناء المجمع التجاري».

الباحثون عن جواب كثر، تمحورت نتائج بحثهم حول أمر واحد، يتمثل في ان البقاء في السلطة لثلاث دورات متتالية أمر يُرشح صاحبه للتضخم، على رغم النجاحات التي حققها. فالرجل شعر ان بإمكانه ان يفعل ما يشاء بموجب التوكيل الممنوح له عبر الانتخابات. وأردوغان زعيم كبير، لكن هذا تماماً ما يُرشحه للشطط، فالديموقراطيات الحديثة لا تحتمل «زعيماً كبيراً»، ولو كانت هي من أنتجه، وهذا ما يُفسر قَصرها فرصته على دورتين متتاليتين.

والنفـــس العادية أمّارة بالسوء، فما بالك بالنفس المتضخمة التي أوصلتها صناديق الإقتراع ثلاث دورات متتالية الى السلطة. ولا شك ان فكرة «الديكتاتور العادل» تُراود رجل تركيا الأول، و «العدل» على نحـــو ما تعلمه في تركيا قد ينطوي على قسوة «أتاتوركية»، أو على مفهوم رجعي للعدالة بمعناها «الإخواني». وأردوغان عرضة للإصابة بها من بعديها هذين.

لكن ثمة عمقاً للأزمة المستجدة لا يتعلق بشخصية أردوغان، هو ما راكمته الدولة الكبــيرة في سنواتها «الإخوانية» في موازاة النجاحات. فنحن في تركيا حيال حزب «العدالة والتنمية» الذي يشبه «الإخوان المسلمين»، وحيال دولة تشبه الغرب في خياراتها العامة والخاصة. وما جرى في ساحة تقسيم هو صدام بين هــــذين الشبهين. فـ «أشباه الإخوان» حكموا تركيا لأكثر من عقد محاولين توظيف نجاحاتهم في برنامج يهدف الى «أخونة» بطيئــــة وخبيثــــة للدولة والمجتمع، وأشباه الأوروبيين كانوا يُراقبون منع الخمور بعــد العاشرة ليلاً، ويتحسرون على نجاح أردوغان في محو آثار مؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، و «سعيه إلى الحلول مكانه»، ويُذهـــلون لمعاقبة شاب وشابة ضُبطا في أنقــــرة يتبادلان القبل. فجاءت حادثة الحديقـــة لتتوج عقداً من الإحتقان البطيء.

ويبدو ان هذا الصدام رفد الاعتصامات في ساحة تقسيم بضحايا الإخفاقات الصغرى للحكومة. فأردوغان قطع نصف الطريق الى الصلح مع الأكراد وتوقف، وهو ما حرمه دعم القوميين الأتراك في هذا الملف، ولم يُكسبه ود الأكراد، فتوافد أكراد اسطنبول الى الساحة فور سماعهم بأزمة «غازي بارك». العلويون البكتاش حضروا الى الساحة لأسباب معاكسة، ذاك ان أردوغان بحسبهم هو مرحلة العودة من تركيا الكمالية التي أعطتهم بعض الحقوق، الى تركيا العثمانية التي كانت اضطهدتهم.

السياسة في تركيا عملية ادارة هذا الكم الهائل من التناقضات، التي يوازي النجاح فيها اخفاقات صامتة يتيح لها النظام الديموقراطي مكاناً في النزاع والتنافس على السلطة. وأردوغان القائد الشعبوي «الناجح» في الاقتصاد، ولاعب كرة القدم السابق، سقط في امتحان النظام الديموقراطي، معتقداً ان صناديق الإقتراع تفويض مطلق. وما يظهر من ردود أفعاله الأولى يشير الى انه ليس سليل ثقافة تعددية، والتعدد هنا لا يقتصر على تنوع الجماعات، انما أيضاً على تعدد المعضلات وعلى تراكبها وتراتبها. ومن المرجح ان العقم في جوهره «اخواني»، ذاك ان اختصار العلاقة بالدولة بمعادلة العودة الى صناديق الإقتراع أمر مولد للديكتاتورية المنتخبة. ألم ينتخب الألمان هتلر ذات يوم؟ وماذا فعل الفوهرر بهذا التفويض؟

والحال ان التقية الممارسة من قبل حكومة «العدالة والتنمية» حيال عناوين رئيسة مرتبطة بحياة الأتراك هي ما يدفع الى الشك، اذ ان الجماعة لم تُصارح يوماً مواطني حكومتها بما تُضمر. تقول إنها حريصة على علمانية تركيا وتُعاقب على القُبل وتمنع عرض الخمور في واجهات المحال التجارية، وتقول إنها تحترم التاريخ الأتاتوركي للدولة وتسعى إلى تقديم العثمانية على هذا التاريخ، وهو تماماً ما يشعر به المصريون حيال حكومتهم «الإخوانية».

من المقلق حقاً ان يقول أردوغان ان ما يجري في ساحة تقسيم ليس جزءاً من «الربيع العربي»، فناهيك عن ان هذا القول ينطوي على شَبَهٍ بغيره من الرؤساء الذين قالوا هذه العبارة، فهو ينطوي أيضاً على احتمالات شططٍ يشبه شطط المشابهين، هـــذا اذا استبعدنا عدم خلو تعبيره من ميل متعالٍ لا يخلو من قومية مضمرة وقبيحة.

قالت لي صديقة في ساحة تقسيم، ان التظاهرات هنا هي لحماية النظام وليس لإسقاطه. لحمايته من أردوغان. الصديقة هذه كانت أكثر أخلاقية في اقامة الفارق بين تظاهرات «اسقاط النظام» في دول الربيع العربي، وبين تظاهرات اسقاط أردوغان في اسطنبول.

الحياة

تركيا: ليس ربيعا ، ولكن

سعد محيو

ما أن دلف كاتب هذه السطور برفقة زملاء عرب صحافيين وأكاديميين إلى مقر رئاسة الحكومة التركية في وسط أنقرة، حتى بادرنا نائب رئيس الوزراء بشير ألتاي هاشاً باشاً وهو يقول: ” أهلاً بالربيع العربي”.

وحين رد عليه أحد الزملاء بالقول:” ومتى سنحتفل بالربيع التركي؟”.

ابتسم ألتاي ابتسامة عريضة وكأنه كان ينتظر هذا السؤال وأجاب:” نحن قمنا بـ”ثورة هادئة” قبل ثورات الربيع العربي بعقد من الزمن. وهذا تجسّد في التعديلات الدستورية، وفي الخطوات العملية لتعميق الديمقراطية وإطلاق الحريات المدنية. ربما هذه ليست ثورة شعبية كالثورات العربية، لكنها مدعومة من الشعب بدليل الدعم المتصاعد لها في الانتخابات”

وأضاف:” لقد أعددنا “مطبخنا” جيدا، وأسندنا كل توجهاتنا إلى الدراسات الاستراتيجية، لا الأمنية. كل الخطط التي نفذناها طيلة العقد الماضي كانت من بنات أفكار مراكز الأبحاث الاستراتيجية. كما اعتمدنا على رأي الشعب من خلال استطلاعات رأي نجريها كل شهر. والأهم أننا واجهنا مخاوف العلمانيين منا وأثبتنا خطأها”.

كان هذا الحديث قبل أسبوعين فقط من انفجار “الشارع العلماني” في أسطنبول ونحو 40 مدينة وبلدة تركية. وهو كان دليلاً فاقعاً على أن القادة “العثمانيين الجدد” أُخذوا على حين غرة بهذه التطورات، وأن قراءتهم للتمخضات العنيفة التي يمر بها المجتمع التركي كانت متسرعة أو تطغى عليها الثقة الزائدة بالنفس.

والآن، وبعد أن اهتزت ثقة القادة بقناعاتهم السابقة، سيكون عليهم التساؤل: ما معنى هذا الذي حدث؟

إذا ما فعلوا وبشكل هاديء وعلمي وموضوعي، قد يتوصلون سريعاً إلى الاستنتاج بأن هذه التطورات كانت في الواقع بديهية وطبيعية. لا بل ضرورية أيضاً لبلورة المسارات التاريخية الجديدة في تركيا.

فالبلاد تمر منذ العام 2002 (والبعض يقول قبل عقدين منذ عهد أوزال وأربكان) بتحولات تاريخية كبرى، لاتزال نتائجها ومحصلاتها النهائية مجهولة، أو على الأقل تتسم بعدم اليقين.

المحرّك الرئيس لهذه التحولات ليس الاقتصاد ولا الصراعات الطبقية، بل  “الحروب الثقافية” التي تتجلى في الصراع على الهوية التركية الجديدة. هنا ينتصب معسكران متصارعان: الأول، معسكر “الأسلاميين الجدد” أو “العثمانيين الجدد” الذين يريدون بناء هوية جديدة تتصالح فيها القومية التركية مع قيمها الإسلامية وإيجابيات تاريخها العثماني، في إطار “الديمقراطية المحافظة”. فيما المعسكر الثاني يريد المحافظة على الهوية التي أرسى دعائمها مصطفى كمال أتاتورك في عشرينيات القرن العشرين.

هذا الصراع الحاد والاستقطابي على الهوية تجلى بوضوح في أمرين إثنين: الأول، توجّه المعسكر الأول الإسلامي- القومي المعتدل إلى الاعتراف بالحقوق اللغوية والثقافية للأكراد،  والتسامح مع الأقليات الدينية الأخرى عبر تحقيق مطالبها في بناء دور العبادة والمؤسسات الأخرى. هذا مع العمل في الوقت نفسه على ضخ “القيم الإسلامية” إلى بنى المجتمع، من خلال فرض قيود على احتساء الخمرة وبيعها، ومنع عمليات الاجهاض، وتشريع ارتداء الحجاب في الجامعات وأجهزة الدولة، والتوسع في بناء المدارس والتكايا الدينية.

بيد أن المعسكر الثاني اعتبر كل هذه الخطوات “مؤامرة” على النظام العلماني، وتهديداً لوحدة الأمة التركية (هذا التيار لايعترف بوجود الأكراد ويعتبرهم “أتراك الجبال”)، وتمهيداً لأعادة أسلمة الدولة.

أردوغان وصحبه يخطئون إن هم اعتقدوا أنهم يستطيعون حل معضلة الهوية عبر الإصلاحات السياسية والاقتصادية وحدها، أو حتى عبر الديمقراطية. إذ أن بناء الهوية يتطلب إجماعاً وطنياً حولها لا أغلبية برلمانية، لأنها تطال كل نمط العيش والتوازنات النفسية والحريات والحقوق في المجتمع المدني.

هنا، وفي هذه المسألة بالذات، تبدو أخطاء أردوغان واضحة.  ليس فقط لأنه يتسلّح بانجازاته “المادية” الضخمة لاقتحام مجال الهوية “الروحي” الخطير وحسب، بل أيضا لأنه لايزال يتصرّف بعقلية المُعارض المتوجس دوماً من المؤامرات، فيدفعه ذلك إلى ممارسات سلطوية قد لا يريدها هو، بدل أن ينتهج سلوك رجل الدولة الحريص على تطوير هوية وطنية شاملة للجميع.

والأن، وبعد أن نجح متظاهرو ساحة تقسيم في حمل أردوغان على التراجع عن بعض مواقفه المتصلبة، سيكون عليه القيام بإعادة نظر جذرية في طريقة مقاربته لمسألة حروب الثقافة والهوية في تركيا.

وما لم يفعل وسريعاً، قد يصبح تحذيره من “وجود مؤامرات خارجية لتفجير الأوضاع الداخلية”، نبوءة  ذاتية التحقق.

المدن

تركيا: حراكٌ في مجتمع أين نحن منه

وسام سعادة

ليس بالمستطاع، الحُكْمُ منذ الآن، على المسار الذي ستسلكه الأمور في تركيا بعدَ موجة الاحتجاجات الواسعة الأخيرة، وان كان بحكم المؤكّد أنّ البلاد ستحيي الذكرى التسعينية لاعلان الجمهورية يوم 29 تشرين الأوّل 1929 في ظلّ انقسام أهليّ لم تعرف مثله منذ بضعة عقود، وهو انقسام أوّل ما يذكّر فبأساسيات الديموقراطية: اذ لا يكفي لممارسة الحكم في ظلّ الديموقراطية أن تكون لديك الأكثريّة، حتى لو كانت تلك الممنوحة بواسطة صناديق الاقتراع بشكل حرّ وسليم. عليكَ أيضاً أنْ تتفادى تحويل الصراع السياسيّ إلى صراع مجتمعي مفتوح. فإذا اندلع مثل هذا الصراع، صارَ معيارُ فشلك من نجاحك هو سحبه مجدّداً من دائرة الانقسام الأهلي، وهذا من أصعب الأمور ان كانَ الانقسام الأهليّ يدور، ولو رمزياً، حولك، واذا كنت فوق ذلك قد اندفعت الى محاولة التفاف على “المجتمع المفتوح” الذي كان لك فضلٌ في التأسيس له. كذلك، فانّ التداول على السلطة ليسَ أمراً جائزاً قد يحدث أو لا يحدث، بل هو، بمثابة المركز الحيوي لاشتغال وتكامل مؤسساتها ووظائفها. واذا كان عدم استقرار الحكومات والذهاب الى انتخابات مبكرة متكرّرة هو دليل أزمة في الديموقراطية، كذلك السيطرة المديدة لزعامة سياسية كاريزمية (ثمة نقاش عميق جار في المانيا منذ مدة اذا كانت كاريزما المستشارة انجيلا ميركل تمثّل تهديداً للديموقراطية) أو لحزب سياسيّ. والحالُ ان عدم قدرة التجربة الديموقراطية التركية على اجتراح طريق مستقرّ وسليم للتداول على السلطة، هو المسؤول بالدرجة الأولى عن تعطّل آليات “الاحتجاز السياسي” للخلافات، وتحولّها الى “نزلات مجتمعية حادّة”.

في مرحلة أولى، كانت الظاهرة الحركية، “حزب العدالة والتنمية”، والظاهرة الشعبوية الكاريزمية، رجب طيب أردوغان، تدفعان باتجاه توسيع المقدار الديموقراطي في التجربة التركية. وظيفيّاً، تأمّن ذلك بفضل “عقلنة” الثنائية القائمة بين المؤسسة العسكرية – الأمنية وبين الاسلاميين المعتدلين. بغية الافلات من وطأة العسكر، وجد الاسلاميّون المعتدلون ضالتهم في اعتناق “الأوربة”. كان القوميون الجمهوريون العلمانيون يحاصرون ويقوّضون أي نازع محافظ، دينياً وثقافياً، بالنموذج “الكمالي” للتغريب المقنّن، والمحروس بجهاز الدولة. وهو نموذج يقطع ليس فقط مع “الماضي العثماني” والنزعات الاحيائية له، أو حتى “الحنينية”، بل أيضاً، مع ما يمثّله هذا الماضي من “كوزموبوليتية”. وإذا كانت الحال هذه، فقد جاءت الاستراتيجية الثقافية للاسلام “المعتدل” التركي، تحمل راية “الكوزموبوليتيين” في وقت واحد، الكوزموبوليتية العثمانية، المستعادة بـ”الحنين”، عوضاً عن الاحياء الصرف، والكوزموبوليتية الأوروبية الراهنة، المترجمة عملياً بالعمل على موافقة الشروط التركية للعيش، والعمل، والرفاه، والحرية، والمشاركة، مع مثيلتها الأوروبية، في سياق تقوية حجّة تركيا للانضمام الى “الاتحاد الأوروبي”.

في مقابل دعوى القوميين العلمانيين، أن تكون تركيا دولة – أمّة على الطريقة الأوروبية، تقدّم الاسلاميّون بدعواهم، أن تكون تركيا نفسها جزءاً من متحد أوروبيّ يتجاوز فكرة الدولة – الأمة، أو على الأقل، حدّتها، ويفكّك بالدرجة الأولى طابعها القسريّ الغليظ في تركيا. بدا الاسلاميّون أكثر استعداداً للتخفّف من غلواء السيادة القومية في الموضوع الأوروبي، الا انّ هذه الدعوى كانت تضمر بعداً “استفزازياً” لأوروبا نفسها: أن تصير هذه ذات “بعد تركيّ”، وأن يُعاد تعريفها كقارة التمازج الحضاريّ بين الاسلام والمسيحية، بدلاً من تعريفها كقارة المراوحة بين المسيحية و”ما بعد المسيحية”. فكانت ردود الفعل القوية المعارضة للانضمام التركيّ، وكانت لها تداعياتها على مسار “الاسلاموية المعتدلة” في تركيا. الطريف في ردود الفعل هذه، انها سنحت في الوقت نفسه باعمال مقارنة بين الديموقراطيين الاسلاميين الأتراك وبين الاحزاب الديموقراطية – المسيحية في أوروبا، في حين كانت عودة الهوية المسيحية الى السجال السياسي الاوروبي من باب رفض انضمام تركيا.

ستعزّز هذه “المرحلة الأولى” من الاردوغانية (2002-2011) بنموّ استثنائي للاقتصاد التركي، وبلعب “العدالة والتنمية” ورقة “الصفر مشاكل” ليس فقط في نظرتها للجوار الاقليمي، بل أساساً في نظرتها الى الداخل: “صفر مشاكل” بين العامل وربّ العمل، “صفر مشاكل” بين المنشأة الصغيرة والكبيرة، فيما بين قطاعات الانتاج، بين الانتاج والتوزيع، بين أصحاب المشاريع المتواضعة الرساميل المنتشرة عبر الاناضول وبين تمركز الرأسمال الكبير في “الموصياد” (جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين)، وبين رجال الأعمال الأناضوليين والاستانبوليين، بين المدينة وضواحيها، بين المدينة والريف. أيضاً، وقبل كل شيء، “صفر مشاكل” بين أردوغان وأتاتورك (التركة، الهالة، البيروقراطية). لم يرفع اردوغان شعاراً من قبيل “الاسلام هو الحل”، لكن اليوتوبيا التي اعتمدها يمكن ان تلخّص بأن “الاسلام يستطيع ان يمدّنا بتسويات تأتي بالصفر مشاكل”.

وحين حلّت النازلة المالية والاقتصادية باليونان، الحلقة الاضعف في منظومة “الاتحاد الاوروبي”، بدت تركيا، المعترض على مبدأ انضمامها اليه، كما لو أنها تمثّل النقيض الاقتصادي الناجح، مع انه يسجّل لأردوغان انه حذّر وقتها من تداعيات الأزمة اليونانية على بلاده. والحقّ انّ انعدام الاستقرار في الاقتصادات الاوروبية سينعكس سلباً على التجارة مع تركيا. يضاف الى ذلك الانعكاسات السلبية على تركيا للعقوبات الغربية على ايران، وللحرب الأهلية في سوريا، وقد جاء هذا كله ليكشف الوهن في الاقتصاد التركي نفسه، ويؤدي الى تدهور القيمة الشرائية، والى ازمة في قطاع البناء، والى اشتداد الحركات المطلبية، في بلد ما زالت فيه عملية قوننة الحقوق والحريات النقابية متواضعة، قياساً على التحسّن الذي عرفته في الحقوق والحريات السياسية.

لكن، حتى هذه الحريات السياسية، عادت فأصيبت بانتكاسة، وللمفارقة، مباشرة بعد تحرّر اردوغان من وطأة الجنرالات. ذلك انّ القاعدة الموضوعية لاندفاعة أردوغان باتجاه المزيد من الحرية، يوم كانت الثنائية بين العسكر والاسلاميين المعتدلين تضبط اللعبة، تحوّلت الى شيء مغاير بعد اتضاح ان “الانقلابات العسكرية على الطريقة التركية”، مع أو بدون المحكمة الدستورية، أصبحت من الماضي. اذاك، صار ممكناً لحزب “العدالة والتنمية” أن يطلق العنان لما يؤخذ عليه، أو في ظل حكمه، من اجراءات قمعية ضد كتاب ومثقفين ونقابيين وطلاب، بالتوازي مع ميل متعاظم للحدّ من حرية الفضاء العمومي، والرقابة على العالم الافتراضي (الانترنت)، وفقاً لروحية محافظة متدرّجة من “التحشّم” الى “التزمّت” الى “الكبت”. بالتوازي، يمكن القول بأن قضية “ارغينيكون”، هذه المنظمة القومية المتشدّدة التآمرية المفترضة، وحملات التوقيف والتطهير المتكررة التي جرّدت لمكافحتها، وامتدت الى الصحافيين والجامعيين، كانت الايذان بتحوّل في “الاتجاه الامني” لحكم “العدالة والتنمية”.

لكن الانعطافة الواضحة كانت عام 2011. صحيح ان انتخابات حزيران من هذا العام لم تحمل مفاجآت، الا ان اردوغان نفسه أرادها كذلك: اعداد العدّة لتجاوز الدستور الحالي، دستور 1982 التي تفوح منه ذكرى الانقلاب العسكري بشكل أو بآخر، باتجاه نظام يريده رئاسياً، ينتخب فيه الرئيس بالاقتراع العام المباشر. الا ان ما يراه اردوغان تجذيراً للديموقراطية التركية، يراه خصومه تحايلاً عليها وتقويضاً لها، مدفوعين الى ذلك بمقارنة مغرية بين الثنائي فلاديمير بوتين – ديمتري ميدفيديف، اللذين يتناقلان دورياً منصبي رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء، وبين الثنائي رجب طيب أردوغان – عبد الله غول.

وقد جاء التألق الاقليمي لأردوغان كراعي للربيع العربي عام 2011، وأيضاً كـ”فاتح دافوس”، كما وصفه انصاره، بعد مشادته مع الرئيس الاسرائيلي شيمون بيريز في “المنتدى الاقتصادي العالمي”، ليعزّز من صورة زعامته الكاريزمية، في مقابل تسليم “هيئة الأركان” التي كانت تمانعه يومها، بأنه قضي الامر بالنسبة لها، فقدّمت استقالتها اواخر تموز 2011. وهنا، صرنا في وضعية حركة اسلامية معتدلة لم يعد ثمة “عسكري” يقابلها، لكن ليس ثمة ايضاً من امكان واقعي للتداول على السلطة، في ظل ثبات اكثريتها، من انتخابات الى اخرى، في يد “العدالة والتنمية”. وقد جاءت الانتخابات، التي اتاحها الربيع العربي في مصر وتونس، والفوز “الاخواني” بها، ليعزّز المخاوف في تركيا نفسها من “الاسلام السياسي” مع أنه يحكمها بنسخته الاردوغانية منذ عام 2003، وقبل ذلك بالنسخة الأربكانية. وأساس القلق الذي انتشر في أوساط العلمانيين الأتراك، هو انّ هذا الصعود للحركات الاخوانية وبدلاً من أن يجعلها تقتبس من نموذج “العدالة والتنمية” سوف يؤثّر عليها دفعاً في اتجاه المزيد من “الأسلمة”، ومن الانغماس في القضايا العربية، لا سيّما وانّه لم يعد هناك من حاجز “عسكريّ” يضبط اعتدال الاسلاميين الترك، ولا من مقابل “مدني” سياسي وازن بمقدوره التداول على السلطة بشكل سليم معهم، ولا من دستور مستقرّ، طالما ان التشكيك بالدستور الحالي هو البرنامج الذي على أساسه خاض أردوغان الانتخابات السابقة، وان التحضير للدستور الجديد هو ما يعتبره العلمانيون تهديداً ليس فقط للعلمانية الأتاتوركية، بل حتى للتراكم الديموقراطي المحقق في العشرين سنة الأخيرة. وقد جاء المسار التفاوضي مع “حزب العمال الكردستاني” ليعزّز القلق العلمانيّ، من كون الجانب الاسلامي يؤسس لقاعدة ثابتة التأييد له جنوب وشرق البلاد، بما يجعله يكسب الانتخابات تلو الانتخابات، بكل راحة بال.

عند هذه العتبة، صار الانقسام الأهليّ أكثر ضراوة، مدفوعاً باستمرار تأثير “نظرية المؤامرة” لدى الأتراك، اسلاميين وعلمانيين. وهذه من عوارض تعطّل آليات الحياة الديموقراطية. ولـ”نظرية المؤامرة” تاريخ طويل عند الحركات الاسلامية عموماً، بما في ذلك الاسلاموية التركية المعتدلة، واذا كان رجب طيب اردوغان قد لجأ اليها بسرعة لتفسير الاحتجاجات الأخيرة واتساع نطاقها، فقد سبق لنجم الدين اربكان ان ندّد بـ”المؤامرة الماسونية” في أيام سليمان ديميريل. كما رأينا أن كشف شبكة “ارغينيكون” قد فتح العنان للاكثار من هذا التفسير، ولجعله مبرّراً للحد من الحريات.

وفي المقابل، لا تزال “نظرية المؤامرة” شائعة في صفوف العلمانيين، الذين يعتبرون ان الاسلاميين يضمرون دائماً العداء للجمهورية، وأنّهم يأتمرون بأجندات أجنبية.

واذا كانت “نظرية المؤامرة” حاضرة بهذا القدر في السجال التركي الداخلي، فما القول حين يحضر هذا الانقسام التركي نفسه في خارطة الانقسامات العربية، لا سيما على خلفية السياسة التركية تجاه سوريا، كما على خلفية الاستقطاب بين اسلاميين و”مدنيين” في البلدان العربية التي طرقها “الربيع”؟

فبصورة معيّنة، سارع العرب المؤيدون للسياسة التركية تجاه المسألة السورية، الى اعتبار الاحتجاجات التركية في غير محلّها، أو تأتي في توقيت لا يناسبهم، وثمة من انساق وراء التفسير التآمري، ومن باب الخلط العشوائي بين الطائفة العلوية (النصيرية) في سوريا والاسكندرون وكيليكية وبين العلوية (الصوفية) الأناضولية، المتداخلة مع الطريقة البكتاشية، غير متنبهين الى انهم بذلك “يهدون” بشار الأسد إمرة على 15-20 مليون نفر، ليس منهم وليسوا منه.

أما المغتاظين من الدور التركي، وتحديداً الأردوغاني في دعم الثورات العربية، فانهم كانوا يجمعون بين التهليل لغزوة “حزب الله” الخمينوي في القصير، وبين حراك الشباب التركي دفاعاً عن حرياته الكحولية وغير الكحولية، وكان الاكثر هزلية في هذا المجال بيان “الحزب الشيوعي اللبناني” الذي قفز من فوق المذبحة السورية، ليتحدّث عن “جلاوزة اردوغان وعثمانيته”، وكان عليه ان يضيف الى “فظائع” الأخير، كلاً من “سفر برلك” ورمي الناس في البوسفور! هزلت.

والحال هذه، ثمة الكثير من الثرثرة عربياً، حول “عثمانية” أردوغان سواء للتحريض عليها، أو للحضّ عليها. هذا وهم عربيّ محض. فكما أنّ اهتمام تورغوت أوزال بآسيا الوسطى الناطقة بالتركية لا يمكن اعتباره استفاقة لـ”طورانية جديدة” كذلك لا يمكن اعتبار نزعة “النوستالجيا العثمانية” عند أردوغان بمثابة “عثمانية جديدة”، وهذه النزعة تأتي بمثابة الترجمة السياسية ولو المشوّهة للتبدّل الهائل في نظرة المؤرخين الى التاريخ العثماني وتشعّباته في العقود الأخيرة، بحيث اضحت عملية “تسويد” كل صفحاته والحديث عن “النير العثماني” مثلاً مهزلة، لم تقطع معها بعد مناهجنا الدراسية، وما زالت تفعل فعلها في رؤوس الممانعين (طبعاً كانت نظرتهم غير ذلك تماماً قبل ظهور موقف أردوغان من الثورة السورية، حينها كانوا يشنّعون على الأتاتوركية التي فصلت تركيا عن القضايا العربية!).

وهذا غيض من فيض عنوانه سوء معرفة العرب بكل من الحركة الاسلامية التركية من ناحية، وبالعلمانية الأتاتوركية من ناحية ثانية.

فالعلمانية الأتاتوركية لا تقوم على فصل الدين عن الدولة، بل على ربط الدين بالدولة، وتحديداً بمفوضية الشؤون الدينية التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، الراعية لشبكات مدارس الدعاء وللمؤسسات الدينية. مثالها اذاً تحديد “اسلام مرسّم” (أو رسمي) تنطق به الدولة، من دون ان يكون لهذه الدولة دين رسمي محدّد بموجب مادة دستورية. علماً ان ثبات التعليم الديني في المدارس العمومية، بمنهاج سني حنفي، حتى للمسلمين من غير السنّة ومن غير الأحناف، انما يظهر ان نفي وجود دين رسمي للدولة يحتاج الى تدقيق.

لكن بالنتيجة، تقوم “الكمالية” (نسبة الى مؤسس الجمهورية مصطفى كمال الذي عرف بلقب “الغازي” في أعقاب حرب الاستقلال وبلقب “أتاتورك” بعد ذلك بسنوات عديدة) بالجمع بين تحديد “اسلام رسمي” من جهة (تحديد من هو المسلم الجيّد يصبح من وظائف الدولة)، وبين افراز “دين مدني” قوامه الطقوس والأعياد الجمهورية، التي هي أمام استحقاق أساسي هذا العام، الذكرى التسعون لقيام الجمهورية. وهذه تتخللها مظاهر “عبادة شخصية” لأتاتورك (وهنا لا بأس من التذكير بأنّ عدنان مندريس و”الحزب الديموقراطي” المتهم بأسلمة النظام في الخمسينيات هما من اقرّا قوانين تجريم التعرّض لأتاتورك والأتاتوركية، وقمعا على هذا الأساس شيوخ الطريقة التيجانية).

هذا عن العلمانية الكمالية. أما الحركية الاسلامية التركية فهذه أيضاً عرضة للخلط العشوائي عندنا. هناك من يتسرّع بمقارنتها بالأحزاب الديموقراطية المسيحية الغربية، أي يعتبر ان استنادها الى الدين محصور في باب المرجعية الاخلاقية الثقافية المحافظة، وبعض مثالات العدالة الاجتماعية، وبين من يعيدها الى أحد فروع الشجرة “الاخوانية” الباسقة، التي تعتمد التدرّج للانتقال شيئاً بعد شيء الى دولة الشريعة.

في الواقع، اسلاموية أردوغان تختلف بنيوياً عن الديموقراطية المسيحية في أوروبا، لكنها لا ترمي لا الى دولة السلطنة، ولا الى دولة الخلافة، ولا الى دولة الشريعة. ونحن على عتبة الذكرى التسعين لقيام الجمهورية التركية، وفي ظل هذه الاحتجاجات غير المسبوقة، لا مناص للعودة الى الخلاف الذي نشأ منذ ذلك الوقت في تركيا، لتبيان طبيعة حركتها الاسلامية.

ففي أيام حرب الاستقلال، لاسقاط معاهدة سيفر الجائرة، كان لرجال الدين ومشايخ الصوفية دوراً أساسياً في دعم حركة كمال في الأناضول ومدّها بالحماسة والمال والرجال والسلاح، ولم يكترثوا بمواقف السلطان الخليفة في الأستانة ولا شيخ اسلامه. بالأخص كان هناك دور كبير لعبه شيوخ الطريقة النقشبندية، وقد أيّد كثيرون منهم الغاء السلطنة عام 1922 لصالح نظام دستوريّ.

لكن الأمور تبدّلت بعد الغاء الخلافة نفسها عام 1924، وقيام انتفاضة الشيخ سعيد بيران البالوي النقشبندي احتجاجاً على ذلك. هذه الانتفاضة كانت بطابع كردي غير متمّم، واشترك فيها شيوخ دون سواهم من الطريقة النقشبندية. لم تكن نزعتها الكردية انفصالية، لأن الحركة القومية الكردية الانفصالية لن تظهر بعد ذلك بعقود الا كنتيجة سحق هذه الانتفاضة من جهة، وكنتيجة، من جهة اخرى، لتلاشي نفوذ الطريقة النقشبندية، والصوفية عموماً، في المناطق الكردية.

بالتوازي، كان الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي، الذي حرص كمال على اشراكه في الجمعية الوطنية، بادئ ذي بدء، يبلور اتجاهاً آخر. فاذا كان النورسي كردياً ونقشبندياً هو الآخر، الا انه عارض القومة ضد مصطفى كمال، كما عارض النعرة القومية الكردية أساساً، وكان مقتنعاً تماماً بفكرة الدستور، وبفكرة الجمهورية، لكنه اختلف مع كمال في اثنتين أساساً: انه لا يمكن بلورة وحدة وطنية تركية بمعزل عن الوحدة الدينية، وانه لا يجوز فصل الدولة الوطنية عن روحية التضامن الاسلامي سواء في علاقتها مع مكوناتها أو في علاقتها مع جوارها. كذلك، تبرز كتابات الشيخ النورسي في “رسائل النور” وغيرها اتجاهاً لتطوير فكرة عن ذاتية الفرد الاسلامي، لا يمكن مقارنتها بهامشية هذا المبحث لدى رواد الحركة الاسلامية العربية، وقد قاده اهتمامه بمبحث الفرد للانقطاع عن الطريقة النقشبندية المبنية على قوة الرابطة بين الشيخ والمريد، وصولاً الى مجاهرته بأن زماننا لم يعد في الصوفية زمن انقياد مريد لشيخ، بل زمن الائمة المجدّدين، الذين يستوحون من نموذج الامام الغزالي. لقد عرّفه بـ”زمن الحفاظ على الايمان”.

واذا كان يؤخذ على النورسي انه اندفع اكثر من اللازم في رصد “الاعجاز العلمي في القرآن” الا انّه لم يضيّع وقته في رفض الفكرة الدستورية، ثم تقبّلها على مضض كما فعل الاسلاميون العرب. بل أنّ تمسكه بها كان في أساس خلافه مع الكماليين الذين سينتهي بهم المقام في مطلع الستينيات الى دفنه في جهة مجهولة، خوفاً من تحوّل ضريحه الى مزار. بهذا المعنى، يكون اخفاء معالم القبور شغلة العلمانيين، لا “السلفيين”، في تركيا.

يصعب ارجاع “العدالة والتنمية” الى “الجماعة النورسية” كما الى “جماعة فتح الله غولان”، بشكل شامل وأحاديّ، لكن، على الصعيد الذي يعنينا، ثمة تواشج أساسيّ، مبناه الافتراق الجوهري عن مقال الحركات الاخوانية العربية من ناحية، وعن مقال الاحزاب الديموقراطية المسيحية الاوروبية من ناحية ثانية.

هكذا، فان الحراك التركي يوسّع خارطة المجتمعات المشمولة بالنوبات الاحتجاجية او الانتفاضية او الثورية في الشرق الأوسط، لكنه يحلّ في مجتمع قطع شوطاً من التقدّم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي لم يقطعه أي مجتمع عربي، واختلفت فيه حركته الاسلامية منذ انطلاقتها عن الحركة الاسلامية العربية، في انها بالأساس ليست حركة احيائية لا لخلافة ولا لسلطنة، وان ظلّت تتحرّك في منطقة رمادية، فيما عنى التبني الكامل والناجز لحقوق الانسان بالمفهوم الغربي، وفيما عنى الفضاء العمومي وتكريسه. وهذه المنطقة الرمادية توسّعت الى حدود قضم حريات عامة وخاصة في السنوات الأخيرة، مستفيدة من تشوّه أساسي في الديموقراطية التركية: تعطّل آليات التداول على السلطة، بسبب عدم قيام نفضة ديموقراطية في صفوف العلمانيين وأحزابهم، اما العقائدية واما التي اكل عليها الدهر وشرب، وبسبب انتفاخ “الظاهرة الكاريزمية” الاردوغانية نفسها، بحيث صار اي دستور تسعى اليها هو دستور متهم سلفاً، وليس عن مبالغة فقط، بأنه دستور تخيّطه هذه الظاهرة على مقاسها.

في كل الحالات، النقطة المتقدّمة التي بلغها المجتمع التركي، باسلامييه وعلمانييه، وبالتحدّي الجذري المطروح بعد تسعين عاماً على قيام الجمهورية، انما تجعل من النافر، والنافر جدّاً بقاء نظام فئوي دمويّ على حدودها الجنوبية. لقد أظهرت الاحتجاجات الأخيرة لماذا كانت يد أردوغان مغلولة بعض الشيء، لأن من لا يستطيع قطع شجرة من دون ان يثير قنبلة احتجاجات، لا يمكنه ان يتصرّف بحرية عملية فعالة تجاه المسألة السورية. لكنها أظهرت أيضاً ان العلمانيين في تركيا يعيدون اكتشاف فكرة الديموقراطية لمحاصرة أردوغان بها في عقر داره، بعد ان سبقهم هو بأن حاصرهم بها يوم كانوا يستندون الى قبضة العسكر. واذا كان الأتراك يتنافسون، بضراوة، من يحاصر من بالديموقراطية، فان من الهذيان فقط تصور ان كل هذا ستستفيد منه “علمانية” نظام الملالي في ايران، و”ديموقراطية” بشار الأسد.

المستقبل

درس تركي

قبل أن يذبل الربيع العربي، كانت تركيا أشبه بمنارة للشرق المسلم. على ضفاف البوسفور، بدا الإسلام متصالحاً مع الديموقراطية، وبدا النزوع المحافظ إجتماعيا قادراً على التجاوب مع النمو الاقتصادي.

في تلك الأيام غير البعيدة، كان أردوغان ينظر إلى نفسه بصفته مرشداً جديداً لعالم اسلامي جديد يصفق له باراك أوباما، كما يصفق له الفلسطيني خالد مشعل والمصري محمد مرسي.

إن المنتفضين في ساحة “تقسيم” في قلب مدينة اسطنبول أظهروا حدود هذه الأوهام. فبعد احدى عشر سنة من تبوئه السلطة، استطاع حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي، أن يشدّد خناقه على المجتمع التركي، مدمّرا المكتسبات العلمانية التي أرساها أتاتورك، محطّما الأقليات الدينية، مقيّدا دولة القانون والحريات.

يريد أردوغان أن يقيم نظاماً إسلامياً. وغرضه يبدو جلياً في هيمنة وزارة الشؤون الدينية التي لا تخدم إلا مصالح الطائفة الأكثر عدداً، وتعيد إدخال الحجاب الى المجالات المختلفة، وتصدر أحكاما وعقوبات ضد عازف البيانو فاضيل ساي وتمنع الخمرة…

ولكن في نهاية الأسبوع الماضي تمرّد الأتراك على كل ذلك. من المبكر جداً التكلم عن ربيع تركي… ولكن التظاهرات التي قادها هؤلاء المتمرّدون تدلّ على أن مجتمعات الشرق الأوسط المتنوّعة والمتطورة، والمنفتحة على العالم، ليست مستعدة لقبول الحكم الاسلامي، الذي يدمّر مجالات الحرية المتاحة.

انه درس ثمين لأردوغان؛ ولكنه أيضا درس لكل الأنظمة التي ترنو الى إقامة إستبداد إسلامي، أكانت مصرية أو مغربية أو تونسية.

[فرنسوا سيرجان- افتتاحية صحيفة

“ليبراسيون” (3 حزيران 2013)

المستقبل

الحرب السورية تعبر الحدود إلى تركيا

سيريل تاونسند *

في 11 أيار (مايو) الماضي، تعرّضت قرية الريحانية على الحدود السورية التركية لتفجيرين بسيارتين مفخختين، أسفرا عن مقتل 51 شخصاً. وأثار هذا الحادث انزعاجاً كبيراً في أوساط رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وحكومته، فبدأا يفكّران منذ ذلك الحين في أفضل طريقة ممكنة لحلّ هذه المسألة.

وأصبح ضلوع الرئيس بشار الأسد وقوات الشرطة لديه في التفجيرين شبه مؤكّد،. ومن المعلوم أنّ تاريخ لبنان شهد عدداً كبيراً من التفجيرات المماثلة بالسيارات المفخخة على مرّ سنوات، وفي كلّ مرّة، كانت سورية تنفي علاقتها بها. وفيتموز (يوليو) من العام الماضي، أسقطت سورية طائرة استطلاع من طراز «فانتوم آر أف 4»، بعد أن زعمت أن هذه الطائرة خرقت الأجواء السورية. ويبدو أنّ وجهة نظر دمشق تفيد بأنّ التفجيرات بالسيارات المفخخة هي خير طريقة للثأر من تركيا.

وتواجه تركيا، شأنها شأن الدول الأخرى المجاورة لسورية، صعوبة كبيرة في معالجة مسألة اللاجئين السوريين، الذين يتوافدون بأعداد كبيرة إليها عبر الحدود. وأصبح عددهم يقدّر بأربع مئة ألف لاجئ، وقد يرتفع إلى مليون لاجئ قبل نهاية العام. كما تتعرّض السياسات التي يعتمدها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان تجاه سورية لانتقادات داخل تركيا، مع العلم أنّ دمشق كانت تدرك أن مدينة الريحانية تؤوي عدداً كبيراً من اللاجئين.

وفي 16 أيار الماضي، قام الرئيس التركي عبدالله غل بزيارة الريحانية، وأعلن قائلاً «لا شكّ في أنّ مساهمة المجتمع الدولي في المساعدة المالية التركيّة المقدَّمة للأشخاص الذين يعانون وضعاً صعباً هي رمزية وحسب».

ولا شكّ في أنّ الشعور ذاته يراود الأردنيين. فنادراً ما يكون الدعم الدولي للاّجئين كافياً، في ظل المشاكل الاقتصادية الجمّة التي تواجهها دول كثيرة. وترغب تركيا في تنظيم نقل جوي لبعض اللاجئين إلى مناطق أخرى، حين يتمّ إيجاد أماكن محتملة لإيوائهم، ويتمّ إعلام السكان المحليين بذلك. وفي الواقع ستتفاقم مشكلة اللاجئين بكل تأكيد إلى حد كبير على خلفية استمرار النزاع الدامي في سورية.

وبالتالي، توجّه رئيس الوزراء أردوغان إلى واشنطن لإجراء محادثات مع الرئيس باراك أوباما، في أول زيارة له إلى البيت الأبيض منذ العام 2009. وتربط الرجلين علاقة ممتازة، ومن المعلوم أنهما على تواصل مستمر هاتفياً. وتعدّ تركيا دولة ديموقراطية – في منطقة من العالم تُعرف بميولها البعيدة نسبياً عن الديموقراطية. كما أنّها تؤيد المبادرات الحرّة وتسمح بحرية التعبير. وقد أعلن نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في هذا الصدد:

«نحن ننظر إلى تركيا على أنها البوابة والجسر اللذان يربطان بين الشرق والغرب. كما أنها تملك تأثيراً بالغ الأهمية».

وتتوق تركيا لشراء طائرات عسكرية وأخرى من دون طيار من الولايات المتحدة. ويشار إلى أنّ انعدام الأمن في منطقة الشرق الأوسط عموماً، والخطر النووي المحتمل الذي تفرضه إيران، هما أمران يدفعان البلدين إلى التقارب. ويسعى البيت الأبيض جاهداً لدفع تركيا وإسرائيل إلى التقارب، عقب سنوات من الخلاف بين الدولتين، لا سيما حول قطاع غزة.

وفي البيت الأبيض، طلب رئيس الوزراء التركي مساعدة واشنطن لمنع النزاع السوري من الانتشار إلى خلف الحدود. وردّ الرئيس أوباما بحذر قائلاً، إنّ الولايات المتحدة «ستستمر في مساعدة دول المنطقة، بما فيها تركيا». كما ناقشا التقارير الاستخبارية التي تشير إلى أنّ نظام الأسد استخدم كميات قليلة من غاز السارين الكيماوي المؤثر في الأعصاب، مع العلم أنّ اتفاقاً كان يؤكّد ضرورة عدم استخدام الأسلحة الكيماوية في سورية.

إلا أنّ أوباما يضع ثقله لعقد مؤتمر للسلام تحت إشراف الأميركيين والروس. وهذا أيضاً هو هدف المملكة المتحدّة، مع أن أدلة قليلة جداً تشير إلى استعداد روسيا لإجراء محادثات جدية وتقديم التنازلات. كما أن من المستبعد الحصول على إذن من مجلس الأمن الدولي يسمح بإزالة الأسلحة الكيماوية السورية من البلاد لأنّ ذلك يتطلّب دعم روسيا والصين.

وكتبت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية في 18 أيار، أنّه «بغضّ النظر عن السيناريو المحتمل الذي سيتم اعتماده، من شبه المؤكد أن مصادرة الأسلحة الكيماوية أو تدميرها هي أمور ستتطلّب وجود قوات ميدانية (مع أنّه لن يكون احتلالاً كاملاً) واستخدام الغارات الجوية التي قد تتسبّب بانتشار بعض السموم. إلى ذلك،لا ثقة كبيرة لدينا بأنّه سيتمّ العثور بسرعة على كل مكان يحتوي على هذا النوع من الأسلحة».

ويبدو الرئيس أوباما محقاً تماماً في الإقرار بأهمية تركيا في المنطقة، وهو يسعى لثني تركيا، ومعها إسرائيل، عن القيام بأي تحرّك عسكري في الوقت الحالي. وبفضل قيادتها السياسية الحكيمة، راحت تركيا تكتسب أهمية ونفوذاً كبيرين. وقد ساعدها على ذلك اقتصادها المتنامي وتفاديها بحكمة الوقوع في ديون كبيرة كما هي حال عدد كبير من الدول الغربية.

وترغب دول حلف شمال الأطلسي، بما فيها تركيا طبعاً، في أن تقود الولايات المتحدّة المساعي الدولية لحلّ الأزمة في سورية. وقد تظن واشنطن أنّ روسيا بدأت تشعر بالقلق، شأنها شأن الولايات المتحدة، من النفوذ المتنامي للمتطرّفين الإسلاميين في سورية. ولا بدّ أنّ موسكو، التي تواجه مشاكل تقليدية مع المقاتلين الإسلاميين، لاحظت إلى أي مدى اشتدّ القتال بقيادة المجموعة المتطرّفة «جبهة النصرة»، لدعم الثوّار في حمص.

إنّ أكثر ما يثير القلق هو الشعور بحصول انجراف داخل المجتمع الدولي والآمال الضئيلة بتحسّن الأمور. ويساهم المزيد من التأخّر في الردّ على الأحداث في سورية في زيادة الخطر إلى حدّ كبير. ويذكر جيلنا جيّداً كيف استخدم صدام حسين الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، ما أدى إلى مقتل مئات الأشخاص.

* سياسي بريطاني ونائب سابق

الحياة

هل اصابت لعنة سورية تركيا؟

رأي القدس

لا بد ان الرئيس السوري بشار الاسد والدائرة الضيقة المحيطة به هم اكثر الناس سعادة بانفجار المظاهرات واحداث العنف التي سادت العاصمة التركية انقرة وعدة مدن اخرى بينها اسطنبول وازمير وبدروم طوال الايام الثلاثة الماضية.

ما يسعد الرئيس السوري على وجه الخصوص هو اتهام السيد رجب طيب اردوغان رئيس الوزراء التركي جهات داخلية وخارجية بالوقوف خلف اعمال الشغب هذه، لانه، اي الرئيس السوري استخدم العبارة نفسها، والتوصيف نفسه لتبرير استخدام الحلول الامنية في مواجهة اضطرابات مماثلة استهدفت حكمه انطلاقا من مدينة درعا في بداية الازمة السورية.

المقارنة بين النظامين السوري ـ التركي في غير محلها على الاطلاق، فالنظام التركي نظام ديمقراطي برلماني، محكوم بفصل كامل بين السلطات الثلاث، ومدعوم بحريات تعبير واحترام حقوق الانسان، ومحم بقضاء مستقل، وهذه المواصفات جميعا غير متوفرة في النظام السوري في الوقت الراهن، وتشكل المطالب الاساسية للمعارضة المطالبة بالتغيير الديمقراطي.

التدخل الخارجي الذي تحدث عنه السيد اردوغان ومن قبله الرئيس الاسد غامض في البلد الاول وواضح في الثاني، فدول عديدة تقاتل حاليا على الارض السورية، بشكل مباشر او غير مباشر، ومن بينها قطعا وللمفارقة الحكومة التركية نفسها التي تدعم المعارضة السورية، وتسهل وصول الاسلحة والاموال الى مقاتليها في العمق السوري، وتفتح ابواب اسطنبول لاستضافة مؤتمراتها واجتماعاتها القيادية.

السيد اردوغان لا بد انه كان يضع النظام السوري نصب عينيه وهو يشير باصبع الاتهام الى اطراف خارجية تتدخل في بلاده وتصب الزيت على نار المظاهرات الاحتجاجية، وربما يكون مصيبا، جزئيا او كليا، في هذه الاتهامات، فقد اكد ان السيارات المفخخة التي انفجرت مؤخرا وادت الى سقوط العشرات، قتلى وجرحى، في مدينة الريحانية جنوب تركيا هي من فعل جماعات تحظى بدعم هذا النظام. وهي اتهامات نفتها دمشق رسميا.

صحيح ان الاحتجاجات بدأت في اسطنبول بسبب عزم السلطات التركية اقامة مجمع تجاري وبناء مسجد في وسط حديقة عامة قرب ميدان تقسيم نقطة الجذب الرئيسية للسياح الاجانب في المدينة التاريخية، ولكن حجم الاحتجاجات وعنفها، وامتدادها الى مدن اخرى يشير الى وجود حالة احتقان سياسي جاءت خطة بناء المجمع التجاري المفجر له.

الرئيس التركي عبدالله غل طالب المحتجين بالهدوء واحترام القانون واللجوء الى القنوات الشرعية، اي البرلمان والصحف والمحاكم للتعبير عن مطالبهم، ولكن هذا الصوت العاقل لم يجد الصدى المطلوب حتى هذه اللحظة رغم حدوث هدوء نسبي في بعض المدن.

المعارضة التركية التي يتزعمها حزب الشعب الجمهوري الخصم الاكبر للسيد اردوغان وحزب العدالة والتنمية الاسلامي الذي يتزعمه، بدأت تزداد مع ظهور نوايا السيد اردوغان لتعديل النظام الحاكم في انقرة من نظام برلماني دستوري الى نظام رئاسي يتمتع فيه رئيس الجمهورية بصلاحيات واسعة على غرار النظام الامريكي او الفرنسي بمعنى اصح. فالولاية الحالية هي الاخيرة بالنسبة الى السيد اردوغان كرئيس للوزراء، ولهذا يريد تعديل الدستور وبما يمهد له الطريق دستوريا لكي يصبح رئيسا لتركيا بعد بضع سنوات.

ما يقلق المعارضة ايضا، انه وبعد فوز حزب العدالة والتنمية بثلاث دورات انتخابية، والحصول على اغلبية في البرلمان اهلته لتقليص دور العسكر، وتقزيم دور المحكمة الدستورية وتعديل بعض بنودها التي تسمح بالانقلابات العسكرية تحت عنوان حماية الجمهورية، ومنع الاسلام المتشدد من الوصول الى الحكم، بدأ السيد اردوغان يطبق مبادئ الشريعة تدريجيا مثل اصدار قانون يحظر بيع الخمور في البارات، والقيام باجراءات لفرض بعض القيود على الحريات الاعلامية.

السيد اردوغان حقق انجازات كبرى لتركيا يحق له ان يتباهى بها، فقد جعلها القوة الاقتصادية رقم 17 في العالم، وسدد جميع ديونها الخارجية التي وصلت الى 34 مليار دولار عندما تولى حزبه الحكم، ورفع مستوى الدخل الفردي من ثلاثة آلاف الى 11 الف دولار، وحقق الاقتصاد التركي في عهده نسبة نمو تزيد عن سبعة في المئة سنويا، ولكن بعض جوانب سياسته الخارجية، وبالتحديد في الجوار السوري، خلقت ثغرات استغلتها المعارضة ودول خارجية ضده، فهناك روسيا، وهناك سورية، وهناك ايران، وهناك بعض الدول الاوروبية التي ما زالت تشعر بالغيرة من هذه الدولة المسلمة الصاعدة في الفناء الاوروبي.

حذرنا اكثر من مرة من ان الازمة السورية ستنزلق الى دول الجوار ان آجلا او عاجلا، فها هو لبنان على حافة الحرب الاهلية ان لم يكن في صلبها، وها هي تركيا الدولة الاكثر تحصينا تصلها ألسنة اللهب السوري بطريقة او باخرى، وها هي البحرين تعيش بعض التفجيرات التي اوقعت بسبعة من رجال الامن جرحى، ولا نعتقد ان دول الخليج الاخرى ستكون في مأمن. والشيء نفسه يمكن ان يقال عن الاردن، وربما ايران نفسها.

لعنة العراق حلت على امريكا، ولعنة افغانستان اودت بحياة بنازير بوتو واضعفت باكستان، فهل يمكن ان نقول ان لعنة سورية حلت على تركيا ايضا وستحل على دول اخرى في الطريق؟

القدس العربي

مسؤولية أردوغان عن الربيع العربي

الياس حرفوش

كيفما نظرنا إلى الاضطرابات الأخيرة في تركيا، من الصعب قراءة هذه الأحداث خارج السياق الذي تجري فيه أحداث المنطقة والثورات التي قامت في وجه عدد من الأنظمة خلال العامين الماضيين، وصولاً الى الانفجار الحالي الذي يواجهه النظام السوري.

خرجت التظاهرات الحاشدة في شوارع المدن التركية للاحتجاج على السياسات الحكومية. وبلغت في بعض الحالات حد المطالبة بإسقاط حكومة رجب طيب اردوغان. وهو ما اعاد إلى الذاكرة النداءات التي طالبت بإسقاط الأنظمة في عواصم «الربيع العربي». بعض الاحتجاجات التركية أسبابه مباشرة تتعلق بإعادة تنظيم قسم من ساحة «تقسيم» الجميلة في قلب إسطنبول، وهو مشروع طرحه حزب «العدالة والتنمية» في برنامجه التي ترشح نوابه على أساسه في الانتخابات الأخيرة، وحصل على موافقة الناخبين. والبعض الآخر أسبابه متراكمة، لها علاقة بالاعتراض على سياسات اردوغان الموصوفة بمعاداتها للعلمانية وبأسلمة الدولة وبإبعادها عن ركائزها الأتاتوركية، وهو اعتراض يقوده حزب «الشعب الجمهوري» المعارض، وعمر هذا الاعتراض ليس جديداً، بل هو من عمر وصول حزب اردوغان إلى الحكم قبل اكثر من عشر سنوات. ولهذا فمن السذاجة تجاهل العنصر الخارجي الذي ساهم في اشتعال أحداث كهذه في هذا الوقت، على خلفية الدور التركي في الأزمة السورية. وقد ظهر هذا العنصر بوضوح من خلال التفجيرات الأخيرة في بلدة الريحانية الحدودية.

لهذا السبب يأخذ الحدث التركي هذا الحجم، ويُنظر اليه من خلال بعده الإقليمي، بدل اعتباره مجرد حدث محلي، يمكن ان يحصل في أي مدينة غربية. وقد حصلت بالفعل مواجهات مشابهة في أوقات سابقة في عدد من المدن الأوروبية، من بينها باريس ولندن وروما وبرلين، وكانت أسبابها تتصل باحتجاجات وتظاهرات على سياسات حكومية، وتمت مواجهتها بعصي الشرطة وبخراطيم المياه، كما تم اعتقال أعداد كبيرة من المتظاهرين، بعد قيامهم بارتكاب اعتداءات على الأملاك العامة والخاصة.

غير ان ربط اضطرابات تركيا بالأحداث العربية يعود الى الدور الداعم الذي لعبته تركيا بقيادة حزب «العدالة والتنمية» في الانقلابات على الأنظمة العربية، وهو ما تعزز بالمواقف التصعيدية التي اتخذها اردوغان تجاه صديقه القديم رئيس النظام السوري. لهذا السبب وجد من تبقى من مناصري الأنظمة التي سقطت ان اضطرابات تركيا توفر فرصة ذهبية للشماتة بأردوغان وبحزبه، وذهبوا الى إطلاق عبارة «الربيع التركي» على المواجهات في المدن التركية، فيما لم يتردد وزير إعلام النظام السوري في دعوة اردوغان إلى «التنحي» بسبب سياسته «القمعية» ضد شعبه! … وقاحة ما بعدها وقاحة.

هكذا كانت الحملات التي قامت بها الشرطة التركية ضد المتظاهرين سبباً لانتقاد ما جرى وصفه بـ «دكتاتورية» اردوغان. كما اتسعت دائرة الانتقادات لتشمل الأحزاب الإسلامية الحاكمة، في تونس ومصر خصوصاً، والتي تنظر الى حزب «العدالة والتنمية» كنموذج لها في الحكم، وللتحذير مما سيؤول اليه الأمر في سورية اذا سقط النظام فيها! وضمن هذا المنطق، الذي يقلب الوقائع رأساً على عقب، في اطار «التحليل»، تصبح الأنظمة التي راحت ضحية «الربيع العربي» أنظمة «ديموقراطية»، بينما يوصف الحزب الذي وصل الى الحكم ثلاث مرات عن طريق الانتخاب حزباً «دكتاتورياً»!

وبصرف النظر عن هذا «التحليل» الأعوج الذي تتميز به مع الأسف بعض كتابات الإعلام العربي، فإن حزب اردوغان يتحمل مسؤولية كبيرة عن نجاح تجربة الحكم الإسلامي في تركيا، كما في الدول العربية التي تنظر أنظمتها الى أنقرة كنموذج صالح للاستفادة من تجربته. من هذا المنطلق يجب التركيز على الطريقة التي يتعامل بها «العدالة والتنمية» مع احتجاجات الداخل التركي ومع الانتقادات الخارجية. فعندما يصف اردوغان المتظاهرين بـ «الرعاع»، وعندما يتهم المعارضين بتلفيق الأكاذيب ويهدد بنزول مليون شخص من مؤيديه الى الشوارع رداً على خصومه، فإنه لا يفعل سوى اداء خدمة كبيرة لمنتقديه، كما يلحق ضرراً بالغاً بتجربة الحكم التي يقودها في بلاده، كما بالتجارب الإسلامية الأخرى التي تسعى الى الاحتذاء به.

والسؤال الذي يواجه الحكم التركي هو مدى قدرته على تحمّل الصوت المعارض والتعايش معه. انها تجربة نجح فيها اردوغان حتى اليوم إلى حد كبير. ويفترض الاّ تسقط الآن تحت ضغط قوى الداخل والخارج التي تتربص بها.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى