صفحات العالم

مقالات تناولت الحرب علي “داعش”

نفط «داعش» يتدفق على الجميع… وقبحه بلغ وجوهنا/ حازم الامين

فجأة، استيقظ العالم على «اقتصاد داعش» بصفته مدخلاً لتجفيف منابع التنظيم. إنه العالم نفسه الذي صنع لـ «داعش» اقتصاده، وجعل له موقعاً في دوراته الموازية، ها هو يعود ليصنع صورة لاقتصاد التنظيم الإرهابي موازية في قبحها للصورة التي صُنعت للتنظيم في السنوات الثلاث الفائتة.

ها هو العالم يقصف اقتصاد «داعش»، وتبث محطات التلفزيون صوراً ملتقطة من الطائرات المقاتلة لقوافل من الصهاريج التي تتحول أثناء عرضها حرائق وهباء وغباراً. وفي هذه الأثناء، يتهم النظام السوري تركيا بالمتاجرة بالنفط مع «داعش» فتردّ أنقرة بأن لديها وثائق تؤكد أن علاقة نفطية تربط التنظيم الإرهابي بالنظام في دمشق، وتتضامن واشنطن مع تركيا فتكشف أسماء رجال أعمال قريبين من بشار الأسد يتولون التوسط بين النظام والتنظيم، وتُدرجهم في لوائح عقوباتها.

والحال أن كل ما ورد صحيح. نفط «داعش» يتدفق على الجميع، وسعر البرميل الواحد أقل من نصف سعره العالمي. النظام يتزوده عبر أنابيب النفط الممتدة من حقول شرقي سورية إلى دمشق، وتركيا عبر تجارٍ وسطاء يعبرون به الحدود. كذلك يُلبي نفط «داعش» حاجات المناطق التي يسيطر عليها أعداء «داعش» من فصائل المعارضة السورية، خصوصاً في محافظة إدلب. وقوافل الصهاريج التي شاهدناها تحترق بعد أن قصفتها طائرات التحالف في حقل دير الزور، ليست لـ «داعش» إنما لزبائنه من المواطنين السوريين الذين يتقاطرون لشراء نفطـ «ـه» وبيعه في مناطق مختلفة من سورية وتركيا.

ومثلما كشفت الوقائع أن التنظيم توطن في المناطق التي يسيطر عليها، وأقام علاقات متفاوتة بين الجماعات الأهلية في تلك المناطق، وهذا مغاير للصورة التي رسمت له بصفته وحشاً غريباً يفترس كل من يقع تحت أنظاره، أقام التنظيم اقتصاداً هو استمرار لنوع من العلاقات الزبائنية السابقة على نفوذه وسلطته، ووفقاً لمنطق العرض والطلب، وللاستثمار في الحاجات. فصوامع القمح في محافظتي الرقة ودير الزور لا تعمل وفق منطق الانقسام والحرب الدائرة هناك. من يريد قمحاً عليه أن يشتريه، مهما كانت هويته، وإلى أي طرف انتمى في الحرب الدائرة. لوزارة الاقتصاد السورية في دمشق علاقات تجارية مع التنظيم، ولفصائل «جيش الفتح» في إدلب أيضاً. وبما أن الأسعار تبلغ نصف مستواها السوقي، فإن الإتجار مع «داعش» أكثر إغراء وإدراراً للأرباح.

لا أحد بريء عندما نتحدث عن اقتصاد التنظيم المتوحش. لا بل إنه في هذه اللحظة يكف عن كونه متوحشاً وقبيحاً. العلاقة الزبائنية تفرض شروطاً مختلفة، وهو إذا ما قتل سائق الصهريج الآتي إليه من إدلب ليشتري نفطاً، فسيكف سائقو الصهاريج عن القدوم وسيخسر زبائن يحتاجهم لاقتصاده. كما أنه إذا ما أخل بالكميات التي يُرسلها للنظام في دمشق عبر الأنابيب فلن يُسدد له النظام أثمانها.

هذا ليس «اقتصاد داعش»، إنه اقتصاد التنظيم واقتصاد السكان في دولته واقتصاد الجماعات المجاورة. ثم إن «داعش» لم يُفكك البنية الاقتصادية والخدمية التي ورثها عن النظامين السوري والعراقي في المناطق التي انقض عليها في هذين البلدين. حقول النفط ما زالت تُدار من المهندسين والعمال أنفسهم، وهو لم يأت بخبراء زراعيين لإدارة صوامع القمح، وهذا ما يجعل استهداف «اقتصاده» موازياً لاستهداف البنية الخدمية المحلية، ويحوّل الطائرات التي تطارد الصهاريج إلى مخلوقات معادية في وعي السكان.

ثمة بطء متعمد في الإنجاز تشهده الحرب على «داعش». الأطراف المتورطون في الحرب وفي الاقتصاد وفي الغنائم لا يشعرون بالحاجة إلى نصر وشيك على التنظيم. تركيا لديها أولويات قبل تحقيق النصر عليه، بدءاً برأس النظام في سورية ووصولاً إلى حزب العمال الكردستاني. النظام في سورية وإيران وروسيا ستفقد بهزيمة التنظيم عدواً ضرورياً في الحرب الإقليمية. الغرب قبل تفجيرات باريس كان منشغلاً عن المنطقة بأزماته وتحولاته، وهو بعد التفجيرات يعيش تحت وطأة صدمة لم تُحدث تحولاً جوهرياً في الحرب على التنظيم. وفي هذا الوقت يوغل «داعش» في البنية الاجتماعية والاقتصادية المحلية، ويتحول بقبحه ووحشيته إلى جزء من تركيبة معترف بدورها في الاقتصاد والاجتماع وأنماط العيش والاستهلاك، ومن المرجح أن يُعترف لها بحقها في موتنا وفي تعميم قبحها على وجوهنا طالما أنه لا يعيق جريان هذه الوظائف.

هنا يكمن الثمن الموازي لبطء الحرب على «داعش»، أي في توطنه وتحوله قوة «عادية» ومتمكنة من إدارة مصالح تتعدى المناطق التي يسيطر عليها. أما الرعايا فسيتحولون في تعاملهم مع الأمر الواقع إلى كائنات مطوَّعة، على نحو ما طوع البعث رعاياه. وما التهويل بفظاعة سلطة «الخلافة» سوى صورة عن الانقسام، وتحت هذه اللغة تُجري الدول والقوى والفصائل والعشائر صفقاتها. فكل أهل الموصل يعرفون أن التنظيم احتل مدينتهم قبل سنة من الموعد الرسمي لاحتلالها، وأن الحكومة العراقية كانت تعرف أنه يجبي الضرائب منهم منذ 2013. وكل سكان المحافظات الشرقية والشمالية في سورية يعايشون يومياً الصفقات بين التنظيم والنظام.

الخطر يكمن في أن تتحول الحرب على «اقتصاد داعش» حرباً على اقتصاد السكان. فالصقيع الآتي إلى ادلب هذا الشتاء لن يُساعد في تحمله سوى «نفط داعش» المخفوض الأسعار، ويصح ذلك جزئياً على دمشق، وكل يوم يمر من دون هزيمة التنظيم سيساعده في التعامل مع الحاجات العادية لـ «رعاياه»، وسيزيد ذلك من إمكان قبوله قوة عادية.

حتى الآن، الحرب الفعلية هي في مكان آخر. هي بين موسكو وأنقرة، وبين طهران وأنقرة أيضاً. «داعش» الذي يُراد لنا أن نكون صورة عن قبحه ليس سوى قناع في هذه الحرب. يتوغل الجيش التركي في العراق فتنتفض حكومته لكرامتها الوطنية، بينما تعبر الصواريخ الروسية من فوق أرض بلاد الرافدين مقفلة المطارات من دون أن تنبس «حكومة الكرامة الوطنية» ببنت شفة. هنا، في هذه المعادلة يكمن الجوهر الفعلي للصراع، وتحته يجرى اقتصاد وتجرى صفقات ويكون برد وسلام.

الحياة

 

 

 

ترامب ولوبان خير صديقين لـ”داعش”/ عبد الرحمن الراشد

في سبيل محاربة العنصرية والكراهية وصلت دولة مثل النمسا إلى حد منع كل ما يرمز إلى النازية، حتى في لوحات السيارات تمنع طباعة مثل رقمي «88» لأنها توحي بحرفي تحية «هايل هتلر»، وكذلك «1919» و«18»، وأيضا «AH» لأنهما حرفان لاسمي أدولف هتلر. والنازية أقصى حالات التمييز ضد كل من ليس أبيض آريًا، وينشط أتباعها حاليًا بدعوى مواجهة اللاجئين والمسلمين ومحاربة الإرهاب. بالمثل، النمسا منعت استخدام حروف اسم «ISIS» (داعش).

هذه سياسات حكومات تعلمت الدرس من التاريخ القريب فتحاول تقليص مساحة التحريض العنصري، وتسعى لمنع تكراره. لكن بعض الساسة ينحدر في لعبة جمع الأصوات الانتخابية واطئًا قيم المجتمع والإنسانية، بالتعريض بأديان الآخرين أو أعراقهم. وطمعًا في الفوز السياسي، هم اليوم يحرضون ضد المسلمين، وغدًا ضد السود، وبعده اليهود، والصينيين… وهكذا. وتنعكس على دعاة الخطاب الآخر عند المسلمين وغيرهم، فالعنصرية القبيحة عندما تنزلق لا قاع لها.

ومع قَص شريط سباق الانتخابات، ها نحن أمام نموذجين لشخصيتين انتهازيتين سياسيتين شغلتا بلديهما؛ دونالد ترامب في أميركا، ومارين لوبان في فرنسا، وهما يرفعان قدر الضغط في داخل المجتمع وتتعدى أضرارهما لما هو أبعد من ذلك. فالذين يظنون أن المسلمين وحدهم المتضررون من التحريض العنصري هم في الحقيقة مخطئون، الضرر أعم. جماعات تقوم على التعصب والكراهية، مثل «داعش»، أيضًا تعيش على مثل خطاب ترامب ولوبان العنصريين. فنحن اليوم نعيش في كوكب متشابك صار مثل غرفة جلوس واحدة، نشاهد نفس الصور والفيديوهات والأخبار والتعليقات، سواء قيلت في نيويورك الأميركية أو الرقة السورية!

ولنتذكر أنه قبل هجومه العنصري على المسلمين، سبق لترامب أن افتتح حملته الانتخابية بالهجوم على المهاجرين من أصول إسبانية. واعتبره الكثير من الناس، في البداية، مجرد مرشح سخيف، ولم يأخذوه على محمل الجد، وهناك من وصفه بأنه مرشح مؤقت وأن خفة ظله وتسريحة شعره تعطي الانتخابات المذاق اللاذع والبهارات المطلوبة.

وكنت في فلوريدا الصيف المنصرم، عندما شن حملته على ذوي الأصول الإسبانية، حيث احتقنت مشاعر الغضب ضده في هذه الولاية المزدحمة بمهاجرين، أو من هم من أصول كوبية أو من دول أميركا اللاتينية. لاحقًا، حاول ترامب تعديل لهجته، وفي الأخير توقف عن انتقادهم، لكنه ترك جرحًا مفتوحًا. وقبل أيام ردت عليه منافسته هيلاري كلينتون باستنكار: «لم تعد مضحكًا…». ترامب صار ظاهرة ورقمًا كبيرًا في الاستبيانات الانتخابية للرئاسة رغم أنه بقي عليها نحو عام!

وقد لا يكون عنصريًا، كما يقول، لكن همه الفوز بأصوات الناخبين بغض النظر عن الأسلوب والنتيجة، وهذا أسوأ. وقد لا يسعى إلى تحقيق ما وعد به لو صار رئيسًا، والحقيقة أنه لا يستطيع، مثل تمييز مسلمي أميركا داخل البلاد عن غيرهم لمراقبتهم، وحظرهم من السفر جوًا بحجة منع الإرهاب. وحتى لو تراجع عن أقواله القبيحة، فإنه بكل أسف يشيع خطاب الكراهية الذي يحرض على الصدام ويبقى في النفوس لعقود طويلة.

مارين تسير على خطى أبيها، جين ماري لوبان، أشهر دعاة التمييز العنصري في فرنسا، لكن، ورغم كل ما قاله وحرض عليه، فإنه فشل خمس مرات في الانتخابات الرئاسية، حيث رفضت انتخابه أغلبية الشعب الفرنسي. ونرجو أن يستمر في رفض العنصريين رغم تزايد دعاة الكراهية من متطرفي الفرنسيين وتصاعد العمليات الإرهابية من المحسوبين على الإسلام. مع هذا ثقتنا في أن النظام، وأخلاقيات الشعب الفرنسي لن تسمح لها، كما رفضت أباها من قبل.

وكذلك في أميركا، نحن نعرف أن معظم ما يعد به ترامب لا يستطيع تحقيقه إن فاز وسكن البيت الأبيض، لأنها وعود غير دستورية، والدستور أعلى من كلمة أي مسؤول، بما في ذلك رئيس الولايات المتحدة نفسه. فالدستور الأميركي هو حامي المواطنين على اختلاف فئاتهم، ويحرم صراحة التمييز، وهو المرجع العدلي الأخير من خلال المحكمة العليا. وبعد أحداث هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الإرهابية وتبعاتها، كسب المسلمون الأميركيون معظم التظلمات التي رفعوها في المحاكم ضد أفراد وشركات ومؤسسات حكومية عاملوهم بتمييز يخرق حقوقهم كمواطنين. لكن ومع ثقتنا في العدالة الأميركية، نرى أن خطاب الكراهية الذي تنقله محطات التلفزيون بحجة أنه صادر عن مرشحين سياسيين مسؤولين عن كلامهم، لا يخدم سوى المتطرفين في كل مكان. فالمسلمون هم أكثر تضررًا من أفعال إرهابيين مثل «داعش»، التنظيم الذي يستخدم ما يحدث في الغرب أيضًا لتبرير جرائمه.

الشرق الاوسط اللندنية

 

 

 

ملهاة الحرب على “داعش”/ خالد الدخيل

يبعث الأمر على الغرابة والدهشة. الولايات المتحدة، وتحديداً إدارة أوباما، لا ترى في كل الحروب ومظاهر عدم الاستقرار في الشرق الأوسط إلا «داعش»، وانطلاقاً من ذلك شكلت له تحالفاً من ستين دولة. من ناحيتها، عندما قررت روسيا دخول المسرح السوري قالت إنها إنما جاءت لمحاربة «داعش». عملياً هي لا تحارب هذا التنظيم، وادعاؤها عكس ذلك هو لتغطية حقيقة أنها جاءت لدعم الرئيس بشار الأسد. محاربة «داعش» باتت نوعاً من الموضة السياسية للعالم هذه الأيام. قبل أسابيع وجّه هذا التنظيم الإرهابي ضربة موجعة إلى باريس، فانضمت فرنسا إلى الحرب عليه في سورية. بريطانيا هي آخر الملتحقين. الرئيس السوري بشار الأسد ساهم في تسهيل ظهور «داعش»، وتغاضى عنه. لماذا فعل النظام البعثي ذلك وهو من أكثر الأنظمة التي عرفتها المنطقة حرصاً وشمولية وسلطوية ودموية؟ بعد انفجار الثورة باتت الأولوية لإبعاد اهتمام العالم والناس في الداخل والخارج عن النظام وما يقوم به من قمع وقتل وسجن للمعارضين والمتظاهرين. تسهيل مهمة «داعش» يجعل من النظام البعثي الخيار الأفضل للعالم في مثل هذه الظروف المضطربة. ومع أن روسيا آخر من تدخل عسكرياً في سورية، إلا أنها أول وأسرع من التقط هذه الإشارة ورسم حدود حربه هناك على أساسها.

ما الذي يجمع بين كل هذه الدول المتناقضة في أهدافها وأيديولوجياتها وسياساتها بحيث جعلها تجتمع على موقف واحد من ظاهرة الإرهاب، يتمثل باختزال الظاهرة في تنظيم واحد اسمه «داعش»؟ ليس هناك أدنى شك بأن هذا التنظيم من أخطر التعبيرات الإرهابية وأشدها توحشاً، وبالتالي لا شك في أن القضاء عليه أولوية تسبق سواها من الأولويات. الإشكالية ليست هنا، وإنما في حقيقة أن القضاء على «داعش» هدف معلن لكل الأطراف، لكن يبدو أنه هدف غير قابل للتحقيق، ليس في القريب العاجل على الأقل. لماذا؟ ليس بسبب ما يمتلكه «داعش» من القدرات والإمكانات، وإنما بسبب طبيعة السياسات وشكل التحالفات المرسومة لما يقال إنه هذا الهدف وليس سواه. لاحظ الجملة التي يستخدمها الرئيس الأميركي باراك أوباما عند الحديث عن سياسة إدارته تجاه تنظيم الدولة. يقول إن هدف إدارته يقوم على «إضعاف هذا التنظيم كسبيل للقضاء عليه»، ومعنى ذلك أن واشنطن لا تريد صراحة القضاء على «داعش» بضربة سريعة وقاضية، كما فعلت مع نظام الرئيس الراحل صدام حسين، هي تريد عملية متصلة تبدأ من إضعاف قدرات التنظيم، وانتهاء بالقضاء عليه. ومن الواضح أن هذه عملية طويلة وبطيئة بدأت صيف 2014، ولا تزال مستمرة بعد مرور أكثر من عام ونصف العام عليها. قبل أكثر من شهرين دخلت روسيا في حرب منفصلة عن التحالف ضد التنظيم نفسه في سورية، ومثل التحالف بقيادة واشنطن، ترفض روسيا إرسال قوات برية لمحاربة التنظيم، وتكتفي بتوجيه ضربات محدودة له، خصوصاً خارج مدينة الرقة التي يعتبرها التنظيم عاصمةَ ما يسميه في الإقليم السوري «خلافته الإسلامية».

وسط هذه الصورة الغامضة يبرز سؤال غامض يراود الجميع عن مبرر عدم الاستعجال في إنهاء فصل «داعش»، على رغم زخم وكثافة الحديث عن وحشيته وخطورته على الجميع. الحقيقة أن بقاء التنظيم بقدراته ووحشيته حاجة سياسية لأطراف مختلفة. أميركا تحتاج إليه كأداة ضغط على الحكومة العراقية، والنظام السوري، وإيران بدورها تحتاج إلى «داعش» لتمرير فكرة أنها تحارب التكفير والتطرف في المنطقة من خلال الميليشيات المرتبطة معها. بالمنطق نفسه تحتاج حكومة العراق -حليفة إيران- بقاء التنظيم لتبرير بقاء الميليشيات، خصوصاً الحشد الشعبي، لمحاربة التنظيم. والمدهش هنا انهيار فكرة الجيش الوطني في العراق لمحاربة التنظيم، وأنه لا تمكن محاربته إلا بميليشيات طائفيه على شاكلته. من ناحيته، لا يتخيل النظام السوري، الحليف الآخر لإيران، نفسه مرغماً على التفاوض مع المعارضة بغياب «داعش» عن المشهد السوري. وجه الشبه بينه وبين تنظيم الدولة يجعل من اختفاء الأخير مصدر تهديد لموقعه التفاوضي، لأنه سيكون حينها الطرف الأكثر توحشاً وإرهاباً. روسيا بدورها تحتاج إلى بقاء «داعش» لتسويق هدفها بدعم الأسد وحمايته من السقوط. ما معنى كل ذلك؟ معناه أن الحكومتين العراقية والسورية يتقاطع كل منهما مع «داعش» في الأهداف والسياسات. وذلك من حيث أن كل واحد من هذه الأطراف الثلاثة يعتمد الطائفية كرافعة لسياساته، وكغطاء لأهدافه المباشرة. «داعش» يحتمي بأهل السنة، والنظامان العراقي والسوري يحتميان بالطائفة الشيعية وبإيران كدولة شيعية. هذا التقاطع بين هذه الأطراف الثلاثة هو أحد الأسباب التي تغذي الغموض الذي يحيط بالسياسات الدولية تجاه هذا التنظيم، وتجاه الحلول المنتظرة في المنطقة. يترتب على ذلك، وهذا هو المعنى الثاني، أنه حتى تتضح معالم التسوية في كل من العراق وسورية، ويتم الاتفاق حولها بين الأطراف الرئيسية، سيظل التنظيم جزءاً من المشهد.

طبعاً لا يمكن أن نغفل هنا دور الغياب العربي، أو الارتباك العربي أمام ما يحدث. هناك مثلاً خلاف سعودي مصري غير معلن حول الموقف من إيران والعراق وسورية. وهو خلاف مكلف، يساهم في إفساح المجال لإيران ولروسيا وأميركا، وقبل ذلك وبعده للميليشيات، في مزاحمة الدول العربية في عملية رسم مستقبل منطقة عربية قبل أن تكون أميركية أو روسية أو فارسية أو طائفية. بعبارة أخرى، يتضافر الارتباك العربي مع ارتهان الحكومتين العراقية والسورية لخليط من نفوذ أميركي إيراني في العراق، ونفوذ روسي إيراني في سورية، ليزيد الأمر سوءاً.

في هذا الإطار تنبئ الطريقة التي يتعامل بها العالم مع ظاهرة الإرهاب، بهوة تتسع مع الوقت بين حقيقة الإرهاب ومنابعه وبين تصور الدول المنخرطة في ما يعرف بالحرب على الإرهاب. انخراط عدد هائل من الميليشيات في الحروب الدينية التي تضطرم في العالم العربي، خصوصاً في العراق وسورية، لا يدع مجالاً للشك في أن الطائفية تكاد تكون هي المنبع الوحيد الذي يغذي الإرهاب الآن. وهو إرهاب بدأ بعد إسقاط النظام العراقي عام 2003، ثم انتشار النفوذ الإيراني داخل العراق تحت ظلال الاحتلال الأميركي. مأساة العراق وسورية، ومعهما المنطقة، أن الدول المعنية، خصوصاً أميركا وروسيا، لا تريد مواجهة هذه الحقيقة حتى لا تتعثر الحلول السياسية التي لا يمكن التوافق عليها من دون إجماع هذه الدول. وهذا الإجماع غير ممكن في ظل التوازنات السائدة، وغياب سياسة خارجية متماسكة لإدارة أوباما الأميركية. من هنا تأتي ملهاة الحرب على «داعش». تصور لو أن هناك موقفاً عربياً متماسكاً، هل يمكن أن يترك مستقبل العالم العربي رهينة لمثل هذه السياسات ولميليشيات تفرض أمراً واقعاً على الجميع؟

* أكاديمي وكاتب سعودي

الحياة

 

 

 

 

كيف يتم توظيف «الأسد» و«الدولة الإسلامية» في اللعبة الكبرى الدائرة في سوريا؟/ سمير التقي وعصام عزيز

سوف يكون سجل الرئيس «أوباما» محملا بإشراك الولايات المتحدة في حرب في الشرق الأوسط. ولكن هذا لا ينبغي أن يكون سببا للاطمئنان على الذات بين ساعديه. الجميع يعلم أن رفض الرئيس الانخراط في الأزمة الإقليمية في وقت سابق سوف يترك فواتير باهظة لتتحملها الإدارة القادمة. والطريقة الوحيدة لدفع هذه الفواتير ستكون هي الانخراط بشكل كبير في وقت ما في المستقبل. سياسة الرئيس لتجنب الحوار الجدي اليوم سوف تؤدي إلى تورط أكثر خطورة في الغد. حينما تنقع منزلا في البنزين، لا يمكن أن يدعي أنك لم تقم بإشعال الحريق حتى لو لم تقم بنفسك بقدح عود الثقاب الذي أشعلها. لم يقم الرئيس «أوباما» بنقع المنزل في البنزين، ولكنه على النقيض لم يمنع الآخرين من ذلك عندما كان يستطيع أن يفعل. لم يفعل «أوباما» شيئا في النهاية، وقد كان خياره هو كف اليد.

ساعد الرئيس ببساطة في تشكيل كافة مكونات الحرب في ذات الوقت الذي كان يسعى خلاله لتجنبها. «أوباما» يمكن أن سعيدا بالإرث الذي سيتركه لأنه في النهاية لم يشعل الثقاب. لكن من ذا الذي لا يؤمن حقا أن سياسات الرئيس «أوباما» بعدم التدخل لم تدفع المنطقة إلى أزمة غير قابلة للحل تقريبا. والواقع أنها غير قابلة للحل الآن إلا من خلال مواجهة عسكرية طويلة المدى والتي سوف تشمل الولايات المتحدة (يبدو أنها بدأت في ذلك بالفعل) ضمن نطاق أوسع غدا. كما يتجلى على أرض الواقع، لم تترك سياسات الرئيس الأمريكي أي خيار آخر. ما لم تنجح جهود وزير الخارجية «جون كيري»، فإن السيناريو الأكثر احتمالا وفقا للديناميكيات القائمة حاليا على أرض الواقع هو استمرار المواجهة العسكرية مع مستويات مختلفة الشدة مع زيادة عدد البلدان التي تدخل إلى الحلبة. يمكن للمرء أن يفعل الكثير من خلال عدم القيام بأي شيء، وغالبا ما يكون الطريق إلى الحرب يبدأ من القول بصوت عال إن أحدا غير مستعد للقتال.

ومع كل التقدير للرحلة الشاقة لوزير الخارجية، فإن فرصه في النجاح قد بدأت في التضاؤل سريعا.

دعونا نتفحص هذه الديناميكيات القائمة على الأرض.

السيد «بوتين»، الذي انتقل بنفسه من كونه غير ذا صلة إلى فاعل أساسي بفضل السيد «أوباما الذي انتقل بنفسه من فاعل أساسي إلى شخص غير صلة تقريبا. وقد غير «بوتين» رأيه بعد دخوله سوريا بصحبة قوة صغيرة. يريد السيد «بوتين الفاتح» للأسد أن يبقى دائما، في حين أنه كان قد ألمح في وقت سابق إلى العديد من المحاورين أنه على استعداد«لإعادة التفكير في مستقبل الأسد» إذا كان هناك اتفاق سياسي يحافظ على الدولة السورية.

لماذا وكيف غير السيد «بوتين» رأيه؟

حدث كل ذلك خلال زيارته لمستشار السياسة الخارجية لطهران في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني. وصف «علي أكبر ولايتي»، مستشار «خامنئي» للسياسة الخارجية، زيارة «بوتين» بأنها «الأكثر أهمية في تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية». وأكد أن «الرئيس بوتين قد شدد أنه لا يوجد اتفاق حول سوريا يمكن أن يحدث دون التنسيق مع إيران». في 7 ديسمبر/ كانون الأول، كان «ولايتي» أكثر وضحا حيث اعتبر أن «الرئيس الأسد خط أحمر بالنسبة لجمهورية إيران الإسلامية. إنه شخص منتخب من شعبه».

لماذا يترك «بوتين» قراره بشأن «الأسد» إلى طهران؟ يرجع ذلك بالأساس إلى سببين: أولها أن التحالف بين البلدين هو أوسع بكثير من سوريا فقط وقد أصبح عنصرا رئيسيا في سياسات روسيا في غرب ووسط آسيا وسياسات الغاز الطبيعي. أما ثانيهما فهو أن «بوتين» لا يؤيد تماما فكرة رحيل «الأسد». الآن، مع تواجد قواته بالفعل في سوريا، فإنه يعتقد أنه موقفه قد تحسن إلى ما هو أبعد من فكرة التضحية بـ«الأسد».

من جانبهما، تعتقد إيران أن بقاء «الأسد» هو أمر مفيد للغاية. لأول وهلة، فإنه يعطي التدخل الأجنبي الشرعية المطلوبة لإجهاض أي طعن قانوني على أساس الأعراف والقوانين الدولية. ثانيا: فإن «الأسد» هو ضعيف جدا لمنع الإيرانيين من نشر سيطرتهم داخل بنية الدولة السورية حتى لو كان غير راض تماما عن ذلك.

ما بدأ كوعد موثوق للتفاوض على مصير «الأسد» عند نقطة ما من طريق الوصول إلى حل دبلوماسي تحول إلى «لا» صريحة. بل ومطالبة «بوتين» بأن «الأسد له الحق في الترشح إلى الرئاسة في الانتخابات بعد الفترة الانتقالية المقترحة». حسنا، نصف السوريين الآن هو لاجئين في مكان ما. من الذين سيصوتون؟ وكيف سيتم عقد التصويت في المناطق دون حتى الحد الأدنى من متطلبات الحكم؟ ومنذ متى يسمح للمجرمين بالترشح من أجل حكم ضحاياهم لفترة أطول؟ هذه هي النقطة بالضبط. أولئك الذين يعيشون في سوريا «الأسد» فقط هم الذين سيصوتون. والنتيجة معروفة تحت شعار يرفع في دمشق الآن منذ سنوات: «الأسد إلى الأبد»، كما يغني له الموالون.

وقد قال «بوتين» للرئيس الفرنسي إن «الأسد» لن يرحل. وقال أيضا الرئيس «أوباما» في قمة المناخ أن «الأسد» سيبقى. يأتي كل هذا في أعقاب الضغوط التي وضعها كيري على العرب والأتراك من أجل القبول ببدء التفاوض حول مرحلة انتقالية في وجود «الأسد» في السلطة. أصر الأتراك والعرب على رحيل «الأسد» قبل الحديث عن أي انتقال.

وفي الوقت الذي أبدى فيه العرب والأتراك مرونة بالتخلي عن شرطهم بالرحيل المسبق للأسد في مقابل التزام واضح أنه سيرحل مع نهاية الفترة الانتقالية، وعلى الرغم من كون ذلك جزءا من تفهمات «كيري – لافروف» للوصول إلى حل، فإن الرئيس «بوتين» يتنكر لكل هذا.

وقد أقر «كيري» بأن مستقبل «الأسد» هو المشكلة التي تواجه الجهود الدبلوماسية الحالية. وقال أيضا أن القضاء على «الدولة الإسلامية» يمكن أن يتم في غضون بضعة أشهر من نجاح العملية الانتقالية. الآن، فإن الرئيس الروسي و«خامنئي» يقولون إنهم يريدون هزيمة «الدولة الإسلامية»، وفي ذات التوقيت، فإنهم في الواقع لا يردون قبول الخطوات المنطقية التي يمكن أن تؤدي إلى ذلك وهي مرحلة انتقالية تنتهي مع سوريا جديدة بدون «الأسد». هل يمكن لشيء أن يفسر ذلك؟

بالنسبة إلى إيران، يمكن للمرء أن يفهم. شجع الإيرانيون المالكي من أجل خلق البيئة التي خلقت «الدولة الإسلامية» حتى لو جاء ذلك على حاسب المتطلبات اللازمة للحفاظ على وحدة العراق. وهم يفعلون الشيء نفسه في سوريا. «الأسد» هو ذاته «المالكي»، لكن ماذا عن السبب بالنسبة إلى «بوتين»؟

وقال الرئيس الإيراني «حسن روحاني» في 5 ديسمبر/ كانون الأول إن بلاده مستعدة للعب دور أكبر في توريد الغاز الطبيعي إلى روسيا، في حين أعرب «خامنئي» عن امتنانه العميق لروسيا لصداقتها. في هذا الحال، يمكن لروسيا أن تتجاوز أي منتج رئيسي للطاقة في محيطها وتعزز قدرتها (مع دمج القدرات الإيرانية) على مواصلة الإمدادات إلى الغرب.

وقد أكد الرئيس الروسي أثناء وجوده في طهران الشهر الماضي أن روسيا سوف تزيد من صادراتها من الغاز الطبيعي إلى الشرق. كما أشار إلى أن التعاون مع الصين والهند هو قيمة كبرى. «نحن نخطط لزيادة صادرات الغاز في الاتجاه الآسيوي من ستة إلى 30 في المائة، أي بما يعادل 128  مليار متر مكعب». وبهذا سيكون حقل جنوب بارس مهما جدا من الناحية الاستراتيجية.

حصل «بوتين» على ما يريد. وعرض الإيرانيون ما أرادوا. أين يمكن أن يذهب «كيري» ونهجه الدبلوماسي في هذا السياق؟ لا شيء بكل تأكيد.

هزيمة «الدولة الإسلامية»

يدرك الرئيس الروسي، بقدر «كيري»، أو أي شخص عقلاني آخر، أنه لا يمكن هزيمة «الدولة الإسلامية» في ظل بقاء «الأسد» في السلطة، وهذا هو القول مع عدم وجود حل دبلوماسي في سوريا.

«خامنئي» يفهم جيدا أيضا، مثل أي طالب في المرحلة الثانوية، أن هزيمة «الدولة الإسلامية» في العراق يتطلب حكومة شاملة، ومع ذلك فقد دفع «المالكي» إلى فعل عكس ذلك تماما. نفس المقاربة التي استخدمت العراق هي التي يتم استخدامها الآن في سوريا، ويقف الرئيس الروسي الآن جنبا إلى جنب مع هذه الخطة التي تبدو غير منطقية بشكل واضح.

على كل حال، فإن المنطق في هاتين الحالتين يتم تعريفه وفقا للهدف الاستراتيجي المطلوب. إذا كان الهدف الاستراتيجي لإيران في العراق هو حقا هزيمة «الدولة الإسلامية» فإنها لم تكن لتفعل ما فعلته في العراق أو ما تقوم به الآن في سوريا. إذا كانت روسيا تريد حقا هزيمة «الدولة الإسلامية» ، فإنها لن تصر على منع السبيل الوحيد لبناء قوة جماعية من الجيش السوري والمعارضة والمجتمع الدولي يمكنها «القضاء على المنظمة الإرهابية في غضون أشهر». والسبيل الوحيد إلى ذلك هو رحيل «الأسد».

المقاربة الفارسية مختلفة تماما. يرى الإيرانيون أنهم يتقدمون ببطء وهم يعولون على ديناميات الحياة المتغيرة من أجل دفعهم أكثر إلى الأمام. ولكن في أي لحظة فإنهم ربما يسعون للاحتفاظ بمواقعهم إذا عجزوا عن دفع أنفسهم أكثر. المراهنة على رياح المستقبل هو جوهر استراتيجيتهم الصبورة طويلة الأمد. لقد رأينا ذلك في القضية النووية. لقد رأينا ذلك في العراق. والآن نراه في سوريا.

ولكن هل يستحق «الأسد» كل هذا العناء؟

لا، فهو في النهاية شخص واحد. وقد تمت مناقشة كل البدائل الممكنة بين «كيري» و«لافروف». فمن الممكن للحفاظ على الدولة وتغيير رئيسها في سياق المصالحة الوطنية.

لماذا إذا يتم رفض جميع العروض؟ لأنه في واقع الأمر ليس «الأسد» هو ما يهم هنا. ما يهم هو جوهر أي حل سياسي. إيران تريد سوريا كلها. إذا لم يكن ذلك ممكنا اليوم فإنها تأمل أن يكون ذلك ممكنا غدا إذا نجحت في إبعاد الغرب عن سوريا اليوم. نأخذ حالة العراق مرة أخرى، كان من الممكن أن يعطي رئيس الوزراء «حيدر العبادي» فرصة لتوحيد بلاده معا، ولكن إيران قد اختارت بدلا من ذلك دعم قوات الحشد الشعبي بهدف الحفاظ على ارتباط حاسم بين جنوب العراق وبين المدار الإيراني. دفعت طهران إلى تمكين هذه القوة من السيطرة على وسط العراق. قاومت الولايات المتحدة والقبائل السنية الأمر. مارست إيران الصبر في حين تحاول إزاحة الولايات المتحدة من العراق.

طهران لا تريد حكومة شاملة في بغداد. لم تكن ترغب في ذلك أبدا. إنها تريد كل العراق، ولكن ليس تحت إدارة «العبادي»، ولكن في ظل وكلائها الخاصين. هذا هو السبب في أنها تحافظ على تهييج الشعب ضد أي وجود الولايات المتحدة هناك. لا تشارك إيران الولايات المتحدة أهدافها، والآن نعلم أن السيد «بوتين» لا يفعل للأسف أيضا.

القضية ليست قضية «الأسد». «الأسد» هو العصا التي يمكن أن توقف عجلة ما يحاول «كيري» القيام به وهو توحيد سوريا من جديد من أجل أن تكون قادرة على محاربة «الدولة الإسلامية». ولكن يبدو أن «كيري» يبحث في اتجاه مختلف عن ذلك الذي تسير فيه موسكو وطهران.

إلى أين يمكن أن يأخذنا كل ذلك؟

الاختلافات في جداول أعمال كل من إيران وروسيا من جهة، وباقي العالم بما في ذلك العرب والأتراك من جهة أخرى، لا يمكن التوفيق بينها. لقد تحول ما كان سابقا شيئا ضمنيا إلى صورة أكثر صراحة: هناك صراع استراتيجي عالمي.

سوف تكون هذه حربا طويلة، ويبدو أن سوريا تتجه إلى المزيد من الألم. لكنه أصبح لا مفر منه على نحو متزايد. نحن نصلي من أجل أن ينجح «كيري»، لأن البديل هو الكثير من الدم والدمار.

ميدل إيست بريفينج

 

 

 

 

“داعش” واللاجئون و… الغرب/ حازم صاغية

يتقلّص اليوم اهتمام الغرب، الأوروبيّ قبل الأميركيّ، إلى موضوعين من مواضيع الشرق الأوسط الكثيرة: الإرهاب، لا سيّما منه إرهاب «داعش»، ومسألة النازحين، خصوصاً منهم السوريّين.

وبالطبع كثيرون هم الخاسرون نتيجة هذا الضمور في الاهتمام الغربيّ، تتصدّرهم شعوب المنطقة التي يتقدّمها الشعبان السوريّ والفلسطينيّ، حيث الأوّل متروك لبشّار الأسد وبراميله ونيران حلفائه، والثاني للاستيطان وبنيامين نتانياهو والميليشيات الدينيّة المتطرّفة.

لكنّ اللافت أنّ عنصرَي هذا الثنائيّ، «داعش» والنازحين، يشتركان في أمر ويختلفان في أمر آخر. فالمشترك بينهما أنّهما يربطان داخل المنطقة بالعالم الأوسع، خصوصاً منه أوروبا. فاللاجئون انتقلوا، مدفوعين بالفاقة والخوف والاضطهاد، إلى البلدان الغربيّة، فيما الإرهاب هو، في وقت واحد، صادرات وواردات: مرّة نرسله إليهم من بلداننا ومرّةً أخرى يرسلونه إلينا من بلدانهم. وهذان العنصران، «داعش» والنازحون، سوف يدليان بدلوهما، إن لم يكن دائماً في خريطة الاجتماع الغربيّ، فحتماً في السياسات الغربيّة، عبر الإجراءات الأمنيّة والانتخابات وبرامج الأحزاب والخطط الاقتصاديّة التي يستدعيها الاستيعاب، لكنْ أيضاً في حركة الغرائز العنصريّة صعوداً وهبوطاً، وهي تحترف ردّ كلّ مثالب الأرض إلى المهاجرين احترافها تحويل الإرهاب إلى سمة جوهريّة وماهويّة في «شعب إرهابيّ». ولا فارق هنا، وحيال هذه التأثيرات جميعاً، أكان الغرب يعيش «أسلمة التجذّر» أم كان يعيش «تجذّر الإسلام»، ففي الحالتين لن تزداد الأمور إلاّ احتداماً.

أمّا الاختلاف بين ظاهرتي «داعش» والنازحين، وما يرتّبه الاختلاف من نتائج، فإنّما يشي بصعوبة إسباغ الوحدة النمطيّة المزعومة على المنطقة وأهلها. ذاك أنّ «داعش» حرب معلنة على الغرب، وعلى كلّ ما هو غربيّ أو حديث أو شبيه أو متشبّه بالغرب، فيما النزوح طلب للغرب وسعي إلى التطابق معه وإقرار ضمنيّ، وأحياناً معلن، بتفوّقه وتفوّق نموذجه. وحتّى لو كان كثيرون من النازحين يحملون من الأفكار والتصوّرات ما يتحفّظ على المجتمع الحديث ويرتطم بالعيش فيه، فهذا دافع آخر للبرهنة على قوّة النموذج الغربيّ في الاستقبال والاستيعاب. ولا ننسَ أنّ التاريخ مصداق ذلك: فإحدى الهجرات التأسيسيّة لعالمنا المعاصر إنّما ضمّت، في دفعاتها الأولى، نزلاء سجون من إنكلترا عبروا الأطلسيّ قاصدين «العالم الجديد». وقبل ذاك، في القرن الثاني عشر، كان لاجئون إنكليز هاربون إلى فرنسا من طغيان مليكهم، هم مَن أنتج «ماغنا كارتا» التي وُلد معها المفهوم القانونيّ للإنسان، وأولى وثائق حقوقه.

وقد يقال بحقّ إنّ العالم تغيّر، فانتهى زمن السيبة ونشأت الدول كما رُسمت لها حدود، فيما توضع الموازنات تبعاً لعدد محدّد من السكّان وطالبي العمل. لكنْ يقال أيضاً بحقّ إنّ السيادات الوطنيّة تتراجع، لا اقتصاديّاً فحسب، بل أساساً في مسوّغها الإنسانيّ والأخلاقيّ، بينما تتكاثر المسائل التي تستدعي لحلّها تضافر الجهود العابرة للدول والقوميّات.

وعلى أيّة حال، إذا صحّ أنّ الاستعدادات الغربيّة تتسارع لشنّ حرب برّيّة على «داعش»، فهذا ما يضيف الإلحاح إلى الضرورة في ما خصّ التعامل مع النازحين، بحيث يترافق ما يؤخذ من «مسلمي داعش» مع ما يُعطى لـ «مسلمي» النزوح. أمّا المكاسب التي تحرزها «الجبهة الوطنيّة» في انتخابات المناطق في فرنسا، وبعض الأخبار المتناثرة عن تعاظم قوّة اليمين الأوروبيّ المتطرّف، فلا توحي بهذه الوجهة بتاتاً.

فإذا كان الفارق بين ظاهرتي «داعش» والنازحين يخطّىء، مرّة أخرى، نظريّات «صراع الحضارات»، فإنّ مواقف وتحوّلات غربيّة كهذه تصادق على هذه النظريّات الخرقاء على نحو يريده «داعش» ويخشاه اللاجئون.

الحياة

 

 

 

 

 

نقاش مُبهر لكن الواقع يبقى “داعشياً”!/ عبد الوهاب بدرخان

نشارك أو لا نشارك في ضرب تنظيم «داعش»، نقف إلى جانب فرنسا والولايات المتحدة أم نبقى على حدة، نجازف بتعريض أمننا الداخلي أم نذهب لدرئه في سوريا كما في العراق… تحوّل النقاش في مجلس العموم البريطاني محطةً لا تُنسى في سجله وفي عمر إحدى أكثر الديمقراطيات عراقة، وأعطاه العمالي اليساري «هيلاري بن»، نجل الزعيم العمالي السابق «توني بن»، كل تاريخيته عندما قال إن «هذا المجلس» الذي وقف ضد هتلر وموسوليني لابد أن يقف ضد «داعش»، فالمشترك بينهم أنهم من رموز الفاشية «ولابد من أن نهزم الفاشية». وبعد هذا النقاش، في الجمعية الوطنية الفرنسية والبرلمان البريطاني ثم الألماني، يصحّ التساؤل أين يمكن أن نشهد نقاشاً عاماً مماثلاً في العالم العربي والإسلامي حيث بات الخطر الإرهابي واقعاً يومياً يجري التعايش معه. وحده النقاش العلني المفتوح، لا الخوف والتكتّم، يسلّط الضوء على المواقف ويفرز بين أصحابها، وبالتالي يصنع الرأي العام الواعي.

طوال عشر ساعات لم ترد كلمة «الإسلام» إلا في ما ندر، حتى لو كان العديد من أعضاء البرلمان البريطاني ناقمون على ما يعتبرونه بُعداً دينياً في هذه الظاهرة الإرهابية المقيتة، كثيرون رددوا بعد ديفيد كاميرون أن ما يسمّى «دولة إسلامية» ليس دولة ولا إسلامياً. وثمة توجّه رسمي إلى اعتماد «داعش» اسماً لهذه العصابة التي امتهنت القتل الوحشي ولا شيء سواه. وفي تلك المبارزة البريطانية بين الأفكار والحجج، قد لا يكون العرب تعلّموا شيئاً يجهلونه عن هذا التنظيم، ولكنهم سمعوا بالتأكيد ما يؤكد تقييمهم لأوضاعهم ومخاوفهم وحجم المسؤولية الواقعة على عاتقهم. وعلى أي حال، لم يكن ذلك الجدل معنياً بأحوال العرب بل بالأمن في شوارع العواصم الأوروبية، وبضمان سير العمل والإنتاج وممارسة الحريات من دون أن يقفز أشخاص مهووسون من المجهول لينتحروا على أرصفة المقاهي ومداخل الملاعب.

ولعل أهم ما كشفه النقاش، واستطلاعات الرأي التي رافقته، تلك الحركة التي واكبت صنع القرار، ومدى تأثر النواب بناخبيهم، فكثيرون صوّتوا ضد المشاركة في الحرب لأن دوائرهم تضمّ جاليات مسلمة ترفض هذا الخيار لأنه قد يؤدّي إلى تصاعد التطرّف لا إلى تراجعه، أو لأن دوائرهم يغلب عليها تيار يساري تقليدي يناوئ التدخلات العسكرية باعتبارها نمطاً غربياً. ولكن، حتى بين المؤيدين، ثمة مَن طرح تساؤلات المعارضين: تسارعون إلى القصف وليست لديكم خطة واضحة لإضعاف «داعش» أو للقضاء عليه، نريد ضرب الإرهاب بلا هوادة ولكنكم تدعون إلى الموافقة على حرب لا استراتيجية لها ولا أفقاً يحدّد نهايتها. وهناك مَن أورد مثلاً شهادات من داخل الرقّة يقول أصحابها إن الحرب بأسلوبها الحالي، أو على الطريقة الروسية التي لا تأبه لسقوط مدنيين، تعزز ارتباط الناس بـ«داعش» إما للحاجة إلى خدماته أو خوفاً منه أو تأييداً لـ «تظلّمه» من «عداء العالم للإسلام والمسلمين» أو أخيراً لاعتقادهم بأن الهدف من الحرب مساعدة النظام السوري على إعادة سيطرته.

ولاشك أن الهجمات الإرهابية في باريس، وقبلها موجات المهاجرين، كانتا عاملاً حاسماً في بلورة الاقتناع العام بأن «الواجب» يقضي بالتحرّك، بل إنها أضعفت موقف المعارضين إلى حد كبير إذ حاججوا بأن إرسال الطائرات لقصف «داعش» سيكون بمثابة استدعاء لقتلته إلى شوارع لندن، وفي المقابل قيل لهم إن ضرب الإرهاب هناك سيقلص اللاجئين هنا. وبطبيعة الحال فإن كل بلدان أوروبا استشعرت التهديد ووجّهت أنظارها إلى جالياتها المسلمة كمصدر محتمل للخطر، وكلٌّ منها يخشى ما لا يعرفه أو ما تملّص من شباكه. ولذلك ذهب كثيرون إلى المطالبة بتخصيص ما سينفق بعيداً في الحرب لتعزيز الأمن في الداخل.

وكان لابدّ أن يمتد الجدل إلى أخطاء غزو العراق وأفغانستان للقول بأن الاضطرار للذهاب مجدداً للحرب يعني شيئاً واحداً، وهو الإخفاق السياسي. وقد أثير هذا المأخذ في لندن وبرلين وقبلهما في باريس. ولذا كرر وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير أن «إحراز تقدم في الحل السياسي يقلص مدة النزاع العسكري»، فيما اعتبر كاميرون أن الضربات الجوية «تساعد في التوصل إلى تسوية سياسية». كيف؟ آخر الصيغ المطروحة جاء على لسان وزير الخارجية الأميركي جون كيري، «بالاعتماد على قوى النظام والمعارضة معاً». ربما كان هذا أحد أوهام الحل السياسي أو أحلامه. ولكنه يعني أن الدول الكبرى لا تزال متخبطة بالنسبة إلى خيارات الحل السياسي.

الإتحاد الاماراتية

 

 

“داعش”.. لمصلحة من؟/ باسم زكريا السمرجي

كتب كامل داود مؤخراً في افتتاحية “نيويورك تايمز” تحت عنوان “السعودية، داعش التي أتمت مهمتها بنجاح”. يتعجب داوود في افتتاحيته من تحالف الغرب مع السعودية، وهو في الوقت ذاته يحارب تنظيم “داعش” بوصفه العدو الرئيس. يرى داوود في ذلك تناقضاً واضحاً، حيث يشترك الاثنان، في برأيه، في الخطاب الديني ذاته، وفي الممارسات المتطرفة ذاتها. ثم يختم افتتاحيته بالقول: إن كان لداعش أمّ، هي احتلال العراق في 2003، فإن لها أباً وهو المملكة العربية السعودية بخطابها الديني.

قد يكون لتساؤل داوود وجاهة، إن توقفنا بالتحليل عند الموقف الأخلاقي من مواجهة العالم مع “داعش”، غير أن تلك ليست المسألة. فالمصالح – لا المواقف الأخلاقية – هي المحرك الرئيس للتوجهات السياسية. والحرب مع داعش لم تبدأ فعلياً حتى صار “داعش” تهديداً حقيقياً لمصالح الدول الكبرى، سواء في الشرق الأوسط أو في الغرب ذاته. وجدير بالذكر هنا أن نقول أن الحرب مع “داعش” هي من اللحظات التي تتفق فيها توجهات المصالح مع المواقف الأخلاقية. فتحت أي مسمّى وتحت أي ادّعاء لا أجد موقعاً أخلاقياً سليماً إلا وكان من موقع مناصبة “داعش” العداء والسعي للقضاء عليه واستئصاله من جذوره. غير أننا إن أردنا إنجاز تلك المهمة، لا بد أولاً أن ننقب في ديناميكية التاريخ قليلا لنجد تلك الجذور التي نبحث عنها.

مع تزايد الهجمات والتهديدات الإرهابية خلال الأسابيع القليلة الماضية التي استهدفت عواصم ومدناً أوربية، مثل باريس، وجدنا البعض يرغي ويزبد في أن هذا ما يستحقه الغرب جزاء على إرثه الاستعماري في المنطقة. ويتناسى هؤلاء المتثاقفون أن الهجمات الإرهابية نالت أيضاً من لبنان وتونس ونيجيريا ومالي. لا يخفى على ذي نظر، تهافت مثل تلك الحجة التي تفضي – إن مددناها على استقامتها – إلى إعطاء مسوّغات أخلاقية للإرهاب، وإلى صنع أبطال مقاومين من الإرهابيين. من ناحية أخرى، انبرى الدعاة والمشايخ الوسطيون للتأكيد على أن “الإرهاب لا يمثل الإسلام الصحيح”، وأن الإسلام الصحيح هو دين السلام والمحبة.. إلى آخر كل تلك المعاني.

لعل الإرهاب الذي يهدد العالم الآن هو امتداد لمعضلة الهوية التي فشلت المنطقة في حلّها وتجاوزها، ونستطيع أن نقول أن تلك المعضلة هي من الآثار الجانبية للمشروع الاستعماري في المنطقة. لكنه المشروع الاستعماري هنا، ليس بوصفه الأشرار المستعمرين الذين اجتمعوا في الغرف السرية المغلقة ليفسدوا على الشرق الأوسط مستقبله، بل الاستعمار كامتداد طبيعي لبُنى الرأسمالية. فالرأسمالية ترتكز أساساً على استدامة حركة رأس المال، التي إن توقفت للحظة، انهار النظام بأكمله. لذلك فإن الرأسمالية في تعاملها مع الأزمات لا تجد الوقت الكافي لأن تتوقف وتتأمل وتسعى لحل الأزمة من جذورها، بل تسعى دائما إلى تحريك الأزمة في الزمان والمكان.

وهكذا كانت دائما دول المركز، تصدّر أزماتها إلى دول الأطراف، وهكذا نشأت العلاقة بين دول المركز ودول الأطراف. وهكذا نشأت العلاقة بين دول الغرب ومنطقتنا المنكوبة. فالتشكيل السياسي والاجتماعي للمنطقة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالرأسمالية العالمية، وبالموقع الذي تحتله الرأسمالية الإقليمية في تلك الرأسمالية العالمية، من دون أن يكون لجماهير المنطقة دور في ذلك. بل ظلت تلك الجماهير في التيه، وظلت المنطقة عالقة في سؤال الهوية. وفي كل مرة تسعى الجماهير للإمساك بزمام الأمور، وطرح مصير بديل على المنطقة، تتكاتف شبكات المصالح الإقليمية والعالمية لوأد ذلك المصير وقمع ذلك التحرك في مهده.

ولعل الربيع العربي خير مثال على ذلك. فبينما خرج الجمهور إلى الشوارع يطالب بحقوق الإنسان الأساسية، من كرامة وعدالة وحرية، تكاتفت شبكات المصالح عليه لتعود بالحركة كلها إلى المربع الرقم واحد، حيث سياسات الهوية، لتصبح الأطراف الفاعلة في الصراع على السلطة هي الأطراف التي ترفع شعارات الهوية.

إن استئصال الإرهاب من جذوره لا يتأتّى بإلقاء اللوم على الغرب، ولا بتبيان الإسلام الصحيح للناس، إنما بتفكيك الشبكات صاحبة المصلحة في استمرار صراع الهوية عنواناً للسياسة في الشرق الأوسط. شبكات المصالح تلك في الداخل كما هي في الخارج أيضاً. أصحاب المصلحة في أن يستمر الخطاب الديني هو المرجع الرئيس للمسألة الاجتماعية في المنطقة، وأن تظل الإجابة الأكثر حضوراً لأزمات المنطقة “إصلاح الخطاب الديني”.

المدن

 

 

جريمة انتظار الذئاب/ غسان شربل

لم يعد نوري المالكي رئيساً للوزراء في العراق. ولم يعد إسقاط نظام بشار الأسد في صدارة الأولويات. الجيش الروسي يرابط في الساحل السوري وطائراته تواصل غاراتها. عادت المقاتلات الأميركية إلى أجواء العراق وسورية مع حفنة من القوات الخاصة. فرنسوا هولاند يطل على المنطقة من على ظهر حاملة الطائرات شارل ديغول المتمركزة قبالة السواحل السورية. وديفيد كامرون انتزع موافقة مجلس العموم وأرسل الطائرات إلى الحرب المفتوحة. فلاديمير بوتين يهدد رجب طيب أردوغان وواشنطن تطالب أنقرة بإغلاق حدودها مع سورية. نجح تنظيم إرهابي في تغيير المشهدين الإقليمي والدولي ومعهما مصائر مجموعات وإفراد.

العالم خائف. بصمات «داعش» في كل مكان. يضرب هنا ويضرب هناك. في عدن. وكاليفورنيا. وباريس. وقبلها في الكويت. والسعودية. وتونس. وليبيا. يضرب بلا رحمة. لا خطوط حمراً ولا حرمات. قد يكون الهدف مطعماً أو مستشفى أو مسجداً أو مجلس عزاء.

أجهزة الأمن حائرة ومرتبكة. اختراق «داعش» ليس مريحاً. العقاب شديد. السكين جاهز وتكفي الشبهة لتحريكه. و «داعش» يحب الإعدامات. يخاطب العالم بالرؤوس المقطوعة. وأخطر من المجموعات المنظمة الذئاب المتوحدة أو المنفلتة. ويمكن أن يكون الذئب بلا ماض. ولا شبهات سابقة حوله. ولا معلومات عنه لدى أجهزة الأمن. لهذا، يصعب اعتراض الذئب قبل أن ينقض على فريسته.

هذا فظيع فعلاً. «داعش» أخطر من «القاعدة». أبو بكر البغدادي أخطر من أسامة بن لادن. جاذبية «داعش» أكبر بكثير من جاذبية تنظيم الظواهري. لا ضرورة للاتصال الهاتفي أو ما يمكن رصده. يكفي الذهاب إلى مغاور الإنترنت أو «اليوتيوب». شاب صغير متزمت ومتوتر يسقط في شرك شريط عممه التنظيم. أحياناً يتحول المشاهد الصغير ذئباً. تأخذه رغبة الاصطدام بالعالم. والانفجار بالكفار. وركوب القطار السريع إلى الجنة.

هذا فظيع فعلاً. وشديد الخطورة على الجاليات العربية والإسلامية في الغرب. تكرار الهجمات ينذر بإيقاظ الشكوك. والنظر إلى الجاليات بوصفها مناجم محتملة للذئاب. والطعن في ولائها للبلدان التي استضافتها. والطعن في إمكان التعايش معها. والنظر إلى الجار العربي والمسلم كأنه مشروع حزام ناسف. هذا يعني إشعال خطوط التماس بين الأديان والمذاهب. وداخل الدول وعلى حدودها. هذا كان الهدف الكبير من «غزوتي نيويورك وواشنطن»، والذي تنذر غزوات «داعش» الحالية بتحقيقه.

يراودني شعور بأن العالم ارتكب جريمة مروعة يدفع الآن ثمنها. إنها جريمة الانتظار. أقول ذلك استناداً إلى كلام سمعته. شاءت المصادفة أن أكون على موعد في باريس في العاشر من حزيران (يونيو) 2014. قبل ذهابي إلى الموعد فتحت قناة «العربية» فوجدتها تبث أنباء عاجلة عن دخول «داعش» إلى الموصل. صافحت مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان فوجدت في وجهه مزيجاً من التجهم والغضب. كان يتلقى التقارير عن انهيار وحدات الجيش العراقي واستيلاء «داعش» على ترسانة ضخمة من الأسلحة.

أمضينا ساعات نتابع الأخبار وما يتلقاه من تقارير. قال بألم: «كنا نعتقد أن مرحلة الحروب انتهت. لكن قدرنا صعب في هذه المنطقة. لن نستطيع التعايش مع هؤلاء الوحوش على حدود إقليم كردستان. أخشى أننا سنغرق في حرب مريرة وطويلة مكلفة للعراق وسورية وربما للمنطقة».

كان بارزاني غاضباً من المالكي، لكنه لم يشأ أن يفتح النار عليه. سألته فحكى. قال إن تقارير البيشمركة أشارت إلى أن إرهابيي «داعش» يحاولون تعزيز وجودهم قرب الموصل ويقومون بتدريبات هناك. وإنه حمّل السيد عمار الحكيم رسالة في هذا الشأن إلى المالكي. ثم حمل الرسالة نفسها إلى نائب رئيس الوزراء روز نوري الشاويش وفي النهاية إلى السفير الأميركي آنذاك ستيف بيكروفت. وفي الرسائل، اقترح بارزاني قيام الجيش العراقي والبيشمركة بعمل مشترك لضمان سلامة الموصل وإبعاد «داعش» من محيطها. لم يهتم المالكي.

في بداية 2014، اتصل بارزاني بالمالكي: «أخي أبو إسراء الوضع خطر في الموصل. فلنقم بعملية مشتركة. لا يجوز أن أرسل البيشمركة وحدها. الموضوع يثير حساسيات بين الأكراد والعرب… نحن على استعداد لتحمل العبء الأكبر، لكن فلتكن العملية مشتركة. أجابني: أخي أبو مسرور أنت دير بالك على الإقليم ولا تقلق خارجه فالوضع تحت السيطرة».

الخطر على الموصل لم يكن سراً. الجانبان العراقي والأميركي كانا على علم بمضمون تقارير البيشمركة. هكذا حصل ما حصل. وأتيح لـ «داعش» أن يعلن «دولته». وأن يستقطب الوافدين من كل أنحاء الأرض. وأن يبث أفلامه ويروج سمومه. وقعت جهات كثيرة في وهم الرقص مع «داعش» وتوهمت توظيفه لالتهام المعارضة السورية أو النظام أو الأكراد. ارتكب العالم جريمة الانتظار وها هو يدفع ثمن الوافدين من مناجم الذئاب.

الحياة

 

 

 

 

كيف صنعت أميركا وإيران “داعش”؟/ حسين عبدالحسين

أميركا وايران صنعتا تنظيم “داعش”، لكن ليس بالطريقة التي تتهمان بعضهما البعض بها.

وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون لم تقل ان حكومة الرئيس باراك أوباما خلقت التنظيم الارهابي، على عكس ما يروج مؤيدو ايران، ولم تقدم طهران المأوى لزعماء “تنظيم القاعدة” بالصورة التي يرسمها اصدقاء الولايات المتحدة.

 

“داعش” هو نتيجة ما كانت تعتقده واشنطن حذاقة في ديبلوماسيتها الدولية في اقامة “التوازن الاقليمي” بين السنة والشيعة، ثم محاولتها نشر الديموقراطية، ثم عودتها الى التوازن، ثم تخليها عن المنطقة برمتها.

“داعش” هو ايضا نتيجة العداء القديم بين “عراق عجم” الشيعي، على ضفاف دجلة، و”عراق عرب” السني، على ضفاف الفرات. بعد نهاية الحرب العراقية – الايرانية في العام ١٩٨٨، تحول الصراع العربي – العجمي صراعا باردا، الى ان اجتاحت اميركا العراق واعادت هذا الصراع الى ذروته.

وتقلّب الولايات المتحدة في سياساتها الشرق الاوسطية هو المساهم الاول في انتاج الفوضى الحالية التي انتجت بدورها “داعش”.

مع الشاه رضا بهلوي، دعمت أميركا ايران لتنتزع شط العرب من العراقيين. ثم مع نظام الملالي، ساندت أميركا العراقيين في حربهم ضد الايرانيين، لكن من دون ان تتخلى عن علاقاتها السرية مع ايران، كما اتضح لاحقا في زيارة مستشار رونالد ريغان للامن القومي ماكفرلين طهران ولقائه القيادي الثوري الشاب يومها حسن روحاني. بعد ذلك، كانت فضيحة “ايران كونترا غايت”، والافراج عن الرهائن الغربيين في بيروت، وهو ما كشف عن علاقات اميركية – ايرانية سرية أظهرت ان اميركا لم تكن يوما بعيدة عن ايران ذلك البعد الذي دأب الطرفان على تصويره.

بعد هجمات ١١ ايلول، انقلبت المفاهيم الاميركية، واعتقد طاقم المحافظين الجدد، الذي سيطر على ادارة جورج بوش الاولى وانحسر في الثانية، ان سياسة “التوازن الاقليمي” حافظت على ديكتاتوريات انتجت بدورها شبابا محبطين صبوا غضبهم على أميركا. كسر المحافظون الجدد “التوازن الاقليمي” وحاولوا استبداله بديموقراطية في العراق اعتقدوا انها ستنتشر في عموم المنطقة. ولم تفطن ادارة بوش الى ان المنطقة الممتدة من حدود الهند الى الأطلسي تفتقر أدنى مقومات الديموقراطية، فتحول العراق فوضى استغلتها ايران للانتقام من اركان نظام صدام حسين، ثم سنّة العراق عموما.

والتعاون الاميركي – الايراني في العراق بدأ منذ اليوم الاول للاجتياح الاميركي، فواشنطن اعتقدت انه يمكن لتعاونها مع ايران الشيعية ضد الارهاب السني في افغانستان والعراق ان يصيب عصفورين بحجر: القضاء على الارهاب واعادة وصل ما انقطع مع طهران منذ العام ١٩٧٩. هكذا، طار السفير ريان كروكر سرا الى جنيف للقاء الايرانيين، وبدأ التنسيق حول البلدين. والى جانب قناة جنيف، كان للاميركيين قنوات متعددة، مثلا من طريق النائب العراقي الراحل احمد الجلبي، المحرض الاول على الغزو بتقديمه معلومات استخبارية خاطئة حول برنامج اسلحة الدمار الشامل العراقية.

واستمرت ايران في رسم سياسة الاحتلال الاميركي في العراق، التي تصدرها قانون “اجتثاث البعث”، الذي أجج بدوره الشعور السني بأن الحرية الاميركية في بلادهم هي في الواقع انتقام ايران الشيعية منهم، وهو ما بدا جليا في محاصرة دبابات رئيس الحكومة الشيعي السابق نوري المالكي منزل نائب الرئيس السني السابق طارق الهاشمي صبيحة اليوم الذي تلى الانسحاب الاميركي نهاية العام 2011.

ولننظر الى الأمور من وجهة نظر زعيم “داعش” ابرهيم السامرائي، الذي يكني نفسه بأبي بكر البغدادي، ومن وجهة نظر كبار قياديي التنظيم، ومعظمهم ضباط بعثيون سابقون من جيل البغدادي، ما يعني ان غالبيتهم مواليد النصف الثاني من الستينات والنصف الاول من السبعينات. وعي هؤلاء الشباب بدأ يتشكل مع بداية حرب بلادهم الطاحنة ضد ايران، تلتها حرب الكويت وحصار اقتصادي خانق دام 12 عاما، ثم الاجتياح الاميركي واجتثاث السنة، حتى من انخرط منهم بالعملية السياسية او قاتل لطرد “القاعدة في العراق”.

لقد ساهمت السياسات الاميركية تجاه العراق، منذ منتصف السبعينات، في صناعة جيل يألف القوة كلغة وحيدة للحوار، اجبره الحصار على اقامة شبكات مالية خارج النظام الاقتصادي العالمي، وهي الشبكات نفسها التي يستخدمها “داعش” اليوم لتمويل نفسه. كما يلجأ التنظيم لاساليب قمعية هي اساليب نظام صدام نفسها، ما دفع شيعة العراق الى اطلاق تسمية “البعثيين الدواعش” على افراد التنظيم، وهي تسمية صحيحة.

اما اسلامية “داعش” فهي اكتمال لعملية الأسلمة التي انطلقت مع الثورة الايرانية في العام 1979، واجبرت صدام وبعثه العلماني على الالتحاق بها بعد العام 1991.

من المفيد لأميركا ان تعرف ان البغدادي وصحبه هم جزئيا نتاج سياساتها. ومفيد ايضا لايران ان تعلم ان الثأر لن يولد غير “داعش”، وان لا انتصار شيعيا ممكن ضد سنة العراق او سوريا، لا في حرب الثمانينات، ولا في الاجتثاث في العراق، ولا في الحرب ضد الارهاب في سوريا والعراق.

لن تتم هزيمة “داعش” بالمقاتلات الاميركية، ولا الروسية، واليوم الفرنسية والبريطانية، فالحل لـ “داعش” هو على الارض وفي استبدال العدالة بالعنف، ان كانت العدالة لضحايا الدجيل وحلبجة، او لاسقاط أميركا طائرة الركاب الايرانية فوق الخليج، او لاغتيال رئيس حكومة لبنان السابق رفيق الحريري، او للبعثيين الذين طاردتهم “فرق الموت” في العراق.

 

صحافي

النهار

 

 

 

 

هل فعلاً الأسد باقٍ ولا انتصار على «داعش»؟/ صالح القلاب

عندما يعترف وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ويعلن بأن هناك انقسامات دولية «حادة» بشأن مستقبل بشار الأسد وبشأن الأزمة السورية، وعندما يقول مستشار الولي الفقيه الإيراني علي ولايتي إن إيران منعت سقوط الرئيس السوري ونظامه، وإن هذا الرئيس خط أحمر، ثم عندما تنقل روسيا خيرة جيشها وبصواريخ «إس 400» وطائرات «سوخوي 34» ودبابات «تي 90» وتباشر حربًا لا هوادة فيها تحت عنوان الإرهاب والقضاء على «داعش» وهي لم تستهدف إلَّا المعارضة السورية المعتدلة.. فماذا يعني هذا؟!

ثم عندما يسود الارتباك في فرنسا والغرب كله، وفي مقدمته الولايات المتحدة، بعد ضربة «داعش» الإرهابية في باريس، وأيضًا في كاليفورنيا في أميركا وفي سيناء المصرية في شرم الشيخ، ويبدأ التراجع عن مواقف وقرارات سابقة عنوانها: «لا وجود لبشار الأسد في مستقبل سوريا»، وتحل محلها مواقف متأرجحة وضبابية ويهيمن عليها «التَّلعْثم»، فإن هذا يفهم وبكل وضوح ومن دون لبس وإبهام بأنَّ هناك تحولات جذرية وأن «الاشتراطات» السابقة لم تعد مطروحة ولا موجودة، وأن المرفوض غدا مقبول، وأن هذا الرئيس السوري، لا غيره، حسب هؤلاء باقٍ قبل وبعد «المرحلة الانتقالية».. هذه المرحلة التي قد يطويها الزمن وتبعثر شملها المستجدات وتصبح نسيًا منسيًا.

كان الإيرانيون والروس قد أصروا على أن الأولوية هي للقضاء على «داعش» وعلى الإرهاب، وليس لإزاحة بشار الأسد، والغريب أنه ما كاد صدى هذه التهديدات المبطنة يتلاشى حتى بدأ «تسونامي» الدماء والقتل والخراب والدمار يضرب في أربع رياح الكرة الأرضية، بدءًا بالطائرة الروسية في سماء سيناء وشرم الشيخ، وصولاً إلى كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية، مرورًا بتلك المجزرة البشرية المروعة في فرنسا وبارتداداتها الجانبية في عدد من الدول الأوروبية وغير الأوروبية.

وحقيقة أن كل هذا يعني أنَّ كل هؤلاء الذين غيروا مواقفهم وتسببوا في كل هذه الانقسامات الدولية، التي أشار إليها جون كيري آنفًا، إنْ بالنسبة إلى مصير الرئيس السوري، وإنْ بالنسبة إلى الحلول الأخرى المقترحة للأزمة السورية، قد خضعوا خضوع المرتبك والمصاب بالهلع والذعر لابتزاز روسيا وإيران وابتزاز رئيس نظام دمشق نفسه الذي كان قد قال، بينما كانت أصوات الانفجارات تهز أجمل أحياء العاصمة الفرنسية، إنه لا حلول سياسية وعلى الإطلاق قبل القضاء قضاءً نهائيًا على التنظيمات الإرهابية، وقبل أن يسيطر «الجيش العربي السوري» على كل الأراضي السورية.

فماذا يعني هذا؟.. إنه يعني وبكل وضوحٍ وصراحة أن الذين أصيبوا بالهلع والرعب وبخاصة بعد «ضربة» باريس المرعبة، قد أصبحوا على قناعة راسخة أنَّ اليد العليا في سوريا والعراق والشرق الأوسط كله وصولاً إلى أوروبا والولايات المتحدة بالنسبة إلى الإرهاب و«داعش» وإدارته والتحكم فيه هي اليد الإيرانية، واستطرادًا هي اليد الروسية، وهنا فإن المقصود بالتحكم ليس التبعية المباشرة ولا الارتباط التنظيمي، وإنما قدرة هذين النظامين على إدارة الصراع بهذه الطريقة الدموية، وعلى هذا الجانب عن بعد ومقدرتهما على التلاعب بمعادلات الصراع وأرقامه وبخاصة في سوريا والعراق!!

هناك معلومات، لم يجر الحديث عنها بكثير من التحديد والإفصاح قبل الآن، تقول إن الروس استطاعوا إقناع بعض الأطراف المعنية بهذا الصراع المحتدم في سوريا والعراق، بأن الولايات المتحدة ليس لديها القدرة ولا الرغبة على مزيد من التورط في مشكلات وإشكالات هذه المنطقة، وأنها «عمليًّا» قد سلمت الراية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي وصل به ما يمكن أن يعتبر تحديا لحلف شمال الأطلسي بالتطاول على تركيا، العضو المؤسس والرئيسي في هذا الحلف، بعد إسقاط طائرة الـ«سوخوي 24» الروسية التي يعرف الرئيس الروسي نفسه تمام المعرفة أنها اخترقت الأجواء التركية بالفعل، وأن هذه ليست المرة الأولى التي تخترق فيها الطائرات الروسية الأجواء التركية.

تقول هذه المعلومات إنَّ الروس قد أقنعوا هذه الأطراف أن روسيا قد جاءت إلى هذه المنطقة بأساطيلها وجيوشها وصواريخها وطائراتها الاستراتيجية، وأنها أقامت كل هذه «القواعد» كي لا تنسحب منها إطلاقا إلا بعد تأمين واقع مستجدٍّ في سوريا وفي كثير من الدول القريبة والمتاخمة يضمن لها بقاءً دائمًا وطويلاً، ويعيد إليها أمجاد القيصرية القديمة وأمجاد الاتحاد السوفياتي عندما كان في ذروة تألقه، قبل أن يغرق في المستنقع الأفغاني فتكون نهايته تلك النهاية المأساوية. وبالنسبة إلى بشار الأسد فإن الروس، وفقًا لهذه المعلومات المشار إليها آنفًا، قد أفهموا هذه الأطراف أنهم سيتمسكون به وببقائه حتى نهايات عام 2017، وأنه بعد ذلك ستجري انتخابات رئاسية وبرلمانية في ظل عدم وجود معارضة مسلحة وعلى الإطلاق، وبسيطرة كاملة لـ«الجيش العربي السوري» على كل الأراضي السورية، ليكون هناك امتداد لهذا النظام القائم الآن، ولكن بنسخة منقحة جديدة تعطي انطباعًا بأن المراحل السابقة منذ بداية الانقلابات العسكرية في سوريا في عام 1949 قد ولت دون رجعة، وأن ما بعد عام 2017 هو استئناف للحياة الديمقراطية التي لم يعرفها هذا البلد إلَّا في فترتين قصيرتين جدًّا، الأولى بعد انسحاب الفرنسيين مباشرة، والثانية عندما جرت انتخابات في نحو منتصف خمسينات القرن بالإمكان القول إنها كانت الانتخابات التشريعية الوحيدة التي عرفها هذا البلد العربي.

في كل الأحوال وعَوْدًا على بدء، فإنه يمكن القول وبثقة تامة إن حسابات الحقل لا تتطابق مع حسابات البيدر، ليس في بعض الأحيان وإنما في معظم الأحيان، وإن هذا الشعب العظيم الذي تحدى وطأة استبداد تواصل لأكثر من أربعين عامًا، وأطلق هذه الثورة الباسلة ومن الصفر، وعندما كان بشار الأسد في كامل لياقته الأمنية، وكان جيشه يعتبر عدة وعتادًا واحدًا من أهم وأقوى جيوش هذه المنطقة، وكان حلفاؤه الحاليون هم حلفاءه في عام 2011 وفوقهم إسرائيل.. فكيف الآن وهذا النظام قد أصبح في أوضاع لا تسر الصديق ولا تغيظ «العدا»، وبينما إيران ليست أكثر من نمرٍ من ورقٍ، في حين أن روسيا تعاني من أوضاع اقتصادية متردية لا تؤهل بوتين لأي مغامرة وقد تأخذه للغرق في هذا المستنقع السوري كما غرق ليونيد برجنيف وهو في نهايات حياته في المستنقع الأفغاني، وأغرق معه الاتحاد السوفياتي.

إن حسابات بوتين الحالية تستند إلى تقديرات معظمها وهمية، فابتزازه إلى جانب ابتزاز إيران لبعض الدول الغربية بواسطة «داعش» ومن خلاله، لا يعني أن هذه المنطقة باتت تعيش في فراغ مطبق، وأنه ومعه حلفاؤه الإيرانيون سيملأون هذا الفراغ.. إن هناك أولاً إرادة الشعب السوري الذي أطلق هذه الثورة المستحيلة في عام 2011 من الصفر، وأن هناك عربًا مصممين على الاستمرار في احتضان هذا الشعب السوري العظيم وثورته حتى النصر، والشاهد هو مؤتمر الرياض الذي ينعقد في هذه الأيام.. والشاهد أيضًا هو أن كل الثورات التي انتصرت على الطغاة والأنظمة الظالمة قد انطلقت في ظروف أسوأ كثيرًا من هذه الظروف التي تعيشها وتمر بها الثورة السورية.

الآن وقد بدأت المخاوف تضرب بعض «أصدقاء سوريا» وبدأ الارتباك يضعف هِمَم الذين خضعوا لابتزاز روسيا وإيران، بعد ضربة باريس الموجعة، وبعد سلسلة الهزات الارتدادية لهذه الضربة، فإن مسؤولية إنقاذ الوضع تقع على عاتق المعارضة السورية التي عليها بكل فصائلها أن تغلب العام على الخاص، وأن تتبادل التنازلات وأن تنقي صفوفها من المندسين والمرتزقة، وأنْ تركز على النوعية وتهمل الكمية وتتخلص منها بصورة نهائية.. فهذا هو الرد على مخططات ومؤامرات كل الأطراف والدول المعادية لها ولقضايا شعبها، الشعب السوري العظيم، ويقينًا ونقولها مرة أخرى: إن كل هؤلاء الذين هزوا قبضاتهم عاليًا في الهواء والذين لجأوا إلى إطلاق الزغاريد المدوية بعد الارتباك الذي أصاب بعض الدول الأوروبية، وأدى إلى ما وصفه جون كيري بـ«الانقسامات الدولية الحادة بالنسبة إلى مستقبل بشار الأسد وبالنسبة إلى مصير الأزمة السورية» سوف يعضون أيديهم ندمًا.. ولكن عندما لا تصبح هناك فائدة من الندم!

الشرق الاوسط اللندنية

 

 

 

 

محاذير الاعتماد على إيران و«الحرس الثوري» في الحرب على “داعش”/ راغدة درغام

إذا لم تعترف الدول الكبرى، سيما الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، بأدوارها الفاعلة في خلق ظاهرة وتنظيم «داعش»، لن تكون وعود حروبها على هذا التنظيم جدية أو رصينة. وإذا بقيت هذه الدول في حال إنكار لما يقتضيه القضاء على «داعش» لجهة التحالفات الإقليمية ومقوّمات التجنيد والتعبئة الضرورية للعرب السُنَّة، سيجد العرب الشيعة أنفسهم الطعم في مصيدة تُدّبر لهم إما عمداً في سياسات مكيافيلية أو سهواً في قصر نظر أسطوري، وسيتفاقم خطر الانتقام داخل هذه الدول ذاتها مع النمو «الداعشي».

بالأمس ضرب الإرهاب باريس ثم كاليفورينا، وغداً قد يصل إلى لندن وموسكو وربما بكين وواشنطن ما لم تتوقف الدول الخمس عن دفن الرؤوس في الرمال والتظاهر بأنها بريئة من إثم خلق «داعش» وأمثاله من التنظيمات الإرهابية. أما الدول العربية، الخليجية والشرق أوسطية والشمال أفريقية، فإنها معاً مع إيران وتركيا وإسرائيل وباكستان وأفغانستان مسؤولة جذرياً عن نشوء التنظيمات الإرهابية بدءاً من «القاعدة» الذي وُلِدَ في أعقاب شراكة دولية لصنع الأصولية الإسلامية من أجل إسقاط الاتحاد السوفياتي عبر البوابة الأفغانية. فلا أحد بريء من تصنيع الحركات الجهادية المتطرفة كأدوات، كلٌ لغايته، والجميع يعي تماماً ماذا يتطلب سحق «داعش» وأمثاله لو توافرت جدية العزم والجرأة على القرارات. المشكلة ان كل اللاعبين الكبار، الدوليين والإقليميين، في غنى عن الذعر والهلع طالما هذه الحرب تُشَّن بعيداً عن مدنهم «هناك» في العراق وسورية وليبيا واليمن، وكلها في البقعة العربية. المشكلة ان هؤلاء اللاعبين يبدون في غنى عن وضع برامج زمنية لإستراتيجيات عملية ذات بداية ونهاية وأهداف محددة، وذلك لأسباب مختلفة بين لاعب وآخر بعضها يصب في تناقض مباشر يقوّض جذرياً الأرضية الجدية المزعومة لما يسمى الحرب على «داعش». فبعض الإقرار مفيد كثيراً كي لا يؤدي الإنكار الى أسوأ ليقال بعده «لو كنا نعلم».

هذا المقال سيركز على الأدوار الأميركية نظراً إلى احتدام النقاش حول المواقف الآنية بتجاهل تام لخلفية وأبعاد السياسات الأميركية المتتالية.

ظاهرة دونالد ترامب مدهشة ليس بسبب عنجهيته اللامتناهية وانصبابه على غروره بفورة غير طبيعية. انها مدهشة لأنه يتقدم المرشحين الجمهوريين الذين يسعون وراء الترشح عن الحزب للرئاسة، مهما غالط وأساء وتصرف بازدراء أو حرّض بغباء. شعبيته تنطلق أساساً من استياء الأميركيين من الطاقم السياسي التقليدي الذي يتمثل حالياً بالرئيس الديموقراطي باراك أوباما والمرشحة المفترضة للحزب الديموقراطي هيلاري كلينتون وزوجها الرئيس السابق بيل كلينتون. استياء أيضاً من مساعي هيلاري وبيل توريث القيادة السياسية والسعي وراء البيت الأبيض لوحيدتهما تشيلسي وكأن عائلة كلينتون تبني «دايناستي» شأنها شأن عائلة بوش التي حصدت رئاستين لجورج الأب والابن، ويسعى جيب بوش الآن وراء رئاسة ثالثة.

لكن الخوف من تكرار ارهاب 11/9 الذي طبع «الإرهاب الإسلامي» في أذهان الأميركيين هو المحرّك الذي يستخدمه دونالد ترامب لتعبئة الرأي العام وراءه. ارهاب سان برناردينو على أيدي زوجين مسلمين كان أول عملية ارهابية منذ اسقاط البرجين قبل 14 عاماً على يد «القاعدة»، وترامب وجد في ذلك فرصة لإطلاق الدعوة الى «حظر كامل» لدخول المسلمين الى الولايات المتحدة. هذا بعدما كان البليونير الذي له علاقات مالية مع العرب والمسلمين منذ سنوات عديدة تعمد التحريض ضد العرب والمسلمين مستعيداً 11/9 زاعماً ان الآلاف رقصوا ابتهاجاً لسقوط البرجين في نيوجرزي.

بغض النظر ان كان هذا الرجل الطموح مهرجاً خطيراً، أو ممثلاً تلفزيونياً بارعاً، أو مرشحاً جدياً للرئاسة الأميركية، أو منتهكاً للدستور الأميركي، ان ابتهاج نسبة كبيرة من الجمهوريين به انما هو مؤشر إلى سذاجة وإنكار لدى شطر كبير من الرأي العام الأميركي. فالتاريخ لم يبدأ مع دونالد ترامب. والتاريخ يشهد على ادوار خطيرة لمختلف الإدارات الأميركية حين ساهمت عمداً في صنع الأصولية الإسلامية ولعبت أوراق التحريض المذهبي بين السُنَّة والشيعة منذ أواخر السبعينات حتى يومنا هذا.

الرئيس الديموقراطي المسالِم الذي حصل على جائزة نوبل جيمي كارتر مكث في البيت الأبيض من 1977 حتى 1981 وفي عهده قامت الثورة الإيرانية عام 1979 وولدت الجمهورية الإسلامية على أيدي الملالي الشيعة بقيادة الخميني الذي عاد من باريس ليحل مكان شاه ايران. في عهده أيضاً وقع الغزو السوفياتي لأفغانستان.

الرئيس الجمهوري رونالد ريغان أطلق أكثر من عملية ملفتة منها التودد الى الملالي في طهران عبر فضيحة «الكونترا – إيران». إنما من أبرز ما فعله هو حشد الجهاديين وتدريبهم على أيدي وكالة الاستخبارات المركزية بمشاركة من مختلف الدول الإسلامية وذلك لتشجيعهم وتعبئتهم لمحاربة الملحد الشيوعي – وهكذا سقط الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. انما بعدما قام الجهاديون بالمهمة، استغنت عنهم واشنطن فيما ظنوا أنفسهم حلفاء. وهكذا ولد تنظيم «القاعدة».

في عهد ريغان ما بين 1981 و1989 استعرت الحرب الإيرانية – العراقية التي دعمت فيها إدارة ريغان الرئيس العراقي السابق صدام حسين وأجّجت صراعاً طائفياً بين القيادة السنّية في العراق والقيادة الشيعية في ايران. حينذاك، وقفت واشنطن رسمياً مع صدّام فيما غازلت ملالي طهران.

ثم في عهد الرئيس جورج بوش الأب 1989 – 1993 وقعت حرب الخليج الأولى حين غزا صدام حسين الكويت – البعض يقول برسالة غض نظر مسبقة سلّمتها السفيرة الأميركية إبريل غلاسبي الى صدام عشية مغامرته عام 1990.

وفي عهد الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون 1993 – 2000 انقلبت واشنطن رسمياً على حليفها السابق صدام واستمرت في التودد لإيران. في عهده أنجزت الأمم المتحدة نزع الأسلحة المحظورة في العراق.

الرئيس جورج دبليو بوش دخل البيت الأبيض عام 2001 وغادره عام 2009 بعدما خاض حربين، قال انهما انتقاماً لإرهاب 11 أيلول 2001. بدلاً من التركيز على استهداف «القاعدة»، قرّرت إدارة بوش التخلّص من حكم «طالبان» في أفغانستان وإسقاط حكم صدام حسين في العراق بحجة ثبت لاحقاً انها ملفّقة، حجة امتلاك أسلحة دمار شامل. ما فعله بوش الابن هو أنه خلَّص ملالي طهران من عدوّين لدودين في جيرتها العراقية والأفغانية وقدم لهم العراق على طبق من فضة. وهكذا عوّضت واشنطن لطهران عما فعلته أثناء الحرب العراقية – الإيرانية لتلعب هذه المرة الورقة الشيعية عكس ما فعلته أثناء تلك الحرب المدمرة عندما لعبت الورقة السنّية لمصلحة صدام.

بين أخطر ما قام به جورج دبليو بوش هو تفكيك الجيش العراقي تحت عنوان «اجتثاث البعث» وإطلاق عنان الانتقام الشيعي من التسلط السنّي الذي ساد في عهد صدّام. فهؤلاء هم نواة ما أصبح لاحقاً يُعرف بـ «داعش»، وهم، على الأرجح، جزء من القيادة العليا لهذا التنظيم السنّي المتطرف الذي أطلق على نفسه لقب «الدولة الإسلامية في العراق والشام».

ما بدأه جورج دبليو بوش الجمهوري اكمله الرئيس الديموقراطي باراك أوباما في النقلة النوعية في العلاقة مع ايران. كلاهما غض النظر عن كون حكم الملالي حكماً «ثيوقراطياً» والأول في المنطقة ليدشن جمهوريات فرض الدين على الدولة. أوباما تعمد غض النظر عن التجاوزات الإيرانية في العراق وسورية واليمن ولبنان. قدّم الى الملالي الاعتراف بشرعية نظامهم، والاعتراف بحقوق ايران بالتخصيب النووي، والتعهد بعدم التدخل في الشأن الداخلي تحت أي ظرف كان، وكذلك الإقرار والاعتراف بدور إقليمي للملالي يتعدّى حدود دولتهم ليطاول الدول المجاورة. وهذا، بالتأكيد، ساهم في تأجيج العداء الشيعي – السنّي سيما أن إيران تحارب في سورية لمصلحة بشار الأسد وتدعم المليشيات الشيعية في العراق.

الهدف من وراء التذكير بتاريخ الإدارات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط ومع المسلمين بعامة ليس تبرئة المسلمين أو العرب من إرهاب 11/9 أو إرهاب «القاعدة» أو «داعش» أو أي تنظيم يشبههما. الهدف هو التحذير من إنكار مسؤولية المساهمة في صنع الأصولية السنّية والشيعية والإرهاب الإسلامي. فكما يقول المثل الأميركي «إن كنت أنت الذي يكسرها، فإنها تصبح ملكاً لك».

فهذا الاستثمار المستمر في تغذية الصراع السنّي – الشيعي سيرتد على شيعة إيران والشيعة العرب مهما بدا الشريك المفضل لأميركا اليوم، أي إيران أو حلفاءها، مرتاحين لذلك. هذا الاستثمار سيفرّخ المزيد من الإرهاب السنّي الناقم على التحالف الأميركي – الروسي – الإيراني والذي قد يأخذ عملياته الى عقر دار من يعتبرهم أعداءً، لأسباب مذهبية، وحلفاءً في تقزيم السُنَّة.

إلحاق الهزيمة بتنظيم «داعش» وأمثاله تطلب بكل تأكيد حشد السُنَّة العرب في الحرب عليه. انما هذا مستحيل على القيادات العربية طالما يرى السُنَّة ان اقصاءهم داخل بلادهم سياسة تدعمها الولايات المتحدة، وأن ما يقدمونه في إطار محاربة «داعش» يأتي في الدرجة الثانية لأولوية تحالف الأمر الواقع بين واشنطن وطهران، وموسكو وطهران.

حذار هذا الاستثمار في اعتبار الميليشيات الشيعية و»الحرس الثوري» الإيراني الحلفاء الطبيعيين في الحرب على «داعش» والإرهاب السنّي. فأولاً، لا انتصار في هذه الحرب بمثل هذا التحالف. وثانياً، لا انتصار في تلك الحرب من دون السُنَّة العرب. ولذلك، ان أذكى ما يمكن واشنطن، لو شاءت حقاً أن تصوغ جبهة جدية في وجه إرهاب «داعش» وأمثاله، هو الكف عن لعبة تنمية الإرهاب الشيعي في وجه الإرهاب السنّي.

وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر بدا ضعيفاً جداً وهو يواجه استنطاق لجنة مجلس الشيوخ برئاسة السناتور جون ماكين. أجوبته كانت سطحية حتى وهو يعرض الدعم في معركة الرمادي على الحكومة العراقية. كان سطحياً في أجوبته عندما تحدّى الدول الخليجية الحليفة الرسمية في التحالف الدولي بقوله ان ايران متواجدة ميدانياً عسكرياً، وهم لا. كان ذلك اعترافاً بأن السياسة الأميركية ليست، كما يُظَّن، عشوائية. انها مدروسة، وهي خطيرة. والمشكلة ان واشنطن تُدرك تماماً الحاجة الماسة الى عنصر الشراكة السنّية في دحض «داعش» لكنها تختار ألاّ تقوم بما من شأنه اقناع الشريك الضروري بتلك الشراكة.

ما تحتاج واشنطن لأن تفكر فيه هو الكفّ عن تزكية إيران لموقع القيادة في الشرق الأوسط. انها بذلك تورط شيعة ايران والشيعة العرب سهواً، ان لم يكن عمداً. انها بذلك تحرث الأرضية لإرهاب آتٍ الى الولايات المتحدة مهما بدا اليوم مستبعداً.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى