صفحات الناس

مقالات تناولت مقتل الأَب فرانز فان درلوغت في حمص

شفعاء المحاصرين ليسوا كغيرهم/ نائلة منصور

إلى روح الأب فرانس

هل يمكننا أن نكفّ عن المفاضلة؟ بين المواقف والناس والسياسات وبين وبين؟ لا. لا يمكننا. سوريا بشرطها اليوم ليست إلاّ تمرينَ مفاضلات بين مطلقات ومعانٍ غير نسبوية، الزمن، على الأقل زمن من ينوء بمثاقل الأهوال من السوريين، ليس زمن الشكّ والنسبية والسياسة والممكن وغير الممكن وموازين القوى. ذلك رفاه لم يعد لهم إليه سبيل. الأمور بتلك البساطة وبذلك الوضوح، من اختار البقاء مع المحاصرين في ظروف قهر مماثلة لا يشبه غيره، هو في الجانب الأبيض من لوحة تكاد لا تحتمل تلاوين أخرى بين الأبيض والأسود.

ما تفعله أم محمود، شفيعة عجائز الحصار، في مخيم اليرموك لا يعادله فعل إنساني آخر، يعيد إلى الذهن قيماً إيثارية بدئية فجّة لا تقبل النسبية. أخذت على عاتقها أن تخدم العجائز وتقدم لهم الطعام والأدوية والخدمات المختلفة، تخاطر بحياتها تحت أعين القنّاصين عند الحاجز الخارجي لمخيم اليرموك لتتفقد أحوال الساكنين في ذلك الحي من العجائز. خميرة إنسان هي، قد يبدو بقاؤها عبثاً كما بقاء أبو سلمى الذي أخذ على عاتقه أن يعلّم أبناء المخيم، كما بقاء سيماف، الفتاة الكوردية التي تبثنا جميعاً من «حمص المحاصرة بخذلان العالم» مشاعرها ومشاهداتها دون أن يفهم الكثير مهمتها على وجه التحديد، هي شاهدة وخميرة لإنسان سيعاود حياته في تلك البقعة من الأرض. كلهم حبّات حنطة مطمورة ستملأ الوادي سنابل.

وبعيداً عمّا فعلته رزان زيتونة على الصعيد الحقوقي المهني، كانت السمة الأبرز لتجربتها في الوقت العصيب المستعصي حيث بدأ كثيرون يستسلمون للتعب، هي قرارها أن تقيم في الغوطة الشرقية، الخارجة عن سيطرة النظام المباشرة ولكن الرازحة تحت حصاره وطياراته وغازه. رزان ومن شاركها تلك التجربة في الغوطة الشرقية كسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي وآخرين لا نعرفهم أقاموا تضامناً يخفف من وطأه «يا وحدنا»، وهو يكفي فضيلةً على كل حال، في زمن أصبح عدد المتضامنين مع المحاصرين يُعدّ على الأصابع، أبعد من ذلك، إقامة رزان في دوما كان الجواب عن كيف نردّ على العنف المعمّم، عنف النظام قبل كل شيء، بتأسيس القواعد العامة واحترامها وقوننتها حتى لا تعود «المدينة» غابة، وحتى لا يبقى كل فرد منكفئ في زاويته خوفاً من الآخر، من السلاح ومن الفوضى. خميرة المدينة كانت رزان.

لقد اختاروا. هذا الفعل بالذات: «اختار»، هو ما يميز الأب فرانس وأمثاله، كل المعطيات والسيرة الذاتية والرأسمال المعنوي لهذا الرجل وحتى مواقفه السياسية غير المتجذرة مما يحصل كانت تخوّله للخروج من دير الآباء اليسوعيين في حي الحميدية ضمن مدينة حمص القديمة، ولكنه أصرّ على البقاء إلى جانب من يحتاجه، في اتساق متميز بين البدايات والنهايات، بين بدايات عمله لأجل الإنسان السوري ونهاياته. يقول أصدقاؤه أنهم حين كان يطلبون منه أن يخرج من حمص كان يجيبهم «ولمن أترك الله؟»، ما فعله الأب فرانس خلال الثلاث سنوات على وجه الخصوص هو كل شيء إلا «فيلانتروبية» استشراقية مبتذلة. ما فعله هو إتمام نهائي، بالدم، لدرس مكثّف في معنى «وخلق الله الإنسان على صورته»

كتب أحد أصدقائه في رثاء بليغ لم يتجاوز الكلمتين: «لقد تمّ». نعم، لقد تمت الدائرة الحلقية المتحديّة لخطيّة التاريخ في مثال الأضحية البشرية التي تستعيد في كل مرّة إطلاق فكرة أن الإنسان على صورة الله والوقوف معه وقول كلمة حق في الظلم والمظلوم هو خير ولو كلّف الحياة. «تمّ» بأن يستشهد هؤلاء الشفعاء في صورة لا تقلّ مأساوية وكثافة عن استشهاد استيفانوس، الشهيد الأول، أو الحلّاج، شهيد الكلمة، قتيل الجهل. «تمّ» لأنه عاش حياته لإعلاء كلمة ثم ختم الدائرة بأن قدم حياته أضحية لتبقى تلك الكلمة مرفوعة. تمّ ما أصبح محتوماً، أن تنتهي حياته بمأساة تعكس مأساة حمص الشهيدة، مأساة سوريا الشهيدة. مأساة أنه عمل للإنسان السوري ومات على يد الإنسان السوري. لم تعد هوية القاتل مهمة، النظام في اختراق أمني أو فصيل مسلح محسوب على المعارضة الثائرة، لم يعد كل ذلك مهماً، لقد تمّ المحتوم. تجسيد مشهدي للمأساة السورية في لقطة أخيرة، مكررة مع كل شهيد، سجيّ فيها جسد الأب فرانس في نعشه.

ولكن أبعد من محتومية التمام في قراءاتنا الروحية، يفتح درس الأب فرانس في وقوفه مع الإنسان في وجه القهر والظلم والجوع بغض النظر عن المشارب والانتماءات والمواقف السياسية، يفتح أبواباً لغنى في الألوان يفوق الأبيض والأسود.

موقع الجمهورية

الأب فرانز.. الأب باولو/ معن البياري

لا معنى لاتفاق وكالة الأَنباء السورية الرسمية، “سانا”، مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، في اعتبار قتل الراهب الهولندي اليسوعي، الأَب فرانز فان درلوغت (75 عاماً)، برصاصتين في رأسه، الاثنين الماضي، جريمةً. ببساطةٍ، لأنَّ أَيّاً منهما لم يشحط الذئب من ذيلِه عندما فسَّر الماءَ بالماء.

ولأنَّ الرجل قُتل في حمص التي يُحاصرها جيش النظام، فإنَّ على السلطة، التي تنتسب إليها وكالة الأنباء الحكومية، أَن تكون سلطةً بحق، فتقوم بوظيفتها البديهية في كشف حقيقةِ الجريمة، وتعيين القاتل، وإِقامة عقوبةٍ مشدّدةٍ عليه.

ولا ينتسبُ طلبٌ مثل هذا إلى غير البلاهة، لأن نظاماً لا يقيم وزناً لقيمة الإنسان وحقه في الحياة، لا يضيّع وقته في جهدٍ مثل هذا، وهو الذي وعد، مرّة، بالتحقيق في اعتداءٍ بلطجيٍّ على علي فرزات، وقبل ذلك، زعم أَن تحقيقاً يجريه بشأن اغتيال عماد مغنية، ثم لا حسَّ ولا خبر بشأن تينك الواقعتين، (وغيرهما).

ولا نظنُّ أَن النظام المذكور كان مغتبطاً بوجود الراهب فرانز بين أَهل حمص المحاصرين، ووسط خرائب مدينتهم التي أَنهكها القصف المدمّر في جولات رعبٍ وتمويتٍ لم يتوقف النظام عن ارتكابها. ولا نظنُّه كان مرتاحاً لانتساب الراهب الهولندي إِلى آلام السوريين، على ما قال الرجل قبل أَسابيع، لمّا أعلن عدم الرحيل عن حمص، وهو الذي يقيم في سوريا منذ 1966، وكان ينقل إِلى العالم بعض ما يتعرّض له المدنيون العُزَّل من جرائم التجويع والخنق والقصف.

كان الأب فرانز نبيلاً في تبتّله بين السوريين، وفي صلاته من أجلهم، وفي قوله إِن السياسيين في المجتمع الدولي يتحدثون، في الفنادق والمطاعم، عن مظالم الشعب السوري، فيما يكابد هذا الشعب أَهوالاً بعيدة جداً عنهم.

ستذهب جريمة قتل هذا الناسك البهيّ إِلى أرشيفٍ منسي، فلن يُحاسَب مَن ارتكبها، كما لم يُحاسب مَن اقترف جرائم بلا عدٍّ ولا حساب في سورية التي تُغتال يومياً، شعباً وكياناً وعمراناً. وإذ يسهل تحميل النظام، غاصب السلطة في دمشق، الحصّة الأثقل من المسؤولية عن هذا كله، فإنَّ مقادير غير هيّنةٍ من المسؤولية عن هذا الحطام تقع على مجموعاتٍ مسلحةٍ متطرّفة، تقترف إِرهاباً أَعمى وأسود، وتعمل على فرض نموذج اجتماعي متخلّفٍ على سوريين في غير بلدة ومطرح.

ليس مستبعداً أن يكون أحد منتسبي هذه المجموعات غيّب الأب فرانز، الهولندي البديع الذي يُذكّرنا انتماؤه إلى السوريين باليسوعي الإيطالي، الأب باولو دالوليو (78 عاماً)، حماه الله وأَبقاه، وقد اختطفته جماعة “داعش”، قبل نحو عام، في الرقّة على الأرجح، لما قدم إِليها ليساهم في إيقاف عمليات خطفٍ متبادلةٍ بين عربٍ وأكراد، فاحتجزته عصابةٌ من أَصحاب الرايات السوداء إِياها، والتي تسلّحهم أجهزةٌ خارجيةٌ لا تريد خيراً لسورية وناسها. أَتذكّر باولو يقول لي في القاهرة إنَّ طول الصراع العسكري في سورية يزيد التعصّب والتطرّف الأصولي. أَسَرَتني شمائله وبهرني سخاؤه في محبّة السوريين، وفي نصرته ثورتهم، لمّا كنّا معاً في ملتقىً سوري فكري معارض. أَبعده النظام عن سوريا، التي أَقام فيها متنسّكاً ثلاثة عقود، ثم دخلها، غير مرّة، لمساندة الثوار في كفاحِهم من أجل التخلّص من “الاستبداد المديد” ومن “نظام الأسد الساقط منذ ولادته”، بتعبيره…

لتكن جريمة اغتيال الأب فرانز مناسبةً متجددةً لإطلاق حملةٍ عالميةٍ من أجل إنقاذ الأب باولو من قبضة العصابة التي تحتجزه، والتي ليس ما هو أَبهج لنظام دمشق من أن تزيد أمثالها، وأن تتناسل عصاباتٌ وعصابات، لتقتل وتخطف، ولتؤجّج السعار الطائفي المقيت.

ولأن الأمر كذلك، نحسب شبيحة الأسد فرحين، الآن، بقتل الأب فرانز، للتأشير على إرهابٍ لا يرون غيره، وكذلك بخطف الأَب باولو، عقوبةً له على “ثقته” بانتصار ثورة السوريين، على ما كان يقول. وهي ثقةٌ مخيفةٌ لأولئك الشبيحة والنظام الذي يحتويهم.

العربي الجديد

من قتل الأب فرنسيس في حمص؟/ خالد عواد الأحمد

حمص ـ

    125 يناير من 6 أبريل28 قتلى باشتباكات مخيّم لبناني… ودحلان يتبرأ من رجُله3الجزيرة السوريّة: الآشوريون يدخلون على خط المواجهة4″معبر مائي” لغزة على طاولة المفاوضات التركية الإسرائيلية الأوروبية5عبد الله الثاني يكشف عن مسار تفاوضي أردني إسرائيلي6″فايننشال تايمز”: ضغوط خليجية على لندن لحظر “الإخوان”

لا يزال الغموض يلف قضية مقتل الاب الهولندي فرنسيس فاندرلخت على يد ملثم مجهول صباح الاثنين الماضي في دير الآباء اليسوعيين داخل حمص المحاصرة. كان بإمكان الرجل أن يحمل جواز سفره ويطير على أول طائرة إلى بلده الام، هولندا، لكنه رفض الخروج من حمص، وعاش فيها كأحد أبنائها، على الرغم من ظروف القتل والجوع والحصار التي تعيشها منذ أكثر من عام ونصف.

وفور إعلان استشهاد فرنسيس، كما يحب أهل المدينة أن يطلقوا على مقتله، بث ناشطون شريطاً مصوراً قالوا إنه كان السبب في مقتل الأب فرنسيس. وفي الشريط، يناشد رجل الدين الهولندي العالمَ لفك الحصار عن حمص قائلاً “أنا الأب فرنسيس أتكلم معكم من حمص المحاصرة وأمثل مجموعة مسيحية لا تقل عن 66 مسيحياً، بالإضافة لإخوتنا المسلمين المدنيين”. ويتابع “نجتمع هنا في الكنيسة أو على كاسة شاي بلا سكر لأنه لا يوجد سكر، نحن المسيحيين والمسلمين في حمص نعاني من الجوع لأننا لا نجد طعاماً”. وأردف قائلاً “ليس أصعب من أن نرى الإنسان يبحث عن لقمة العيش لأولاده ، نريد حلاً لمشاكلنا بعد سنة ونصف السنة من الحصار، نحن نحب الحياة ولا نحب أن نموت من الألم”.

لقد شكّل رحيل الأب فرنسيس، الذي كان كأيقونة من ايقونات حمص، صدمة لأهلها الذين “كانت تربطهم به علاقة احترام وتقدير لجهوده في خدمة ورعاية الطائفة المسيحية، وكانوا يثمنون له إصراره على مصاحبتهم في أزمة الحصار”، على حد تعبير الشيخ أبو الحارث الخالدي لـ”العربي الجديد”. ويضيف الشيخ أن “مجلس التنسيق العسكري، إذ يستنكر هذا العمل الجبان، ينفي أن يكون لأحد داخل الحصار مصلحة في قتل هذا الرجل المسن المسالم”، موجهاً أصابع الاتهام لـ “النظام الأسدي الغاشم الذي يهدف من هذا العمل إلى إيقاع الفتنة بين الصفوف، وتهييج الرأي العام على أن من في حمص المحاصرة إرهابيون وقتلة”. وأشار الخالدي إلى مساعي مجلس التنسيق العسكري للتحقيق في مقتل الأب فرنيسس، لتبيان الحقيقة.

وفيما توجهت أصابع الاتهام، من خلال بعض وسائل الإعلام ووكالات الأنباء، إلى “متطرفين يريدون إقصاء غيرهم من ذوي الديانات المختلفة”، نفت “جبهة النصرة” في حمص مسؤوليتها عن الجريمة. وجاء في بيان النفي الذي كتُب بخط اليد، ولم يتسن لـ”العربي الجديد” التحقق منه، “وإن أردنا ذلك حاكمناه عن طريق محكمة شرعية هي التي تقوم بإصدار الحكم فيه علناً، ولا نخشى في الله لومة لائم”، وألمح البيان، بلغة مذهبية، إلى أن المستفيد الاكبر من قتل الأب فرنسيس هو النظام السوري.

بدوره، يشير الناشط بيبرس التلاوي، إلى أن الاب فرنسيس كان شخصية محببة لدى جميع المحاصرين، وكان، كما هو معروف، موجوداً في حمص القديمة منذ بداية الحصار، ولم يُصَب بأذى، ولكن الذي جرى أنه بدأ في الايام الماضية يتحدث بصوت عالٍ عما يقوم به النظام من إجرام بحق المحاصرين، باستخدامه التجويع كسلاح حرب، فأراد هذا النظام التخلص منه.

وكشف الناشط التلاوي أن النظام السوري روّج لمقتل الأب فرنسيس صباح الثلاثاء، أي قبل أن يُعلن خبر وفاته، “وهذا دليل على أن لهذا النظام يداً باغتياله وإلصاق التهمة بالثوار لتشويه صورتهم أمام المجتمع الدولي، وزرع الفتنة بين الطوائف، ولكي يمنح هذا النظام لنفسه فرصة استخدام أسلحة محرّمة تحت ذريعة الإرهاب”.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى