صفحات العالم

مقالات تناولت موقف حزب الله من الثورة السورية

بين المقاومة ومكافحة الإرهاب/ حازم صاغية

لا تطيق القضيّة المصيريّة الواحدة والوحيدة أن تجاور قضيّة أخرى تماثلها أهميّة، أو تنافسها على الأهميّة. هكذا حين تُفرض مثل هذه القضيّة على مجتمع معقّد ومتفاوت، يصير لزاماً أن يُضفى عليها شيء من القداسة التي لا تُساءل، والواحدُ دائماً مقدّس. ولا تلبث أن ترقى عمليّة كهذه إلى كيّ للوعي العامّ، بحيث يغدو التفسير لزوم ما لا يلزم إنْ لم يغدُ سبباً للشكّ والتخوين.

رأينا هذا حين كانت «مقاومة إسرائيل» هي القضيّة. فبمزارع شبعا ومن دونها، وبصلاة في القدس ومن دونها، نحن مشدودون من رقابنا إلى المقاومة. المُصرّ على تعريض القضيّة للتفسير خائن. «نحن شعب المقاومة»، «هذا قدرنا»، «نقاوم لأنّ إسرائيل لا بدّ من أن تعتدي علينا». هذه الشروح الضاربة في جوهر الأشياء كانت تخترقها، بين فينة وأخرى، حجج مستقاة من محاضر مخفر الدرك: هناك طيران إسرائيليّ في أجوائنا.

الآن، القضيّة المصيريّة الواحدة والوحيدة مكافحة الارهاب. لأجلها لا بدّ من «أمن استباقيّ»، ولا بدّ من تكييف الحياة على هذا الأساس. ذاك أنّ الإرهاب، مثل إسرائيل في السابق، إن لم نذهب إليه أتى إلينا.

مرحلة العبور من «المقاومة هي القضيّة» إلى «مكافحة الإرهاب هي القضيّة» لا تهفو عن ذكر الأصابع الإسرائيليّة والصهيونيّة في الأعمال الإرهابيّة. هكذا يبدو العبور طبيعيّاً ومنطقيّاً. إلاّ أنّ الشطارة لا تُخفي ورطات قد يكون أصغرها القبول ببيان وزاريّ لا تُذكر فيه ثلاثيّة «الشعب والجيش والمقاومة»، وقد ينجم أكبرها عن انضمام إسرائيل نفسها إلى قضيّة مكافحة الإرهاب. هنا نصير محكومين بالإقرار، وبما يتلاءم مع وحدانيّة القضيّة، بأنّ قضيّة كنستْ قضيّة أخرى.

وفي معرض رفض التفسير، يقال ما كان يقوله جورج دبليو بوش من أنّ الإرهاب إرهاب لأنّه إرهاب. مَن يبحث عن تفسير أعرض متعاطفٌ مع الإرهابيّين. وللتذكير، كان «حزب الله» آنذاك أحد الأصوات الكثيرة التي تحتجّ بتفسيرات منها السياسة الأميركيّة ومنها الفقر والعوز وسوى ذلك. أمّا الآن فصار من يقول بأسباب للإرهاب، مجرّد شامت بالضحايا. هكذا يردّ «حزب الله» في مطالبته بإعدام كلّ تفسير.

لا شكّ في أنّ التفسير بتدخّل «حزب الله» في سوريّة ناقص. فهناك إرهاب في بلدان لا يوجد فيها «حزب الله»، كما أنّ أعمالاً إرهابيّة قليلة حدثت قبل التدخّل في سوريّة، بل قبل الثورة السوريّة نفسها. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الإرهاب يبحث في كلّ مكان عن شرط محلّيّ، وغالباً ما يصبح هو نفسه ظاهرة محلّيّة متوطّنة انطلاقاً من ذاك الشرط. هنا يصعب الجدل في الدور الذي اضطلع به التدخّل في سوريّة بوصفه تتويجاً نوعيّاً لسياسة ونهج أنجبا، في ما أنجباه، إضعاف الاعتدال السنّيّ. لقد ابتدأ هذا المسار باغتيال رفيق الحريري ووصل إلى منع نجله سعد الحريري، بوصفه زعيم الغالبيّة النيابيّة، من أن يحكم. وغنيّ عن القول إنّ من يستفيد من ذلك ليسوا الأشدّ اعتدالاً في طائفة الحريريّين.

ينبغي أن نضع كلّ هذه التفاصيل وسواها جانباً وأن ننقاد من أعناقنا، وبوعيّ مكويّ، من حماسة فرانس فانون للعنف المقاوم إلى حماسة جورج دبليو بوش لمكافحة الارهاب. وهذا، مثل ذاك، ينبغي ألاّ يخالطه التفسير الذي هو من أبسط لوازم العقل والحضارة. اصطفّوا وراء القضيّة الوحيدة وإلاّ فأنتم الخونة.

الحياة

بين تجفيف المعابر والانسحاب من سورية/ وليد شقير

مع كل تفجير إجرامي في لبنان، يزداد الذهول من تفشي ظاهرة الانتحاريين الغريبة على المجتمع اللبناني، والجديدة حتى على تقاليد بعض التيارات الإسلامية المتشددة في لبنان وأدبياته، والتي ترفضها القوى السياسية كافة في الطائفة السنّية، التي تغلب عليها تقاليد الاعتدال وتدوير الزوايا الذي يفرضه منطق التعايش مع الطوائف الأخرى. فلغة الاعتدال والتسويات هي تمرين يومي في السياسة اللبنانية وحتى عند العامة، من كل الطوائف، وعند المسلمين، تفرضها الصيغة المتعددة الطوائف. وهو أمر ينطبق تاريخياً، وفي أحلك ظروف التناقضات الطائفية على المسلمين وتحديداً على السنّة، في النظام الطائفي الذي يحكم حياة اللبنانيين ويتحكم بها. وهو ما يسميه البعض «الفولكلور اللبناني».

وفي أوج ظهور التيارات المتطرفة قبل عقود، نتيجة تضافر الكثير من العوامل من ظلم الفقر الى العداء للغرب وأميركا بسبب موقفهما المنحاز ضد القضية الفلسطينية، لم يرافق هذا الظهور نشوء ظاهرة الانتحاريين في لبنان.

وعلى رغم معاندة البعض، فإن ظهور هؤلاء ومنهم من نفذ عمليات في سورية قبل لبنان، ثم على الأرض اللبنانية في الأشهر الأخيرة، فإن هذه الظاهرة لم تنتقل الى البلد الصغير، إلا مع تصاعد الأزمة السورية. لا مجال لنكران التزامن بين المسألتين وإلا يكون المرء كمن يدفن رأسه في الرمال، مهما حاول «حزب الله» أن ينفي الأمر، أو أن يرفض ربط انتقال هذه الظاهرة الى لبنان بتدخله في القتال الدائر في سورية.

وإذا كان طبيعياً أن يبادر وزير جديد للداخلية، كالنائب نهاد المشنوق، يؤمن بالعمق بدور الدولة في مواجهة الجرائم، مهما كانت خلفياتها السياسية وتبريراتها، فيتهيأ لإجراءات من أجل «تجفيف معابر الموت» التي تدخل منها السيارات المفخخة، ومن أجل ملاحقة اللبنانيين الذين يساعدون على عبورها أولاً بسرقتها ثم ببيعها لمصانع الانتحاريين في سورية، ثم بتزوير أوراقها الثبوتية وأوراقهم، ثم بنقلها الى داخل الأراضي اللبنانية عبر الحدود مع سورية، فلاعتقاده بأن على المؤسسة الأمنية أن تقوم بدورها المتاح على الأرض اللبنانية في مواجهة هذه الظاهرة الإجرامية حتى لو كان مبررها عند المتطرفين قتال «حزب الله» في سورية الذي يعارضه المشنوق نفسه. والأرجح أن الوزير المشنوق حين يطرح تعاون القوى السياسية كافة، (وهو يقصد تلك المتعاطفة مع الثوار السوريين، و «حزب الله» وحلفاءه الذين يقاتلون مع النظام) يدرك أن الأمر سيفرض التطرف لاحقاً، الى الحدود المفتوحة و «معابر الموت» المعروفة التي يستخدمها «حزب الله» في ذهابه الى سورية وايابه منها، بأعداد ضخمة، في شكل يومي، للقتال الى جانب النظام.

وإذا كانت إجراءات مواجهة الإرهابيين على الحدود، أمنية في الدرجة الأولى، طالما أن لا غطاء سياسياً لهم، وهي سياسية بقدر ما هو مطلوب تعاون الفرقاء السياسيين في محاصرة شبكات التهريب في مناطق نفوذها وهذا يشمل مؤيدي الثوار في عرسال وغيرها و «حزب الله» في مناطق أخرى، فإنه يدرك أن إقفال معابر المقاتلين الى جانب النظام، أي «حزب الله»، إجراء محض سياسي يتطلب قراراً من قيادة الحزب ومن إيران. إلا أن الحزب في غير هذا الوارد، بل إن أمينه العام السيد حسن نصرالله ذهب في رفضه ربط الأعمال الإرهابية الإجرامية التي يقوم بها المتطرفون، بتدخل الحزب في سورية، الى حد التأكيد لمناصريه وجمهوره، ولخصومه أن «لا تعديل» في قرار القتال في سورية و «أن نكون حيث يجب أن نكون»، وأن المسألة مسألة وقت (كررها 5 مرات). كما أن نصرالله رهن إمكان الخروج من سورية بالمصالحة بين السوريين.

خاطب السيد نصرالله جمهوره بدعوته الى «الصبر والتحمّل والتضحية والوعي» 11 مرة في خطابه الأحد الماضي. ولعلمه بتململ هذا الجمهور من تداعيات هذا التدخل في سورية عليه ومن إقحام البلد في صراع بات قرار إنهائه في يد الدول الكبرى لا اللاعبين المحليين، اضطر الى تشبيه التضحيات والتحمل والصبر التي مارسها جمهوره في مواجهة إسرائيل بتلك المطلوبة الآن. ومن الطبيعي في هذه الحال أن يغطي «حزب الله» حساباته كلاعب إقليمي بحجج كونية حول انتشار الإرهاب والتكفيريين وأعمالهم، من أفغانستان الى باكستان ودول الغرب وصولاً الى السعودية ودول الخليج… فأوحى سلفاً بأن تجفيف معابر الموت يجب أن يبدأ من أقاصي الأرض، لينجح في لبنان.

خلاصة القول، إن لا حدود أمام الحزب طالما أنه يعتقد أن «وضعنا ممتاز وقوي وظرفنا السياسي أفضل من أي وقت»، في تلك المعركة الكونية التي يخوضها.

الحياة

نصر الله بين الحكومة ويبرود/ زيـاد مـاجد

بعيداً عن الانتصارية الساذجة لبعض مناصري 14 آذار، وبعيداً عن ادّعاءات من لم تشملهم الحكومة ولن يستطيعوا الاستفادة شعبياً أو سياسياً من غيابهم عنها، لا بدّ من التوقّف ولو سريعاً أمام ما يعنيه التراجع النوعي لحضور حزب الله في السلطة التنفيذية الوليدة، وتبعات الأمر عشيّة معركة عسكرية جديدة يحشد لها داخل الأراضي السورية، ويكرّس لها أمينه العام خطاباً زيّنه ببعض “الديكور” المقاوم وعدّته اللفظية الفلسطينية المعهودة قبل أن يخوض في لُبّ موضوعه.

فأن يقبل الحزب بذهاب ثلاث وزارات حسّاسة “أمنيّاً” الى خصومه المباشرين (الداخلية والعدل والاتصالات)، وأن يكون بين هؤلاء شخص أطاح الحزب بالحكومة الماضية رفضاً للتمديد له موظّفاً في الدولة، وأن يقبل أيضاً بعودة حصّته الفعلية الى الدائرة الشيعية الضيّقة بعد أن كان يتمدّد في حكومات سابقة ليأخذ حصصاً في التمثيل السنّي والدرزي والمسيحي، ففي الأمر إقرار بالعجز عن الحصول على المبتغى مؤسّساتياً بعد عشرة أشهر من إسقاطه حكومةً كانت بأكثريّتها موالية له، على افتراض الإتيان بأُخرى أكثر ولاءً. وما قول أمينه العام “بتقديم تنازلات مقابل ضمانات” سوى اعتراف بذلك وسعي لتبريره وتجميله.

ويمكن نسب تراجع حزب الله الحكومي الى عاملين. الأوّل، وهن سياسي أصابه نتيجة الاستنزاف العسكري في سوريا والاستنفار الأمني المُنهِك في لبنان، في وقت صارت المناطق ذات الصفاء أو شبه الصفاء المذهبي التي يُسيطر عليها عرضة لعمليات تفجير دوري ولتوتّر أمني، للمرّة الأولى منذ انتهاء الحرب الأهلية قبل ربع قرن. والثاني، تيقّن الحزب بأن شرط “نجاحه” الوحيد في فرض حكومة كالتي كان يمنّي النفس بالحصول عليها صار اللجوء المباشر الى السلاح. وهذا بالطبع ممكن “ميدانياً”، لكنّه في ذاته إقرار بالإفلاس السياسي ومدعاة توتير أمني إستنزافي أكبر، إضافة الى كونه تكريساً لانقلابية ميليشياوية صارت من سِمات علاقة الحزب بالسلطة التنفيذية منذ فشله انتخابياً في الحصول على أكثرية تشريعية عامي 2005 و2009.

الأهمّ والأخطر، أنّ حزب الله يدخل في مُستهلّ العام 2014 (ويُدخل معه لبنان) مرحلةً أكثر صعوبة ودموية من سابقاتها. وهذا يعني أن وعود أمينه العام بالنصر “ولو بعد حين” هي أيضاً وعود بالمزيد من الضحايا في سوريا ولبنان قبل النصر المزعوم وبعده. وهي في ذاتها نفي للاستباقية التي يدّعي اعتمادها لمنع وصول “التكفيريّين” الى العمق اللبناني. ذلك أن أيّاً من هؤلاء لم يكن قد هدّد الضاحية أو الهرمل قبل معركة القصير العام الفائت، كما أن معركة يبرود لن توقف بعضهم بل ستحفّزهم على الأرجح على مضاعفة محاولاتهم. أما اعتبار “فتح الإسلام” في العام 2007 سابقة جهادية-تكفيرية، فشأن فضائحي لأن الأمين العام لحزب الله يعرف أكثر من غيره من هو شاكر العبسي وفي أي سجن سوري كان قبل إطلاق سراحه وإرساله الى مخيم البارد، ولأنه هو نفسه وضع خطّاً أحمر يومها لتأخير القضاء عليه (ولعلّه يعرف أيضاً كيف فرّ وبعض أعوانه من المخيّم).

على أنّ الجديد في خطاب السيد نصر الله الأخير هو سعيه الحثيث لتخويف الأقليّات (وقد سمّى الدروز والمسيحيّين تحديداً) من “نموذج الرقة الداعشي”. أي أنه تقصّد الإيغال في خطاب طائفي أقلّوي حاول ربطه بلازمة التآمر الأميركي والإسرائيلي، متناسياً أن تل ابيب تشاركه الهجس بالأقليات وواشنطن تبحث منذ فترة مثله في سبل محاربة القاعدة في سوريا.

يبقى أن كثراً من أخوان ورفاق من قاتل التكفيريين (الداعشيين) في إدلب وحلب والرقة يُقاتلون اليوم أو يستعدون لقتال حزب الله في غزوته الجديدة. ويبقى أن يبرود ستكون كما القصير محطّةً لا تَبدّل نوعياً بعدها، إذا ما استثنينا تعميق الجروح ونشر المزيد من الضغائن والوضاعات، كتلك الأغنية المذهبية الساقطة بمنشديها ومردّديها المتغنّين بإكمال النصر فوق ركام البلدة – المدينة السورية التي استضافت ذات يومٍ صيفَ العام 2006 لاجئين لبنانيين كثراً من جمهور السيد حسن ومن مريدي نصره الإلهي المُبين.

موقع لبنان ناو

حزب الله” وشعار «الأمن الاستباقي» والحكومة/ بشير هلال

لم تتأخر محطة «أو.تي.في» العونية في تعليقها على انفجاريْ بئر حسن عن اعتبار ان كرة مكافحة الإرهاب أصبحت في ملعب «تيار المستقبل» و١٤ آذار، بعد تشكيل الحكومة التي يحتل فيها وزراء «مستقبليون» وزارتي الداخلية والعدل. وهو وجودٌ اعتبرت الكثرة قبوله من «حزب الله» وفريقه نتاجاً لتفاهمات إقليمية دولية تواكب التفاوض على الملفيْن الإيراني والسوري، ولتغيُرٍ جزئي في نسبة القوى سبَّبه الضعف العام غير القابل للتعويض في وزن النظام الأسدي بذاته.

لم يتأخر ممثلو «حزب الله» عن السير بهذه المقاربة التي تجعل «مكافحة الإرهاب» مهمة رئيسة للحكومة الوليدة، ودفعها الى نهايتها المنطقية بعزل الإرهاب عن مسبباته المباشرة وجعله قضية قائمة بذاتها ولذاتها، ميدانها الوحيد بيئة سنّية حاضنة يتوجب «إعادة تأهيل» ممثليها السياسيين وخطابها عبر الأداتين الإعلامية والأمنية، بما يساوي التمهيد لاستتباعها من داخلها، مثلما جرى عملياً مع قسم من الطوائف الأخرى عبر تلبية بعض المصالح الجهازية والذاتية لممثليها وتنظيماتها و/أو عبر التخويف.

وفي تعبيرٍ لافت عن هذا المسار كان رد الفعل الأوَّل للوزير حسين الحاج حسن على التفجيرين: «إن الحكومة معنية بمواجهة الارهاب من خلال الأمن الاستباقي وتجفيف منابعه». بذلك أضاف الحزب «الأمن الاستباقي» كإطار لعمل الحكومة الجديدة يستكمل مفهوم «الحرب الاستباقية» التي برَّر ولا يزال يبرِّر بها مشاركته النظام الأسدي حربه ضد المعارضة وما تمثِّل. وهو التبرير الذي وسَّعه الحزب من الدفاع عن المراقد بداية إلى مواجهة «التكفيريين» في الإقليم تالياً لأنهم «يقولون كذباً إنسحبوا من سورية فلا يعود لنا شغل معكم في لبنان، ولو سيطروا على الحدود لحِّقوا على سيارات مفخخة»، كما قال السيد نصرالله في خطابه الأخير قُبيْل التفجيريْن.

هذه مقاربة توحي بأن من الصعب اعتبار موافقته على التضحية بحكومة تصريف أعمال تشكلت أساساً استناداً إلى تدخله العنفي، وقبوله حكومة خالية من الثلث المُعطِّل وبرئيسٍ 14 آذاري «معتدل»، إقراراً من جانبه بمعادلة جديدة بمقدار ما هو حتى الآن محاولة لضبط حربٍ إرهابية غير متناظرة، جرَّبها فاعلاً ولم يَعْتدْ أن تُخاض ضده وضد رموز النفوذ الإيراني وتطاول ابرياء وآمنين، كما تجمع بين التذرُع بـ»ردع» تورطه السوري وبين الأهداف السياسية الخاصة بالمجموعات الجهادية التي سبق لبعضها ان كانت له علاقات عمل معه ومع النظام الأسدي. وهذا انما يعني انتقالاً بالحرب السياسية الى أشكال جديدة.

ويعكس الاتجاه المُرجَّح لإقرار بيانٍ وزاريٍ مقتضب خالٍ من الإشارة الى صيغة «الجيش والشعب والمقاومة» ومن «اعلان بعبدا» في آن، ثلاث وقائع متفاوتة ومتمايزة المفاعيل:

الأولى، أن «حزب الله» الذي بلورت حربه السورية صورته كحزبٍ مذهبي مؤقلَم خسر أيديولوجياً وسياسياً توصيف «المقاومة» الذي كان ذريعته وسلاحه لاستتباع شرائح شعبية وقوى سياسية غير شيعية… الأمر الذي يجعل الاحتفاظ بالصيغة المذكورة مستحيلاً في حكومةٍ تضم معظم أطياف المشهد السياسي، ويقف رئيس حزب «القوات اللبنانية» معارضاً ناقداً لأي تساهل من «المستقبل» أو «الكتائب» مع إعادة إقرارها، بما يهدد بتبديد البقية الشكلية الباقية والضئيلة من 14 آذار، في وقتٍ لم يتأكد انفراط عقد 8 آذار، رغم الحديث عن تحالف خماسي (بإضافة التيار العوني) يحل محل التحالف الرباعي المنصرم، ورغم تطبيع العلاقات العونية – الحريرية.

الثانية، ان «حزب الله» بادعائه الانتصاري كخلفية دائمة لخطابه المؤلَّه لا يستطيع ألاَّ يَعِد جمهوره بالنصر في سورية، وهذا ما فعله أمينه العام في الخطاب ذاته بقوله: «اننا بهذه المعركة سننتصر والمسألة مسألة وقت وما تحتاجه المعركة من عقول وإمكانات واستعداد على المستوى الرسمي والمقاومة والشعبي، موجود»… بالتالي فقبول الحزب إعلان بعبدا الذي أنكره في اليوم التالي لموافقته عليه في 12 حزيران (يونيو) 2012 سيُعتبَر مع التنازلات في الحكومة هزيمة له. وهذا ما يُفسِّر، إضافة إلى التوجيه الإيراني، تكثيف مشاركته في معركة القلمون لتحقيق انتصارٍ في منطقة ليست مهمة للنظام فحسب، بل للحزب أيضاً في الجغرافيا السياسية لانتشاره ولسلاحه.

الثالثة، أن وجود «حزب الله» في وزارة واحدة مع «المستقبل» بعد خصومته العدوانية له بما كانت تشكله من قاعدة لاستقطاب حاد متماهٍ مع الصراع السنّي- الشيعي المؤقلم، ينقله افتراضياً إلى وضعٍ جديد. لكن الإشكال أنه يستمر في طلب الأهداف القديمة ذاتها تحت عنوان «محاربة الارهاب التكفيري واستئصال هذه الظاهرة المجنونة المدمرة واعتماد خطة وطنية شاملة تباشر الحكومة تنفيذها على مختلف الصعد والمستويات لانجاز هذا الهدف الوطني المطلوب»، كما جاء في بيان كتلته النيابية الأخير.

قصارى القول إن «حزب الله» إذ يحاول أن يحمي نفسه من تداعيات خسائره في حربه السورية، ومن إرهاب القوى السلفية والجهادية التي استقطبتها أو أطلقتها في لبنان وعلى حدوده، في صيغة الجمع بين مواصلة الحرب على أمل الانتصار وبين إرغام القوى السياسية المشاركة في الحكومة القصيرة العمر (99 يوماً إذا أُجريت الانتخابات الرئاسية في موعدها) والمؤسسات وأدواتها على الانخراط في سياسة «الأمن الاستباقي»، وهذا إنما يؤسس لتوسيع الأخطار لا لحصرها.

فتيار «المستقبل» كخصمٍ- شريكٍ أساسي له مصلحة في خوض معركة ضد قوى الجهادية السلفية التي وسَّعت نفوذها المديني وأخطارها على حسابه في معرض «دعمها» للمعارضة السورية. لكن نجاحها الأكبر تمثل في توظيف النقمة السنّية على دور «حزب الله» وخطابه المذهبي الإخضاعي، ونسبة القوى التي تجعل منه أهم السلطات في دولةٍ لا تستخدم و/أو لا تستطيع استخدام سلطاتها الدستورية. وليس النجاح في إعفاء «حزب الله» من تنفيذ القوانين المتصلة بالسلاح وبتأليف الجماعات المسلحة وبإعلان حروب عابرة للحدود، وعدم تسليم متهمين باغتيالات هلك فيها أبرياء، في حين يُلاحَق قائمون بأفعالٍ مماثلة. فهذا لا يُسهِّل عمل «المستقبل» ولا قوى الاعتدال في سائر الطوائف، كما يجعل أية سياسة أمنية «استباقية» لا تتزامن مع انسحاب الحزب من سورية وإغلاق المعابر العسكرية معها وإزالة التمييز اللادستوري، محرقة لمن يتبناها.

الحياة

عن حرج نصرالله المنتظر/ سامر فرنجيّة

بات هناك تقليد سنوي عند قوى ١٤ آذار، يبدأ باعترافات علنية بالفشل والأخطاء، لتليها ورشات إعادة تأسيس وتصويب للنهج السياسي، وتختتم بتأكيدات عاطفية على صلابة التحالف الذي لن يفكّه إلاّ الموت. تطوّر هذا التقليد على مدار السنوات الأخيرة كردّ فعل على الشعور باليأس الذي استحوذ على جمهور هذه القوى إثر إخفاقات قياداتها المتتالية وتقلّباتها الدورية، المفسّرة بتبريراتٍ شرعيّتها الوحيدة أنّها مستقاة من أقوال الرئيس الشهيد.

اعتاد ما تبقى من هذا الجمهور النظر بشيء من الاستخفاف إلى هذا التحالف وممثليه السياسيين، مبرراً دعمه لهم بالخطر الأكبر الذي يشكّله البديل، وإن كان هذا التبرير غير كافٍ للتغاضي عن الإحساس الدفين بالخجل أو الحرج تجاه ما آلت إليه الأمور. في المقابل، واجه جمهور ٨ آذار خصومه بإحساس بالثقة بالنفس بلا حدود. وكانت تلك الثقة بالنفس وبالخيار السياسي وزعيمه المتلفز، الترجمة النفسية للتفوّق العسكري الذي أحرزته تلك القوى، غير أنّها كانت أيضاً تعبيراً عن تماسك تلك القوى وقدرتها الإعلامية على إنتاج خطاب لفّق بين «هوبرة» المقاومة ومحاربة الفساد وبقايا تنظيرات اليسار الدولي، ما أضفى على الانتماء الطائفي أبعاداً أوسع. وقدّم هذه التلفيقة زعيم كاريزمي جعل السياسة وتعقيداتها امتداداً لسلاسة عملية ضرب بارجة في البحر، ليجعل من هذه التلفيقة سلاحاً فتاكاً في وجه يأس الخصوم وحرجهم.

غير أنّ اليأس حتمي في السياسة، وما شكا منه جمهور ١٤ آذار بدأ يتسرّب إلى الخصم، مفقداً إياه ثقته التي واكبت سيرورته السياسية. بدأ المشوار نحو اليأس مع فشل حكومة اللون الواحد، واستكمل بالفضائح التي طاولت «حزب الله» وحلفاءه أخيراً، لتأتي الثورة السورية وتقضي على ما تبقى من وضوح في خطاب هذه القوى. ومن حركة عابرة للحدود، تُمثِّل التحام القوة بالحقيقة والتاريخ، تحوّل «حزب الله» إلى قوى طائفية، أملها الوحيد في وجه تكاثر البرابرة مرهون بتفوقها العسكري. بيد أنّ هذا التفوق بدأ ينحسر، أولاً في سورية حيث النصر الأكيد بات مكلفاً، ومن ثمّ في لبنان مع تزايد العمليات الانتحارية والتفجيرات التي طاولت معاقل «حزب الله». وفي هذا الظرف الحرج، جاءت حكومة «التلاقي»، كما سمّاها الأمين العام للحزب، لتؤكد أنّ اليأس بات حتمياً ومعمّماً.

في وجه هذا الامتعاض، حاول نصر الله استدراك الأمور خلال خطابه الأخير في مناسبة ذكرى «الشهداء القادة». غير أنّ ما كان من المفترض أن يكون خطاب رفعٍ للمعنويات تحوّل سريعاً إلى خطاب كاشف لليأس في شتّى تجلّياته.

بدا اليأس في بداية الخطاب مع الاستغراب الأليم لنصرالله عن ضياع الحقيقة وضرورة التذكير بـ «بديهية باتت منسية للأسف عند كثيرين»، أي مركزية القضية الفلسطينية. اكتشف نصرالله في هذه اللحظة أنّ حقيقته لم تستطع مقاومة يوميات الحياة وحدودها. فبعد الاسترسال في الكلام عن مساوئ العدو، استنتج أنّ «كل بلد اليوم ينشغل ببلده» وأن دعوته إلى تحرير فلسطين سوف تُقابَل بعبارة «حلّ عنا». لم يتوقف نصرالله عند معنى أنّ يكون الجميع غيّبوا هذه «البديهيات» كما يسميها، وأن تكون هذه هي الحال «بعد كل انتصارات محور المقاومة». فهذا ليس خطاب تراجع أو استبطان. إنّه خطاب رفع معنويات وإنّ أخذ شكل التوبيخ.

ختم نصرالله الفقرة الأولى بشكوى من أنّ «لا أحد فاضي لفلسطين». غير أنّه تبيّن من مجرى الكلمة التي ألقاها أنّه هو أيضاً غير «فاضي» لفلسطين لمشاركته بحرب أخرى مع عدو جديد، وهذه الحرب، كسائر حروب «حزب الله» ستنتهي بنصر حتمي. هذا ما أكّده نصرالله، بعد تحليل طويل يصلح أن يكون تتمة لنشيد «نصر يبرود». غير أنّه لم يستطع إلاّ التنبيه إلى أن الآتي أعظم وفيه كثير من «الشهادات والدماء والجراح»، البديل الوحيد عن الذبح والذل والسرقة. لم يتوقف هنا أيضاً محرّر القصير لحظةً ليتأمّل عبثية موقفه الذي بات يحتاج إلى خوض حرب من أجل أن يستطيع خوض أخرى، أو تعاسة الخيارات التي يقدّمها إلى جمهوره، والمحصورة بين قطبي الدماء والذبح…، وهذا كله بعد عقد من النصر. فهذا ليس خطاب إعادة النظر بالخيارات. إنّه خطاب نصر، وإن كانت طعمته مرة.

بعد اكتشاف أنّ الحقيقة تغيّب وأن الانتصارات لم تعد تكفي لإعادة إظهارها، جاءت الفقرة الأخيرة لتحاول امتصاص بعض من الامتعاض الداخلي الناتج من تخلي «حزب الله» عن جبروته أمام الخصم الداخلي، أي المحكّ الفعلي للعواطف السياسية. في وجه التململ، قرّر سيد المقاومة «امتلاك» هذه الحكومة، مشدّداً على دور «حزب الله» و «حركة أمل» في «فتح باب هذا الإنجاز الوطني». هنا أيضاً، لم يتوقف للتأمل في سخرية موقفه الداعي إلى التلاقي مع «راعي قادة المحاور» و «العميل المعروف سعره» و «قاضية التسامح مع العملاء». فهذا ليس خطاب اعتراف بواقع لبنان وحدود السياسة فيه. إنّه خطاب تقبّل الواقع من دون التصالح معه.

من دخل إلى السياسة على وقع انتصارات لا تحصى، قد يشعر ببعضٍ من اليأس إزاء الوضع الحالي. وفي بعض الحالات، يشكّل اليأس المدخل إلى الواقع وحدوده، وهو ما يترجم لبنانياً بالتسوية. غير أنّه ليس مدخلاً حتمياً نحو خلاصة كهذه، وغالباً ما يشكّل الطريق نحو خيار معاكس، أي الانتحار السياسي. وهو هذا المسار الذي سلكه بعض الشبّان اللبنانيين عندما استبدلوا الانتحار السياسي بالانتحار الفعلي، وقاموا بعمليات انتحارية لمجرّد «النكاية بالعدو» كما جاء في شريط «غزوة السفارة الإيرانية في بيروت».

ليكون اليأس مدخلاً إلى الحل، أي ليكون رفضاً للخلاصية باسم الواقع وليس العكس، عليه أن يكون مرفقاً ببعضٍ من الحرج والخجل. لكن سيد المقاومة أكد: «نحن ليس لدينا أي حرج»، وهنا تكمن مشكلته… ومشكلتنا.

الحياة

المهمة السهلة والمنجزة للبننة تنظيم “القاعدة”/ حازم الامين

«الإرهاب ليس لبنانياً»، إنها الجملة الأثيرة التي يحلو للكثيرين من المسؤولين اللبنانيين تردادها في أعقاب كل انفجار. «حزب الله» يُرددها ليُبرر قتاله في سورية، وليقول إنه ذهب الى هناك لاستباق وصول التكفيريين الى لبنان، وتيار المستقبل وبيئة مشايخ في محيطه يرددونها سعياً إلى إبعاد الشبهة عن بيئتهم.

لكن حال الإنكار هذه، تبدو أمام الوقائع الصلبة التي تؤكد أن فرعاً لبنانياً لـ «القاعدة» قد ولد، أقرب إلى ما يصيبنا في بيروت لحظة وقوع التفجير، وهو غالباً ما يقع في حوالى التاسعة والنصف صباحاً. نشيح بأنظارنا وأسماعنا محاولين تأجيل الحقيقة الثقيلة. القتلى يُصبحون قتلى حين نعرف أنهم قُتلوا. تأجيل استقبال الخبر نصف ساعة، هو تأجيل لحقيقة أن في بلدنا، وليس بعيداً من مكاتبنا ومدارس أولادنا، انتحارياً لبنانياً أقدم على تفجير نفسه بمدنيين لبنانيين أيضاً.

صار في لبنان فرع لـ «القاعدة». انه الموعد الرسمي لإعلان هذه الحقيقة. حتى الآن ما كُشِف من أسماء للانتحاريين يؤكد ذلك. ثلاثة لبنانيين وفلسطينيين من مخيمات اللاجئين في لبنان. وثمة شيخ معمّم ومُدرج في لوائح مشايخ دار الفتوى (سراج الدين زريقات) يخرج وراء كل عملية معلناً أسماء المنفّذين والهدف من وراء العملية. ولمزيد من اللبننة، اختار الفرع اللبناني لـ «القاعدة» اسم إمام لبناني لمؤسسته الإعلامية التي يُمهر كل شريط للانتحاريين بختمها، هو الإمام الأوزاعي. ليس كل هذا مجرد صدفة. «القاعدة» تُجيد لغة الرموز والإشارات، وهي على مدى خبراتها في مجال القتل والانتحار، راكمت خبرات في بعث الرسائل وتحميلها دلالات ومعاني. هي تريد أن تقول إنها «لبنانية»، فاختارت شيخاً لبنانياً لرسائلها الإعلامية، وأعطت اسماً لبنانياً لمؤسستها الإعلامية. أرسلت مع قتيبة الصاطم هويته في السيارة المُفخخة لتقول إنه لبناني، وكشفت هوية معين أبو ظهر لتقول هذا أيضاً. وهي نجحت بسرعة في إرساء هوية لبنانية تطبع أعمالها، وفشل المُنكرون، ويفشلون كل يوم.

ثم ما أسهل أن تجد «القاعدة» جذراً لبنانياً تركن إليه. فهي أقوى من الوقائع الصلبة، وأقوى من الرواية التاريخية عن التعايش. ما أسهل أن تُسمّي مؤسستها الإعلامية «مؤسسة الإمام الأوزاعي». ننكر عليها هذا الحق، ونقول إن في لبنان تاريخاً من التعايش والاختلاط، ولكنْ، بماذا يفيد ذلك إذا كان جوابها شريطاً مصوراً باسم «الإمام الأوزاعي» يظهر فيه انتحاري لبناني ابن عائلة مختلطة طائفياً.

«القاعدة» ابنة الهشاشة، وهنا بالضبط تكمن قوتها. السنّة الأقوياء لا يُنتجون «قاعدة»، سنّة المُدن وسنّة المتن الاجتماعي وسنّة الاقتصاد لا يُنتجون «قاعدة». هي تنشأ في الهامش، وتتفشى فيه، لكن ذلك لا يعنيها بشيء. فـ «الفعالية» التي تسعى اليها لا تحتاج إلى تاريخ ولا إلى مُسكة أو جوهر. الخروج من العدم والتسبب بالعدم: هذا تماماً ما يُخلفه التفجير لحظة وقوعه. إحداث كتلة فارغة من الأوكسيجين تنهال في أعقاب حدوثها كتلة هائلة الوزن من الهواء تُمزق أجساد العابرين. هذه هي «القاعدة»، ولا شيء غير ذلك. إنها الانفجار لحظة حدوثه. هل من شيء أقوى من هذا؟

لهذا السبب يبدو إنكار هذه الحقيقة لعبة نفسية، إضافة إلى وظيفته السياسية. هي لعبة يتولى فيها المُنكر طرد الشيطان المُقيم داخله، ويُشيح بوجهه عن سهولة أن ينمو الشيطان الصغير المقيم في كل لبناني. والقول إن لا «قاعدة» لبنانية ينطوي أيضاً على اعتقاد بأن «القاعدية» مستوى لم يبلغه اللبناني، والحقيقة أن استعادة التاريخ الحديث للبنانيين تؤشر الى أنهم بلغوا هذا المستوى قبل أن تبلغه «القاعدة» نفسها، وحالة الإنكار تمتد هنا لتشمل هذه الحقيقة. والحال ان في لبنان ما هو أكثر سوءاً مما يعتقد المُتشائمون. عملية تفريخ الانتحاريين اللبنانيين بدأت. و «التفريخ» تقنية معتمدة على صعيد الإرهاب، ولـ «القاعدة» خبرة مديدة فيها. العملية الانتحارية وظيفتها القتل الأعمى، لكنّ وظيفتها أيضاً استدراج مزيد من الانتحاريين. لا أحد يُمكن أن يُنكر «الفعالية»، وهو ما يُعطي المترددين قوة الحسم. الانتحاري يستدرج معجبين. لا قيمة للقيم التكفيرية، على ما يزعم «حزب الله»، في عملية التوالد هذه. وفي حال زعم الانتحاري تبنّيها، تبقى قشرة خارجية تُخبئ دوافع غير جوهرية على الإطلاق.

والانتحاري كائن نهاري لا يُحب أن يُخبئ وجهه ولا أن يُخفي اسمه، ويتمنى قبل أن يموت بثوانٍ لو أنه يستطيع أن ينجو. وفي حال اللبناني، يُضاف إلى هذه الخصال أنه يرتدي سترة قصيرة الكمّين ولا يُطلق لحية طويلة، ويُشبه في كثير من الأحيان الـ «بادي غاردز» الواقفين أمام الملاهي الليلية. كل ذلك يُرشح لبنان لتصدّر الدول المُنتجة لهؤلاء، فالسرعة في العدوى تُشبه الى حدٍ كبير سرعة اللبنانيين في تبديل الأمزجة، وفي تبني النماذج واستهلاك الأفعال والأفكار. إنها ما تسمّيها وزارة السياحة اللبنانية القدرة التي يتمتع بها اللبناني على التكيف والمرونة. فالانتحار اذا ما احتاج الى «السلفية الجهادية» لكي ينتمي إلى نموذجه في المنطقة، فإن «الرشاقة» اللبنانية يمكن أن تعفيه من هذا الامتحان. «الرشاقة» هنا هي الخفة، وهي الفراغ والعدم.

لقد دخل لبنان هذا النفق، وعودة «حزب الله» من سورية وإن كانت شرطاً للشفاء، إنما الدرس يكمن في أن القابلية موجودة، وما قتال «حزب الله» هناك إلا فرصة لكي تظهر. فقد انتحرنا في مراحل سابقة، وكان هؤلاء هم أنفسهم وقود انتحارنا: هوامشنا الكثيرة والقوية والمتينة. هوامشنا النائمة والمنتظرة.

المنتحرون هم هؤلاء، ويكادون يكونون نحن كلنا، و «القاعدة» وصلت الى لبنان، بعدما فتح «حزب الله» الحدود، وتوجهت فوراً إليهم. هي تعرفهم واحداً واحداً وتعرف كيف تُوَلِّد انتحارياً من انتحاري.

قد يتحقق الحلم ويعود «حزب الله» من سورية، وسينام هؤلاء في ذلك الفراغ الذي وُلدنا فيه جميعاً، ولكن ما إن تلوح فرصة أخرى للموت، حتى يستيقظوا ويشرعوا مجدداً بقتلنا.

الحياة

ما بعد… بعد سورية/ زهير قصيباتي

لم تعد المسألة في لبنان أيُّهما إرهاب: التكفير أو التخوين، أم كلاهما، والتفجير المزدوج في ضاحية بيروت أمس، يعطي لحديث الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله دلالاته الكاملة، التي لا تخرج عن دائرة المأزق. ولم تكن عابرة إشارته إلى مد اليد لكل اللبنانيين لأن المعركة «مصيرية»، لذلك على فريق 14 آذار أن يساهم في الإنقاذ وعلى فريق 8 آذار أن يفتح قلبه وعقله، ويتنازل، بالأحرى يتحلى بـ «المرونة». أليس هذا ما تعكسه التشكيلة الوزارية لحكومة «المصلحة الوطنية»؟

يذكر كثيرون أن فريق 8 آذار هو الذي شنّ حملة استباقية مع بدء تورط «حزب الله» في القتال داخل سورية إلى جانب قوات النظام، مكرراً اتهامه لتيار «المستقبل» بالضلوع في بيئة حاضنة للتكفيريين. وما دام هؤلاء هم العدو الأول الآن للبنان، كما يُفهم من حديث السيد نصرالله، كيف لفريق 8 آذار الانعطاف 180 درجة إلى شراكة أو حكومة مصلحة وطنية مع الذين اتُّهِموا بحماية ظهر ذاك العدو؟ وهل يبرر القلق على انتخابات الرئاسة اللبنانية وحده، تنازلات يصر «حزب الله» على أنها من بنات الخيال، فيما نصرالله يعلن «ما زلنا أقوياء» في لبنان والمنطقة ويبشّر بالنصر على الداء التكفيري؟

ما حصل في الضاحية واستهدف مجدداً الحضور الإيراني في لبنان، يُظهر أولاً أن لا علاقة للتفجيرين اللذين أوقعا شهداء، بمسار التشكيل الحكومي، أو مفاعيله الداخلية… بل ان التفسير الإيراني للحادث يميل إلى السذاجة في افتراض أن قبول معزوفة الأصابع الإسرائيلية والرد على تشكيل حكومة تمّام سلام (كأن نتانياهو سيُعلن الحرب عليها)، سيلقى سهلاً رحباً في عقول اللبنانيين ولدى القواعد الشعبية لـ «حزب الله».

وبعيداً من الغوص ايضاً في المبررات التي اعتبرها «تيار المستقبل» كافية ليقلب الصفحة أو يغيّر المسار 180 درجة، بعد استشهاد محمد شطح، وبصرف النظر عن واقعية طروحات تضرُّر القاعدة الشعبية لـ14 آذار بسبب ذاك التحول، وقبول المشاركة في حكومة مع الفريق الآخر… بعيداً من كل ذلك، لا يمكن إنكار حجم المرونة التي تحلّى بها «حزب الله» وتغنّى بها السيد حسن نصرالله. والسؤال الذي يُدرك جوابه تماماً، هو أن حكومة المصلحة الوطنية وحدها ليست كافية ولن تكون الأداة السحرية لتعطيل القنابل البشرية الجوّالة.

يعود «حزب الله» إلى معادلة المقاومة دفاعاً عن حدود لبنان، والأمن للجيش والقوى الأمنية اللبنانية، في مرحلة لا يقوى فيها أحد على خنق أشباح التكفيريين الانتحاريين، ولا على التمييز بين «عبدالله عزّام» و «جبهة النصرة» و «القاعدة». وإذا كان صحيحاً ما قاله السيد حسن من أن هؤلاء يستهدفون كل اللبنانيين، فالصحيح كذلك أن ما استدرجهم هو الانزلاق إلى وحول الحرب السورية وكوارثها، في صف نظام متهم بمصادرة اسم طائفة، حليفه الإيراني أيضاً متهم بمصادرة حق ادعاء الوصاية على الشيعة في العالم العربي، وحمايتهم. أبعد بكثير من مسألة الاستحقاق الرئاسي اللبناني والخوف من الفراغ الذي بات شبه مزمن في الحياة الدستورية اللبنانية، أن ينحو «حزب الله» إلى التهدئة في الداخل. فالجبهة السورية المترنّحة تحصد ضحاياها وبينهم لبنانيون من الحزب، وتحصد ارتداداتها لبنانيين لطالما كانوا في مربعات أمنية لا تُخترق، فحوّلتهم الجبهة المتمددة إلى مشاريع شهداء… ولكن ليصمد النظام السوري.

ولكن ألم يقلها السيد حسن، أن الدفاع هو عن حدود لبنان ولكي لا يأتي الانتحاريون إلينا؟… وها هم بيننا، يقتلون سنّة وشيعة ومسيحيين، فتكتمل وحدة وطنية. كل ذلك لا يبخس حق اللبنانيين في التهليل لحكومة شُكِّلت «بمعجزة» كما قال رئيسها تمام سلام، ولكن ما الذي يقوى لبنان ومعه الحزب، على فعله لوقف أفواج الانتحاريين في قلب بيروت وضاحيتها والبقاع؟

الحال أن الصدام الروسي- الأميركي الذي انتقل من ساحات جنيف السوري إلى ساحة «ميدان» في قلب العاصمة الأوكرانية كييف، سيرجّح احتدام القتال في سورية، خصوصاً مع تلميح واشنطن إلى إحياء خيار منطقة الحظر الجوي انطلاقاً من درعا. سيشجّع ذلك النظام في دمشق على ضربات عشوائية، في حين يتوجّس من سيناريو المفاجأة: ينتظر المعركة من الجنوب (درعا) فتبدأ حول العاصمة، ويطبّق الأميركيون بعد خيبة جنيف، معادلة قلب موازين القوى، قبل تحريك قطار الحل. إذاً، مزيد من القتل وسفك الدماء لشق طريق التسوية، فيما لا يزال مبكراً التكهّن بقدرة الغرب على فرض مساومة مع الروس الذين يُفقِدهم الصواب انهيار قبضة حلفائهم في أوكرانيا.

أوكرانيا أولاً؟ حرب باردة بعد خيبة جنيف، وحرب ساخنة حول دمشق المنهمكة بيبرود، فيما لا يخلو من دلالة حديث البيت الأبيض الآن عن عدم حاجته إلى إرسال قوات برية الى الأراضي السورية، لأن البدائل متاحة.

يرجَّح أن بوتين تلقّى صاع سورية صاعين في أوكرانيا، بعدما ضمن لنظام الرئيس بشار الأسد شبكة حماية لثلاث سنوات، عززتها سمعة التكفيريين وممارساتهم. والأرجح كذلك أن إيران في قفص المفاوضات النووية، لم تعد طليقة اليدين في حماية النظام السوري، ولا حتى في تقديم «النصيحة» لتحصين القاعدة الشعبية لـ «حزب الله». فلا سياسة ولا تسويات في عز المواجهة، وأول من أثبت ذلك هو النظام الذي استدرج الانتحاريين من كل الطوائف. أما طهران فلا تملك إلا الدعاء لنجاح رهانها على جنيف الإيراني.

الحياة

دمشق وطهران: لحكومة “ضد الإرهاب”/ عبد الوهاب بدرخان

كانت مناسبة مفتعلة، مساء الأحد الماضي، لتبرير خطاب آخر للسيد حسن نصرالله، فهو تحدّث في ذكرى “قادة المقاومة”، لكن الجميع علم أن الحكومة الجديدة استدعت أن يدلي بدلوه، ليسجّل أنها ولدت بفضله ومساهمته، والأهم ليرسم أفق هذه الحكومة، وقد فعل. كيف؟ أولاً، بحصر ضرورتها في الاستحقاق الرئاسي، وهذا ما استلزم استعادة المشاركة. وثانياً، بتركيز معظم الخطاب على العدّوين، اسرائيل و”التكفيريين”، اللذين يتولّى “حزب الله” المواجهة معهما ولا يستلزمان مشاركة مع أحد بل “مباركة” من حكومة تمام سلام.

في مقابل “لو كنّا نعلم لما كنّا ذهبنا الى الحرب” عام 2006 على رغم أنها جاءت بـ”النصر الإلهي”، يقول نصرالله الآن “كنا نعلم ولذلك ذهبنا الى سوريا فهذا ثمن لا بد من أن ندفعه” في حرب جاءت بالسيارات المفخخة. كانت هناك سفسطة طويلة ومملّة في تبرير تورّط “حزب الله” هناك، لكن كانت هناك أيضاً دغدغة مكشوفة ومخزية بل مهزلية لمشاعر الطوائف التي ما انفك يظن أنها لا تزال تراهن على نظام بشار الاسد في أمنها وأمانها، أو أنها ساذجة ولا تعرف حقيقة ما يجري. كانت اذاً محاولة يائسة لا تقنع سوى جمهوره، ولا نقول طائفته التي ارتهنها ولم يترك لها سوى خيار الـ “مجبر أخاك” لا المخيّر ولا البطل.

كرّر نصرالله أن مقاتليه باقون في سوريا “حتى النصر”، وبذلك أطاح “اعلان بعبدا” علناً ومسبقاً. ليس جديداً عليه أن ينقض أي تعاقد لبناني يناقض سلطة النظامين السوري والايراني. فكل ما يمكن ان يُعتبر سياسة الدولة، أو يمكن أن يعبر عن اجماع اللبنانيين، مرفوضٌ في عُرف هذين النظامين المتسلّطين على البلد. في المقابل لن يمانع نصرالله في إسقاط معادلة “الجيش والشعب والمقاومة”، فهذه لم يكن عليها اجماع أصلاً، بل كانت شعاراً يلغي “الدولة” لمصلحة “المقاومة”، وقد سقط فعلياً بعدما أصبحت “المقاومة” ميليشيا تنتهك حرمات البيوت في بيروت وصيدا وتقوّض أسس التعايش. ولا تهتم الميليشيا بالشعارات بل بسلاحها، أي بوسيلتها للتسلّط على الحكم والحكومة وعلى سياسة الدولة.

لكن التنازل عن “الثلاثية الذهبية” لن يكون بلا ثمن، فـ “حزب الله” يعطي الأولوية لمواجهة “التكفيريين” (وفقاً لمصطلحات الاسد وطهران)، أو لـ “مكافحة الارهاب” (وفقاً لأجندة الاسد في مفاوضات جنيف). لا خلاف على محاربة الارهاب، لكن الخلاف على تبرير نصرالله وجود مقاتليه في سوريا بوقف الزحف الارهابي. وسواء كان يصدّق ما يقوله أم لا فهذا شأنه، لكن آخر من يمكن أن يكون مقنعاً في هذا الإدعاء هو “حزب الله”، مثلما أن النظامين السوري والايراني هما آخر من يمكن أن يعتبرا مؤهلين لمثل هذه المهمة، فقد زرعا الارهاب ورعياه ويريدان الآن تكليفاً دولياً بمحاربته، فقط من أجل انقاذ نظام الاسد.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى