برهان غليونسمير العيطةصبحي حديديصفحات مميزةعلي العبداللهعمر قدورميشيل كيلو

مقالات في رثاء سقوط حمص

 
الترانسفير “أُنجِز في حمص… بعد فناء المدينة/ حازم الامين
انتصر النظام السوري على حمص بعد سنتين ونصف سنة من الحرب المتواصلة، وسنة ونصف سنة من الحصار المُطبق. وبكل صفاقة أعلنت «الممانعة» أن الثورة تخلت عن عاصمتها! خرج المقاتلون من المدينة، وكانوا مئات قليلة. دافعوا طوال هذه المدة عن مدينة هائلة. كانوا سوريين، سوريين فقط، بل إن معظمهم حمصيون. حاصرهم العالم كله، وصمدوا لأكثر من سنتين ونصف سنة. لم تكن المعارضة السورية بينهم حين انسحبوا. كانوا مقاتلين فقط. لا يجيدون لغة المعارضة ولا تسودهم خيباتها، وكانوا يحملون رشاشات صغيرة، ومشوا وسط الدمار الهائل. لم يتكلموا كثيراً، فالمغادرون لحظة مغادرتهم لا يتكلمون عادة. الكل يعرف لماذا غادروا. السبب بسيط إلى حد الفاجعة. لقد جاعوا بعدما أمضوا شهوراً يأكلون أعشاباً بعضها سامّ. هل من عارٍ أوضح من هذا الانتصار؟
لم يدخل جيش النظام حمص لأنه هزم المقاتلين الجائعين، ولا لأنه دمّر المدينة بأكملها فوق رؤوس أهلها. دخلها لأن مئات قليلة من المقاتلين انسحبوا منها. قال النظام إن عدد المنسحبين 980 مقاتلاً. كم يبدو الإعلان عن هذا النصر وقحاً… هي وقاحة تُشبه وقاحة العالم الذي تسبب في دمار حمص وجوع مقاتليها. فمدينة الركام هذه ما كانت لتموت لولا أن العالم كله أراد لها أن تموت. سبق أن انتصر النظام في القصير وفي يبرود، وهناك أيضاً قاتل معه «حزب الله»، لكن «النصر» هناك كان مختلفاً. تواطأ مقاتلون وهانوا، وفاوضت كتائب إسلامية كتائب «حزب الله»، وكان مقاتلون غير سوريين يرابطون وينتظرون لحظة الانسحاب. «جبهة النصرة» لم تشعر بأن يبرود قُدسها، وزهران علوش كان منشغلاً بتخزين المساعدات وحجبها عن السكان في الغوطة. وفيما وصل «حزب الله» إلى البلدتين كفت «النصرة» عن إرسال سيارات قتل الأبرياء في لبنان.
حمص بقيت حتى اللحظة الأخيرة عاصمة الثورة السورية كما كانت لحظة اشتعالها. لم تُصبح يوماً عاصمة المعارضة، ولم تستقبل مقاتلين من غير السوريين. الثورة النقية التي لم تُلوثها جبهات «النصرة» و «داعش» وكتائب علوش و»أحرار الشام». فالمقاتلون المنسحبون لم يكونوا إلا مقاتلين. لا كتائب ولا شارات ولا وحدات. كانوا أفراداً قليلين، وكثيرون منهم كنا حفظنا لهم وجوهاً من أيام التظاهرات. هل يذكر أحد منا التظاهرات في حمص، أيام كانت للمدينة جدران وساحات وأطفال، وأيام كان عبدالباسط الساروط، منشد الثورة، هناك؟ لقد نسي العالم كله ذلك. نسي حلقات الرقص في ساحة الثورة، ومئات الآلاف من أبناء المدينة المبتسمة في حينه.
سنتان ونصف سنة وانقلبت حمص كتلة من الركام. لا أثر لجدار أو لساحة أو لطفل. عدد القتلى من أبناء المدينة يتجاوز عشرين ألفاً ومثله من المفقودين. هل من نصر أوضح من هذا النصر؟ وهل من وقاحة أجلى؟
القصير دُمرت بأكملها ويبرود دُمرت جزئياً أيضاً، لكن للهزيمة فيهما طعماً مختلفاً، هو طعم الهزيمة ذاتها. لم يُهزم السكان هناك، هُزمت الجبهات والكتائب الآتية من خارج سورية، وهُزم مقاتلون لا يجيدون الصمود. كانت حرباً بين أشرار على طرفي الجبهة. الثورة انكفأت إلى مخيمات اللاجئين، وبعض المقاتلين المحليين ماتوا قبل الهزيمة وأثناءها. في حمص الأمر لم يكن على هذا الشكل أبداً. الثورة استمرت تقاتل، والنظام أعلن انتصاره عشرات المرات ولم ينتصر. بقعة الدمار اتسعت ولم ينجُ بناء واحد من القذائف والبراميل. سنتان ونصف سنة من القتال والحصار. من المرجح أن مدينة في العالم كله لم تصمد لهذه الفترة الزمنية. في الحرب العالمية الثانية كانت الجيوش تتقاتل فتنهار المدن وتسقط في يد المتحاربين. وبيروت التي ليست أكبر من حمص، قاتلت الجيش الإسرائيلي لشهرين وسقطت بعدما خرج المقاتلون منها وكان عددهم عشرين ألفاً، ولم يكن الدمار شاملاً. أما حمص المدمرة بالكامل فخرج منها وفق النظام السوري 980 مقاتلاً جائعاً قاتلوا لسنتين ونصف سنة بلا انقطاع. شارك في الحرب عليهم جيش استمر بناؤه نحو خمسين سنة، ووحدات محترفة من خارج سورية، وشارك أيضاً العالم كله في الصمت على مأساتهم.
السلاح الذي كان في أيدي المقاتلين المنسحبين من حمص لا يُشبه السلاح. كان امتداداً لأجسامهم الضعيفة. هو تلك البندقية الضئيلة على ظهر عبدالباسط الساروط حين غادر المدينة. كلنا شاهدها وصمت. قادة المعارضة في فنادقهم في الخارج، وقادة الكتائب المحظية العاجزة عن نجدة حمص في الشمال وفي الشرق. واللاجئون في مخيماتهم حاولوا الاقتراب من شاشات التلفزيونات التي زودهم بها مانحو المساعدات. ليست سوى بندقية عادية قاتلت نحو سنتين ونصف سنة، وها هي تخرج اليوم من المدينة محمولة على يد صاحبها الذي كان منشد الثورة، وكان قبلها نجم المنتخب السوري لكرة القدم.
ليست حكاية انتصار وهزيمة، إنها قصة فناء مدينة. ويبدو أن النظام الخبيث لن يحتفل بدخوله حمص، ذاك أن لفناء المدينة وظيفة مختلفة هذه المرة. فقد أنجز الجيش مهمة جوهرية في حربه على حمص، والعالم كله صامت عن حقيقة أخرى غير حقيقة دمار حمص، صامت عن وظيفة هذا الدمار الهائل. مهمة لم يُنجزها جيش منذ أكثر من نصف قرن. إنها «الترانسفير»، هذا المصطلح الذي ابتكر لوصف ما أقدمت عليه المنظمات الصهيونية خلال ما سمته «حرب التحرير» وما سميناه نحن «النكبة».
«الترانسفير» في حالة حمص جاء أكثر دموية وأثمانه تفوق الأثمان التي دفعها الفلسطينيون حين أقدمت الهاغانا على اقتلاعهم من مدنهم وقراهم. وإذا كان العالم صمت في حينه وتواطأ على الفلسطينيين مدفوعاً بشعور بالذنب وبالتعويض عن جرائمه في حق اليهود، فعوَّض مأساة بمأساة وجريمة بجريمة، فهو في الحالة الحمصية صمت لأنه جبان، وقبل بسبب حسابات أضيق. وغداً حين يصل عبدالباسط الساروط إلى ريف حلب أو ريف إدلب ويلتحق بـ «جبهة النصرة»، علينا أن نتذكر أن الرجل بقي سنتين ونصف سنة مقاتِلاً حمصياً فقط، وقبلها كان منشداً ومغنياً، وأن العالم كله لم يقف إلى جانبه.
الحياة

 

 

 

ما بعد حمص/ سمير العيطة
يتفق الجميع على أنّ ما جرى في حمص مؤخّراً يشكّل منعطفاً للصراع القائم في سوريا. لكن إلى أين؟
بلغ الحصار على أحياء حمص المركزيّة منذ أشهر شدّة لا تحتمل، بينما ترك أهاليها لمصيرهم. وكان معروفاً أنّها ستسقط عسكريّاً وأنّ الحاضنة الشعبيّة لمقاتليها لم تعد قادرة على التحمّل. في مثل ذلك الواقع، اقترح المبعوث الأمميّ الأخضر الإبراهيمي موضوعاً أساسياً في الجولة الثانية لجنيف 2، بعد أن رأى غياب أيّ توجّه لدى الطرفين كي يتفاوضا حقّاً حول حلّ سياسيّ. لكنّه لم ينجح في إقناعهما بأنّ البداية بحلّ جزئيّ لمدينة برمزيّة حمص يمكن أن يؤسّس لجولة ثالثة من المفاوضات، تلاشى اليوم إمكان عقدها.
واضحٌ أنّه لم يكن للسلطة مصلحة في وضع حصار حمص على أرضيّة السياسة بغطاء أمميّ. فهي ساقطة عسكريّاً، وضمن سوريا «المفيدة» التي يهمين عليها، عدا أنّه لا يسيطر حقّاً على الميليشّيات المواليّة في بعض أحيائها، والتي نقضت عدّة محاولات سابقة للهدنة. لكن يبقى السؤال عمّا إذا كان وضع حمص أوّلأً على طاولة التفاوض في مصلحة وفد المعارضة، مهما كانت درجة تمثيله، أم من مصلحته الإصرار على التفاوض فقط على «جسم الحكم التوافقي (مع السلطة) الكامل الصلاحيات»؟
تطرح الإجابة عن هذا السؤال في صميمها معضلة، ذلك أنّ ما كانت تربحه المعارضة من التفاوض على حمص هو إنسانيّ أكثر من كونه سياسيّا، بل قد يبدو نوعاً من الخسارة السياسيّة لأنّها تكون بذلك قد تخلّت عن هدفها الأوليّ، أي إسقاط النظام.
لكن هل كانت ستخسر حقّاً على المدى الطويل إذا ما قدّمت ما هو إنسانيّ على ما هو سياسيّ؟
في الفترة التي تلت فشل جنيف 2، كان معلوماً أنّ جولات حثيثة من التفاوض دارت على الأرض لإيجاد مخرج للوضع الذي لم يعد محتملاً. تفاوض بين الأهالي وأطياف المقاتلين، وتفاوض مع أطياف القوى الموالية للسلطة. تفاوض كان يقوم على إبقاء أهالي ومقاتلي حمص في ديارهم وعلى تثبيت هدنة، على شاكلة ما تمّ في ما سمّي «المصالحات» في البلدات المحيطة بدمشق. تفاوض بقي طويلاً يتأرجح من دون قرار حسب إحساس هذا الطرف أو ذاك بالقوّة أو الضعف.
ثمّ أتى الاختراق فجأة من خارج حمص. فصيل مقاتل رئيس متواجد على مستوى سوريا، يعقد بدعمٍ من دولة خليجيّة اتفاقاً مع السلطة والميليشيات الموالية كلّ على حدة، بدعمٍ مباشرٍ من إيران وروسيا. أي اتفاق بين القوى الفاعلة في الساحة السوريّة، وليس أساساً بين السلطة والمقاتلين المحليين. اتفاق يشمل أماكن أخرى في سوريا (إغاثة نبّل والزهراء، ومختطفي اللاذقيّة) وتبادل أسرى دوليين.
بالطبع لم يأتِ هذا الاتفاق فجأة وبسرعة، إذ من المؤكّد أنّه تطّلب وقتاً طويلاً من الإعداد لكثرة اللاعبين فيه. كما لا يمكن تصوّر أنّ الولايات المتحدة بعيدة عنه، وإلاّ فلا يمكن فهم زيارة وفد الائتلاف «الإعلاميّة» لها وافتتاح مكتب تمثيلها بالضبط في الوقت الذي تتمّ فيه صفقة حمص. وإلاّ فإن صورة هذه الصفقة كانت ستبدو استسلاماً.
هذا يعني أنّ مأساة حمص أسّست لأوّل عمليّة تفاوض محلّية وإقليميّة ودوليّة واسعة. حمص «عاصمة الثورة»، ولكنّها أيضاً صلب الأزمة السوريّة بأبعادها العسكريّة والسياسيّة… وكذلك الطائفيّة.
هذه الصفقة التفاوضيّة ستؤسّس لسوريا ما بعد… حمص. وهي أهمّ بكثير من صفقة إطلاق سراح راهبات معلولا، لأنّ رهان هذه الأخيرة كان ما سيحدث بعدها في القلمون كي لا ينفجر لبنان. ذلك أنّ هناك اتفاقاً ضمنيّاً إقليميّاً ودوليّاً ألاّ ينفجر هذا البلد، وأن تضبط حدوده مع سوريا.
بعد حمص، سيتابع الجميع حركة عودة السكّان إلى منازلهم وأحيائهم المهدّمة، وتصرّفات الميليشيات الحمصيّة الموالية بعد أن ذهب خصومهم بعيداً، وعلاقة الجيش والأمن معهم، ومجريات إعادة هيكلة الفصائل المعارضة المقاتلة القائمة اليوم، وخاصّة سير المعارك في حلب وحولها.
لا تكمُن النظرة إلى ما بعد حمص حقّاً في زاوية مخاطر تقسيم سوريا، إذ انّها غدت مقطّعة الأوصال منذ زمن، بل فيما إذا بدأت الدول الإقليميّة تخشى حقّاً من استمرار الحرب المستعرة، وهناك دلائل على ذلك مثل شروع تركيا، بعد الأردن والعراق، في إغلاق الحدود تدريجيّاً. كما تتصل النظرة باحتمال أن تكون هذه الدول قد بدأت تعمل على إيجاد صيغة لوقفها، والتوجّه بالمقابل نحو مكافحة الخطر الذي تصفه الولايات المتحّدة اليوم بأنّه أكبر ممّا حدث في أفغانستان، وبات يشكّل تهديداً لأمنها القوميّ. ولا تكمن النظرة بالتالي إلى ما بعد حمص في أنّ الرئيس السوري رشّح نفسه لدورة جديدة رغماً عن جوهر الدستور الذي وضعه، لأنّ مجرّد ترشّحه استفزاز يؤجّج الحرب التي لا يمكن أن يستمرّ من دونها.
إنّ منعطف ما بعد حمص يكمن في كونه أساساً لما يُمكِن لدول الخليج وإيران ً أن تتفق عليه، وذلك انطلاقاً ممّا يمكن أن يتّفق عليه السوريّون لوقف الحرب. وتاريخ السوريّين علّمهم كيف يبتكرون حلولاً للحفاظ على وحدتهم أو لاستعادتها، وإن تدريجيّاً.
فليكن عزاء الحماصنة أنّهم كانوا ولا يزالون مفترق طرق مصيرياً، وأنّهم بالفعل قلب سوريا.
السفير

 

 

 

حِمصُ العَدِيّة/ زيـاد مـاجد

حملت حمص بعد درعا مشعل الثورة السورية، وتحوّلت طيلة أعوام ثلاثة الى فضاء تبلورت فيها شهراً بعد شهر ملامح المشهد السوري بأجمل وأقبح ما فيه. ويمكن الحديث عن أربع مراحل عبرتها حمص في “إلياذتها”.

المرحلة الأولى استُهلّت بمظاهرات 25 آذار 2011 انتصاراً لأهالي حوران ومناداةً بالحرّية، وانتهت بالمجزرة التي ارتكبتها قوّات النظام في 18 نيسان 2011 في ساحة الساعة.

المرحلة الثانية ابتدأت في أيار 2011 واستمرّت حتى آذار 2012، وفيها شهدت حمص أحداثاً مأسوية وانقسامات طائفية، وترافق خلالها التظاهر مع بروز المظاهر الأولى للعسكرة وتحوّل بابا عمرو الى “معقل” للثورة اجتاحه النظام ودمّره بالكامل.

المرحلة الثالثة انطلقت في نيسان 2012 واستمرّت حتى أواخر العام نفسه، وشهدت معارك عسكرية وخطوط تماس، ثم فصلاً للمدينة عن محيطها وبدءَ حصار النظام لها.

أما المرحلة الرابعة، فكانت تلك التي استمرّت طيلة العام 2013، وأنتجت السابع من أيار 2014، وفيها تضييق للحصار ومجاعة وتراجع للتنسيق بين مكّونات الثورة المسلّحة. وفيها أيضاً بروز للدور العسكري لحلفاء النظام الإيرانيين واللبنانيين والعراقيين.

بالعودة الى المرحلة الأولى، يمكن القول إنها كانت المؤشّر الأبرز على عزم النظام سحق التحرّكات الشعبية السلميّة، خاصة إن هي سعت الى احتلال ساحات عامة في المدن الكبرى والاعتصام فيها. وهذا ما شهدته حمص، وبعدها بأربعة أيام الزبلطاني في دمشق، ثم حماه ودير الزور في آب، وقبلها جميعها درعا. وقد كان لمجزرة ساحة الساعة التي رفع النظام جثامين ضحاياها بالجرّافات وشاحنات القمامة وترك برك دمائهم لساعات للتخويف بها أن دفعت الأمور في المدينة الثالثة في سوريا الى التصعيد الكبير والى بدء ظهور السلاح والحديث العلني عن ضرورة الكفاح المسلّح ضد النظام.

أما في المرحلة الثانية، فقد شهدت حمص أكبر عدد من الاعتصامات والتظاهرات، وشهدت بروز نجم عبد الباسط الساروت، حارس مرمى فريق الكرامة والمنشد الشعبي، وشهدت أيضاً تحوّل حي بابا عمر الى قاعدة ثورية بمركز إعلامي استقطب صحافيين أجانب وبمركز استشفائي عمل فيه أطبّاء متطوّعون، وبوحدات عسكرية فيها منشقّون عن جيش النظام ومدنيّون انضمّوا إليهم. كما شهدت حمص في هذه المرحلة تصاعد التوتّر الطائفي نتيجة اعتداءات مارسها شبيحة من الأحياء “الموالية” على المتظاهرين، بالترافق مع انتشار كلام عنصري وتحريضي ضد قاطني حيّي البيّاضة وبابا عمرو بسبب “الأصول البدوية” لكثرة منهم.

بالتوازي مع ذلك، عرفت مرحلة الأشهر العشرة المذكورة إبداعات فنّية حمصية (نُشر بعضها على الفايسبوك) وأفلاماً قصيرة (برز منها فيلم “وعر”) وحراكاً مدنياً لم يهدأ، حماه مسلّحون اشتبكوا أحياناً مع الشبيحة وجنود النظام. لكنّها عرفت أيضاً عمليات خطف وسرقة سيارات ونشوء مجموعات إجرامية تستظّل بالثورة لأهداف لا تمتّ لها بصلة. وقد أُقفلت المرحلة هذه على مجازر طائفية ضد أحياء البياضة والخالدية وكرم الزيتون ثم على تدمير جيش النظام لحيّ بابا عمرو واحتلاله. وقُتل خلال اقتحام الحيّ صحافيون أجانب وسوريون، وقُتل قبل ذلك بفترة وجيزة صحافي فرنسي لم تكن الراهبة الشهيرة آنييس، إحدى أبرز الناشطات في بروباغاندا الأسد، بعيدة عن مسؤولية التسبّب بموته.

المرحلة الثالثة شهدت تحوّلات هي الأخطر في الوضع الحمصي، إذ تفاقم الاحتقان المذهبي بعد المجازر ونشأت سوق بمسمّى “سوق السنّة”، عُرضت فيها للبيع ممتلكات ومفروشات وأغراض نهبها الجيش الأسدي وشبّيحته من بيوت اضطرّ أهلها “السنّة” للنزوح عنها أو هم قضوا نتيجة القصف على أحيائها. وقد تراجعت خلال هذه المرحلة التظاهرات تدريجياً، لتتحوّل المدينة التي سقط فيها عشرات الناشطين السلميين ممّن حاولوا توثيق أحداثها أو نقل المساعدات الى أهلها (واسم السينمائي باسل شحادة يبرز هنا) الى ساحة معارك ضارية تقدّم فيها النظام داخل خريطة المدينة وأطبق على بعض أحيائها، في حين سجّلت المعارضة المسلّحة بأطيافها المختلفة تقدّماً عليه في ريفَيها الشمالي والجنوبي. وتعرّضت في الفترة عينها بلدات سنّية فقيرة تقع بين محافظات حمص وحماه والساحل لمجازر بدا فيه “التطهير الطائفي” في منطقة “حسّاسة” هدفاً أساسياً.

المرحلة الرابعة والأخيرة، عرفت متغيّراً مهمّاً في معادلاتها، ارتبط بدخول حزب الله وبعض الميليشيات المذهبية العراقية على خط القتال الى جانب النظام غربي المدينة وجنوبها، مدعومين بطائرات إيرانية بلا طيّار، بهدف إحكام الحصار عليها وربط الساحل السوري بدمشق عبرها، وما يعنيه الأمر استراتيجياً وطائفياً للنظام من ربط للعاصمة بالمنطقة التي يعدّها “قلعته” أو حاضنته الشعبية.

وعرفت المرحلة تلك تفككاً في البنية الحربية للمعارضين وتناثراً لمجموعاتهم داخل حمص وفي محيطها. وعرفت أيضاً تبدّلات في “هويّات” بعضهم، ترجمها صعود تيّارات سلفية في أوساطهم. وفُرضت عليهم، كما على من بقي في حمص القديمة حيث حوصروا، حرب تجويع لم تكن أقلّ ضراوة من القصف بالطيران والدبابات والصواريخ الذي حوّل المدينة الى ركام رهيب. ومع ذلك صمدوا حتى الاتفاق على رحيلهم، وصمدت معهم مؤرّخة جديدة للمدينة، وئام بدرخان، إذ وثّقت نثراً وشعراً وتصويراً يوميّات حمص وليلها الطويل.

على أن المشهد الحمصي السوري بمراحله المختلفة لا يكتمل من دون الحديث عن مزيج الصمت والعجز الذي رافقه، والذي تتحمّل جامعة الدول العربية ومجلس الأمن الدولي جزءاً أساسياً من المسؤولية عنه، وقد فشلت مهامهما ووساطاتهما في المدينة (تماماً كما يتحمّلان جزءاً كبيراً من المسؤولية عمّا حلّ بسوريا بأكملها نتيجة التردّد والتمنّع عن التدخّل الفاعل لوقف مجازر النظام الأسدي ولمنع وصول الجهاديّين الأجانب، ممّن تحوّلوا الى محتلّين في الكثير من المناطق الحدودية).

يبقى أن الاتفاق الذي أفضى الى خروج من تبقّى من المقاتلين وعائلاتهم من حمص القديمة في 7 أيار حدّد نهاية حقبة في الملحمة الحمصية وفي الثورة السورية المستمرّة ومآسيها. حقبة تكثّفت فيها جميع الديناميات الاجتماعية والسياسية والعسكرية، وجميع السلوكيات البربرية. وحقبة تستحقّ من “المعارضة” أو من المسؤولين الرصينين فيها التفكّر والتقييم، كي تليها حقبات عودةٍ الى العَديّة وانتصارٍ للحياة فيها.

موقع لبنان ناو

 

 
مصائر تراجيدية في الثورة السورية/ عمر قدور
«رايحين ناكل لقمة ونرجع». هذا ما قاله أحد مقاتلي حمص القديمة إثر مغادرتهم المدينة وفق الشروط التي باتت معروفة. عبارة يمكن وصفها بالخاتمة النموذجية التي تَعِد باستمرار الملحمة، وهي إذ كانت موجهة الى تعزية النفس أولاً، فلا شك في أنها تمنح العزاء أيضاً للجمهور الذي تابع طوال سنتين مأساة الحصار التام. وهي أيضاً تذكّر بالمصير البائس لعشرات المقاتلين مطلع هذه السنة، عندما حفروا نفقاً يوصلهم إلى منطقة المطاحن المحاذية لحمص القديمة ليجدوا في نهايته قوات النظام تنصب كميناً لهم، فلا يتمكن سوى أربعة منهم من النجاة، ويتبدد الجهد المضني لنحو أربعة أشهر أمضوها في حفر النفق.
بقاء المقاتلين في حمص القديمة وقتالهم حتى آخر رمق، شكّلا أحد الاحتمالات التي يُخشى منها. رحيلهم بأسلحتهم لم يقلل من صمودهم الأسطوري، أو من هيبة المصير التراجيدي بما أنهم لم يتراجعوا عن مقاومتهم للنظام المتفوق على كل الصعد، باستثناء الأخلاقي منها، حتى ليمكن وصفه بالقوة الغاشمة الكلية القدرة قياساً إلى إمكاناتهم المتواضعة، وأيضاً باستثناء العامل الأخلاقي الذي يميل إلى جهة مظلوميتهم بقوة.
مع ذلك، سيكون عادلاً القول إن أولئك المقاتلين لم يبحثوا عن أسطرة أنفسهم بمقدار بحثهم عن الغذاء الذي يكفل لهم الاستمرار في القتال، الأمر الذي يرفع شأن مكابدتهم ويزيد أسطرتهم. فالبطل التراجيدي واقع دائماً تحت طائلة الهوة الشاسعة بين نبل ما يسعى إليه والعوائق المنصوبة أمامه بإحكام.
لكن مشكلة التراجيديا، إذ تضع أبطالها أمام قوى تفوق طاقتهم، أنها تعفيهم من تبعات المسؤولية عن الإخفاق، ولأنها موجهة أصلاً إلى الجمهور، فهي تنقل ذلك بالعدوى إليه. الجمهور العادي الذي يتمثّل بطله، وبمقدار اعتزازه به، ستنتقل إليه عدوى الإحساس بأنه فعل ما يتوجب فعله في ما لو تعرض للامتحان ذاته، وليس نادراً أن يتمزق بين إحساسين، أولهما الشعور بالفخر لعدم التخلي عن المبادئ، وثانيهما الإحساس بالعجز واللاجدوى ما دام أبطاله لم يحظوا بالنهاية السعيدة. من الضروري أن نتذكر هنا انتماء التراجيديا إلى الصراع الأزلي بين الخير والشر، ذلك الصراع الذي لا يبدو قابلاً للحسم أصلاً.
ومع أن أية ثورة تبدو بحاجة إلى أيقونات، وهذا هو المعنى العميق لاصطناع الأبطال في الثورات كلها، إلا أن تكرار صورة البطل التراجيدي في الثورة السورية أصبح جديراً بالتوقف عنده. الصورة التي بدأت قبل أكثر من سنتين في صمود حي بابا عمرو في حمص أيضاً، ثم تتالت مثيلاتها في القصير ويبرود، وربما نكون مع مواعيد أخرى لمناطق وأحياء في غوطتي دمشق. ففي كل مرة يظهر أولئك الأبطال في مواجهة ظروف قاهرة، وفي كل مرة يُبدون من الشجاعة والصمود ما يُدهش المتابعين، وما يُدهش حتى جمهور الثورة نفسه، ثم تأتي الهزيمة المبررة في الحبكة المكررة ذاتها، تليها التبريرات والذرائع ذاتها التي لا تجد حلاً.
هذا النمط التراجيدي بات يأخذ الثورة إلى تقديم الأمثولة بدل تقديم الحلول التي تمنع شيوعه، الحلول التي يجب أن يبحث عنها أناس عاديون في الدرجة الأولى، لا أولئك الذين يتحولون أبطالاً استثنائيين تحت ضغط الحاجة، فضلاً عن أن تكرار النمط بحذافيره يحوّله مهزلةً ويخسف محاكاة المثُل إلى محاكاة المحاكاة.
لا حاجة إلى كثير من الدهاء هنا لمعرفة الأسباب التي تبتذل شاعرية البطولة على وجه العموم، من دون أن تنتقص من شجاعة المقاتلين المحاصرين في بؤر معزولة تماماً. فأية سيطرة على مدينة أو منطقة لا تتحسب لتأمين خطوط إمدادها ستلقى المصير المحتّم، وسيُضطر أبناء تلك المنطقة مرغمين إلى ضرب مثل في الصمود لأنهم أمام خيار الموت بكرامة أو الاستسلام لنظام سيقتلهم مع الإذلال.
ما حدث في حمص القديمة قد يحدث في أي مكان آخر، ما دامت الثورة تقاتل بالمفرّق، وما دام لكل منطقة فيها ثوارها وقادة حربها الذين لا يتصرفون وفق إستراتيجية عامة موحدة. هذا هو معنى «الفزعة» التي تطالب بها مناطق عدة عندما تُطبق عليها قوات النظام والميليشيات الأجنبية الداعمة له. فالمقاتلون فيها يطلبون النجدة من مقاتلي المناطق المجاورة كأنهم يستجدون دعماً من جهات أخرى لا تربطهم بها صلة وثيقة أو هدف واحد. وعندما تأتي «الفزعة»، إن أتت، تكون بعد فوات الأوان، كما حصل في تجربة القصير.
الآن ثمة ما هو معلن وواضح مسبقاً، فثوار حمص القديمة ذهبوا إلى الريف الشمالي المحاصر بدوره، وليس مستبعداً أن تلقى مناطق مثل تلبيسة والرستن المصير الذي عرفوه في مدينتهم. المستغرب فقط أن التحذيرات المسبقة تبقى غالباً بلا جدوى، فلا تُبذل الجهود الجدية لدرء الهزيمة قبل وقوعها.
هي كارثة في حد ذاتها، لا أن يضطر المقاتلون إلى الرحيل بسبب نقص العتاد والذخيرة، بل أن يفعلوا ذلك بسبب الجوع. النظام كان دشّن حملة «الجوع أو الركوع» بعد إطباقه على عديد المناطق ليقينه بعجز مقاتليها عن فك الحصار، وأيضاً ليقينه بأن الخطوط الخلفية لقواته المحاصِرة في مأمن من هجمات تبتغي فك الحصار. أما الطامة الكبرى ففي وجود أمراء حرب ضمن المناطق المحاصرة، ما يمنع توحيد الجهود لفك الحصار أو للدفاع عنها لدى تعرّضها للاقتحام بعد شهور طويلة من التجويع والإنهاك.
باختصار، هناك قيادات سياسية وميدانية تجب مساءلتها بدءاً من الهزيمة المكررة الثانية، إذا نظرنا إلى الأولى كدرس يُستفاد منه. أما توالي الهزائم على النحو ذاته فأمر يدعو إلى التشكيك، لا في أهلية القيادات فحسب وإنما في قدرة السوريين على المضي بثورتهم ما داموا مستكينين لمجمل الظروف، بما فيها تسليمهم بوجود قيادات أثبتت فشلها. ربما صار ضرورياً أن يتواضع السوريون، وألا يطربوا لصفات التعظيم التي يسبغها الآخرون عليهم أو يسبغونها على أبطالهم، فالمصائر التراجيدية تصنع أبطالاً لكنها لا تصنع نصراً هم أحوج ما يكونون إليه: النصر الذي لن يأتي طالما بقي لدينا أبطال ينتظرون وننتظر معهم مصيرهم التراجيدي.
الحياة

 
الثورة السورية .. ما بعد حمص/ نائل حريري
بعيد ترجله من إحدى الحافلات القادمة من حمص، رد أحد المجاهدين على سؤال إعلامي: هذا ليس انتصاراً للنظام السوري، إنه انتصار للثورة… وسنعود إلى حمص فاتحين محررين بإذن الله.
الكلام العاطفي وإلهاب المشاعر لدى شريحة كبيرة من السوريين المظلومين هو رد الفعل الوحيد الذي تمارسه الكتائب المسلحة، والمعارضة السياسية، على حد سواء، خصوصاً حيال مفاصل مهمة على الأرض، مثل القصير ويبرود وحمص حالياً. بينما يبدو أن النظام ما زال يسير حسب خططٍ، كان يعلن شذراتٍ منها في كل حين، ولا يبدو أنه يتصرف بأسلوب حضاري، أو مستشعراً خطورة تقترب من معاقله الأمنية ونقاطه العسكرية. استخدم عدداً قليلاً من الطائرات وبراميل رخيصة التكلفة محلية الصنع، حاول من خلالها تضخيم الفوضى في مناطق معينة، وإزاحة العين الإعلامية عن مناطق أخرى. كانت مناورات النظام السوري طوال أعوام ثلاثة تتلخص في نقطةٍ وحيدة تقريباً: أمهلونا حتى الاستحقاق الرئاسي عام 2014.
يتضح أن التركيز الفعلي على الشريط الغربي لسورية هو مفتاح النظام لإنهاء مشكلاته المحتدمة، وهي خطة ليست اعتباطية، أو وليدة الضرورات اللحظية. في آخر ظهور إعلامي له، صرح الأسد أن مرحلة الحرب النشطة تنتهي هذا العام، ويبدو أن تقديره لمفهوم الحرب النشطة يتعلق باعتبارٍ وحيد، هو الجغرافيا المحضة. بمعنى آخر، ينبغي الانتهاء من السيطرة على قطاع يشمل الساحل السوري، بالإضافة إلى دمشق وغربي حمص وبعض مناطق ريف دمشق الحيوية، في مقابل نقل الجزء الأكبر من الفوضى إلى الشمال السوري، حيث الشقاقات والحروب الداخلية كفيلة بإبقاء حالة من ستاتيك غير منتج، وغير فعال على طول الشريط الحدودي الذي يشمل حلب وإدلب والرقة ودير الزور وأجزاء من الحسكة، وحيث تنشغل الكتائب المحاربة هناك بنشاطاتها، ذات المنفعة المادية المركبة، من استثمار النفط والسيطرة على المعابر الحدودية.
يبدو من خلال الاتفاق الذي تم في حمص القديمة مقدار التشبيك والشمولية لخطة النظام، وحلفائه العسكريين الإيرانيين، تجاه الكفاح المسلح المعارض له على تنوعه، فالاتفاق يربط بين إخلاء حمص القديمة وإدخال المساعدات إلى قريتين محاصرتين في حلب، بتنسيق يضمن تنفيذ تلك الأخيرة، أولاً قبل كل شيء، وهو تشبيك أولويته نقل صورة إعلامية استراتيجية عن تخطيطه المتكامل، بالإضافة إلى الاستمرار في إحياء مسألة حماية الأقليات. أما المقاتلون المسلحون، فيتم نقلهم إلى الشمال، للابتعاد عن القطاع “النشط” بالنسبة للنظام، ولإدخالهم في فوضى الشمال التي ما زالت تراوح في مكانها، في توقيت ملائم تماماً للحملة الانتخابية المسرحية التي ترشح الأسد رئيساً مسلماً به لولاية جديدة. تكتمل الخطة المفترضة بما أعلنته مصادر مرتبطة بالسلطة نية النظام السوري في تطبيق الهدن على مجال أوسع، ضمن محيط دمشق وريفها، يبدأ بمخيم اليرموك الفلسطيني، وهي مسألة أكد النظام السوري أن “عناصر دخيلة” تعيق جهوده في إنجازها، وأنه مستعد لفرضها بالقوة والتدخل العسكري في المخيم، إن لم يتم تنفيذها بالاتفاق السلمي “في فترة لا تقل عن 15 يوماً قبيل الانتخابات الرئاسية”.
عند النظر إلى الصورة الكاملة، قد تبدو بعض المفاصل أكثر مرونة بالنسبة إلى النظام، بحيث يختار توقيت تنفيذها متى شاء. من ذلك مثلاً، الحفاظ على سيطرة الكتائب المعارضة في يبرود، حتى تاريخ ذكرى الثورة السورية في الخامس عشر من مارس/ آذار الماضي، ومن ثم الإعلان عن بدء تطبيق اتفاق حمص القديمة الذي صرحت مصادر معارضة أنه “تم الاتفاق عليه في وقت سابق”. وقد يكون من المفيد، إذن، في هذه الحالة، عدم التقليل من أهمية وخطورة جمود الحراك المسلح المعارض وانقسامه على نفسه، خصوصاً مع جبهات القتال الداخلية التي ما زالت تتجدد كل يوم، والتي لن يكون آخرها القتال مع “داعش”. أما محاولات التوحيد والتجميع المهمة التي طرأت في الأشهر الستة الأخيرة ممثلةً في “الجبهة الإسلامية” و”جيش المجاهدين”، فهي مفرغة من المعنى، ما لم تكن تحمل قيماً مشتركة حقيقية، تتجاوز ميوعة وبروتوبلازمية الحرب ضد نظام الأسد، وتتبنى بدل الخطاب الأيديولوجي خطاباً سياسياً حذراً، سيكون لازماً لحراك مسلح، يستجدي الدعم الدولي والتسليح الخارجي.
ما زالت جميع الملامح الاستراتيجية والعسكرية والسياسية، اليوم، توحي بانتصار مرحلي ضخم لنظام الأسد، وبأن المعارضة المسلحة لن تستطيع أبداً تدارك الوضع الحرج الذي هي فيه، من دون أن تدق أجراس الخطر أولاً، وتعترف بالفشل القائم، وبضرورة رفض واقعها الحالي، وتغييره بأسرع ما يمكن. أما وحال المعارضة ما يزال يتأرجح بين البكائيات والاستجداءات ونظرية التآمر على الثورة والتأكيد على أنها مستمرة على النهج ذاته، فهذا معناه الاستمرار في السير، وفق خطة النظام السوري “بالحرف”.
العربي الحديد

 
حمص شهيدتنا/ ميشيل كيلو
والآن، وبعد أن دخل النظام إلى حمص، رمز وحاضنة الثورة، التي ضحت بالغالي والنفيس في سبيلها، وقدمت من أجل حرية السوريات والسوريين ما لم يقدمه غيرها في تاريخ العرب القديم والحديث، وكانت وستبقى منارة كرامتنا وعنوان ما نريده لأنفسنا ووطننا من عدالة ومساواة مقرونتين بالحرية، لا بد من قول بضع كلمات صريحة حول ما حدث.
بداية، لم تقصر حمص في فعل المستحيل من أجل كل مواطن سوري. ولم تبخل طيلة ثلاثة أعوام ونصف عن تقديم كل ما يتطلبه انتصار الشعب في معركته من أجل الحرية، وتكبدت من الخسائر ما لم يتكبده غيرها خلال عامين ونصف من القتال ثم الحصار. ولم تتردد في حمل أمانة الحراك الثوري، وفي إدارته – وأكاد أقول قيادته – دون تعب، رغم ما انصب عليها يوميا من قذائف ورصاص وحمم، وقدمته من بناتها وأبنائها على مذبح الكرامة الوطنية. هل ننسى أن من غادروا المدينة صمدوا طيلة سنين عجاف قاتلوا خلالها بمفردهم وهم محاصرون في حالات كثيرة، وجاعوا وماتوا، وهجروا وشردوا، وفقدوا الأهل والدار، دون أن يجدوا من يسمعهم أغلب الأحيان؟
سيقول كثيرون إن النظام هو الذي أسقط حمص. لا شك في أن النظام استقتل كي يسقطها، لكنها ظلت عصية على السقوط حتى أصابه اليأس منها وأيقن أنها هي التي ستسقطه، فلا عجب أن اعتبرها مصدر الخطر الرئيس – ولفترة من الزمن – الوحيد عليه، وأن يحاصرها قبل غيرها، ويخصها بالقسم الأكبر من عنفه ووحشيته، وأن يلقي عليها عشرات آلاف الأطنان من أشد ذخائره فتكا، ويفرغها من سكانها ويدمر مقومات وجودها، ويمحوها عن وجه الأرض. ومع أن عدد من قاتلوه فيها تناقص بمرور الوقت، فإن أحدا من أهلها لم يتردد في تقديم قدر أسطوري من البسالة والإقدام.
بالمقابل، أعتقد أن انقسامات المعارضة، وأنماط الولاء المنتشرة في صفوفها والبعيدة كل البعد عن الوطنية، والحسابات الصغيرة والشخصية لكثير من ممثليها، والخلافات القائمة بينها التي تعكس الخلافات العربية على الداخل السوري، والتدخلات الإقليمية والدولية في شؤون الثورة وما تنتجه من صراعات تستعر بقوة فيها، وافتقار المعارضة إلى برامج وخطط توجه الحراك وتعبر عنه وتقيه الزلل والشطط وألاعيب النظام المتنوعة، والتشبث بحرب المدن والعجز عن تحويلها إلى حرب عصابات متحركة، والافتقار إلى جيش وطني مهني وموحد، وضعف وحدة مجتمعنا، ودخول أغراب على خط الصراع من أجل الحرية، وحرفه في اتجاه قوض تدريجيا هويته الأصلية وجوهره التحرري، وغياب الجهود المنظمة لإحباط خطط النظام للعب ورقة الطائفية ضد الثورة، ولفك وحدة مكوني المجتمع المدني والأهلي، وخروج الثورة من أيدي الذين صنعوها وسقوطها المتزايد في أيد غريبة عن سوريا: متطرفة ومعادية للحرية والعدالة والمساواة، ترى في السياسة عبادة السلاح والعنف، وتقصير المعارضة الديمقراطية في اتخاذ مواقف واضحة حيالها، وأخيرا وليس آخرا تخاذل قطاعات واسعة من الانتلجنسيا السورية، وامتناعها عن سد الفراغ السياسي الناجم عن مواقف المعارضة الحزبية، التي قصرت في فهم ما يجري وعجزت عن تطوير خيارات برنامجية وعملية من شأنها المحافظة على مساراته ورهاناته الأصلية.
لم يكن دور المعارضة في إسقاط حمص قليلا أو محدودا، بل كان الوجه الآخر لدور النظام. لقد تمسكنا بأخطائنا لفترة طويلة كانت كافية لمحو ما أبدته حمص من بطولات. واليوم، وإذا كنا نريد حقا المحافظة على ما في أيدينا من مناطق محررة ومواقع مقاومة، من الضروري أن نتعلم سياسيا وعسكريا مما جرى في مدينة ابن الوليد العدية، وأن نبني قوات عسكرية وهياكل سياسية فاعلة ومتماسكة تمكننا من كسب معركة لم تطل إلا لأننا أهملنا أساسيات نجاحها، وخضنا معارك ضد بعضنا كانت أشد ضراوة في أحيان كثيرة من تلك التي خضناها ضد النظام.
ماذا بعد حمص: أهو انتصار تنتجه سياسات صحيحة ووحدة وطنية ضاربة، أم هزيمة تنتجها الفوضى والانقسامات السياسية والعسكرية، والافتقار إلى القرار الوطني السوري المستقل؟

الشرق الأوسط

 

 

 

عن انسحاب مقاتلي المعارضة من حمص/ برهان غليون
انسحب المقاتلون من أجل الحرية من حمص بعد حصار دام 690 يوماً، ونفاذ كل مواردهم، وانعدام كل مقومات الحياة، من ماء وغذاء ودواء، وبعد فشل محاولات عديدة لفكّ الحصار من الداخل، وعجز القيادة العسكرية والكتائب القريبة عن فتح ثغرة من الخارج. واضطر المقاتلون الذين صمدوا في مواجهة كل الهجمات، ومثلوا إرادة حمص وروح الحرية والتضحية والفداء التي سكنت قلوب أبنائها جميعاً، إلى الخروج من عاصمة الثورة السورية، بعد توقيع هدنة تقضي بتسليمهم أسلحتهم الثقيلة، والانسحاب نحو مواقع جديدة في الريف الشمالي، ليتابعوا منها، مع إخوتهم، كفاحهم البطولي ضد نظام الجريمة المنظمة والقتل والفساد والطغيان.
فقد مقاتلو الحرية الحقيقيون موقعاً استراتيجياً مهماً، بل بالغ الأهمية، في حمص، وسجل النظام مكسباً مقابلاً، بإعادة انتشاره في المدينة الشهيدة التي دمّر حتى آخر منزل فيها. وكما يعمّ الحزن جميع الثوار، وأنصار الثورة السورية، لتنكيسهم علم الحرية في حمص، بعد معارك ضارية، سيوزّع قادة نظام الإبادة الجماعية والتطهير “العرقي” في دمشق، وحلفاؤهم في لبنان والعراق، على أنصارهم قطع الحلوى المغمّسة بدم أطفال حلب ودرعا ودير الزور ودمشق وحماة، وغيرها من المدن التي تتعرض للهجوم بالصواريخ والبراميل المتفجرة.
يخفّف من وقع المصيبة ما يحققه الثوار، في أكثر من موقع وجبهة، تقدماً لا يفتّ في عضد قوات الأسد المنهارة فحسب، لكنه يشعل الخلاف داخل صفوف القوى الأجنبية التي تحارب اليوم، وحدها تقريباً، ضد كل الشعب السوري، لكسر إرادته وتمزيق أرضه وتقسيمه، وهي التي كان لها الموقع الأول في مفاوضات الهدنة، إيران وروسيا.
ما حصل هو، قبل كل شيء، فضيحة للمجتمع الدولي ومجلس الأمن الذي أصدر قراره رقم 2139 لفكّ الحصار، لكنه ترك النظام الغاشم يفرض إرادته، متحدياً كل عبارات التهديد التي وردت في القرار باتخاذ إجراءات عملية قاسية بحقه، إذا لم يتم التنفيذ، كما لو كان ينتظر أن يحصد النظام نتائج حصاره، قبل أن يتخذ أي قرار جدّي، بفتح أي ممرات آمنة، لتمرير المساعدات.
لكن مسؤولية كبيرة تقع، أيضاً، على المعارضة، التي شغلتها صراعاتها عن الاهتمام بمصير حمص، وبشكل أقوى، على القيادة العسكرية التي اكتفت بتوزيع المساعدات المالية، وربما تقديم بعض السلاح، من دون أن تجهد لوضع الخطط العسكرية، وتنظيم الكتائب المقاتلة في المدينة وريفها، وتركت الموضوع لناشطين مدنيين، مشتتين في أكثر من مكان ولا خبرة لهم. وتقع مسؤولية أكبر، أيضاً، على قادة الكتائب المقاتلة في جبهة حمص التي استمرت في العمل، من دون تخطيط ولا تعاون، وفشلت في أن تنظم عملها ضمن جبهة حقيقية، تدعم بعضها بعضاً.
ليست هذه المرة الأولى التي تفقد فيها المعارضة موقعاً مهماً، ولم يكن انسحاب الثوار المحاصرين في حمص مفاجئاً، فمحدودية الدعم بالسلاح والذخيرة، نتيجة رفض المجتمع الدولي، والولايات المتحدة خصوصاً، السماح للثورة بحسم عسكري، وبطء عملية إعادة هيكلة الكتائب المقاتلة تحت قيادة عسكرية مركزية محترفة، ومرتبطة بالأرض، قدّما هدية كبيرة للنظام، بالإضافة إلى الانخراط المتزايد في القتال لقوات لبنانية وعراقية وإيرانية في الحرب.
مع ذلك، لن يزعزع هذا الحدث من إيمان أي مقاتل، بل أي سوري، بأن بشار الأسد لن يستطيع، مهما فعل، أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وأن يحقق الحلم المجنون الذي قاده، كما قاد قبله أدولف هتلر إلى تدمير بلده ونكبة شعبه، في استعادة السيطرة على سورية وتحويلها، كما كانت قبل الثورة، إلى ملك عضوض له ولأبنائه. ولن يشك أحد بأن النصر سيكون في النهاية، على الرغم من التعطيل المتعمد، والتآمر الواسع على حقوق السوريين وحرياتهم وسيادتهم، للشعب الذي أظهر من البطولة والفداء والإصرار ما أذهل العالم، وأجبر الدول الكبرى، بعد التردد الطويل، إلى تغيير سياساتها والخروج عن صمتها.
لكن، حتى يتحقق ذلك، ينبغي للسوريين أن يجعلوا من درس حمص الأليم حافزاً من أجل إحداث ثورة حقيقية داخل الثورة، تحررها من عثراتها، ومن الشوائب والطحالب التي علقت فيها، وأصبحت تعيق حركتها، وتعيد تواصلها مع الشعب، وتنظيم صفوفها وعملها، على الصعيد العسكري والسياسي والشعبي، على أسس جديدة فعالة، تمكنها من استعادة السيطرة على حمص وجميع مناطق سورية المحتلة، ورمي نظام العنف والحرب والتمييز والأنانية والحقد إلى المكان الوحيد الذي يستحقه. وهذا هو المنحى المنطقي والأخلاقي الوحيد الذي يتسق مع روح العدالة والتاريخ.
العربي الجديد

 
صوَر بلا معنى/ ابراهيم حاج عبدي
تبدو الصورة باهتة ولا معنى لها إزاء فداحة الحدث وأبعاده المقلقة: هذا ما تبدى خلال تغطية الفضائيات هدنة حمص بين المقاتلين المحاصرين في أحياء من المدينة وبين الجيش السوري. لم ينشغل المشاهد، السوري بخاصة، بالصور بل راح يطرح اسئلة عن وطن جريح، وعن هدنة مبهمة تقضي بنودها بإخراج المقاتلين والمدنيين من المناطق المحاصرة الى الريف الشمالي وكفى.
أي ريف شمالي؟ وهل حمص مدينة غير سورية؟ ثم ماذا عن المناطق الأخرى التي تعيش ظروفاً مماثلة؟ وماذا عن التسامح والعيش المشترك؟ وكيف يفاوض الإيراني والروسي، كما ذكرت تقارير إعلامية، نيابة عن السوري، وهل ينبغي للمشاهد أن يفرح لمثل هذه الهدنة التي لا مصالحة فيها، أم يحزن للحال التي وصلت اليها البلاد والعباد.
الهدنة هي جزء من تراجيديا المحنة السورية التي طالت ودخلت عامها الرابع، ولا أمل يلوح في الأفق سوى مجهول مخيف، وإزاء هذه الحقيقة وتلك الأسئلة المؤلمة، بدت الصورة التي بثتها الفضائيات نافلة ولا أهمية لها. باصات خضر تصطف في طوابير، ووجوه غائمة الملامح تبحث عن معنى لهذا الجنون، وخليط من البشر يضم معارضين وموالين وعناصر من الأمم المتحدة، والدمار الذي بات مألوفاً، ثم يسير الموكب الحزين ويختفي في العمق البعيد.
لم تكشف هذه الصور الألغاز بل كادت أن تقلل من حجم الحدث وملابساته، فالوجهة هي الريف الشمالي لحمص، ولكن أين المستقر والمأوى؟ وهل سيكون الحصار أرحم من عراء ينتظر الخارجين من الجحيم؟ ولم كان الجنود فرحين بدخولهم أحياء مدمرة؟ هل النصر يأتي على هذا النحو؟ بدا الأمر شبيهاً بمسرحية عبثية تجري فصولها على أرض سورية، أو هو أقرب إلى مزحة سمجة لا تمت الى الحقيقة بصلة. لكنّ الواقع يقول خلاف ذلك، فهو ليس مسرحية ولا دعابة، وإنما حقيقة صادمة، والأكثر إيلاماً أن ثمة مناطق أخرى من القامشلي الى درعا ومن إدلب الى السويداء تعاني الوجع ذاته. ولكن لم ترتب أوراق المصالح بعد للتفرغ لها، وإيجاد تسوية غامضة أخرى.
لا، لم يكن الحدث يحتاج الى تلك الصور، فالحدث برمزيته، يفوق كل ما عداه، ولم يشعر المشاهد، السوري بخاصة، بلهفة نحو الصورة كي تشرح له الالتباس، وتجيب عن أسئلته التي راحت تتزاحم في القلوب. هنا بان للخيال دور أقوى من الصورة، فالمخيلة أهملت الشاشات وراحت تبحث في أرشيف هائل من «الخسارات»، وتستعيد محطات المحنة السورية، وتصنع ابطالاً وهميين سيخرجون كالعنقاء من تحت الرماد، ويجترحون حلولاً سحرية لأزمة تتأجج وتتفاقم، وما الهدنة سوى صدى لقضية أعمق بكثير من مجرد ألفي شخص محاصر، وصور الهدنة بدت قاصرة عن قراءة المشهد الصادم.
الحياة

 

 

 

حمص الشهيدة/ علي العبد الله
باتفاق مقاتلي المعارضة مع النظام على الخروج من احياء حمص القديمة بأسلحتهم الفردية الى الريف الشمالي فقدت الثورة السورية موقعا استراتيجيا وذا رمزية كبيرة: أول مدينة سورية خرجت تضامنا مع أهالي مدينة درعا يوم 25/3/2011، وأول مدينة قدمت شهداء بعد درعا(7 شهداء في الجمعة الثالثة 8/4/2011) وأول مدينة حاولت احتلال ساحة والاعتصام بها تحت شعار “اعتصام … اعتصام حتى يسقط النظام” ودفعت ثمنا باهظا لمحاولتها( 34 شهيدا وعشرات الجرحى ومئات المعتقلين)، هذا بالإضافة الى عدد الشهداء الضخم والدمار الكبير الذي لحق بالمدينة وريفها.
لم تكن حمص، عاصمة الثورة، وأكثر المدن السورية عطاء وتضحية وحسب، بل وكانت بالنسبة للنظام مختبرا لإدارة الصراع لاحتواء الحراك الشعبي وإجهاض ثورة الحرية والكرامة ووأد تطلعات المواطنين الى الخلاص من القمع والتمييز. فحمص، المدينة والمحافظة، بتنوعها الديني والمذهبي، وتشكيلاتها الاجتماعية، وتعدديتها السياسية، صورة مصغرة لسوريا، ما جعلها مسرحا لتجريب وسائل وأدوات تفكيك قوى الثورة من خلال تفكيك الروابط الاجتماعية، وإبراز التباين الديني والمذهبي، لخلق انقسام عمودي يعيد اصطفاف المواطنين وتموضعهم على ضفتي الصراع وفق اعتبارات دينية ومذهبية وعرقية، ناهيك عن بعث رسائل ترهيب للمواطنين السوريين من حمص عبر الاستخدام المفرط للقوة وقتل المواطنين بشكل عشوائي، واختطاف النساء والبنات واغتصابهن، والاعتقال التعسفي للمواطنين ونهب ممتلكاتهم من قبل الشبيحة وعناصر المخابرات، ففيها ظهر ما عرف بـ”سوق السنة” حيث كان يباع الاثاث المنهوبة من الاحياء السنية.
غير ان وحشية النظام وبطشه لا تفسر وحدها كل ما وقع من هزائم وخسائر في الأرواح في حمص، وفي عموم المحافظات كذلك، حيث ثمة أخطاء استراتيجية وتكتيكية اقترفها الثوار والكتائب المسلحة خلال ادارتهم للمواجهة مع الشبيحة وعناصر المخابرات في البداية ومع قوات الجيش فيما بعد، أخطاء سياسية وعسكرية(خاصة اعتماد استراتيجية القتال في مواقع ثابتة في مواجهة جيش يتفوق بالعدد والعتاد وبالطاقة النارية واللوجستية والقدرة على تعويض الخسائر والحشد ونقل القوات من جبهة الى أخرى) ترتب عليها خسارة معارك ومواقع والتراجع الى الاحياء القديمة(قلب المدينة) والعيش تحت سيف الحصار والقصف والتجويع.
بدأت مسيرة التراجع بعُيد التحول الى استخدام السلاح لحماية التظاهرات من بطش الشبيحة والمخابرات حيث انقسم الشارع الحمصي الثائر، وكذلك في المحافظات الأخرى، على خلفية تشكل الكتائب على اساس محلي، لكل حي كتيبته الخاصة، ما أفرز عددا كبيرا من الكتائب( 31 كتيبة)، ما لبث ان دب الخلاف والتنافس بينها على طرق العمل والأولويات والأدوار قبل ان يضاف اليه سبب جوهري افرزته الحاجة: تأمين الأسلحة. فقد استغلت جماعة الاخوان المسلمين قدراتها المالية وسعت لاستتباع كتائب الاحياء عبر ربطها تقديم السلاح بإعلان الولاء للجماعة، ما أثار حفيظة التجمعات السلفية الحمصية، التي تصدت للجماعة وطردتها من بعض الأحياء، ودفعها لتأمين دعم محلي وخارجي مستقل من جماعات سلفية عربية( خليجية بشكل رئيس)، وهذا قاد الى نتيجتين خطيرتين: تكريس انفصال الكتائب واستئثار كل منها بما يصلها من دعم مالي وتسليحي ورفض مد الكتائب الأخرى، ودخول طرف خارجي(الجهات المانحة) على ادارة الصراع وسعيه للتأثير على مجرياته ببث أفكار وأهداف سلفية(تطبيق الشريعة وإقامة دولة اسلامية او دولة الخلافة والدفع بالبعد الطائفي للصراع الى صدارة المشهد في خدمة للنظام وحلفائه لا تقدر بثمن) تتعارض مع منطلقات الثورة السورية وأهدافها في الحرية والكرامة، ما أفرز سببا اضافيا للاختلاف والانقسام العمودي بين كتائب الثوار. وقد حصل في الريف الحمصي ما حصل في المدينة من تشكيل كتائب محلية وحصر نشاطها الميداني في الاطار المحلي واعتمادها على جهات مانحة وخضوعها لتأثيراتها الفكرية والسياسية(ظهر الاثر السلبي المدمر لهذه التشكيلات المنفصلة وتبعيتها للجهات المانحة عندما نجح النظام في تطويق المدينة وحفر حولها خندقا للحد من حركة الكتائب ومنع وصول الدعم فلجأت كتائب المدينة الى كتائب الريف طلبا للمؤازرة والمساعدة بتقديم السلاح والذخيرة ولم تلق استجابة لطلبها)
مع تصاعد المواجهة وزج النظام للجيش في مواجهة التظاهرات السلمية وكتائب حمايتها، وتنفيذ عمليات قتل عشوائي عبر استخدام اسلحة ثقيلة، زادت الحاجة الى السلاح والمال لمساعدة المتضررين ومعالجة الجرحى ما اعطى الجهات المانحة المزيد من الحضور والتأثير على الاحداث الى حد توجيه الكتائب للقيام بقصف الأحياء الموالية للنظام(الزهراء، عكرمة، كرم اللوز، النزهة) او التشجيع على الانتقام والقيام بعمليات خطف علويات ردا على خطف نساء وبنات السنة.
ما زاد الطين بلة فشل المستوى السياسي( المجلس الوطني السوري بداية والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة تاليا) في لعب دور قيادي فاعل، والتحول الى مرجعية سياسية، وتأمين احتياجات قوى الثورة بعامة والكتائب المسلحة بخاصة، بحيث يحررها من ضغط الجماعات السلفية الخليجية واطروحاتها الفكرية وأهدافها السياسية، ويوحدها تحت قيادة موحدة وخطة عسكرية منسقة.
وعليه غدت قوى الثورة في حمص موزعة على كتائب وولاءات لجهات مانحة متعددة الاهواء ومتباينة التصورات والبرامج ما جعل امكانية تبني استراتيجية قتالية واحدة او ترتيبات لوجستية منسقة وخوض معارك مشتركة مستحيلا، وهذا قاد الى الدخول في سلسلة تراجعات وهزائم عسكرية وتفكك كتائب وتلاشيها، والذين بقوا في الأحياء القديمة هم ابناء هذه الأحياء ساعدهم عمق الارتباط بينهم والحاضنة الشعبية وطبيعة الاحياء بشوارعها الضيقة، وإدراكهم لخطورة التراجع والهزيمة على ذويهم من انتقام النظام اذا ما نجح في اقتحام هذه الأحياء، ففي الذهن ما حصل من مجازر في المناطق التي دخلها جيش النظام والشبيحة في الحولة وبانياس والبيضا ومناطق أخرى كثيرة، على الصمود الاسطوري لنحو عامين.
يبقى ان ثوار حمص القديمة وأسرهم، الذين خرجوا بموجب الاتفاق الذي تم، نجوا من موت محقق بالقصف او بالجوع والمرض بفعل التعاطف والتنسيق والدعم الذي قدمته كتائب مقاتلة في أكثر من محافظة عبر ادخال الافراج عن اسرى للنظام وروسيا وإيران والسماح بمرور مساعدات غذائية الى بلدتي نبل والزهراء المحاصرتين من قبل كتائب معارضة في الصفقة كي تصل الى الهدف المشترك: خروج المحاصرين بسلاحهم الفردي وتجنيبهم الاستسلام او الاذلال أو الانتقام.
تطرح معركة حمص ونتائجها، السلبية قبل الايجابية، ونجاح عملية التنسيق الاخيرة لإخراج المحاصرين سالمين محفوظي الكرامة، على كتائب الثورة الدراسة والتمعن وإعادة النظر في ادارتها للصراع وأهمية تحقيق مستوى من التنسيق والتعاون والتكامل علها تجسر الهوة بينها وتفتح طرقا لتعديل ميزان القوى تحتوى به هجوم النظام وحلفائه وتمنح المواطنين املا بالخروج من عنق الزجاجة بمحصول يخفف من ثقل الخسائر والأضرار وجروح الروح العميقة.
\\ كاتب سوري \\
المدن

 

 

حمص: قصة مدينتين/ عمر قدور
لا يُعرف بعد مصير الاتفاق بين النظام والثوار المقاتلين في حمص القديمة، والذي يتضمن إجلاءهم عن المدينة بأسلحتهم الفردية والسماح بإدخال المساعدات الغذائية لما تبقى من المدنيين فيها مقابل إفراج المقاتلين عن أسرى إيرانيين وضابط روسي. ما تسرب حتى الآن من ناشطي مدينة حمص أن السفير الإيراني لدى دمشق يتولى المفاوضات شخصياً، ولهذه الإشارة دلالة لا تخفى عن تولي النظام الإيراني لتفاصيل الملف السوري، وربما يضفي ذلك نوعاً من المصداقية على الاتفاق المتوقع إذا أثبت الإيرانيون وفاءً بالتزاماتهم على عكس النظام السوري الذي خرق العديد من التفاهمات والهدن السابقة، فضلاً عما يعنيه ذلك من تكريس أهمية الأسرى الإيرانيين على حساب أسرى النظام المحليين الذين لا يكترث بالمقايضة عليهم.
إلا أن أهم ما في الاتفاق هو التسليم بلاجدوى الدفاع عن مدينة حمص بعد تبوئها مكانة رمزية عالية لدى السوريين وتسميتها بـ”عاصمة الثورة”. وجود المقاتلين الرمزي بطبيعة الحال في المدينة كان يحافظ على بصيص من الأمل “رمزي بدوره”، مع أن مجهودهم لم يعد يسمح بأكثر من المحافظة على الأنفس تحت وطأة القصف اليومي والحصار التام. إن قصصاً من نوع الصمود “الأسطوري” لأحياء مثل باباعمرو والخالدية وجورة الشياح وغيرها لا تكفي لحجب واقع الهزيمة الحالية، وإن كانت لا تقلل من مكانة المقاتلين المندفعين والمتحمسين؛ تحديداً أولئك الذين لم ينخرطوا في تجارة الحرب وفسادها على النحو الذي فعله بعض القادة.
سيرة حمص تختزل العديد من جوانب الثورة السورية، فاعتصام “الساعة” السلمي الشهير الذي شهدته في تاريخ 18/4/2011، والذي فرقته قوات النظام بحمام من الدماء، يكاد يكون الذكرى الأخيرة للمدينة بوصفها مدينة واحدة. ذلك الاعتصام شهد نزول المتظاهرين من جميع الأحياء، بنسب متفاوتة، حيث قام أهالي بعض الأحياء برش الأرز عليهم أثناء توجههم إلى الساحة، الأمر الذي لم يكن النظام ليسمح باستمراره أبداً. انفضاض التظاهرة الكبرى إلى مظاهرات منفصلة، في أحياء متجانسة اجتماعياً وطائفياً، حرمها من بعدها الجامع لأن النشطاء القلائل لما يُعرف بالأحياء الموالية فقدوا الفضاء الواسع الذي يمكنهم من الحركة، وصاروا عملياً أسرى القبضة القوية للشبيحة المتحكمين بمناطقهم، فاضطروا إلى مغادرة المدينة نهائياً تجنباً للاعتقال.
في الواقع، بدءاً من الإجهاز على اعتصام الساحة أصبحت حمص مدينتين منفصلتين ومتحاربتين. الموضوع الطائفي حضر بقوة منذ ذلك الوقت، فتكاثرت غزوات الشبيحة من الأحياء الموالية على الأحياء المجاورة، ولم تلبث أعمال الخطف على الهوية أن انتعشت بدورها، حيث كانت مبادلات الأسرى تتم على الحواجز العسكرية بين الأحياء، بإشراف مباشر من ضباط المخابرات. لم تكن حينها حوادث الخطف بدافع الابتزاز المالي قد بدأت من جهة المعارضين على الرغم من وجودها لدى الشبيحة ورعاتهم من ضباط المخابرات، لكن بعض الكتائب سينزلق فيما بعد إلى ذلك بحجة تمويل المجهود الحربي، بينما سينزلق بعض القادة العسكريين إلى تجارة الحرب، بعد التورط في تجارة الدين من أجل الحصول على تمويل خارجي.
قد يكون من الضروري هنا التنويه بالتغيير الديموغرافي الذي أصاب المدينة طيلة العقود الثلاثة السابقة، فمدينة حمص شهدت واحدة من أكبر موجات النزوح الريفي قياساً إلى حجمها الأصلي، مع وجود تمايز طائفي واضح بين نسبة كبيرة من الوافدين والسكان الأصليين. في الوقت نفسه كانت المدينة تتحول إلى مركز عسكري كقاعدة خلفية كبرى للجيش، لذا كانت هجرة نسبة كبيرة من الوافدين تتعلق أساساً بالعمل ضمن مؤسسات الجيش والأمن، ما أوجد تنميطاً طائفياً مركباً وعزز من الانقسام بين السكان. لكن الانقسام لم يكن ليأخذ شكلاً حاداً وعنيفاً لولا الضخ الطائفي الذي عمد إليه النظام منذ بدء الثورة، والذي ترافق في ما بعد مع تكهنات عن نيته تهجير السكان لضم حمص إلى دولة علوية يسعى إليها فيما لو فشل في الحفاظ على السلطة كاملةً.
خسارة حمص لا تعني نهاية المطاف، كما يقول الكثير من النشطاء، إلا أن تجربتها الثرية والقاسية ينبغي أخذها في الحسبان، لأنها البؤرة التي صب عليها النظام اهتمامه طوال الوقت، ولأن تجربتها حفلت بالكثير مما يمكن قوله عن الثورة وعلى هامشها، بدءاً من وحشية النظام وانتهاء بتخاذل المعارضة وتهافتها، مروراً بمظاهر الاقتتال الطائفي. وأن نكون في النهاية أمام مدينة مدمرة بالكامل في جوار مدينة أخرى تحمل الاسم نفسه تعج بكافة أسباب الحياة فكأننا أمام مدينتين لا تنتميان إلى البلد نفسه ولا إلى الزمن نفسه. أما الإحالة إلى “قصة مدينتين” لتشارلز ديكنز فهي ليست مكانية طبعاً، هي إحالة إلى زمن الثورة القاسي، وحتى إلى تلك الانتهاكات المرافقة لها التي يلخصها ديكنز في مطلع الرواية بالقول: كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان. كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة. كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود. كان زمن النور، وكان زمن الظلمة. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط.
المدن

 
إخلاء حمص: انتصار للنظام يخفي جبالاً من الفشل/ عبدالوهاب بدرخان
انطوى إخلاء حمص القديمة على دلالات عدة لا بد من مراجعتها. فالاتفاق تمّ هذه المرّة بإرادة الإيرانيين وبالتنازلات التي وافقوا عليها، خصوصاً في ما يتعلّق منها بشروط خروج المقاتلين بما يستطيعون حمله من أسلحة وانتقالهم الى ريف حمص الشمالي. كما أن وجود مفاوضَين ايراني وروسي لم يؤكد تدخّل البلدين فحسب، بل وفّر الضمان الذي بحث عنه ممثلو حمص ولم يحصلوا عليه من مندوب النظام، لكنه طرح مجدداً أسئلة مدوّية عن دوافع صمت غربي – اميركي أعطى «مشروعيةً» لهذا التدخّل.
ثم إن الإيرانيين اعتبروا إنهاء معركة حمص نتيجةً تلقائيةً لمعاركهم في القُصَير والقلمون، وقد خاضها أتباعهم من «حزب الله» والميليشيات العراقية. وحين تركوا النظام يفاوض ويتوصل الى اتفاق في منتصف نيسان (ابريل) الماضي، رأوا أولاً كيف أخفق هذا الاتفاق بسبب إصرار بعض أطراف النظام على إسقاط حمص القديمة عسكرياً، ثم كيف فشلت ميليشيا «جيش الدفاع الوطني» في الاقتحامات التي حاولتها والخسائر الكبيرة التي منيت بها بالتزامن مع خسائر مماثلة في معركة كَسَب، لكن الأهم عندهم أن استرجاع أسراهم وأسرى «حزب الله» بدا مهدّداً اذا واصلوا الاعتماد على مفاوضي النظام.
كان الإيرانيون والروس مدركين بأن ثمة مرحلة تنتهي في الصراع السوري، وأن مرحلة اخرى تبدأ مع استشراس متزايد للنظام في القصف بقصد تدمير الأحياء السكنية تحديداً في حلب، ولذا أرادوا استغلال فرصة سانحة لتحرير أسراهم عند مقاتلي المعارضة. وفي الوقت نفسه وجد الإيرانيون أن الظرف مناسبٌ لأن تشمل «الصفقة» ادخال مساعدات انسانية الى قريتي نبّل والزهراء الشيعيتين المحاصرتين من جانب المعارضة في محافظة إدلب. لذا وافقوا على ما لم يكن النظام ليوافق عليه، أي خروج مقاتلي حمص بشروطهم وبمعيتهم مندوبون للأمم المتحدة مع مواكبة من شرطة النظام وصولاً الى أقرب نقطة آمنة لهم.
تكمن المفارقة هنا في نقطتين. أولاهما أن مسلسل اليد العليا الإيرانية يتواصل عسكرياً وسياسياً، فالنظام الذي يدّعي «حماية الأقليات» يترك لإيران وأتباعها رعاية كاملة للشأن الشيعي في سورية. والثانية أن الإفراج عن أسرى من ميليشيا «جيش الدفاع الوطني» كان بمبادرة ايرانية، ففي كل عمليات التبادل نادراً ما اهتمّ النظام بأسراه ولا سيما المدنيين منهم، اذ لا يزال رافضاً التفاوض للإفراج عن نحو مئة وثلاثين شخصاً احتجزوا بعد الهجوم الأول على منطقة الساحل (آب/ أغسطس 2013)، وكذلك يرفض التفاوض على فك الحصار عن عائلات عسكريين في منطقة عدرا. وحجّته أنه «الدولة»، ولا يجوز لها «التفاوض مع الإرهابيين»، لكن منذ بدء ثورة الشعب عليها، لم تستطع بالأفعال أو بالأقوال اثبات أنها تحمل قيم «الدولة»، وإلا فكيف تفسر اعتقالها عشرات الآلاف ممن تعرف مسبقاً أنهم لم يؤذوا أحداً ولم يرتكبوا شيئاً، وهل يُصَنّف اعتقالهم بأنه مختلف عن احتجاز رهائن على أيدي أي «عصابة»، وكيف يميّز بين «الدولة» وبين تنظيم ارهابي مثل «داعش» اذا كان المعتقلون/ الرهائن لديهم من المعارضة ويُقتَلون جميعاً بالطريقة نفسها، تحت التعذيب مع التمثيل بجثثهم. وأخيراً أصبحت هذه «الدولة» تسلِّم بطاقة الضحيّة فقط الى عائلته لإبلاغها بأن ابنها قتل فلا يكون لديها ما تدفنه ولا يتحوّل تشييعه مناسبةً اجتماعية.
لا شك في أن إخلاء حمص القديمة هو انتصار للنظام، وإنْ لم يكن بـ «استسلام» جلي للمدافعين عنها، وقد تبيّن أنهم جميعاً حماصنة. وليرَ السوريون والعالم الآن ماذا سيفعل بقلب المدينة الذي صار عيّنة من وحشيةٍ مارستها «الدولة»، وليس «التنظيمات الإرهابية» أو «العصابات المسلحة» التي ادّعت أنها تحاربها. ورغم أن الحروب لا تفسح مجالاً للمفاضلة إلا أن آثار ما خلّفته المعارضة حيث أتيح لها أن تسيطر لا تُقارَن بارتكابات النظام في استهدافه المنهجي لمقوّمات الحياة وشواهد الحضارة. فهل يستطيع حاكم، وهو يتهيّأ لانتخاب نفسه، أن يفخر بالتجويع الذي مارسه، وأن يفخر بما أنزله بواحدة من أقدم حاضرات البشرية، بإنسانها وتاريخها وعمرانها، بتمايزها الثقافي وإشعاعها المعترف به سورياً؟ إذا كان هذا الحاكم من سورية ولا يعني له أهلها ومجتمعها ومدنها شيئاً فلا غرابة اذا كان الغزاة الغرباء، على ضراوتهم، من عهد الرومان الى عهود الآخرين وصولاً الى العثمانيين فالفرنسيين، أكثر احتراماً لمعنى الحضارة، وقد رحلوا جميعاً.
حقق النظام انتصاراً في حمص، لكنه انتصار يخفي وراءه جبالاً من الإخفاقات والهزائم. يشهد ما تبقّى من جدران الأبنية المدمّرة على خمسين عاماً من القمع والقهر والتعذيب والقتل، وعلى ثلاثة أعوام ونيّف مما أصبح موصوفاً في ملفات العالم بأنه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت لإخماد احدى أعظم ثورات الشعوب وأكثرها مرارةً وصعوبةً. لو كانت هناك «دولة» بما تعنيه الكلمة لما حصل ما حصل، لكن هناك نظاماً، وهذا الانتصار هو له كطرف مقاتل وليس لـ «الدولة» التي أخضعها لفئة وأهان جيشها ونكّل بشعبها وجعل من اقتصادها نهباً لطغمة الفساد ومِن أمنها مجموعة مارقين لا يتقنون سوى القتل، وانتهى الى رمي سيادتها تحت أقدام الملالي الحاقدين. كل الانتصارات في هذه الحرب لا تستطيع تغطية هذا الفشل الكارثي له ولـ «الدولة» التي صادرها وللشعارات التي ادّعى تمثيلها. ولأنه انتصار للنظام وليس لـ «الدولة» ولا لسورية فإنه لن يستخدمه إلا في عبثه المعتاد، وسيتعامل مع المدينة الخالية كما لو أن لا أهل لها، كغنيمة يتصرّف بها في تخريب جغرافية سورية ويقذفها في مهب رياح التقطيع والتقسيم.
يبدو النظام وإيران متعجّلين لجعل حزيران (يونيو) شهر افتتاح المساومة على سورية. من جهة يعتبر اعادة انتخاب بشار الأسد بداية مرحلة مختلفة في الأزمة تمكّنه من التموضع لتوقّع عروض دولية للحلول «الممكنة» في ضوء موازين القوى. ومن جهة اخرى تحاول ايران استباق العدّ العكسي للتوصّل الى اتفاق نووي نهائي بحلول نهاية الاتفاق المرحلي في العشرين من تموز (يوليو) المقبل، مع احتمال تمديد العمل بهذا الاتفاق اذا لم تتوصّل المفاوضات الى نتيجة في الموعد المحدّد. لكن الأزمة الأوكرانية تحول دون أن تكون روسيا جاهزة للمشاركة في أي مساومة، وليس وارداً عندها أن تكتفي بالمراقبة من بعيد، ولا وارداً عندها وعند القوى الغربية أن تترك سورية لإيران وحدها. وليست تصريحات رحيم صفوي، المستشار العسكري لعلي خامنئي، بأن الحدود الغربية لإيران لم تعد في خورمشهر وإنما بلغت شاطئ الجنوب اللبناني، سوى واحدة من الإيحاءات بأن طهران تحث على طرح المساومة الآن، وخلافاً لما تعتقد فإن الآخرين لا يرون أن الظروف نضجت أو تبلورت.
في الآونة الأخيرة أكثر الإيرانيون من الظهور في الواجهة السورية لإطلاق رسائل مباشرة تدعو الى الحديث معها في الاستحقاقات الثلاثة الراهنة: الرئاسة في لبنان، رئاسة الوزراء وإدارة الحكم في العراق، والبحث عن حل في سورية قبل الشروع في «حرب الاستنزاف». لكن الحديث متّصل ومتواصل بينها وبين الأميركيين بشأن العراق وعلى قاعدة «تفاهم» لم يختلّ إلا أن حساباته تغيّرت، فالمشكلة الواقعة حالياً في «البيت الشيعي» أصبحت تهدد النسيج العراقي كله ولا يمكن طهران أن تحلّها بالمعايير التي تخدم مشروعها فحسب. أما بالنسبة الى لبنان فإن الاختلال واقع لا محالة اذا أرادت ايران اخضاعه لموازين القوى في سورية. وأما سورية نفسها فإن حربها لم تنتهِ بعد، وبالتالي لا مناص لإيران من الذهاب بالمفاوضات النووية الى نهايتها، وبعدها لكل حادث حديث، لكن ايران بعدها ستغدو مجرّدة رسمياً من أي تهديد نووي.
* صحافي وكاتب لبناني
الحياة

 

 

معركة حمص استثناء!!/ حبيب صالح
لم أكن لاكتب سوى عن جبهة الساحل ,التي سوف اظل اعتبرها المعركة المفصليه مع النظام الاسدي !!!ولن اتوقف عن الكتابة فيها والمطالبة باطلاقها ,لاسباب ذكرتها سابقا ولضرورات تتلو وتتلوا لتؤكد مصداقية الطرح تجاه معركة الساحل !وعليه فلا مواجهة مصيريه وحاسمه بين الثوره وبين النظام الا في معركة اليساحل !!أما الان وحمص الخالده قضية الساعه وقضية الحديث في كل اتجاه !!1بعض المتحامصين يرون ان الثوار هزموا او انسحبوا بطريقة واعتبارات لاتصنف في خانة الهزائم العسكريه !!!!اقول للمتفاصحين المتطاولين على تطورات حمص أن الانسحاب النتكتيكي من مناطق حمص القديمه انما جرى لاعتبارات عسكريه وانسانيه لم تحصل خلالها او على خلفياتها اية هزيمه !!فالمقاتلين انسحبوا بعد اصرار وعزيمة اين منها العزيمة العسكريه الميدانيه!!حيث انسحب هؤلاء الفرسان وجنود معترف بدورهم المقاوم وبانهم جيش وطني !وبانهم قوة غير ارهابيه يقيم معها النظام اتفاقات اشرفت عليها الامم المتحده وطرفا المعادلة العسكريه وهم حزب الله والايرانيون والروس !!!!لقد كرس ذلك الاتفاق شرعية هؤلاء المقاتلين من قبل اعدائهم !!وعندما يخرج الجندي بسلاحه فمعنى ذلك انه انسحب كجندي يتمنطق سلاحه !!وليس ارهابيا مطلوبا يلقى القبض عليه فور استخراجه من وكره !!!القد خرج الابطال بكل شرف وبكل وطنية وشرعية كللتهم وهم يخرجون الي بقعة جديده للمواجهه بعد وقفة تعبويه يستعيدون فيها صحتهم واسلحتمهم الثقيله واعادة تموضعهم في مواقع المعركة والمواجهة الجديده !!لم يقتل ايا منهم !لم ياسر ايا منهم !!لم يصنف منهم واحد ارهابيا !!جميعهم تبادلوا التقاط الصور وتعاهدوا على العودة الى حمص التي ودعوها بتقبيل الارض وعاهدوها على العوده !!لترفع التحية العسكريه لهؤلاء الفرسان !!وليقدم لهم السلاح والمراسم العسكريه !!!هؤلاء خرجوا من حصار دام سنتين لم تكن موسكو ولا طهران لتصمد صمود الجوع والارادات سنتين كاملتين من التجويع والقصف اليومي !!لانوم ولا دواء ولا طعام ولاحياة بكل اشكالها!!هؤلاء المناضلين قهروا حزب الله و الجيش الاسدي الذي لم يستطع ان ياسر ايا منهم !او ان يقتحم مواقعهم!!!فاضطر ذليلا ان يوقع معهم اتفاقا رسميا على انهم فصيل وطني مقاتل له كل مواصفات الجنديه التي تفرض توقيع الاتفاق !!!
نعم ان من تعرض للهزيمه هو القيادة السياسيه التي كانت تفاوض في اميريكا اثناء عملية الاتفاق والتبادل !!وكان مايسمى بالمجموعة الديمقراطيه في الائتلاف تجري انتخاباتها العشائريه لتفرز بعضا من الكوادر لتحميلها مسؤوليات ماجرى !وتخرج بعض الرموز من اماكن تموضعها حتى تعفي نفسها من المسؤوليات !!!نعم لم يستقل احد !ولم يدفع الثمن احد من القيادة السياسيه!!!
ايها المقاتلون المنتصرون !ايها الجنود الاباة !ايها الميامين !!لقد انتصرتم باروع صمود عرفه البشر !وتلطخت قيادتكم العبثيه التي غابت عنكم طيلة سنتين وتركتكم تحت الحصار !ولم تنتظر يوم خروجكم لتقدم لكم التحية وتقدم لكم تحية السلاح !!بل غابوا ذلا وانكفاء وعارا !!المجد للصامدين الصابرين المنتصرين في حمص !!وليتحمل العاهرون مهانة وسوء قراءتهم وسوء ادائهم وما الت اليه الامور تحت قيادتهم!! مجدوا حمص !!غنوا لحمص !!اهتفوا لحمص !!تباركوا بذكرها على شفاهكم !!قولوا كلاما جميلا لحمص !!اهتفوا لها دندنوا !!عظموا من شانها!!اكتبوا عن تاريخها !!انظموا الاشعار لها !!ترنموا بالحانها !!رددوا نكات اهلها !!تحدثوا عن خالد بن الوليد سيف الله المسلولtالله !اقراوا اشعار ديك الجن !!ابجثوا عن حلوياتها والشعيبيات خصوصا !!!تحدثوا عن متعة تناول خسها وفومها وعدسها !!!تذكروا طريق الحرير الذي ظل يعبر حمص الى العالم !!اكتبوا كلا منكم ذكرياته عن حمص !!اجعلوا حمص على شفاهكم كماهى في قلوبكم وكما هى اليوم من برابرة العصر !!قولوا ان حمص تصلب كما السيد المسيح !!!قولوأ ان فيليب اول امبراطور روماني ولد في حمص !!قولوا ان نهر العاصي الذي يعبر حمص فيربط لبنان وسوريه وتركيا !!!حمص والله ستبقين وسيرحل البرابره !!حمص: هو التاريخ وقوانين البقاء والتجدد !!حمص تفديك الاهداب والمهج ياسلوتي ياشعري ودندناتي !!حمص ياعشيقتي !حمص ايها الباقية على الزمن والبقاء!!ايها الثوار الذين رسمتم الخلود والاساطير بصمودكم!!تعبرون اليوم ناموس البقاء والخلود و!!انتم الذين تقودون مسيرة الالف ميل والالف سنه والالف انتصار !!!!لتوقعوا الف هزيمة بالفلايكنغ الاسديون ,جيوش رتشارد قلب الاسد !!جندرما جمال باشا السفاح في عيد الشهداء !!سوريه قبل هجرتكم لن تيقى سوريه عصرا لال الاسد!!!سوريا عبرت 1سوريا صعدت !سوريا شمخت !سوريه عبر هجرتكم اختطت الخلود واليقاء !!لينهار الطغاة الى الجحيم!حتى لايفاوض المجوس والشعوبيون والمغتصبون العبرانيون الجدد !!!حمص !!يام الملاحم ,ياأم القرى !!ياام الجنان ,سنينك الاثنتان من الحصار اصبحتا سنينا ضوئيه!!حمص !صرت الكون والكيان !وتحول الاخرون الى ذرات في فضاء كواكبك !!حمص ياقرة الشوق والهوى !!!!!!نحن على موعد قريب !!!!!!
كلنا شركاء

 
حمص الطروادية: بين الساروت والغليون/ صبحي حديدي
في السادس من أيار /مايو 2011، كانت مدينة حمص تتصدّر سجلّ الشرف في أعداد شهداء الإنتفاضة السورية (قرابة 1500 شهيد)، بعد أقلّ من شهرين على انطلاق أولى تظاهرات الإحتجاج السلمية. ويومذاك، كان الحماصنة في طليعة المتظاهرين الذين بدّلوا شعارات الإنتفاضة الأبكر، فانتقلوا إلى الشعار الحاسم المطالب بإسقاط النظام؛ كما كانوا بين أوائل أبناء المحافظات في تغيير اسم أهمّ معالم المدينة، ساحة الساعة، إلى ‘ساحة الحرّية’. وهنا، في حمص، شهدت الإنتفاضة أوسع اصطفاف ضدّ النظام من جانب الطبقة الوسطى، وبعض التجار الكبار، وشرائح من المنضوين في ‘الأغلبية الصامتة’ عموماً.
ذلك جعل كتائب الفرقة الرابعة ـ بمؤازرة واسعة من مختلف الأجهزة الأمنية، وقطعان الشبيحة، فضلاً عن أزلام النظام وأعوانه داخل المدينة ـ تنفّذ سلسلة من العمليات العسكرية والأمنية ضدّ حمص، تظلّ بين الأشرس والأشدّ وحشية وهمجية. ولقد استُخدمت صنوف الأسلحة كافة، بما في ذلك الحوّامات والطيران الحربي؛ وفُرض حصار على أحياء حمص وجوارها، من الرستن إلى تلبيسة إلى تل كلخ، ظلّ مفتوحاً حتى اليوم، حين يتعالى حديث النظام عن ‘دخول’ قوّاته إلى قلب المدينة القديم. وكان طبيعياً أن يقترن هذا كلّه بحملة من طراز آخر، قوامها افتعال بؤر احتكاك طائفي بين أبناء المدينة، شاركت في تنفيذ سيناريوهاتها أجهزة النظام ذاتها، قبل أن تتولى تضخيمها إلى ما يشبه السردية المتكاملة: حمص، ‘قلعة الثورة السورية’ كما في التسمية اللائقة بها تماماً، صارت حاضنة أولى لاحتمالات حرب طائفية!
لم يكن ذلك التكتيك، الخبيث والمبتذل في آن، مفاجئاً إذْ يصدر عن النظام؛ ولكن كان المفاجىء، والمحزن تماماً، أن يقع في أحابيل تلك السردية بعض مناصري الإنتفاضة أنفسهم، ممّن اكتفوا بالحملقة في التفصيل الصغير العابر، فزاغ بصرهم عن المشهد الكبير الأهمّ. لافت، أيضاً، أنّ بعض أبناء حمص أنفسهم، وعلى رأسهم برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري آنذاك، جرفتهم الموجة إياها، فأصدر الأخير بياناً، بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن مجلسه؛ طغت اللغة الإنشائية على كلّ فقراته، ما عدا تلك التي تُلقي باللائمة على الحماصنة، وتجزم بأنّ ‘دفاعات’ بعضهم قد ضعفت في ‘مواجهة مخاطر الإنقسام والتصادم الطائفي’، بحيث: ‘أصبحنا نشهد منذ أسابيع عمليات خطف واغتيال وتصفية حسابات بين أبناء الشعب الواحد، بل بين أبناء الثورة أنفسهم’!
ولأنّ النصّ قوبل بردود فعل رافضة، ومستنكرة، فقد سارع المجلس إلى إصدار بيان ثانٍ حول حمص، أراد فيه أن يكحّل بيان رئيسه، فألحق به العمى عملياً؛ إذْ ليس المطلوب تنزيه المدينة عن كلّ فعل طائفي، كما اعتبر البيان؛ ولا تأثيمها على نحو تهويلي يعيد إنتاج سردية النظام، بحسب بيان غليون. تلك كانت مسألة سياسية بامتياز، قبل أن تكون ظاهرة فوات اجتماعي، ولم يكن من الحكمة أن يتخبط المجلس الوطني بين أقصى التنزيه وأقصى التهويل. لا أحد كان، ويظلّ، يدفع إلى التجييش الطائفي مثل النظام، من قمّة مؤسسته الحاكمة الأضيق وحتى أوسع قواعده الموالية؛ ولهذا، لا حرب ناجعة ضدّ الميول الطائفية أكثر من تلك التي تُشنّ ضدّ النظام، أوّلاً وثانياً وعاشراً.
وفي السادس من أيار، ذاك، كانت حمص عاصمة الانتفاضة السورية، ‘العدية’ كما يصفها أهلها، والقلعة الحصينة التي صمدت طيلة أشهر ضدّ غزاة النظام؛ وهكذا تبقى اليوم أيضاً، وربما حتى ساعة سقوط النظام. وكان من المهين لأبنائها، ولسجلّها العريق الذي يغطّي معظم التاريخ السوري القديم والوسيط والحديث والمعاصر، أن تُختزل إلى صورة مصغّرة، تصنعها حوادث طائفية متفرقة، وأن تُطمس صورتها الأخرى الأبهى: أنها طروادية في مقاومة الحصار، بل هي طروادة سورية الراهنة. وبعض وقائعها الطروادية سجّلها شريط طلال ديركي البديع ‘العودة إلى حمص’، الذي عرّف العالم على تقاليد فريدة في الصمود الإنساني والأخلاقي والسياسي والعسكري؛ في مدينة فريدة، وعبر نموذج بطولي فريد (عبد الباسط الساروت، دينامو التظاهرات الأنشط، أحد ألدّ خصوم النظام، ومخلّد الأهزوجة الجميلة: ‘جنّة جنّة جنّة! جنّة يا وطنّا’…)، استحقّ مكانته المشروعة في حوليات المقاومة، الأنبل والأرفع، على مدار التاريخ.
وبين نموذج الساروت ونمط الغليون (ومَنْ جاء بعد الأخير لم يكن أفضل، للإنصاف، بل أشبه به أو أردأ أو أسوأ، في المجلس كما في الائتلاف!)، تعاقبت على حمص وقائع ملحمية شتى، متشابكة ومعقدة، متكاملة أو متنابذة، تمزج بين الآلام والآمال تارة، أو بين العرس والجنازة طوراً. لكن واحدة من خصالها الكبرى لم تكفّ يوماً عن التنامي والتصاعد والرسوخ: أنها طروادية بامتياز، على غرار الأمثولة العالية التي تغنى بها أمثال هوميروس، فرجيل، شوسر، شكسبير، راسين، غوته، و. ب. ييتس، هيلدا دوليتل، أوسيب ماندلشتام ومحمود درويش؛ والتي حفظها التاريخ لصالح حقّ المقاوم في الانتصار، وإجبار القاهر على الانكسار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى