أكرم البنيبرهان غليونبطرس الحلاقصفحات سوريةعلي العبداللهعمر قدورعمر كوشفواز حدادلؤي حسين

مقالات لكتاب سوريين تناولت “جنيف 2”

النظام السوري ومسألة مكافحة الإرهاب/ لؤي حسين *

صحيح أنه لم يكن لدى وفد المعارضة السورية، ممثلاً بالائتلاف، في الجولة الثانية من مفاوضات «جنيف 2»، برنامج مقنع لحل الأزمة السورية، لكن كان لديه ما يطلبه من وفد النظام كتنحي بشار الأسد عن رئاسة الجمهورية، وإقالة عدد من أعمدة حكمه وأبناء عائلته عن السلطة. وفي المقابل، لم يكن لدى وفد النظام ما يطلبه من وفد الائتلاف مما يمكن أن يساهم في حل الأزمة السورية. فحتى مسألة مكافحة الإرهاب، التي تمسك بها وفد النظام ودافع عنها بكل قوة، كانت موجهة الى الأميركيين والغرب عموماً وليس الى الائتلاف.

فمكافحة الإرهاب ليست أمراً عرضياً عند الوفد السوري، فقد سربها الروس بُعيد الإعلان عن موعد مؤتمر «جنيف 2» كعنوان له. وقام السيد سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، بالترويج لها ودعمها منذ بعض الوقت، حين طالب السلطة السورية والمعارضة بالتعاون لمواجهة الإرهاب.

لم تغفل واشنطن عن هذا التوجه الروسي الجديد، فسارعت بدعم مجموعات مسلحة في بعض المناطق الشمالية لتحارب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش»، لتقول إن الطرف المسلح الأقوى على الأرض السورية، من بين المجموعات المسلحة المناوئة للنظام، هو مجموعات معتدلة بدليل محاربتها «داعش»، حتى لو كانت بقيادة «الجبهة الإسلامية». كما جعلت الائتلاف يتبرأ من «داعش» ويتهمه بأنه تنظيم إرهابي تم تصنيعه من النظام السوري، ويدّعي أنه هو من يواجه الإرهاب عبر الجيش الحر.

مسألة مكافحة الإرهاب ليست موضوعاً للجدل وكسب الوقت من النظام، بل هي استراتيجية روسية تهدف منها موسكو الى المحافظة على النظام الحالي، الذي تسيطر عليه في شكل شبه مطلق. وهذه الاستراتيجية تطلبت برامج عمل جدية من النظام، هدفت إلى إظهار صورة للواقع السوري مفادها أن الصراع هو فقط بينه وبين مجموعات متطرفة إرهابية. لهذا هاجمت قواته عدداً من المناطق التي تسيطر عليها مجموعات مسلحة، واستولت عليها، فاتحةً الباب جدياً للعفو عمّن يريد تسليم سلاحه. إضافة إلى ذلك، عقد هدنات ووقف إطلاق نار في عدد من المناطق المحيطة بدمشق.

كل ذلك حتى يضع النظام بين أيدي الروس المعادلة الآتية: غالبية التنظيمات والمجموعات التي تهاجم قوات النظام إرهابية، وهي التي تسيطر في شكل فعلي على غالبية جبهات القتال معه. والنظام شديد معها ورحيم مع المجموعات التي غُرّر بها، والتي بدأت تعي دور المجموعات الإرهابية، لهذا بدأت تستجيب العفو المفتوح الذي أطلقه. وبالتالي، فالإرهاب الآن هو الخطر الأكبر في سورية، وهو يعلو فوق كل الأمور والمطالب الأخرى، مع أنها محقة. وهذا يتطلب من المجتمع الدولي مساعدة السوريين في مواجهة هذا الإرهاب الذي يتهدد السلم الدولي. وعلى رغم القبول من حيث المبدأ بالتفاهم على أية صيغة عن مرحلة انتقالية، إلا أن هذا الوضع الخطر الآن في البلاد لا يحتمل تفكيك المؤسسات الأمنية والعسكرية أو حتى إعادة هيكلتها، ولا يَسمح بالمس بالتركيبة القيادية لها، لأن هذا يعطي فرصة للإرهاب كي ينتشر ويسيطر. واستناداً إلى هذا، فأي طرف معارض يمكنه المشاركة في حكومة موسعة لا تطاول مواقع قيادات السلطة السورية. وبقية الأمور الأخرى يمكن بحثها لاحقاً بعد القضاء التام على الإرهاب في البلاد.

هذه الاستراتيجية تريد منها موسكو أن تغلق الباب نهائياً أمام طموح واشنطن بالمشاركة في الوصاية على نظام الحكم في سورية، بعدما راهنت على نيل هذه الوصاية في شكل مطلق قبل أكثر من سنة. وبهذا، تريد موسكو أن تضع الأفق المتاح لـ «جنيف 2». لكن الخشية أن يكون انغلاق الجولة الثانية من المفاوضات إعلان استئناف حرب باردة جديدة، تريد منها موسكو مشاركة واشنطن السيادة العالمية.

إن كانت واشنطن تدرك هذا التوجه الروسي، ولكنها تخفق في إجهاضه، فإنه غير خاف أيضاً على دوائر صنع القرار الأوروبية، التي ستُظهر خلال الأيام المقبلة موقفها من هذه المواجهة. فإما تستمر بوقوفها ضمن المحور الذي تقوده الولايات المتحدة، وتقبل خوض حرب باردة لن تكون سورية ساحتها الوحيدة، أو تواجه الجموح الروسي والغطرسة الأميركية دفاعاً عن سلم بلدانها ومصالحها، التي يمكن أن تكون مهددة في شكل مباشر من تنامي المجموعات المتطرفة في سورية، ونهوض مثيلاتها في دول المنطقة كالعراق ولبنان ومصر، وما يشي به ذلك من إمكانية اتساع رقعتها الجغرافية أبعد من ذلك.

فالقبول الدولي الصريح بإبقاء سورية ساحة رئيسة في صراع دولي «بارد» ستكون له نتائج خطيرة جداً على أمن دول المنطقة وعلى السلم الدولي. ولا يقل خطورة القبول بطرح النظام السوري، المدعوم روسياً، بأن تكون مكافحة الإرهاب القيمة الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم. فهذا سيكون مساهمة في تحويل النظام إلى نظام فاشي بحت، يقوم على قسمة المجتمع السوري إلى عرقين رئيسين: «عِرق» «سوري» و «عِرق» «إرهابي»، يؤسس لانقسام طائفي محوري حاد في المنطقة سيكون من الصعب على دول المنطقة والمجتمع الدولي الخروج منه، أو الحيلولة دون تبعاته المأسوية، لعشرات السنين.

كذلك، لا يجوز لنا كسوريين، وعلى رغم إقرارنا بانتشار المجموعات المتطرفة وتناميها، وإدراكنا حجم خطرها الكبير على بنية دولتنا وقوام كياننا السياسي، القبول بطرح النظام بأن يكون موضوع مكافحة الإرهاب أساساً لبناء نظام حكم في سورية، ولو كان هذا النظام انتقالياً. فمكافحة الإرهاب لا يمكنها أن تكون قيمة عليا كافية لاجتماع السوريين مثل قيمة السلم الأهلي أو رفض العنف. فهي ليست أكثر من برنامج مرحلي لحكومة ما، فلا يمكننا إقامة نظام حكم أو دولة على مقولة مكافحة الإرهاب مهما كان خطره على البلاد. كذلك يجب ألا نساهم في تحويل النظام إلى نظام فاشي حتى لو لم يكن ذلك بقرار مسبق منه.

* كاتب سوري

الحياة

الأزمة السورية والإرهاب/ فواز حداد

 الأمل ضعيف من جنيف، وفي الحقيقة معدوم. هذا في حال استئناف ما جرى وصفه بالمفاوضات على هذا المنوال، ما خاضت فيه الأطراف يصحّ وصفه بالمسار العبثي، وسيفضي في المستقبل إلى المزيد من التشدّد، فهم لم يأتوا ليجدوا حلاً، جاؤوا ليؤكدوا على مواقفهم. الأجدى أن ينحو المجتمعون إلى العمل على خطط قابلة للتحقق تحت ضغط الأمم المتحدة، كوقف إطلاق النار في بعض المناطق، وتبادل المساجين والأسرى، وتخفيف المعاناة الإنسانية على المحاصرين. هذه الحرب لم تنل إلا من الأهالي.

من المستحيل إيجاد حل للأزمة السورية، طالما الطرفان أيضاً لا يعترف أحدهما بالآخر، إذ في التناقض بينهما، لن يكون الاعتراف بالآخر سوى نفي للنفس. يبدو هذا واضحاً بما  زودبه النظام وفده إلى جنيف بتعليمات تمنعه من أي تصرف يوحي بقابليته لأي تفاهم مع المعارضة، فما بالنا بالاعتراف بها، هذا إذا لم يكن وفد النظام أكثر تشدّداً من النظام نفسه، فهم لا يدافعون عنه، بقدر ما يدافعون عن أنفسهم.

ربما الحل خارج جنيف، على الأرض السورية المدمرة، التي لا يتوقف فيها تصعيد القتل يومياً، ما يتطلب معجزة ميدانية، الطرفان غير قادرين عليها. من هذا العجز المتبادل، تنشأ الحاجة للتدخل الغربي، ولا يقصد منه التدخل العسكري ولا التزويد بالسلاح، المقصود الضغط السياسي، وهي عملية ينبغي أن تشارك بها روسيا وإيران، بالتخلي عن كونهما أخذتا جانب طرف في النزاع، والإسهام في حل ينهي المأساة السورية. ما نطرحه فيه قدر كبير من الخيال لا يستقيم مع الواقع والمصالح. إذاً هل  ستبقى القضية السورية مستمرة ومعلقة في آن واحد؟

لا يعني إطالة البت في الأزمة السورية إلا استفحالها وتعقدها أكثر مما هي معقدة. يتم استهلاك الزمن على حساب الشعب السوري. يومياً تُسجل الاشتباكات الدائرة في سورية، عدا الدمار والخراب، مئات الحوادث المأساوية ما بين قتلى وجرحى ومعتقلين ونازحين. بعد ثلاث سنوات لا مبالغة في وصفها، بأنها أسوأ أزمة عالمية في الوقت الحاضر.

ما يحدث حتى الآن، لم يدفع المجتمع الدولي فعلاً إلى التحرك بشكل جدي، لإنهاء مأساة تدخل في صلب واجباته الانسانية. طالما استغربت بعض الدول حساسية الغرب المفرطة والمحمودة تجاه حقوق الإنسان. بالمقارنة، تبدو اليوم لا مبالاته رهيبة تجاه مقتل الأطفال والشيوخ والنساء الموثقة بالصورة، وبمختلف تجلياتها، المشوهة منها والبالغة التشويه، ومناظر الموت جوعاً وتحت التعذيب. يمكن تفسير تريث المجتمع الدولي على أنه مصاب بانفصام النظر، لصعوبة تبرير مماطلاته، وعدم اتخاذ موقف صارم، والاكتفاء بالشعور بالقلق من جرائها، وفي الحد الأعلى إدانتها، بينما المطلوب إيقافها. انفصام النظر تعبير ملطف عن الصمت على ارتكاب جريمة مع سبق اصرار.

فيما لو تركت المفاوضات على حالها، فالأزمة سيديرها بعبع الإرهاب، الطرف الوحيد القادر على إحداث تغيير جدي ونوعي في مسارها، ولهذا يغض النظام الطرف عنه، ما دام أنه يحقق مآربه، وتحاول المعارضة وضع حد له، بخوض حرب ضده غير مضمونة النتائج، وليس هذا وقتها. الإرهاب الحاصل في سورية، ليس وليد الأزمة، بل دخيل عليها، وإن كانت  شكلت عامل جذب له. الإرهاب وجد في سورية حاضنة تمول حربها بما تستولي عليه من المقدرات السورية بترول وغيره، وما يتدفق عليها من تعاطف المتشددين وأموال التبرعات. ما يسمح بلم شمل شتات الإرهابيين وتشكيل مركز عالمي للتدريب والإرشاد وإرسال الانتحاريين إلى بلدان الغرب الخائف والحريص على أمنه، وتهديده في عقر داره. عندئذ تجتمع كلمة الدول الكبرى على حل للأزمة السورية، ليس من أجل الشعب السوري، بل من أجل طمأنينتهم، لكن مادام الإرهاب مطوقاً داخل الأراضي السورية، فسوف تبذل الجهود لإطالتها، هذا أكثر طمأنة لهم.

المدن

ماذا بعد جنيف 2/ برهان غليون

انتهى مؤتمر جنيف٢ من دون أوهام. هل كان من المفيد للمعارضة أن تشارك فيه بالرغم من غياب الضمانات، وانعدام الأمل بحصول تفاوض جدي على مرحلة انتقالية تقود إلى رحيل النظام، أم كان من الأفضل أن لا تشارك في مؤتمر تعرف مسبقا أنه لن يقدم أي حل للمأساة التي يعيشها السوريون داخل كل شارع وحي وقرية ومدينة، بل داخل كل أسرة وفرد؟

الإجابات ليست واحدة عند الجميع. هناك من يعتقد أن ذهابنا إلى جنيف من دون ضمان النتيجة قد ساهم في إضفاء شرعية على النظام وسمح له بالظهور كشريك في اي حل محتمل. وهناك من يعتقد أن عدم الذهاب إلى جنيف٢ كان سيقضي على صدقية المعارضة ويظهرها بمظهر الخائف من مواجهة النظام، والمفتقر للثقة بالنفس، وغير القادر على تحمل مسؤولياته تجاه معاناة السوريين التي فاقت كل وصف.

 الواقع أن روسيا التي أغلقت مجلس الأمن بحق النقض جعلت من مؤتمر جنيف٢ ممرا إجباريا لا يمكن، قبل عبوره، تقديم أي مبادرة أو عمل جديد، دبولوماسيا أو سياسيا، لصالح الحل، حتى لو اقتصر ذلك على الملف الانساني. كما أن غياب أي إرادة أمريكية في العمل على وضع حد للمأساة السورية من دون مشاركة الروس، جعل هذا المؤتمر، المنصة الوحيدة لدفع المجموعة الدولية للتفكير بخيارات اخرى، غير الاستسلام أو انتظار تغير الموقف الروسي.

حضور مؤتمر جنيف كان مهما من زاويتين، أولا لتأهيل المعارضة سياسيا ودبلوماسيا وقطع الطريق على تأهيل النظام أو إعادة تأهيله بوصفه السد الوحيد، بالرغم من وحشيته وإجرامه، من قبل الدول التي تخشى الفوضى والارهاب ولا تثق بوجود بديل مقنع. وثانيا لوضع النظام على المحك، وكشف كذبه في موضوع قبول الحل السياسي، ومن ثم فتح باب المبادرات ومشاريع العمل الأخرى، المعطلة بسبب انتظار امتحان امكانية الحل في جنيف٢، وعلى رأسها التعاون مع المعارضة لإعادة بناء وتأهيل الجيش الحر لمعركة الحسم  أو على الأقل معركة لي ذراع النظام المافيوي وإجباره على الامتثال للإرادة والشرعية الدوليتين.

ما شجع المعارضة على اتخاذ هذه الخطوة التي لم تكن شعبية لا داخل الإئتلاف ولا ربما في وسط الثوار وجزء كبير من الرأي :العام، كان،

  أولا، ثقتنا بأنه لم يكن لدى النظام استعداد لأي حل سوى الاستمرار في الحرب حتى القضاء على الثورة وإجبار الشعب على الرضوخ للأمر الواقع ولقوة السلاح، مستقويا بالدعم الايراني والروسي، العسكري والسياسي، اللامحدود.

وثانيا قرار مجلس الأمن ٢١١٨ الذي هو الضمانة الوحيدة لكشف كذب النظام وخداعه، بمقدار ما ينص هذا القرار بشكل واضح وصريح على أن هدف التفاوض هو الانتقال السياسي، بدءا بتشكيل هيئة حكم انتقالية، كاملة الصلاحيات، مما يعني وضع حد نهائي لسلطة المافيا السورية وإجبارها على التعاون من أجل نقل السلطة لنظام تعددي جديد، عبر مرحلة انتقالية تطمئن الجميع، بما في ذلك جمهور الموالاة والمحافظة. وهذا هو التنازل الوحيد الذي تسمح به وتقبله قواعد الثورة التي ضحت بمئات الألوف من أبنائها في مواجهة نظام القتل والسجن والتعذيب والتنكيل والاهانة والاذلال وتخريب بيوت وحياة كل السوريين.

 ما بقي من المؤتمر وقصة فشله الحزينة هو صورة تثير الاشمئزاز لعدوانية النظام وكذبه وخداعه وشتائمه السوقية، تعكس حقيقته العميقة، باعتباره نظام البلطجة والقتل والذبح والتهديد والتشبيح بامتياز. وهي صورة لن تنسى في مخيلة السوريين من كل الاطياف والولاءات، وفي ذاكرة العالم ووسائل الإعلام. ونأمل أن يعقب ذلك تقرير الوسيط المشترك السيد الأخضر الابراهيمي الذي يعلن رسميا أن هذا النظام المافيوي هو الذي عرقل التوصل إلى حل سياسي، أن يسمح بتطبيق المادة ٢١ من قرار مجلس الأمن ذاته التي تدعو المجلس لاتخاذ الإجراءات الملزمة ضد الطرف المعرقل، حسب البند السابع.

  قامت المعارضة بواجباتها لا أكثر ولا أقل، وعاد الأمر من جديد إلى المجتمع الدولي وفي مقدمه مجموعة أصدقاء الشعب السوري، والأمين العام للامم المتحدة لأخذ العبر وتحمل مسؤولياتهم  تجاه الشعب السوري الذي لا يزال ينتظر منذ ثلاث سنوات وفاء العالم بواجباته والتزاماته القانونية والانسانية التي ينص عليها ميثاق الأمم المتحدة في موضوع حماية المدنيين والشعوب المعرضة للجرائم ضد الانسانية وجرائم الإبادة الجماعية. وكلها جرائم أثبتت المنظمات الانسانية ارتكابها من قبل نظام الأسد وأجهزته، ولم تلق حتى الآن أي رد أو عقاب.

مؤتمر جنيف ٢ انتهى ومعه فكرة التفاوض نفسها على حل سياسي- مع طرف لا يمكن أن يكون شريكا، بل هو يصر على إظهار عدائه وعدوانيته تجاه كل السوريين – ولا أمل في العودة إليه، ولا فائدة منها، وليس للمعارضة أي مصلحة في انتظارها والمراهنة عليها، ما لم يطرأ تطور حاسم يغير في سلوك النظام، ولن يطرأ مثله ما لم تتغير المعطيات على الأرض وفي الميدان.

لكن منذ الآن، أعتقد أن البديل عن جنيف٢ والمفاوضات المستحيلة، بين المعارضة والنظام، هو أن يكلف الأمين العام للأمم المتحدة، السيد بان كي مون، نفسه بالقيام، بعد التشاور مع الأطراف السورية والإقليمية والدولية، وبالتعاون مع مبعوثه الخاص الأخضر الابراهيمي، بتقديم مبادرة وآلية واضحة لتشكيل هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات، بما في ذلك التشاور حول قائمة من الأسماء المقترحة التي يمكن للأطراف الاختيار بينها، وعرضها على النظام والمعارضة. هذه هي الخطوة الوحيدة التي يمكنها أن تعيد إطلاق المفاوضات المستنفدة التي فقدت روحها في جنيف في ١٤ شباط ٢٠١٤.

المدن

في عقدة المفاوضات/ علي العبدالله *

لم تنجح جلسات الجولة الثانية من مفاوضات «جنيف 2» في تحقيق اختراق في الاستعصاء الذي برز في جلسات الجولة الاولى حول اولويات جدول الأعمال، ولم ينجح السيد الاخضر الابراهيمي باقتراحه بحث الاولويتين بالتزامن في جسر الهوة بين الطرفين، فقد ظل وفد النظام متمسكاً بأولوية بحث محاربة الارهاب وإلا فلا بحث في أي بند.

ليس موضوع اولوية جدول الاعمال نافلة، ولا التمسك بالموقف منه محاولة لتضييع الوقت فقط، فقد اتخذ في ضوء انطلاق النظام وحلفائه من نظرة ترى ان انطلاق المفاوضات من اولوية الاتفاق على تشكيل هيئة حاكمة كاملة الصلاحيات يضفي على الصراع سمة ثورة شعب ضد نظام سياسي غير مرغوب فيه، وانطلاقها من الاتفاق على محاربة الارهاب يحوّل الصراع الى صراع بين نظام ومجموعات ارهابية ويسحب الشرعية عن الثورة ومطالبها في التغيير من اجل الحرية والكرامة. فالبند الاول في البحث يحدد وفق هذه النظرة طبيعة الصراع وسماته، ولهذا يكون لتمسك النظام وحلفائه بأولويتهم أهمية تساوي، إن لم تتفوق، على حسم الصراع عسكرياً، مع انه ينطوي على مفارقة حادة. فبيان «جنيف1» لا يتحدث عن محاربة الارهاب بل عن وقف العنف والمطابقة بين العنف والإرهاب من جانب النظام وحلفائه يضع الجميع: المعارضة والنظام في موقع واحد ويحولهما الى قوى ارهابية، وأن ما يقومان به ارهاب.

اما التمييز بينهما، وهو امر منطقي وسياسي في آن، فيقود الى البحث في تحديد الجماعات التي تمارس الإرهاب، هي جماعات محددة وافدة من خارج سورية، وهذا يعني استعداد طرفي الصراع للدخول في مفاوضات جادة لتنفيذ بيان «جنيف1» وفق منطوق قرار مجلس الامن 2118، وهذا يستدعي بدوره الاتفاق على هيئة حاكمة كاملة الصلاحيات مهمتها ادارة المرحلة الانتقالية والتي تستدعي طرد الجماعات الإرهابية، كل الجماعات التي تقاتل الى جانب النظام والتي تقاتل الى جانب المعارضة، الوافدة من سورية باعتبار ذلك ضرورة لوقف العنف الذي دعا اليه بيان «جنيف1».

وقد زاد موقف موسكو في مجلس الأمن، وفي اللقاء الثلاثي الذي جمع الابراهيمي وشيرمان وغاتيلوف، وسعيها الى تكريس هذه القناعة عبر طرحها مشروع قرار يدين الارهاب ويدعو الى محاربته وإعطائه اولوية دولية في تظهير حقيقة الهدف من التمسك بأولوية محاربة الارهاب. يبدو ان السيد غاتيلوف قد حاول التخفيف من حراجة موقف موسكو بتمييع الموقف، وتمرير رأي النظام عبر الدعوة الى عدم الفصل بين البنود والخوض في اكثر من محور، وبحث كل المسائل الملحّة وهي: «محاربة الارهاب وإيصال المساعدات الانسانية والبحث في المستقبل السياسي لسورية»، من دون ذكر تشكيل هيئة حاكمة كاملة الصلاحيات في تجاهل تام لفحوى بيان «جنيف1» وتبنٍ واضح لموقف النظام، ناهيك عن رفضه الضغط على وفد الاخير لقبول الحل الوسط الذي طرحه الابراهيمي بالبحث بالموضوعين بالتوازي (ابدى غاتيلوف امتعاضه من موقف الابراهيمي في الاجتماع الثلاثي لإشارته الى مسؤولية وفد النظام والجعفري تحديداً عن التعطيل) وكان المندوب الروسي في الامم المتحدة بدوره قد رفض مناقشة مشروع القرار الذي اعدته أستراليا والأردن ولوكسمبورغ لأنه انطوى على تهديد بفرض عقوبات على الذين يضعون العوائق في طريق توصيل المساعدات الإنسانية، وعن مهلة خمسة عشر يوماً لتنفيذ قائمة بالمطالب تتضمن وضع حد لكل أشكال العنف والتعدي على القانون الدولي، بما في ذلك قصف المناطق المأهولة بالسكان والهجوم على قوافل المساعدات الإنسانية، ورفع الحصار عن المدن.

يثير الاستعصاء الراهن في المفاوضات، وإحجام موسكو عن الضغط على النظام لقبول الحل الذي طرحه الابراهيمي (ربطت بعض التعليقات بين تصلب موسكو والصراع على اوكرانيا في ضوء سعي الدول الغربية لاستقطابها وجذبها بعيداً من روسيا)، اسئلة حول الخطوة المقبلة والخيارات الممكنة للمجتمع الدولي لإخراج المفاوضات من عنق الزجاجة، وفتح الباب امام تنفيذ بيان «جنيف1» في ضوء مطالبة وفد الائتلاف، الابراهيمي الاعلان بصراحة عن الجهة المعطلة، ورفع الملف الى مجلس الامن الدولي للنظر في الموقف. في حين يتبنى النظام وحلفاؤه تكتيك استنزاف الخصوم بمن في ذلك الراعي الثاني (اميركا)، الذي يتحرك تحت سقف رفض التدخل العسكري، والتحفظ على تسليح المعارضة بأسلحة نوعية، ما يجعله عرضة للاستنزاف والإنهاك، كمدخل لتعويم النظام ورئيسه وإعطائه دوراً في سورية الجديدة.

وهذا يضع الائتلاف تحت ضغوط كبيرة نتيجة احتمال تآكل النجاح الذي حققه في الجولة الأولى ما يثير الخلافات الداخلية، وصعود الخط المعارض للمشاركة في «جنيف2» داخله في ضوء استمرار هجوم النظام وقتله المواطنين بالبراميل المتفجرة والطائرات والسيارات المفخخة وتحقيقه مكاسب ميدانية يجعله غير معني بالحل السياسي عبر جنيف، في حين ما زال اصدقاء الشعب السوري غير حازمين في مواقفهم من عمليات القصف والقتل العشوائي للمدنيين. فالائتلاف مطالب بعدم الغرق في دوامة التفاوض للتفاوض ونسيان دوره الأساسي وواجباته الاولية، انه بحاجة الى تحرك سياسي وإعلامي وميداني لتوفير غطاء سياسي لموقفه من جهة، والعمل، من جهة ثانية، على توحيد الموقف السياسي للمعارضة، والسعي، من جهة ثالثة، مع الدول الداعمة لتأمين احتياجات المواطنين والثورة كي يصمد الشعب والكتائب المسلحة لإجبار النظام على الانخراط في مفاوضات جدية لتنفيذ بيان «جنيف1».

* كاتب سوري

الحياة

ناظر جنيف يعتذر!/ عمر قدور

 عقب انتهاء الجولة الثانية من مفاوضات جنيف2 بما يشبه الانهيار بادر المبعوث المشترك الأخضر الإبراهيمي إلى الاعتذار من الشعب السوري الذي، بحسب تعبيره، “كانت لديه طموحات أن شيئاً ما سيتحقق في مباحثات جنيف، وخصوصاً أن القليل من الحماس الذي طرأ على حمص شجعهم على التفاؤل للخروج من هذه الأزمة المرعبة”. إعتذار لعله يقع في خانة اللياقة والدبلوماسية لولا أن الإبراهيمي كان قد حدّد سابقاً الإطار الأخلاقي لمهمته بالمسؤولية أمام الشعب السوري، فيما بقيت مسؤوليته “الإدارية” أمام الجامعة العربية قيد الالتباس، فليس معروفاً ما إذا كان لا يزال يمثّل الجامعة العربية على رغم الافتراق بينه وبين توجّهات أمينها العام إزاء سوريا، بخاصة لأن تمثيله للجامعة قد تم تهميشه بعد اشتراط النظام السوري قطع علاقته بها ليقبل بالتعامل معه.

كان من الأولى بالإبراهيمي ألا يتحدث عن طموحات السوريين بجنيف أو عن تفاؤلهم بصفقة حمص القديمة بين النظام والأمم المتحدة، فالسوريون بنسبة كبيرة لم يعلقوا الآمال على المفاوضات في حد ذاتها، وهم واعون إلى درجة تمكّنهم من فهم أن المفاوضات لن تكون سوى تزجية للوقت في انتظار نضوج تفاهم دولي. أما صفقة حمص القديمة فلم تقدّم سوى أسوأ نموذج للحل، لأن الأمم المتحدة لم تتمكن من إيصال المساعدات الغذائية إلا بصعوبة وبشكل محدود، ولم تتمكن من حماية المدنيين الخارجين من الحصار عندما تعرضوا للاحتجاز من قبل المخابرات السورية، بل قبلت بعثة الأمم المتحدة مبدأ استجوابهم من قبل أجهزة المخابرات، وتغاضت بذلك عن واحد من أهم حقوقهم الأساسية والذي لا يقل عن حقهم في الحياة.

أغلب الظن أن الإبراهيمي لا يعرف بدقة مكانته لدى السوريين الذين يعتذر منهم، ففي معسكر النظام هناك امتعاض ونقمة عليه بسبب تجرّئه يوماً على مفاتحة رأس النظام بأمر تنحّيه مع المرحلة الانتقالية، وقد شن إعلام النظام ومؤيدوه حملات من الشتائم ضدّه لم تتوقف إلا بعد زيارته إيران وتأكيده على ضرورة مشاركتها في جنيف2. أما في معسكر الثورة فالرجل لم يُستقبل بالترحاب منذ تكليفه إثر فشل كوفي عنان واستقالته، ومنذ سيل التصريحات الصحفية التي راح يطلقه قبل قبوله رسمياً بالمهمة. تلك التصريحات لم تكن تنبئ بعزم صاحبها على تقديم اقتراحات جديدة، وانصب معظمها على التحذير من مآلات الوضع السوري المتفاقم، أي على ترداد ما يعرفه الجميع ومن دون أن يشير إلى الأطراف التي تتحمل مسؤولية الوصول إلى الوضع الحالي. خلافاً لعنان وخطته الشهيرة، لم يقدّم الإبراهيمي أي تصور جديد، ولم يتجرأ على الإشارة بقوة إلى من يتحمل مسؤولية المجازر اليومية ومَن يعرقل فرص الحل. بهذا المعنى، لم يكن الإبراهيمي ينظر بجدية إلى مسؤوليته الأخلاقية إزاء السوريين، وكان طوال الوقت يمارس مهمته كمجرد وسيط سلبي يحرص على عدم استفزاز أحد حتى ضمن مقتضيات بنود جنيف1.

الاعتذار الذي لا ينتظره السوريون هو أن يعتذر الإبراهيمي عن إكمال مهمته، معلناً فشله أو ملقياً بالمسؤولية على الذين استخدموه لتغطية هذا الفشل. ثمة ثقة وحيدة لدى السوريين هي أن الرجل لن يُقدم على هذه الخطوة لأنها لا تتناسب مع طبيعته، وأيضاً لأن بقاءه يفي بالمطلوب حالياً من عملية جنيف، ولا تشكّل ديناميته الشخصية الراهنة إحراجاً لأحد بما أن غالبية القوى الفاعلة متفقة على الحد الأدنى من الاكتراث بمعاناة السوريين. في الواقع يبتعد الرجل كثيراً عندما يتحدث عن تفاؤل السوريين، ففي حوالى عشرين شهراً من استلامه لمنصبه كمبعوث دولي وعربي مشترك لم يلمس السوريون من خلاله جدية دولية أو عربية، وفي فترات عديدة غاب عن الأنظار حتى ما عادوا يتذكرون وجوده.

للمعتقلين السوريين حكاية أخرى لا تنسى مع الإبراهيمي، فمزاج الجلادين وفكاهة روحهم اقترحا اسم “الأخضر الإبراهيمي” لأحدى أدوات التعذيب؛ الأداة هي ماسورة خضراء من تلك التي تُستخدم عادة في تمديدات المياه في البيوت، في رأسها كتلة معدنية يُضرب بها المعتقل على كافة أنحاء جسده، بما في ذلك الرأس. الجلادون لا يفتقدون حس المرح، إذ يسوقون المعتقل قائلين له: الآن ستقابل الأخضر الإبراهيمي وتخبره عن مطالبك. السوريون عموماً، مهما بلغ امتعاضهم من أداء الإبراهيمي، لا يتمنون له أن يكون إسماً لأداة تعذيبهم، ويأملون ألا يرتضي ذلك لنفسه.

المدن

جنيف2 وحديث المتشائمين/ أكرم البني

أن ينعى الأخضر الإبراهيمي جنيف2 ويعيد الملف السوري من جديد إلى عهدة مجلس الأمن، وأن تشيد الإدارة الأميركية بأداء المعارضة السورية وتحمّل النظام مسؤولية فشل المؤتمر بينما يعود الوفد الرسمي المفاوض إلى دمشق مدعيا الانتصار وساخرا من المجتمع الدولي، هي حقائق تؤكد توقعات المتشائمين بأن مفاوضات جنيف2 لن تسفر عن أي نتائج حاسمة لمعالجة الصراع الدموي المتفاقم في البلاد.

والحال أن ثمة أسبابا عديدة ومتضافرة لدى المتشائمين تفسر هذا العقم المزمن وتبين الدوافع الكامنة وراء تبديد هذه الفرصة المتاحة لنقل الصراع السوري من مساره العنفي إلى الحقل السياسي، تبدأ بغياب إرادة أممية حازمة تسعى لإخماد هذه البؤرة من التوتر وتفرض الحل السياسي فرضا على المتصارعين، وكأن شدة هذه المحنة وما تخلفه من خراب ليست كافية لكي يقول المجتمع الدولي كلمته الحاسمة في الشأن السوري.

أكثر من ذلك ثمة ما يصح اعتباره توافقا موضوعيا ودوافع متقاطعة لدى أميركا وروسيا بصفتهما الدولتين الراعيتين والأكثر تأثيرا في عدم تعجل حسم الصراع، مما يشي وللأسف باستمرار حاجتهما للاستثمار فيه، من دون اعتبار لما يخلفه من ضحايا ودمار وآلام.

هل الأمر يتعلق بمصلحة مشتركة في مواجهة إرهاب أصولي يتنامى ويمتد

في سوريا عبر الإفادة من اشتعال التوتر الطائفي هناك لضرب أكثر القوى الجهادية تشددا اليوم “تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام”، وغدا “جبهة النصرة” وبينهما استنزاف القوى الشيعية المتطرفة، والنيل من أهم كوادرها العسكرية، إن من حزب الله أو من المقاتلين العراقيين والإيرانيين.

وهو الأمر الذي لم يخفِه خبراء سياسيون وأمنيون غربيون في رهانهم على تحول الساحة السورية إلى بؤرة جاذبة للجماعات المؤمنة بنهج “القاعدة” وتشجيع الخلايا الجهادية النائمة أو الكامنة في مختلف البلدان كي تخرج من مكامنها وتضع جهودها وكفاءاتها لإنجاح ما يثار عن “انتصار مرتقب لأمة الإسلام في بلاد الشام”، الأمر الذي يفضي إلى كشفها وتسهيل تصفيتها وتاليا إزاحة أحد المخاطر الغامضة عن أوروبا وروسيا وأميركا.

وربما يعود الأمر إلى ضرورة تمرير وقت كافٍ لنزع مخالب النظام الإقليمية، إن بمحاصرة محاولات إفلاته من المهل المحددة لتسليم مخزونه من السلاح الكيمائي، وإن بتحييد ما تبقى من أسلحة الدمار الشامل ووضعها تحت السيطرة ضمانا لأمن إسرائيل، وإن بمشاغلته سياسيا لإفشال محاولات تصدير أزمته إلى بلدان الجوار متوسلا بالمساحات الحدودية الواسعة والتداخل العشائري والديني والقومي.

ولعل الأمر يتعلق باستنزاف إيران ودفعها لتقديم مزيد من التنازلات بشأن ملفها النووي ونفوذها الإقليمي، وربما بتوظيف هذا الصراع لزيادة الأعباء التي تتكبدها بعض الدول العربية ولكي تستمر حاجتها للدورين الأميركي والروسي في ضمان استقرار المنطقة، من دون أن نغفل أهمية تحضير البديل المناسب الذي يمكنهما من ضبط مجتمع منهك ويطمئنهما على مصير الأقليات وعلى عدم حصول تأثيرات سلبية للتغيير السوري على مصالح إسرائيل وأمنها الإستراتيجي.

من جهة أخرى، يدفع بعض المتشائمين موقفهم إلى نهاية الشوط بالقول بعجز المجتمع الدولي عن وضع حد لما يجري في سوريا حتى وإن كان راغبا في ذلك، بفعل خصوصية أطراف الصراع وتشابكاتها الإقليمية.

يحدث ذلك مرة جراء قوة الدور الإيراني وتأثيره النوعي، فالقول مثلا إن إيران جزء من المشكلة السورية يعني بداهة أنها جزء من الحل، والحل لن تمرره طهران عبر حكومة انتقالية تدشن عملية تفكيك النظام، بل بالاستماتة في الدفاع عنه، الأمر الذي يفسر رفضها الاعتراف بجنيف1 كشرط مسبق لحضور المؤتمر، ويفسر تشددها لتعطيل التوافق الأميركي الروسي وثمرته قرار مجلس الأمن رقم 2118، وتاليا جهودها لكي لا يسفر المؤتمر عن أي نتائج يمكن أن تضر نفوذها المشرقي.

مارست إيران ذلك ابتداء عبر تشجيع النظام على المماطلة والتسويف وعدم تقديم تنازلات جوهرية، مرورا بمغازلة الحليف الروسي وحثه على مقارعة الإرادة الأميركية وتهميش دورها، ومرورا بالتركيز على الخيار العسكري كمقدمة لخلق توازنات جديدة على الأرض تجبر الأطراف الغربية على مراجعة حساباتها.

وسواء كان ذلك في سوريا عبر تسعير المعارك والقتال وآخرها ما يجري على جبهة القلمون قرب دمشق، حيث تعتقد أن تبديل المشهد بات ممكنا في ضوء التراجع والاضطراب الذي تعانيه المعارضة وضعف الدعم العسكري لها، أو في العراق بدعم حكومة المالكي في عمليات عسكرية واسعة لفض الاعتصامات في الشارع السني ولتطهير الفلوجة والأنبار من “تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام” مستفيدة من الصورة المنبوذة شعبيا لهذا التنظيم ومن المعارك التي فتحت على الأرض السورية بينه وبين فصائل “الجيش الحر”.

أو كان ذلك في لبنان عبر تغطية التدخل الواسع لحزب الله في الصراع السوري، ثم حثه على تقديم تنازلات ما كان ليقدمها مسبقا، لتشكيل حكومة جديدة يمكن أن تخفف من تصاعد الشحن الطائفي هناك ومن ردود الأفعال اللبنانية ضده، حيث تعتبر طهران كل ما سبق سلة واحدة في المفاوضات التي تجريها مع الغرب بشأن ملفها النووي ونفوذها الإقليمي، بحيث لا يمكن أن تعالج قضية فيها بعزل عن القضايا الأخرى.

ومرة ثانية بسبب طبيعة السلطة السورية العاجزة عن تقديم أي تنازل جوهري في طريق الحل السياسي، ولا تزال تراهن على منطق القوة والغلبة لإعادة المجتمع إلى صورته القديمة، تعززها حقيقة أنتجتها وفرة من تجاربها العتيقة، بأن العمل الوحيد لدوام السيطرة ليس الاستجابة لمطالب الناس بل الاستمرار في قمعهم وإرهابهم.

وتأسيسا على ما سبق، لا مصلحة للنظام بالمشاركة في مؤتمر يبدو مجرد انعقاده إعلان فشل صريح للخيار العسكري، ولعجز التجارب التدميرية الأخيرة عن الحسم أو تبديل التوازنات القائمة، ولأنه يدرك أن إطلاق العملية السياسية سيفضي إلى إعادة بناء المواقف والاصطفافات بصورة لا ترضيه، خاصة وقد بدأ يخسر معركته في إقناع العالم باعتماده شريكا في مكافحة الإرهاب، خسارة ظهرت ملامحها ليس فقط من خلال التشهير بشدة التعذيب والفتك الذين يمارس في البلاد، وليس من خلال تصدي أهم كتائب المعارضة المسلحة على اختلاف جذورها الإيديولوجية لـ”تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام”، وإنما الأهم من خلال تكرار التصريحات الغربية الرسمية التي باتت تحمّل النظام مسؤولية دعم الإرهاب، ليبدو مخرجه الوحيد هو إفشال المؤتمر بكل الطرق والوسائل، ولا بأس من وضع مسؤولية ذلك على عاتق المعارضة.

وتجلى ذلك من خلال التمسك بتفسيرات خاصة تمسخ جوهر التوافق الدولي في جنيف1، خاصة بشأن أولوية تشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة، أو عبر إفراغ المفاوضات من محتواها، وإشغالها ببعض الاشتراطات المربكة والمعيقة، أو بالإصرار على أولوية مكافحة الإرهاب وتحويل الأنظار نحو اتهام الأطراف التي تمد المعارضة بالسلاح بأنها تدعم الإرهاب كما كان الحال في الهجوم الشديد إبان انعقاد المؤتمر، على ما أشيع عن قرار سري للكونغرس الأميركي بتسليح بعض أطراف المعارضة السورية، والأهم استثمار مناخات المؤتمر وما يوفره من تغطية سياسية لتفعيل لغة العنف والتدمير عساها تبدل التوازنات على الأرض.

وما يزيد الطين بلة اتساع الهوة بين السلطة والمعارضة ووضوح مواقف متضاربة ومتعارضة بشدة بينهما، وهي هوة أكبر من إمكانية التوصل إلى جدول ناجع يمكن على أساسه الاستمرار في إدارة التفاوض، فما بالك بالتوصل إلى خطة للتنفيذ!

ونضيف واقع المعارضة السياسية التي لم يكن من خيار أمامها سوى المشاركة في جنيف2، ولكن كطرف غير مقرر بسبب تشتتها وضعف تأثيرها على الجماعات المسلحة، والأهم ما أفرزه طول أمد الصراع من مراكز أمنية وعسكرية داخل النظام نفسه، وفي جماعات المعارضة المسلحة، تتفق موضوعيا على استمرار ما خلقته سطوة الفوضى والسلاح وترفض خسارة ما جنته من مكاسب وامتيازات، ومثل هذه القوى لن تتردد في توظيف ما حازته من إمكانيات لإفشال أي مشروع سياسي، خاصة عبر تبادل الأدوار لتسعير الصراع العسكري وإبقاء مناخ الحرب مسيطرا على الجميع.

صحيح أن نتائج مؤتمر جنيف2 أظهرت أن الموازين الداخلية والخيارات الدولية في اللحظة الراهنة لا تسمح بفرض حل سياسي عادل يحقق طموح الشعب السوري، لكن لا يزال صحيحا القول إن مؤتمر جنيف2 ما كان ليرى النور حتى شكليا لولا وجود توافق أميركي روسي على الحل السياسي، ولولا تنامي قدرة الطرفين في التحكم بمصير هذه البؤرة من التوتر والضغط على الأطراف المتحاربة فيها، بما يجعلها مجرد دمى وأدوات تنفيذ.

والدليل هو ثبات التوقعات بحضور وفد المعارضة السورية على الرغم من الخلافات والتباينات في الرأي التي شهدتها صفوفها قبل المؤتمر، ثم رضوخ النظام وموافقته على الحضور في الجولتين، بمجرد أن أدرك أن حلفاءه، خاصة في موسكو لا يرضيهم غير ذلك.

وإذ نعترف بأن فشل مؤتمر جنيف2 منح المجتمع الدولي فرصة تحميل الأطراف المتحاربة مسؤولية استمرار الصراع والتهرب تاليا من واجبه الإنساني لكن يبقى ذلك مؤقتا، فمع تزايد الحرج الأخلاقي العالمي من توغل البلاد المفزع في العنف وما يخلفه من مشاهد للضحايا والدمار لا يحتملها عقل أو ضمير، وأعداد ما فتئت تتزايد من المشردين واللاجئين والمنكوبين، ومع تنامي مخاطر انفجار الصراع في بلدان الجوار وتهديده استقرار المنطقة والأمن الإسرائيلي يصح توقع تبدل في الموقف الدولي.

وهو موقف قد يتمخض مع عودة الملف السوري إلى مجلس الأمن، عن توافق أكثر جدية لفرض الحل السياسي فرضا على الجميع، حل لن يعطي ثمارا إلا في حال صدور قرار أممي يلزم أطراف الصراع بوقف فوري لإطلاق النار، وتوسل رقابة دولية ناجعة وقادرة على التهدئة ومحاصرة الأطراف المتصارعة وإجبارها على تقديم التنازلات والقبول بشروط ما كان ليقبل بها ابتداء.

وحتى ذلك الحين لا نعرف إلى أي حد موجع ومدمر يمكن أن تصل بنا الأمور قبل أن تطوى صفحة الاستبداد، وحتى تقتنع أطراف الصراع بأن استمرار الفتك والتنكيل سيقود المجتمع نحو مسار خطير، جوهره الإطاحة بأبسط الحقوق الإنسانية وتفكيك مقومات الحياة المشتركة وتدمير المعايير الوطنية الجامعة ومستقبل أطفال أبرياء كانوا ينتظرون وعدا وأملا بغد أفضل!

لم يشهد التاريخ بؤرة صراع دموي عرفت هذا الاستهتار الدولي المخزي بالأرواح التي تزهق كما الحالة السورية، والأنكى حين يتم ذلك في ظل ثورة الاتصالات ومشاهد مروعة تصل إلى كل بيت وتكشف للجميع محنة إنسانية يعجز اللسان عن عرضها ووصفها، فإلى متى تبقى سوريا أسيرة هذا المصير المرعب، وإلى متى يبدو العالم -عربا وعجما- غير مكترث، وكأنه بحكوماته وشعوبه يقتات على أنات الضحايا والمعذبين؟!

الجزيرة نت

هل تعثرت مفاوضات جنيف أم فشلت؟/ عمر كوش

من الانسداد إلى الفشل

أسباب الفشل

مسؤولية القوى الدولية

بعد تحضيرات وضغوط عديدة -أميركية وروسية- وتجاذبات ومشاهدات ما بين المعارضة والنظام، عقد مؤتمر جنيف2 بجولتيه الأولى والثانية دون التوصل إلى نتائج تذكر، وقد أعلن المبعوث المشترك الأممي والعربي الأخضر الإبراهيمي تعثر المفاوضات وتوقفها، بسبب عدم الاتفاق على نقاط أجندة التفاوض التي اقترحها، حيث رفض وفد النظام مناقشة مسألة هيئة الحكم الانتقالي.

من الانسداد إلى الفشل

لم يجد الإبراهيمي أمامه في مؤتمره الصحفي سوى أن يُحمّل -علنا- وفد النظام السوري مسؤولية الفشل، حيث قال صراحة إن “وفد النظام رفض مناقشة ثلث ما جاء في أجندة التفاوض، ورفض مناقشة بند هيئة الحكم الانتقالي”، ووجه اعتذارا للشعب السوري عن “عدم التمكن من تحقيق تقدم في مفاوضات جنيف”.

وكشف الناطق الرسمي باسم الائتلاف السوري المعارض أن “الإبراهيمي اعترف بأن من يقوم بتعطيل المفاوضات هو وفد النظام، خاصة أنه أنهى جلسة اليوم بشكل عصبي، إذ عقد اجتماعا أمس مع الجعفري، وأبدى الأخير موافقته على مناقشة جدول الأعمال كما قرره الإبراهيمي، إلا أنه رفض خلال جلسة اليوم ذلك، وأنكر وعده الذي قطعه أمس للإبراهيمي، ما دفع بالأخير إلى إنهاء الجلسة ومغادرة القاعة”.

ويؤكد سلوك وفد النظام في مفاوضات جنيف على سياسة الإنكار والتعطيل والمماطلة، التي ينتهجها النظام الأسدي على مدى عقود عديدة من حكم سوريا، حيث إن بشار الجعفري خرج على الصحفيين -بعد فشل مفاوضات الجولة الثانية- لينكر ما قاله الإبراهيمي، وراح يتبجح بالقول “نحن وافقنا على مشروع جدول الأعمال الذي قدمه الإبراهيمي، ويبدو أنه أثار حفيظة الطرف الآخر، ويثير تأويلاته، وتفسيراته الخاصة، حول تطبيق مشروع جدول الأعمال”.

وكذلك ذهب وزير خارجية النظام وليد المعلم، في سياسة الإنكار نفسها، ليتحدث عن أن الجولة التفاوضية الثانية في جنيف “لم تفشل وأحرزت تقدما مهما”، في تناقض سافر لما أعلنه الموفد المشترك الأممي العربي الأخضر الإبراهيمي.

وتبيّن من خلال جولتي التفاوض في جنيف أن النظام السوري لم يرسل وفده للتفاوض على تطبيق القرار 2118 وتطبيق بنود اتفاق جنيف1، حسبما نصت عليه الدعوة إلى مؤتمر جنيف2، بل كي يراوغ ويماطل، في محاولة منه لتحويل قطار التفاوض عن سكة الحل السياسي، التي تفضي إلى قيام هيئة حكم انتقالي.

ولذلك اتسمت الجولة الأولى بانسداد أفق التفاوض فور البدء في مناقشة القضايا السياسية، حيث إن وفد النظام أراد تحويل مؤتمر جنيف إلى مؤتمر لمحاربة الإرهاب، أي لمحاربة فصائل المعارضة المسلحة وتدمير الحاضنة الشعبية للثورة، بينما ركز وفد الائتلاف على تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، التي تقود المرحلة الانتقالية، وتتكفل بتنفيذ بنود اتفاق جنيف1، لذلك وصل التفاوض إلى مرحلة من الانسداد تتطلب جهودا وضغوطا كبيرة للخروج منها.

وبالرغم من ذلك دعا الإبراهيمي إلى جولة ثانية للتفاوض، لكنه اصطدم مرة أخرى بوفد النظام الذي رفض الأجندة التي اقترحها، القائمة على أربع نقاط: أولها مناقشة وقف العنف ومحاربة الإرهاب، وثانيها قيام هيئة الحكم الانتقالي، وثالثها مؤسسات الدولة بين الاستمرارية والتغيير، ورابعها الحوار الوطني والمصالحة الوطنية.

ثم أراد أن يرحّل أجندته إلى جولة ثالثة من التفاوض، فاصطدم أيضا برفض وفد النظام ثلث أجندته، وخاصة رفض مناقشة هيئة الحكم الانتقالي -حسبما أعلن الإبراهيمي- وبالتالي أفضى الانسداد في أفق التفاوض الذي سبّبه سلوك وفد النظام إلى فشل المفاوضات، وترحيل أمرها إلى الدولتين الراعيتين (روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية) وإلى الأمم المتحدة، بوصفها وسيط عملية التفاوض والداعية لها.

أسباب الفشل

أسباب الفشل عديدة، سواء من جهة غموض بنود جنيف1، أو من جهة عدم وجود مرجعية وضمانات لنجاح عملية التفاوض، أو من جهة عدم وجود سقف زمني لعملية التفاوض. ولعل الأهم هو المبدأ الذي يقوم عليه التفاوض، وهو مبدأ الرضا، الذي يقتضي موافقة الطرفين ورضاهم بأي قضية تطرح للمناقشة، فضلا عن أن كل بنود أجندة الإبراهيمي المطروحة للتفاوض يختلف فهمها وتفسيرها ما بين فهم وفد النظام وفهم وفد الائتلاف المعارض.

 فمسألة وقف العنف مثلا، يريد وفد النظام حصرها في محاربة الإرهاب، الذي يتطلب قطع الإمداد الخارجي عن المجموعات الإرهابية، وجعلها موضوع المفاوضات الحتمي، ويصر وفد النظام على أن مصدر العنف هو المجموعات المسلحة التي تقاتل النظام، ويريد أن يتعهد وفد الائتلاف بمحاربة هذه المجموعات، وتحويل الكارثة السورية المتفاقمة الناتجة عن تعامل النظام مع الأزمة الوطنية السورية- التي تمتد على طول ثلاث سنوات- إلى قضية إرهاب، يتعرض لها هذا النظام المسكين والمسالم، الذي لم يقصف الغوطتين بالأسلحة الكيميائية، وبكافة أنواع الأسلحة المتوفرة لديه، ولا يُلقي يوميا عشرات البراميل المتفجرة على المدنيين في المناطق الخارجة عن سيطرته.

وفي المقابل، يريد وفد المعارضة بحث مسألة وقف عنف النظام وإرهاب الدولة، الذي خلّف أكثر من 150 ألف ضحية، وهجر وشرد أكثر من سبعة ملايين من أماكن سكنهم إلى خارج البلاد وداخلها.

ويكشف واقع الحال أنه لا يمكن معالجة المشاكل والأزمات التي يتعرض لها السوريون بنتائجها، إلا بالقفز عن مسبباتها، والتغاضي عن الحرب الشاملة ضد المحتجين والثوار، التي بدأها النظام الأسدي منذ اندلاع الثورة السورية.

كما لا يمكن لعاقل أن يختصر الكارثة السورية في مسألة إرهاب مدعوم عربيا ودوليا، إلا إذا صدقنا أن النظام يمكن أن يتحول من قاتل دمر معظم المدن والبلدات السورية وهجر ملايين السوريين إلى ضحية وديعة تدافع عن غالبية السوريين، الذين تحولوا -وفق هذا المنطق- من ضحايا نظام ظالم وديكتاتوري إلى مجرمين وإرهابيين، يستحقون القتل والإبادة والتشريد.

وبالتالي، فإن العنف -بحسب منطق النظام- هو العلاج الوحيد لسلوكهم الإجرامي، بغية استعادة أمن البلاد واستقرارها، وإعادة الجميع إلى مظلة النظام الظالم، الجاسم على صدور السوريين منذ أكثر من أربعة عقود من الزمن.

مسؤولية القوى الدولية

بعد إعلان فشل الجولة الثانية من المفاوضات، فإن الكرة في ملعب القوى الدولية، وخاصة رعاة مؤتمر جنيف، إذ يتعين على ساسة روسيا الاتحادية الضغط على النظام السوري، إن كانوا جادين في تطبيق بنود جنيف1 وتشكيل حكم انتقالي يخلص الشعب السوري من القتل اليومي الذي يتعرض له، خصوصا أنهم يتحدثون دوما عن تطلعات الشعب السوري وأمنه واستقراره، في حين يتعين على الولايات المتحدة مراجعة سياساتها حيال سوريا، بعد أن جلبت الائتلاف المعارض إلى جنيف، وبذلت جهودا من أجل إقناعه، وإقناع حلفائها الإقليميين بجدوى المؤتمر، وقدرته على تفكيك النواة الصلبة للنظام، إلى جانب تعهدها بتقديم الدعم الكامل للائتلاف، وأنها عند بدء المفاوضات ستسعى إلى إقناع الروس بالتخلي عن رأس النظام والقبول بالبديل الجديد.

وبالنظر إلى الحرج الذي أصاب الولايات المتحدة الأميركية حيال سياستها في الملف السوري، سارع وزير الخارجية جون كيري إلى القول إن الرئيس باراك أوباما طلب مجددا بحث جميع الخيارات السياسية حيال سوريا، لكنه لم يطرح أيا منها.

ولا يغدو هذا التصعيد سوى زيادة في الضغط الدبلوماسي، إذ من الطبيعي أن يجري فريق أوباما للأمن القومي -باستمرار- عمليات إعادة تقييم للخيارات السياسية بشأن سوريا، وحيال قضايا أخرى.

وقد أثبتت الإدارة الأميركية الحالية أنها لا تكترث كثيرا بالكارثة السورية، وبما أصاب السوريين من قتل وخراب ودمار.

وتبين ذلك بجلاء بعد تراجع ساسة الولايات المتحدة الأميركية عن الضربة العسكرية التي لوح بها أوباما، حيث ظهر أن المهم بالنسبة له هو الحصول على صفقة تجريد النظام من سلاحه الكيميائي، مقابل موافقته على بدء التفاوض مع وجود المجرم في الحكم، دون أي عقاب على جريمته ضد المدنيين العزل في مجزرة الغوطتين، فيما اكتفى ساسة البيت الأبيض بترديد مقولة إنه لن يكون للأسد دور في العملية الانتقالية.

ولذلك من الطبيعي ألا يثق أغلب السوريين في ما يقوله ساسة الولايات المتحدة، ومن الطبيعي أيضا أن تثار شكوك كثيرة حول جولات التفاوض في مؤتمر جنيف2، وحول جدوى المشاركة فيه، حيث إن المهم بالنسبة إلى ساسة الولايات المتحدة الأميركية -وكذلك ساسة روسيا- هو أن يديروا الأزمة من خلال جلسات التفاوض غير المحدودة، ودون أي ضمانات حول نجاحها في تقديم حل مقبول من قبل جميع الأطراف وينهي الأزمة السورية.

وقد بدا أن مجرد الجلوس على طاولة التفاوض مطلوب بوصفه هدفا قائما بذاته، وإنجازا يطلب تحقيقه بأي ثمن، ولو على حساب دماء السوريين وعذاباتهم.

الجزيرة نت

إلى المؤتمرين في جنيف: ليتني كنت أعلم/ بطرس الحلاق ومحمد مخلوف

بغضّ النظر عمّا تمثلون، عن المرجعيات التي تعتمدون عليها، وعن الهامش الضيق المتاح لكم في التصرف، يبقى أنكم جميعكم سوريون، سوف تُسألون يوماً: وماذا فعلتم للوطن… وبالوطن؟

وأياً كان مدى اقتناعكم بالمواقف التي قبلتم الدفاع عنها لفرضها في التسوية المتوقعة، فإن قلبكم ينبض بشعور إنساني هو نفسه شعور كل إنسان يحيا على تراب هذا الوطن. ولا ريب أنكم سوف تسألون أنفسكم يوماً: وماذا فعلنا بالإنسان الذي فينا؟

قد تزدهون بالدور الذي تؤدونه الآن، وأنظار العالم أجمع ترقبكم. لكن، حين ستقفون، ذات يوم قد لا يكون بعيداً، أمام مرآتكم وحيدين، بعد أن تختفي أضواء عدسات التصوير، سينبعث من إحدى ثنايا وعيكم سؤال: هل هذا هو وجهي الحقيقي وهل هذا المصير الذي حلمت به لنفسي؟

إن النيات لا يعرفها إلا صاحبها. وبكل الأحوال، ما يبقى ليست النيات، بل أخلاقية الهدف المقصود ونزاهة الجهد المبذول في سبيل تحقيقه. وأنتم في وضع لا تحسدون عليه سياسياً، ما بين مطرقة الانقياد القسري لما يطلبه منكم من يدعمكم وبين سندان وعيكم الذاتي. ستأتي ساعة المواجهة: مواجهة أنفسكم ومواجهة أولئك الذين قد تساهم قراراتُكم في تحديد مصيرهم. ولا ريب أن معيار الحكم سيكون أولاً وأخيراً النتيجة الناجمة عن قراراتكم. ولن يُجدِ وقتها التباكي: ليتني كنت أعلم!

صحيح أن السياسية تقتضي الدهاء وخاصة “الأداء” المناسب، كما يقال اليوم. ولكن من يستطيع أن يبتسر مصير إنسان واحد، بل مصير شعب، إلى قضية محض تقنيّة، لا تخضع لحكم القيم الأخلاقية بقدر ما تخضع لسلامة منطقها الخاص؟ يعرف الجميع اليوم أن السياسة، حين تؤخذ من باب الشطارة كما يؤخذ الفن من باب المقدرة الفنية والشعر من باب البلاغة اللفظية، تتردّى إلى درك الوحشية. نظرة سريعة على عباقرة سياسيّي القرن العشرين، ولا سيّما في منطقتنا العربية، كافية لإدراك مدى المآسي التي تولدت عن تلك المتعة الفنية.

يبدو أن كل واحد منا، حين يخلو إلى نفسه بعيداً عن هلع يشلّه وعن نصر يتوهّمه، يستقرّ على ثلاثة ثوابت أساسية. أوّلها: إن الحسم العسكري مستحيل على كلا الطرفين، كما استحال بين الفرقاء اللبنانيين وبين الفريقين الفلسطينيين؛ وأقصى ما يحلم به كل طرف ألا يخرج من خريطة الصراع قبل التوصل إلى تسوية، إلا إذا كان مصرّا على توهّم بأن حليفه الخارجي سيجلب له ظفراً من لدنه.

والأمر الثابت الثاني: إن هذا النظام، بما جرّه حلّه الأمني المجنون من مسؤولية أساسية عمّا آلت إليه الأمور من خراب، لا يمكنه ولا يجوز له أن يستمرّ، بعد أربعة عقود ونيف من الاستبداد والتدمير. وباستثناء نظام كوريا الشمالية، لم يعمّر أي حكم استبدادي حتى هذا المدى. لقد ترهّل ولم يعد قادراً حتى على القيام بالدور المعهود إليه إقليمياً وعالمياً.

أما الأمر الثابت الثالث فهو أن المعارضة التي انبثقت من عطش المواطنين إلى الكرامة والحياة اللائقة تتخبّط ولا تعرف كيف يكون لها صوت يعبّر عن مشروع وطني واضح النهج والأفق والمعالم. إذ، بعد أن عجزت عن جمع الكلمة لبناء مشروع توافقي، أصبحت رهينة قوى إقليميّة تتناقض قيمها ومصالحها مع رغبة السوريين، وأُجبرت على التحالف مع منظمات متطرفة وعلى مجابهة منظمات متطرفة أخرى. لا بدّ أن كل فرد منا، مهما كابر، أصبح على قناعة أننا وصلنا إلى مأزق سيؤول بالضرورة إلى أحد أمرين: إما زوال سوريا التي نحبّها – ولعل معالم إنسانيتها كادت أن تمّحي – عن الخريطة لتفسح المجال لميدان يعيث فيه التتار شراً؛ وإما يتوافق أهلها على اجتراح نهضة حقيقية.

فماذا أنتم فاعلون، والحالة هذه؟

لا فائدة من استئناف منطق الانقضاض على الغريم كما تنطلق الرصاصة الصمّاء في المسار المقدّر لها مسبقاً، لتنفجر في أجساد إخوتكم قبل أن تتلاشى هي نفسها؟ رغبة فطرية آلية في الفناء!

ومن الخطير السير في المنطق السياسي الشائع اليوم، الذي لا يعتبر السياسة سعياً لإنجاز مشروع لمصلحة الوطن، بقدر ما يمتطيها سعياً للبقاء في المشهد ملء سمع الناس وبصرهم، إلى أن يقدّر له الفوز بكرسيّ أو موقع يضمن الجاه والسلطة ورديفهما الثالث، الثروة… وليَفنَ العالم ومن فيه!

ومن العبث استمراء السياسة بحيث تصبح ضرباً من الإدمان، طقساً فنياً، يمتنع عن أي تساؤل من قبيل: وما الهدف؟ وفي سبيل أي أمر مفيد؟

لذا يتساءل المواطن العربي، أياً كان موقعه: لماذا نحن معجبون بل مبهورون بالدهاة العتاة فينا؟ يدهشنا دهاء من لا تنقطع “الشعرة” بينه وبين خصمه حتى يتوصل إلى خنقه بها، بقدر ما نشمئز من طيبة هذا أو ذاك. نعجب بالحجّاج الذي يرعى “الرؤوس” حتى إذا ما “أينعت” راح يقطفها بشهية شبقية. نُشدَهُ لوحشية الجزار، والي حيفا العثماني، بقدر ما نشفق استعلاءً على محمود سامي البارودي وعرابي باشا. نتعاطف مع وجهاء لبنان الذين حوّلوا انتفاضة شعبية إلى حرب طائفية في أواسط القرن التاسع عشر، بقدر ما نتناسى “عامية أنطلياس” ووجهها الرائع طانيوس شاهين. أليس من الغريب أننا نعجب بذلك الوجه الرائع من وجوه تاريخنا الحديث، أي جمال عبد الناصر، وهو يفوز في معاركه؛ ثم نعرض عنه بإحراج شديد حين نراه يستقيل من منصبه من دون أي إكراه، انصياعاً لصوت ضميره الذي دعاه إلى تحمّل مسؤولية الهزيمة؟ وفي تاريخنا الحديث، هل يستقيل أحد غيره من منصبه بعد هزيمة نكراء؟ لا، ما دام هدف السياسة عنده ليست المصلحة العامة بل البقاء في السلطة.

فرفقاً بالوطن جميعاً، أو أقلّه رفقاً بأنفسكم! ولا تنسوا أنكم ستتعايشون يوماً مع من يُطلب منكم اليوم – في مفاوضاتكم الراهنة – أن تسلخوا جلودهم. الّلهم إلا إذا عقدتم العزم على التعايش معهم كمن يتعايش الإنسان مع عدو يبقى له بالمرصاد. إن من تعتبره عدوك الآن هو من سيؤازرك ويناصرك غداً. فإن لم ترفقوا بأنفسكم فارفقوا بأبنائكم وأحفادكم، وربما بتلك “القصبة الهشّة” التي تبقى ´أروع ما في الوجود، أيّ الإنسان. أجل، إلا إذا استقوت شهوة الفناء وإفناء الآخر على شهوة الحياة… والحب!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى