أكرم البنيبشير عيسىبكر صدقيحمزة المصطفىخورشيد دليراتب شعبورستم محمودسلامة كيلةصفحات سوريةعلي العبداللهعمر قدورلؤي حسينهوشنك أوسيورد كاسوحةياسين الحاج صالح

مقالات لكتاب سوريين تناولت “داعش”

 

طفرة في التفكير لفهم طفرة “داعش”/ياسين الحاج صالح

ما يجعل من «داعش» طفرة مفاجئة ليس ظهورها الشبحي ووحشيتها الخارقة فقط، وإنما كذلك هيمنة أنماط تفكير «موضوعية» في مجال االثقافي والسياسي، قد تحسن شرح ما هو واقع، لكنها لا تملك أدوات ولغة لاستيعاب ظهور فاعلين وذاتيات جديدة. الأمر يتعلق بضيق أفق تفكيرنا، وليس فقط بغرابة هذا الكائن الجديد.

تقول المقاربة المهيمنة في تفكيرنا إن «داعش» وليدة شروط «موضوعية»، اجتماعية واقتصادية وسياسية وديمغرافية…، ونتكلم على تزايد سكاني وعلى استبداد سياسي وإفقار اقتصادي، وانسداد تاريخي. ويجري لفت النظر إلى أن ظواهر مقاربة لـ»داعش» تنتشر في بيئات محطمة. هذا مؤكد. لكن «الشروط الموضوعية» لا تنتج من تلقائها ذاتيات سياسية. هنا قفزة لا تستطيع القيام بها أية «معرفة علمية» و»موضوعية»، وإن كانت مؤهلة جيدا لإلقاء أضواء على الإطار العام للظاهرة وصعودها. الواقع أن هذه المقاربة تعطي الانطباع بأنه إذا توفرت الشروط الموضوعية تتولد الظاهرة تلقائيا، وسيتولد معها فاعلوها. هذا ليس غير مقنع فقط، وإنما هو سحري أيضا.

في القطب الآخر للتفكير هناك نظرية مشهورة جدا وشائعة جدا، نظرية المؤامرة. هنا «داعش» مصنوعة مخبريا في إيران، أو على يدي النظام الأسدي، أو أنها صناعة أمريكية. قد تكون مواد التصنيع محلية، لكن «البرنامج» و»الروح» بثها الصانع القدير في صنيعته. لا شيء يفاجئ نظرية المؤامرة، فهي تعرف تفسير كل شيء.

ولعل هذه النظرية، وهي تحول الفاعلين إلى خالقين من عدم، ردٌ على النظريات الاجتماعية «الموضوعية» التي تنكر وجود الفاعلين أو تردهم إلى حاملين سلبيين لبنيات سابقة عليهم. وقد تكون ظهرت كنتاج جانبي للعلمنة، وصعود الموضوعية والعلموية، وظهور العلوم الاجتماعية.

لكن تطورت في الإنسانيات في بضعة العقود الأخيرة مناهج ومقاربات تعنى بدور الفاعلين، بعد أن كانت هيمنت المقاربة البنيوية والوظيفية الطاردة للفاعل، والماركسية شبه الطاردة له. الظواهر الاجتماعية والسياسية، مثل ظهور داعش في مثالنا، نتاج لبشر في شروط محددة، لكنهم مشكّلون أيضا للظروف ومبادرون، ويعملون على توجيه الأوضاع المتاحة في كل وقت بما بناسبهم. ولديهم في كل وضع تقريبا هوامش مناورة وحرية، وقلما يكونون مضطرين كليا لفعل ما ما فعلوا تحديدا وحصرا.

يمتنع ونحن نفكر في ظهور وصعود «داعش» مثلا أن نتغافل عن شبكات سلفية قوية، إقليمية ومحلية، ومعولمة، تجمع بين عقيدة متشددة، وبين أقنية اتصال وتنظيم لا تكاد الدولة، أية دولة، تنجح في مراقبتها، الانترنت وغرف المحادثة، وبالتأكيد مواقع وصفحات تواصل وتنسيق مغلقة، ثم المال الوفير من شبكات خليجية تجمع بين تحجر الفكر وبين النموذج الفكري والسياسي المجرد جدا حتى في مجتمعاتها هي، ومن باب أولى في مجتمع أكثر تعقيدا كالمجتمع السوري. السلفية عقيدة طاعة في تلك البلدان (ربما تختلط الطاعة هناك بالتقية وبالحساب العقلاني لموازين القوى)، لكنها هنا عقيدة تمرد مطلق، وإن يكن منتجا لطاعته المطلقة حين يسيطر. مثال السلفيين مبرأ كليا من أي بعد تحرري أو إنساني، إن من حيث أصوله التاريخية (تعرض أبرز ملهميه لتجارب قاسية، جعلتهم شخصيات قاسية متشددة)، أو من حيث البيئات الاجتماعية المصدرة له. وهو منفصل عن أي إطار ثقافي حي، ما يجعله عقيدة عابرة للثقافات والمجتمعات، وعولمية بيسر، على ما يفيد أوليفيه روا في «الجهل المقدس».

عن هذا المزيج من العقيدة والمال والاتصال- التنظيم، وظروف سياسية معلومة («حلف مقدس» من الأميركيين والسعوديين والمصريين والباكستانيين… حارب السوفييت في أفغانستان، واستورد مقاتلين من بلدان عربية، جرى تصديرهم بعد ذلك تحت اسم «الأفغان العرب») كانت تولدت قوة تخمير عالمية، «القاعدة». وعبر تاريخ قصير، لكنه مليء بوقائع مشهدية لا تسقط من الذاكرة، صارت «القاعدة» لقطاع من الشباب في مجتمعات المسلمين الحالية مثالا بطوليا شديد الإغراء، وفرصة لحياة كبيرة، ملحمية، وهذا في مجتمعات بأكملها تعيش أجيالها حياة صغيرة، ينخرها الفساد والتخاذل والتفاهة والذل. هذا البعد الرمزي الأسطوري مهم فيما نرى في ولادة الحركات الإيديولوجية والسياسية الكبيرة عموما. وهو بالغ الأهمية في بلدان تعاني من فراغ شديد في المشروع والمشروعية، والفكرة الجاذبة، ولا يجد أكثر سكانها معنى لحياتهم.

وفي سوريا، سهّل من صعود هذا الفاعل أن هناك خطوط تفاعل وعمل كانت مفتوحة بين أجهزة النظام وبين مجموعات جهادية، محلية وعربية، كان يتدبر أمر إرسالها إلى العراق مرة، وإلى لبنان مرة، ويعتقل مجموعاتها مرة، ويطلق سراحها مرة (مما هو ليس من عادة النظام السوري حتى بخصوص سجناء رأي سلميين). النظام يلعب بهم ومعهم، لكنهم هم أيضا يلعبون. هو يمكر، هم يعرفون ذلك، وهم يمكرون أيضا، والله خير الماكرين.

وفي هذه الأثناء بني في المختبر العراقي الجسر الذي سيقود من «القاعدة» إلى «داعش»: «دولة العراق الإسلامية»، وقد ولدت في الظلام من تلاقح قاعدة أبو مصعب الزرقاوي والبعثية العراقية المهزومة.

ولعل هناك عاملا مساعدا بصورة خاصة على حدوث الطفرة الغولية، يتمثل في درجة متقدمة من تشوش المدارك وحيرة النفوس، ومن الشعور بالضآلة وهوان الشأن، في بيئات الطفرة. في سوريا درجة متقدمة من الضياع والغربة في البيئات المسلمة السنية، المنحدرة من أحياء وبلدات وأرياف متدهورة، وتشهدا تكاثرا سكانيا كبيرا. وهي تعاني أكثر من غيرها في البلد من الشعور بالدونية ومن فقدان المراجع الموثوقة، ولديها، تاليا، الطلب الأقوى على اليقين والثقة بالنفس، ولا تجد عرضا مواتيا لهما في غير صيغ الدين المتشددة. الديانة السلفية المبسطة، وبتصرفها عقيدة الولاء والبراء المانوية التي تشبع الطلب على الهوية والتمايز، وكذلك مفهوم العزة الإسلامي ذي المنشأ الحربي والامبراطوري، توفر لجمهور معزول ومحتقر فرصة للثقة بالنفس، ولتهدئة ما في أغوار النفس من انفعالات ورغبات وأشواق.

في المحصلة، لدينا «داعش» وما يشبهها لأن هناك من ناضل من أجلها، وإن في شروط مواتية. «داعش» في المحصلة مزيج من التنظيم السلفي الجهادي، العنيف والسري، ومن البعثية العراقية المهزومة، ومن السنية السورية المشتتة الكيان والوجهة. هذا الغول وليد العنف والكراهية والظلام والخوف والمهانة.

هذه الخطوط العريضة أقل من أن تجيب على السؤال عن كيف ظهرت «داعش». لكن لعلها تكفي للقول إن «داعش» طفرة، وإننا نحتاج إلى طفرة في التفكير لنستوعب تخلّق هذا الوحش.

القدس العربي

 

 

 

 

لا خرائط جديدة للمنطقة!/ أكرم البني

نجاح «داعش» في إزالة الخط الحدودي ومعابره بين سورية والعراق وإعلان دولة «الخلافة الاسلامية»، وقبله إعلان بعض الزعماء الكرد عن رغبتهم بإقامة دولة قومية مستقلة في شمال العراق.. وبينهما ما تشي به مخلفات الصراع السياسي والمذهبي المحتدم في غير بلد عربي من مشاريع للتقسيم، هي مستجدات تفسر ارتفاع حرارة الحديث والتداول في خرائط جديدة للمنطقة.

الحديث عن إعادة رسم خرائط المنطقة قديم قدم خرائط سايكس – بيكو التي مكنت الاستعمارين الفرنسي والبريطاني من تقاسم تركة الرجل التركي المريض عبر كيانات اصطنعت، ربما عشوائياً وربما وفق مبدأ فرق تسد، لكنها لا تزال مستمرة، كدول وأوطان، حتى يومنا هذا، وهو حديث يتجدد مع كل حرب تنشب أو أزمة مستعصية تضرب بلدان المنطقة، ومع تنامي حضور قوى قومية أو دينية ترفض الاعتراف بالواقع القائم وتدعو لتغييره وفق منظورها الايديولوجي.

لكن، ثمة تعقيدات وصعوبات تقف أمام تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة بالمقارنة مع الظروف التي رافقت إعلان سايكس- بيكو، منها زوال صورة الاستعمار القديم بما يعني انعدام الفرص التي يمنحها الاحتلال العسكري المباشر لفرض الكيانات وضمان استمرارها، ثم أثر الثورة المعلوماتية التي وضعت أدق التفاصيل العالمية تحت أضواء كاشفة في ظل تنامي دور الأمم المتحدة كداعم موضوعي لاستقرار الكيانات السياسية المنتمية اليها، وإذا أضفنا انحسار الشهية التوسعية الاسرائيلية لصالح إستراتيجية الهيمنة عبر التفوق التنموي، سياسياً واقتصادياً، أمام فشل تنموي لكيانات عربية تبدو هزيلة ومنهكة، إن بسبب صراعاتها البينية أو جراء استبداد الانظمة وفسادها، وإذا أضفنا أخيراً، وهو الأهم، أن السياسة الأميركية، بصفتها صاحبة الكلمة الحاسمة إلى الآن، لا تزال تفضل استمرار الكيانات السياسية القائمة طالما تحقق لها مصالحها الاستراتيجية في نقاطها الثلاث: استمرار السيطرة على منابع النفط وممراته، وضمان أمن إسرائيل وتطويع البيئة المحيطة بها، ثم منع نشوء دولة عربية قوية وقادرة على الدفاع عن حقوقها ومصالحها الخاصة، يمكن أن نقف عند أهم العوامل التي ترجح استمرار سياسة الحفاظ على خرائط المنطقة، وتجنب مغامرة المساس بها. ولا يغيّر الحقيقة السابقة بل يؤكدها التذكير بمشروع المحافظين الجدد الداعي لتفكيك الشرق الأوسط وإعادة تركيبه، حيث لم يجد هذا المشروع طريقه الى التنفيذ في المرحلة التي تفردت فيها الادارة الأميركية بقيادة العالم، فكيف الحال وقد بدأت دول أوروبية وآسيوية تنازعها على النفوذ وتحجّم هامش مناورتها في إدارة الصراع العالمي وتقرير نتائجه، ويؤكدها أيضاً إصرار واشنطن على نهج الحفاظ على الكيانات القائمة بدليل تمرير فرص عديدة توافرت لتغيير الخرائط بعد أزمات وصراعات أهلية شهدتها بلدان عربية، وبعد حروب قامت في ما بينها أو مع إسرائيل، وهنا لا يغيب عن البال مثلاً، الإصرار الدولي على وحدة لبنان إبان الحرب الأهلية التي عصفت به ورفض الاعتراف بمشاريع التقسيم التي فرضت على أرض الواقع، وأيضاً وحدة الموقف الدولي من حرب الخليج الثانية لردع نظام بغداد ومنعه من ضم الكويت، والأهم لضبط مناطق نفوذ الشيعة العرب في الجنوب والأكراد في الشمال كي لا تخرج عن نطاق الدولة العراقية، وأيضاً الاصرار اليوم على وحدة الأراضي السورية برغم الشروخ والتقسيمات التي فرضها الصراع الدموي المحتدم على الأرض بما في ذلك الحذر من إقامة منطقة عازلة قد تكون مقدمة لتوسع النفوذ التركي وتمكينه من قضم جزء جديد من الأرض السورية متوسلاً حالة ضعف الداخل وتفككه، ثم وضوح الحماس الدولي لإفشال أي مشروع لإقامة دولة مشرقية للمسلمين السنّة وأبرز تجلياته تشكيل تحالف عسكري لضرب تنظيم «داعش» وما يسمّى دولة الخلافة الاسلامية، فضلاً عن الجهود العالمية المتعددة الوجوه لمحاصرة السياسة التوسعية الايرانية ومحاولتها استثمار البعد المذهبي لتعزيز حضورها ونفوذها، ولا ننسى وضوح التوافق العالمي والإقليمي ضد مطلب الدولة الكردية القومية في شمال العراق، على قاعدة التحسب من أن يمهد ذلك لنشوء دولة كردية قوية تضم أكثر من ثلاثين مليون إنسان وتمتد من ديار بكر التركية إلى تبريز الايرانية وتصل حدودها إلى ضفاف بلغاريا واليابان. والسؤال، ما الحاجة راهناً لتغيير الخرائط إن كان سيفتح الباب أمام الفوضى وإيجاد تداعيات غير محمودة تغذي شهية المتنافسين للسيطرة على المنطقة؟! بخاصة وأن واشنطن لا تزال قادرة على ضمان هيمنتها ومصالحها الاستراتيجية من دون المساس بالتركيبة الجغرافية والسياسية القائمة، إما من خلال استبدال السلطات القديمة بسلطات موالية لها، كما كانت الحال في سلسلة الانقلابات العسكرية التي رعتها وأطاحت أنظمة كانت تحسب على النفوذين الفرنسي والبريطاني، أو من خلال الاتكاء على التنوع المجتمعي العربي وإثارة حقوق مكوناته لإعادة ترتيب أوزانها وعلاقتها مع السلطة والدولة الوطنية، بما في ذلك تشجيعها على إقامة مناطق حكم ذاتي واتحادات فيدرالية على أساس الانتماء القومي او الديني، ما يقطع الطريق، في الوقت ذاته، على احتمال نشوء دولة قوية تحترم مكوناتها العرقية والطائفية وقادرة على محاصصة النفوذ الأميركي وإرباكه.

هي فرصة ثمينة أن تلجم التوازنات الراهنة على الصعيدين العالمي والإقليمي إمكان تقاسم «تركة الرجل العربي المريض» إن صحت التسمية، وأن تشكل عائقاً موضوعياً ضد تفكيك الأوطان ورسم خرائط جديدة للمنطقة من منظور قومي أو ديني، هي فرصة يفترض بالنخب السياسية الوطنية أن تستغلها في سياق شعارات التغيير نحو الحرية والكرامة التي أطلقها الربيع العربي، لإرساء قواعد الحياة الديموقراطية في مجتمعاتها، والتي من دونها لا تمكن معالجة أزماتها المزمنة وبناء داخل وطني صحي يضمن حقوق مختلف مكوناته ويكون قادراً على استيعاب تأثيرات الخارج ورد شروره.

الحياة

 

 
من محاسن “داعش”/ راتب شعبو
قد يكون من محاسن “داعش”، إن كان له محاسن، أنه مارس واقعياً ما يعتبره الإسلام، بألف العهد ولامه، من دون تزويق أو تأويل أو تلكؤ يمكن أن تفرضه مراعاة معايير العصر. زاد من محاسنه أنه لا يخشى في “إجرامه” لومة لائم، ولا يخجل من عرض أفعاله “الإسلامية” مصوّرةً على الـ”يوتيوب” وفي كل مكان. ليس الذبح لدى “داعش” كلمة تقال، بل فعل يُفعَل. وليس الجلد عقوبة قديمة ورسماً منسوخاً بحكم التقادم، إنه ممارسة عملية يفخر “الداعشيون” بها، ويفضلون أن تشهدها “طائفة من المؤمنين”. وكذا حال الرجم وقطع اليد واستحلال النساء وملك الأيمان وما إلى ذلك.
لا يهتمون بتزوير جواز سفر للإسلام (إسلامهم) كي يدخلوا به إلى عالم اليوم. إنهم يدخلون به كما هو في عقولهم. يدخلون به بكامل تفسخه وغرائبيته. لا يسترون رائحة تحلل تصوراتهم بعطور حديثة، ولا يلقون على جثث مفاهيمهم غلالات من لغة معاصرة، كما يفعل إسلاميون “معتدلون” يحافظون على اعتدالهم، حتى إذا آنسوا من نفوسهم قوة بدأوا في تحولهم “الداعشي”. ليس في قولي هذا محاكمة نيات أو مصادرة ظنية على المستقبل. من الطبيعي أن يكون في ذهن كل إسلامي “معتدل” انشداد إلى مثال أعلى يتمثل في التحول الذي شهدته الدعوة الإسلامية الأولى على يد الرسول محمد، من المرحلة المكية المهادنة إلى المرحلة المدنية التي بدأت فيها المواجهة، ثم إلى “الفتوحات”، وذلك تبعاً لمنسوب قوة الدعوة واشتداد عودها. لا يمثل الاعتدال (احترام الآخر) في ذهن الإسلام السياسي خياراً نهائياً. إنه بالأحرى لحظة اضطرارية تدوم ما دام الاضطرار إليها. ومن الطبيعي أن كل التطور الذي يشهده العالم اليوم إنما هو في نظر الإسلامي “المعتدل” انزياح عن “الحق” الذي جاء به الرسول محمد (القرآن) ومارسه (السنّة)، والعودة إلى “الحق” واجبة. لذلك يمكن القول إن في كل إسلام سياسي جنيناً لـ”داعش”.
القوة الفائضة التي يحوزها “داعش” شكلت الجسر الذي نقل إلينا حقيقة الإسلام السياسي. امتلاك القوة الكافية هو الشرط المناسب لظهور الإسلام السياسي في طوره “الداعشي”. كثيراً ما جرى تحليل انعكاس ظاهرة “داعش” على “الإسلام السياسي المعتدل” بالقول إن همجية “داعش” زادت من رصيد الإسلام السياسي المعتدل حيث بدا هذا الأخير “رحمة” أمام قسوة الأول وفظاعته. على طريق هذا التحليل، سارت السياسة الأميركية في مقاربتها “الربيع العربي”، وعليه تسير في مقاربة المسألة السورية اليوم. الحق أن “الداعشية” هي المقصد الموضوعي لكل إسلام سياسي، طالما أن الإسلام السياسي، كل إسلام سياسي، يقدس النصوص والسنّة التي تسوّغ الممارسات التي يقدم عليها “داعش” اليوم: الرجم والذبح واستحلال النساء واستعبادهن وكل ما تمنحه لهم “خلافة الله في الأرض” من صلاحيات. ظاهرة “داعش” اليوم ينبغي أن تضع كل من يأمل خيراً في الإسلام السياسي، ولا سيما في سوريا، أمام سؤال ثقيل: ما الخير في من يشكل “داعش” صورة تفتحه القصوى؟
لا شك أن كل سلطة مهما كانت (إسلامية أو غير إسلامية)، تنطوي على نزوع “داعشي”. لكن ليس كل سلطة تمتلك من المسوّغات ما يجعلها تتباهى بإجرامها على أنه التقوى والنموذج. بلغ النظام السوفياتي من القمع حدوداً قصوى في زمان عزّه وسطوته العالمية. وكان ناقدو السلطات السوفياتية يركزون على نزعة “تقديس النصوص” لدى السلطات. تقديس النصوص كان تهمة تهرب منها السلطات وتنكرها حتى لو مارستها. غير أن تقديس النصوص هو جوهر الإسلام السياسي. إيجاد أي رابط بين ممارسة سياسية ونص مقدس هو مدخل أكيد إلى الفاشية. هنا مكمن الخطورة. مثلاً، حين دخل الاتحاد السوفياتي في سياق التفكك جراء استراتيجيا غورباتشيوف في “البيريسترويكا” و”الغلاسنوست”، لم نشهد أي ردّ فعل جماهيري كبير. حتى حين جرى حل الحزب الشيوعي السوفياتي الذي كان يصل تعداد عضويته إلى 20 مليون عضو، لم تشهد موسكو تظاهرة واحدة. لنا أن نتخيل ماذا كان يمكن أن يحصل لو أن الحزب الشيوعي السوفياتي كان حزباً يستند إلى نصوص دينية مقدسة.
كما كشفت ممارسات النظام “القومي” السوري، البذرة الفاشية في كل نظام قومي، يكشف “داعش” اليوم البذرة الفاشية في كل إسلام سياسي. ما يسمح للبذرة الفاشية بأن تنمو هنا وهناك، هو توفر القوة، عبر سنوات من احتكار تام للسلطة (النظام السوري)، أو عبر دعم هائل مستور حتى الآن (داعش).

 

 

 

عن سهولة توصيفنا و… وعورة ما نحن فيه أيضاً/ عمر قدور

الواقع السوري، لنقل منذ سنة على الأقل، بات سهل التوصيف. ففي مساحة كبيرة حافلة بالتعقيدات، وحتى التناقضات، تتضاءل نسبة الخطأ في التوصيف، ويسهل العثور على وقائع تُثبت صحته. ذلك لا ينفي وجود وقائع أخرى في مكان مجاور أو لصيق تُثبت خطأه أيضاً. لذا، لن يكون صعباً استنطاق الواقع المجتزأ، وتقويله ما يقوله حقاً واعتباره جوهراً ثابتاً له، ولن يكون صعباً أيضاً استنطاقه قبل حيث يُفترض أن طبيعته كانت مغايرة لما هي عليه الآن واعتباره آنذاك معياراً ثابتاً. ثم، إننا على الأرجح، نستطيع المضي في هذا النوع من المقاربة، حيث تدحض كل عبارة ما قبلها، إلى ما لا نهاية، تحت زعم النسبية وانعدام الحقيقة.

في مقالها «بحثاً عن أيديولوجيا سياسية تسد ذلك الخواء: ليس بالمال والسلاح وحدهما تهزم داعش»، الحياة 25/10/2014، تذهب بيسان الشيخ مذهباً أكثر بساطة، لتناقش وتفنّد مقولات تبسيطية أطلقها ويطلقها سوريون منخرطون في مناقشة الوضع السوري، وأحياناً بمشاركة حثيثة من مثقفين لبنانيين وعرب آخرين واكبوا مجرياتها منذ اندلاع الثورة. غير أن مشكلة مناقشة تلك المقولات المختزلة، والتبسيطية في آن، تكمن في صفة التعميم التي تحظى بها، على عكس ما يُفترض أن تذهب إليه مقالة بيسان الشيخ المذكورة. في الواقع، ثمة خطأ مركزي يكتنف المقولات والنقاش حولها، يبدأ من تصنيف كل ما حدث منذ 15 آذار (مارس) 2011 بالثورة، مع أن العديد من المثقفين السوريين يرى الثورة كواقعة حدثت في مستهل هذا التاريخ، ثم تراكبت معها ظروف إقليمية ودولية جعلت الحرب العنوان الأبرز لما يحدث على الأرض. فضلاً عن أن واقعة نزوح نصف سكان سورية من مناطق الاشتباك تجرد الأخيرة من إمكانيات الفعل المدني والسياسي المأمول، وتمنح الغلبة للأقوى ميدانياً، بما في ذلك الأقوى بفعل الدعم الخارجي، الأمر الذي ينطبق على الميليشيات المتحالفة مع النظام ونظيرتها في المقلب الآخر.

انطلاقاً من قراءتها لصمود كوباني، تفترض بيسان الشيخ أن وجود عصبية ما قد يكون العامل الأقوى في المعركة، ولا يكفي المال والسلاح وحدهما، بالمقارنة مع السقوط السريع للموصل والرقة. هذه الخلاصة التي تبدو واقعية جداً ينقصها القول بأن داعش سيطر بسرعة كبيرة على قرى كوباني، واحتل حوالى نصف المدينة، قبل بدء إنزال المساعدات الدولية من طائرات التحالف، ويبقى في «علم الغيب» ما سيكون عليه الحال لو لم يحدث ذلك. أيضاً، ينتقص من هذه الخلاصة أن مدينة مثل داريا لا تزال صامدة تحت النار والحصار منذ ما يقارب السنتين، ومن دون أن ينسب مقاتلوها لأنفسهم عصبية معلنة على غرار العصبية الكردية. لكي لا نتسرع في الاستنتاج، هذا لا يعني قابلية المدن «العربية» السورية للسقوط أمام داعش بأسهل من سقوطها أمام قوات النظام. في مدينة حلب وريفها مثلاً كانت هناك جولات من الكر والفر بين داعش وفصائل أخرى محلية؛ في المدينة تحديداً حيث نزح أغلب السكان لم يكن الأمر يتعلق بحاضنة شعبية لتلك الفصائل أو لداعش، ولعل هذا ينطبق أيضاً على سكان الريف الذين نزح معظمهم إلى هناك بحثاً عن الأمان الشخصي.

في مقاتلة القاعدة في العراق، لنتذكر، لم تجد القوات الأميركية من قبل سوى الصحوات العشائرية، وتحاول الآن إعادة الحياة إلى ذلك الخيار. الصحوات العشائرية خيار غير مجدٍ في سورية، بسبب تهلهل حال العشائر عموماً، وما تبقى من سلطات شيوخها المعنوية كان إلى أمد قريب برعاية وإنعاش النظام، أي أن الحال العشائري هو حال مقترن بالسلطة «أية سلطة» لفقر حيثيته الشعبية. العامل الأهم، الذي لا ينبغي إنكاره، أن مسببات عدة أنعشت عصبية وحيدة طاغية في الساحة السورية هي العصبية الطائفية، وهي بالتعريف لا تزال عصبية حرب أكثر منها طائفية سياسية مستدامة، أيضاً لانعدام الظروف التي تسمح بامتحانها أو انتظامها ضمن حراك سياسي مدني.

أما العصبية القومية، التي يبدو أنها تلعب دوراً إيجابياً في الساحة الكردية، فهي في طور الانقراض على المستوى السوري العام. أهل الثورة انتفض قسم كبير منهم أصلاً على الضد من أيديولوجيا البعث، وكانت الشعارات الأولى شعارات وطنية خالصة، على النحو الذي حدث في بلدان الربيع العربي عموماً. أهل النظام اعتصموا بفينيقية جرى بعثها على عجل، رداً على ما اعتبروه تحيزاً عربياً «سنياً» للمعارضة، بينما كفر بعض المعارضين بعروبة استجدى تدخلها لإنقاذ «قلبها» السوري، فلم تفعل على النحو الذي كان مأمولاً منها. إذاً، الكفر بالعروبة صار سمة عامة لدى طرفي الصراع، من دون أن يقرّب ذلك بينهما.

هناك فشل كبير أدركه السوريون منذ بدء الحرب الشرسة عليهم، تجلى ذلك في تسمية أيام الجُمع عندما كان الرصاص يزخ على المتظاهرين. فبعد ستة أشهر من الثورة كانت تسمية جمعة 9 أيلول (سبتمبر) 2011 جمعة «الحماية الدولية»، تلتها في 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 جمعة «الحظر الجوي». قبل استجداء الخارج كانت تسميات الجُمع تتراوح بين بث الروح المعنوية واستجداء الجيش والطوائف التي غلبت على بعضها الموالاة للمشاركة في الثورة. بمعنى آخر، كان طلب الحماية الدولية تعبيراً عن اليأس من الشركاء في الوطن، وتعبيراً عن تحطم الشعارات الأولى على صخور الواقع، لتأتي في ما بعد الميليشيات الطائفية المساندة للنظام وتشارك في الإجهاز على أي تصور للمسألة الوطنية.

المفارقة، أن العصبية التي تطلبها مقالة بيسان الشيخ بعيدة المنال، تماماً بالقدر الذي تبدو فيه خلف السوريين وليست أمامهم! وسيكون من حسن ظنها أن تمنح مثقفي سورية مقدرة، وتقصيراً ملازماً لها، على اجتراح عصبية جامعة بعد فشل مطالباتهم الأساس بدولة مواطنة متساوية. لكن، حتى الدولة الوطنية، أو الدولة/الأمة، لم تعد بالعصبية المقترحة أو القادرة على لمّ شتات السوريين حالياً، فضلاً عن تفويتها كخيار تاريخي في مرحلة الاستقلال الأولى. أغلب الظن، إذا انتهت الحرب، سيكون السوريون أمام نسبة كبيرة مما قبل الدولة وقليل مما بعدها، هذا إن بقي لهم مستقبل مشترك.

الحياة

 

 

 

دلالات الاشتباك التركي ـ الأميركي في كوباني/ خورشيد دلي

تحوّلت معركة كوباني ـ عين العرب بين داعش والكرد على الأرض، إلى اشتباك سياسي ودبلوماسي بين تركيا والولايات المتحدة، بعدما وصلت المفاوضات بين الجانبين بشأن المشاركة التركية في التحالف الدولي ضد داعش إلى نقطة مسدودة. ببساطة شديدة، قالت تركيا إنها ليست مستعدة لتقديم خدمات مجانية للاستراتيجية الأميركية، ما لم تكن متوافقة مع أجندتها المتعلقة بالأزمة السورية، ومن ضمنها القضية الكردية، فيما ردت وترد واشنطن، عبر خطواتها المنسّقة سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً، أن كل شيء يجب أن يكون بالتوقيت الأميركي. وقد ظهر الخلاف في مؤتمر جدة، عندما رفضت أنقرة التوقيع على البيان الختامي للمؤتمر، ثم ما لبث أن تعمّق عندما تهرّبت واشنطن من الشروط التركية للمشاركة في التحالف الدولي، ولا سيما شرط إقامة منطقة عازلة، وسرعان ما تحوّل الخلاف إلى تناقض، ومن ثم اشتباك بشأن كيفية التعاطي مع معركة كوباني، فعملياً تحولت المعركة من معركة بين داعش والكرد على الأرض إلى معركة بين داعش وقوات التحالف التي كثّفت غاراتها الجوية على مواقع داعش، لمنعه من السيطرة على المدينة.

وفي غمرة المعارك، رأت واشنطن أن الموقف التركي الذي أخذ شكل النأي بالنفس عن التدخل في المعركة، قد تحوّل إلى شكل من الابتزاز السياسي، بغية الاستجابة للشروط التركية. وعلى هذه الأرضية، تحوّل الاشتباك بين الجانبين إلى حرب تسجيل المواقف والخطوات الدبلوماسية والسياسية والعسكرية.

عندما أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل فترة، أنه لن يسمح بإدخال أسلحة إلى كوباني لدعم المقاتلين الكرد، استفاق العالم، في اليوم التالي، على إمداد طائرات أميركية هؤلاء المقاتلين بأسلحة وذخائر، مصدرها إقليم كردستان، بل سارع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إلى وصف عدم تقديم السلاح للكرد بالموقف غير الأخلاقي. وعندما وصف أردوغان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، بزعامة صالح مسلم، بالإرهابي، كونه على علاقة وثيقة بحزب العمال الكردستاني، سارعت واشنطن، في اليوم التالي، إلى القول إنه ليس هناك ما يثبت أن هذا الحزب إرهابي، بل أشادت بدوره في محاربة الإرهاب. وعندما وجدت أنقرة أنها باتت محاصرة بالخطوات الأميركية، السياسية والعسكرية، تجاه كوباني، حاولت استدراك الموقف بالموافقة على عبور البشمركة الكردية من أربيل إلى كوباني عبر الأراضي التركية، والسعي إلى إدخال الجيش السوري الحر إلى المنطقة، تخفيفاً لكردستانية المعركة. وهكذا، تحولت معركة كوباني، التي كانت هامشية، بنظر الجانبين، إلى معركة استراتيجية. فواشنطن، التي قال وزير خارجيتها في السابق إن معركة كوباني لا تحمل أي بعد استراتيجي، باتت تنظر بعين استراتيجية إلى هذه المعركة، وكذلك تركيا التي اتّبعت سياسة غامضة تجاه كوباني باتت تنظر إليها باهتمام كثير، خصوصاً بعدما اكتشفت، على وقع الاحتجاجات الكردية الغاضبة في الداخل، مدى ارتباط مصير السلام التركي ـ الكردي بمصير هذه المعركة.

وثمة معلومة تقول إنه عندما التقى صالح مسلم بالسفير الأميركي المكلف بالملف السوري، دانيال روبنشتاين، في باريس، أخبره بأنه لم تبق في حوزة المقاتلين الكرد في كوباني ذخيرة تكفي سوى لثلاثة أيام، وسرعان ما أوصل المسؤول الأميركي المعلومة إلى وزير الدفاع، تشاك هيغل، على شكل طلب، وهيغل بدوره أوصلها إلى الرئيس باراك أوباما الذي وافق فوراً على إمداد الكرد بالذخيرة، ولم تستغرق العملية أكثر من 48 ساعة. وهكذا، جرى تدشين التحالف بين الإدارة الأميركية وكرد سورية، بعد التحالف بين هذه الإدارة وأربيل. وعليه، يمكن القول إن حالة الشد والجذب بين أنقرة وواشنطن لا تعكس فقط فشل الحوار بين الجانبين بشأن كيفية محاربة داعش، وإنما لها علاقة بتطورات القضية الكردية التي تشهد مزيداً من الصعود والزحف الجغرافي. فمن دون شك، وصول قوات البشمركة من إقليم كردستان إلى كوباني يعني أن الأخيرة (كوباني) باتت تعني، بشكل أو بآخر، أربيل وديار بكر (آمد) في تركيا، وسنه (مهاباد) في إيران، أي إقرار الشرعية السياسية والقومية الواحدة للحركات والأحزاب الكردية أينما كانت.

وتخشى تركيا، في العمق، من أن يكون للصعود الكردي علاقة برسم خرائط جديدة في المنطقة، برعاية أميركية، وأن تكون الحرب ضد داعش، وغيره من التنظيمات الإرهابية، مدخلاً لتحديد المصائر من جديد، فيما الثابت أن واشنطن تعمل وفقاً لمصالحها الاستراتيجية التي ليست لها علاقة بالعواطف والمبادئ، بقدر ما لها علاقة بضمان أمن هذه المصالح. وفي لعبة الأمم والمصائر، تصبح التحالفات من القضايا المتشابكة التي تشغل اهتمام اللاعبين على مسرح السياسة الدولية، فها هي واشنطن تعلن عن إنشاء قاعدة عسكرية قرب أربيل، بعدما رفضت أنقرة وضع قواعدها في خدمة قوات التحالف، وهو موقف يذكّرنا بموقف البرلمان التركي عام 2003 عشية غزو العراق. ليبقى السؤال: هل تفكر واشنطن بالخيار الكردي بديلاً من خيار التحالف مع تركيا؟ ربما وضعت واشنطن كل الخيارات على الطاولة، بعدما اكتشفت أهمية دور الكرد في العراق وسورية في محاربة داعش على الأرض، وربما ما حصل أدى إلى دخول واشنطن قلوب الكرد، من أوسع الأبواب، في مقابل زيادة مساحة السواد لدى قلوب بعض الكرد تجاه تركيا، فيما منطق السياسة يطرح على تركيا سؤالاً مفاده: لماذا لم تتصرف بطريقة أفضل مع الكرد، لكسبهم قلوبهم، وبناء المستقبل معهم، بعدما دخلت في عملية سلام معهم؟ وعلى الأقل، كيف يمكن الجمع بين السلام مع حركة سياسية والإصرار على وصف هذه الحركة بالإرهاب في وقت واحد؟ إنها أسئلة ربما تدخل الإجابة عنها في باب المراجعة السياسية المطلوبة، حتى بنظر أتراكٍ كثيرين، ومن داخل حزب العدالة والتنمية نفسه.

الثابت أن معركة كوباني نقلت السجال الأميركي ـ التركي إلى مرحلة جديدة من تضارب الأولويات في الحرب ضد داعش، وكيفية وضع نهاية للأزمة السورية، والتعامل مع الصعود الكردي في المنطقة، من دون أن يعني ما سبق أن أنقرة وواشنطن ستوقفان العمل معاً تجاه هذه القضايا، فالتعاون من سمات العلاقات بين الجانبين، لا بحكم عضويتهما المشتركة في الحلف الأطلسي، بل بسبب طبيعة أهمية كل طرف للآخر من منظوره الاستراتيجي.

العربي الجديد

 

 

 

ما الذي يقلق إيران؟/ بكر صدقي

لا شك أن اجتياح قوات داعش للموصل، في العاشر من شهر حزيران الماضي، وما تلا ذلك من تداعيات، لم يكن مما يسر إيران التي تخوض معركتها المصيرية على المستوى الاقليمي – الدولي. لكن انخراط الإدارة الأمريكية عسكرياً، بعد انكفاء مديد، في شؤون الإقليم في إطار حرب جديدة على الإرهاب – المتمثل هذه المرة في «الدولة الإسلامية» – كان من شأنه أن يثير ارتياح نسختها الشيعية (الجمهورية الإسلامية الإيرانية) بما أن هذه الأخيرة وجدت نفسها في الخندق نفسه مع الولايات المتحدة في الحرب على داعش.

هذا ما كانه موقف عامل ولي الفقيه في «ولاية دمشق» بشار الكيماوي الذي رحب، على لسان وزير خارجيته وليد المعلم، بالتحالف الدولي ضد داعش، مع المطالبة بالتنسيق مع النظام في «العدوان على سوريا» كما قال. لكن ولي الفقيه كان له رأي آخر. وإذا كان قد تعاطى بإيجابية متحفظة مع المطلب الأمريكي بإطاحة نوري المالكي ثمناً لضرب داعش جواً في العراق لمصلحة بغداد، فقد وقف بصراحة تامة، هو وعامله في «ولاية الضاحية الجنوبية» حسن نصر الله، ضد شمول الضربات الجوية الأميركية مواقع داعش في سوريا.

التباين بين موقفي طهران ودمشق مفهوم، بالنظر إلى أولويات كل من النظامين. ففي حين تدرك طهران أن الانخراط الأميركي في سوريا، حتى لو استهدف داعش من غير النظام، من شأنه أن يضعف يدها في تقرير مصير سوريا ما بعد النظام الكيماوي، لا يفكر هذا الأخير بما هو أبعد من أنفه: إنقاذ يومه وحسب في حرب بلا نهاية.

من أبرز علامات القلق الإيراني من عمليات التحالف الدولي ضد داعش، في سوريا بخاصة، تصريحات نائب وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان بصدد الربط بين أمن إسرائيل وأمن النظام الكيماوي التابع لها في دمشق. هذه التصريحات المتطابقة مع ما قاله رامي مخلوف، في مطلع الثورة السورية، انطوت على دلالتي التحذير والوعيد، اللذين نقلتهما إيران إلى الإدارة الأمريكية كما قال عبد اللهيان. ولا نعرف ما كانه الرد الأمريكي، لكننا نعرف أن الوعيد تحول إلى حركة هجومية في اليمن باستيلاء العامل الحوثي لولي الفقيه على العاصمة صنعاء. وهكذا استثارت حركة الحوثيين رد الفعل المتوقع من منظمة القاعدة، لتستثير هذه بدورها الطائرات الأمريكية بدون طيار. ومن اليمن إلى لبنان: جاء الرد سريعاً من داعش والنصرة في طرابلس..

كأننا أمام لعبة شطرنج طرفاها الولايات المتحدة وإيران، على مسافة أقل من شهر من الموعد النهائي للمفاوضات النووية المكناة (إيران 5 + 1). الإدارة الأمريكية تبدو واثقة من سياستها، على رغم تلقيها انتقادات شديدة في الداخل والخارج على استراتيجيتها الغامضة، أو غياب الاستراتيجية لديها، في حربها على داعش. في حين تتصرف الجمهورية الإسلامية بعصبية واضحة، كأنها مستعجلة على خلق وقائع على الأرض، في الساحة الاقليمية، لتمتلك أكبر قدر ممكن من الأوراق في البازار الوشيك حول ملفها النووي ونفوذها الإقليمي.

اللافت في الأمر أن معسكر القلقين من النوايا الأمريكية غير المعلنة لا يقتصر على إيران وأتباعها، بل يشمل أيضاً خصوم المحور الإيراني الذين سارعوا أيضاً للتحرك المضاد في ليبيا كما في طرابلس الشام (والسودان!). وعلى رغم مشاركة السعودية وحلفائها في الغارات الجوية على مواقع داعش في سوريا، فهم لم يتلقوا أي ضمانات من الأمريكيين بشأن ما بعد داعش في سوريا، الأمر الذي يمكن قراءته من التصريحات اليومية الصادرة عن الائتلاف السوري المعارض وقيادة أركان الجيش الحر اللذين يشكوان من تجاهل الأمريكيين لهم و»عدم استشارتهم» بشأن الحرب على داعش.

في حين أن الموقف التركي يذهب إلى أبعد من مجرد الشكوك والقلق، لتظهر الخلافات بين واشنطن وأنقرة إلى العلن بمناسبة المعركة الدائرة في كوباني وحولها. الرئيس التركي الذي وعد، في نيويورك أواخر شهر أيلول/سبتمبر الماضي، بالانضمام إلى التحالف الدولي بعد تردده في اجتماع جدة، عاد إلى التشدد في شروطه بعد عودته إلى أنقرة. الحكومة التركية تريد وضع تصور متكامل لمصير سوريا، بما في ذلك إسقاط النظام الكيماوي، شرطاً للمشاركة الفعالة في الحرب على داعش. في حين لجأت الإدارة الأمريكية، كعادتها، إلى سياسة التجزئة: كوباني أولاً! بما يعني ذلك من استثمار النقمة الكردية في الداخل التركي على الحكومة بسبب تعنتها في عدم فتح ممر لنجدة المقاتلين الكرد في كوباني، للضغط على أردوغان.

كل هذا يشير إلى الأهمية الاستراتيجية لما سينتج عن المفاوضات النهائية حول الملف النووي الإيراني، على الأقل من زاوية نظر الإدارة الأمريكية التي تتطلع إلى إيران كشريك إقليمي موثوق تترك له إدارة شؤون الإقليم، مع ما تتطلبه هذه الشراكة من تنازلات مؤلمة من جانب إيران.

والحال هذه، من حق إيران وخصومها معاً القلق. أما الشعب السوري فوحده يدفع الثمن الباهظ على رقعة الشطرنج الدموية هذه، من غير حتى أن يرى ضوءًا في نهاية النفق الطويل.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

العسكر التركي في الواجهة من جديد/ رستم محمود

تبدو سياسات السلطة المدنية التركية وكأنها تجمع بين مناهضة مجمل السياسات الدولية في منطقتنا، على تناقضاتها. فتحالفها المكين مع قوى الإسلام السياسي بمختلف تنوعاتها، يضعها في مكانة مضادة للتوجهات الأميركية والأوروبية في المنطقة، حيث تبتغي هذه الأخيرة مزيداً من كبح وتنظيم «فوضى الإسلاميين» هؤلاء. كما أن معارضتها للنفوذ الإيراني وشبكة حلفائه الإقليميين، يضع هذه السلطات المدنية التركية في مواجهة السياسات الروسية أيضاً.

بذلك يغدو هذا التموضع التركي الراهن متبايناً تماماً مع ما شغلته تركيا طوال القرن العشرين، حين كانت تركيا وقتها حليفة القوى الغربية، وصمام أمانها لمنع تدفق النزعات الشيوعية نحو مناطق البحار الدافئة في الشرق الأوسط. ولم تكن – في الوقت ذاته – على عداء يذكر مع الاتحاد السوفياتي، لأنها كانت عامل تبريد للنزعات الإسلامية في الجمهوريات السوفياتية الجنوبية (الجمهوريات الإسلامية ذات العرق التركي).

الملاحظ بوضوح، أن السبب الرئيس لـ «انقلاب» الموقع السياسي التركي هذا، ناتج من انحسار دور المؤسسة العسكرية في رسم السياسات الاستراتيجية التركية وتحالفاتها العميقة. هذا الانحسار الذي نتج بالأساس من خسارة تركيا وزنها الاستراتيجي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتراجع مستوى الدعم الغربي للمؤسسة العسكرية التركية ودورها، الشيء الذي أدى بالتقادم، ومنذ ربع قرن، الى صعود «الإسلام السياسي» التركي وهيمنته على القرار الإستراتيجي في البلاد.

من غير المتوقع إن يكون الدعم الغربي للمؤسسة العسكرية التركية تقليدياً، كالتحريض على الانقلاب على السلطة المدنية الحاكمة مثلاً، كما حصل في مرات شهيرة في تاريخ تركيا الحديث. لكن المتوقع أن حزمة من أشكال الضغط ستمارسها هذه القوى الغربية على السلطة المدنية في القريب العاجل، ستصب كلها في مصلحة صعود دور المؤسسة العسكرية التركية. ذاك أن هذه المؤسسة وحدها تستطيع أن تغيّر «الموقف الاستراتيجي» للحكومة المدنية وتحالفها مع التيارات الإسلامية في الإقليم العربي شرق المتوسط. وهو التحالف الذي وصل إلى درجة تجعل الحكومة المدنية التركية تتمهل في لعب دور مؤثر في مناهضة تنظيم «داعش» وبقية التيارات العنفية الراديكالية، وهو ما يتعارض تماماً مع السياسات الغربية الراهنة في الإقليم.

يضاف إلى ذلك عاملان داخليان ضاغطان، فالحكومة المدنية هذه، تواجه لأول مرة كماً كبيراً من الاحتقان الشعبي الكردي، جراء سياسة حزب «العدالة والتنمية» من المعركة المستعرة في بلدة كوباني الكردية السورية، حيث سقط عشرات المنتفضين الأكراد لأول مرة منذ التسعينات، هذه التظاهرات التي كان يمكن لها أن تستمر لولا نداء زعيم حزب العمال الكردستاني ودعوته إلى التهدئة. وهي لو اندلعت من جديد، لأمكن أن تحرّض القاعدة الاجتماعية والسياسية العلوية على التحرك أيضاً، للتعبير عن الاستياء من سياسة حزب «العدالة والتنمية» في عموم المسألة السورية.

مجموع هذه التحركات على أساس الانقسام الاجتماعي الحاد، كان دوماً فاعلاً أساسياً تقليدياً لكي تحسم المؤسسة العسكرية حضورها، تحت يافطة «إنقاذ البلاد من التقسيم والحرب الأهلية».

هل مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والدستوري الذي وصلت اليه تركيا يشكل حاجزاً أمام أية أحلام للمؤسسة العسكرية بالعودة الى الحياة السياسية العامة، بحيث تغدو تركيا في عصر ما بعد الحياة العسكرية تماماً؟. ليس ذلك دقيقاً تماماً، فانقلابا الستينات والثمانينات جاءا عقب نهضتين اقتصاديتين وسياسيتين واسعتين، قادهما كل من عدنان مندريس وسليمان ديميريل على التوالي، ولم تكونا عوامل رادعة للمؤسسة العسكرية عن اتخاذ تدابيرها الخاصة. كما أن انقلاب أواسط التسعينات على نجم الدين أربكان، لم يكن انقلاباً تقليدياً واضح المعالم. لذا فإن الظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد، يمكن أن تكون دافعاً للمؤسسة العسكرية كي تتخذ خطوات استثنائية خارج السياق العام للتطور السياسي والاقتصادي العام، وألاّ تكون تلك الخطوات مجرد انقلاب كلاسيكي محض وواضح الملامح بالضرورة.

الحياة

 

 

 

 

التحالف الدولي لإنقاذ الأسد!/ عمر قدور

لنتخيل السيناريو التالي: مع أيلول/ سبتمبر 2012، غيرت لإدارة الأميركية جذرياً من نظرتها إلى “الربيع العربي”. ففي ذلك التوقيت تعرضت السفارات أو القنصليات الأميركية في بنغازي والقاهرة وصنعاء وتونس لاعتداءات تباينات شدتها، على خلفية بث فيلم عُدّ مسيئاً لشخصية الرسول محمد. ومن الجلي أن البلدان الأربعة على وجه التخصيص كانت خارجة لتوها من الثورات التي أطاحت أنظمة الاستبداد السابقة، وتلقت شعوبها مساعدات أميركية متفاوتة النوع والأهمية في سبيل ذلك. ومن إحدى المفارقات أن الهجوم الأعنف وقع على القنصلية الأميركية في بنغازي، أي في المدينة التي شهدت ذروة التحالف الدولي لإطاحة القذافي. في ذلك الوقت أيضاً، كانت قوات المعارضة تتقدم بشكل حثيث نحو الإطباق على العاصمة دمشق وتقطع طريق مطارها الدولي، وبدا أن معركة دمشق الفاصلة باتت على الأبواب، وفجأة ينقطع كلياً الدعم العسكري عن فصائل المعارضة، وينقلب الوضع خلال أشهر قصيرة ليحاصر النظام غوطتي دمشق، ويستخدم الأسلحة الكيميائية ضدهما بعد نحو سنة.

خلال سنة، بين التاريخين السابقين، مُنعت المعارضة السورية من الحصول عن كافة أنواع الدعم المجدية، باستثناء ما يصلها تهريباً ولا يسد جزءاً يسيراً من حاجتها للدفاع عن نفسها فقط. مسرحية تسليم سلاح النظام الكيماوي صارت مكشوفة للجميع فيما بعد، فأهم بنودها غير المكتوبة كان الإبقاء على النظام حتى ينتهي ملف الكيماوي، والسماح له باستغلال المهلة لتعزيز مواقعه العسكرية، وقد شهدت تلك المدة مشاركة مكثفة من حلفائه في الميليشيات العراقية واللبنانية بغية تحقيق هذا الهدف، ما أدى إلى سيطرتهم على مدن ذات طابع إستراتيجي للمعارضة. حدث ذلك من دون أدنى اعتراض دولي، مع أن الجناح العسكري لحزب الله مصنف كمنظمة إرهابية لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. رغم ذلك، لم يتمكن النظام من استعادة سيطرته، ومقابل المناطق التي استعادها كانت قواته تنهزم في مناطق أخرى. ذلك لم يمنع أوباما من الغمز من قناة مقاتلي المعارضة والقول في الشهر السادس من هذا العام بأنه لا يمكن لمزارعين وأطباء أسنان أن ينتصروا على الأسد. قول أوباما هذا يعتبر في اللغة السياسية طلقة موجهة مباشرةً إلى المعارضة، وإشارة إلى النظام مفادها أن في وسعه الانقضاض على أولئك المزارعين وأطباء الأسنان.

في خضم التطورات السابقة كلها، أتى تقدم داعش ليشكل أكبر تهديد محتمل لنظام الأسد، بصرف النظر عن ضلوع الأخير في إبراز الجماعات المتطرفة وحتى دعمها. ولأن التطورات التي رافقت تمدد داعش في العراق وسوريا لا تزال ماثلة في الأذهان لقرب عهدها، لا حاجة للتذكير بسرعة الإدارة الأمريكية على المستويين العسكري والدبلوماسي لمواجهة داعش. ولا حاجة للقول بأن داعش بات يمثل تهديداً مشتركاً للمصالح الأمريكية والأسد معاً. أما تهديد هذا التنظيم لعموم السوريين فلا يمكن اعتباره عاملاً مؤثراً لأن استهدافهم لثلاث سنوات سابقة من قبل النظام لم يدفع المجتمع الدولي لمساعدتهم. إن أهم ما تمخضت عنه إستراتيجية التحالف الدولي ضد داعش هو اتفاق مجموعة “أصدقاء الشعب السوري” المنضوية فيه على أن تنحية الأسد ليست أولوية، وعلى أن الأولوية المطلقة هي للقضاء على داعش، الأمر الذي يستدعي وقتاً طويلاً جداً يُقاس بالسنوات، وربما بعقود منها. أما قصة تدريب خمسة آلاف مقاتل من المعارضة المعتدلة، أيضاً ضمن برنامج يستغرق عشرات الأشهر، فمسألة مثيرة للسخرية حقاً، لكنها تتمم ما قاله أوباما قبل أشهر من عدم صلاحية المقاتلين الحاليين الذين ليسوا إلا مزارعين وأطباء أسنان!

إذاً، ما الذي فعلته الإدارة الأميركية سوى تقديم حبل الإنقاذ للأسد عند كل مأزق حقيقي وقع فيه؟! وما الذي كانت عليه “مجموعة أصدقاء الشعب السوري” سوى هيئة لضبط الأعضاء المتحمسين من دول أوروبية وإقليمية لإطاحة الأسد؟

ربما كانت استعادة الوقائع السابقة والأسئلة اللاحقة عليها تحيل إلى نظرية المؤامرة المذمومة، لكن نظرية المؤامرة تفترض وجود خفايا لا تعلم بها إلا دائرة ضيقة من النافذين. في حالتنا هذه لا حاجة إلى التخمين في ما وراء الكواليس. يكفي فقط بعض الفهم الجيد للتعابير والإشارات الدبلوماسي لاكتشاف المغزى الحقيقي لها. على هذا لا يصعب مثلاً اكتشاف أن التحالف الدولي ضد داعش هو في جزئه الثاني استكمال لاتفاق نزع الأسلحة الكيماوية من النظام مع ما يقرره ضمنياً من الإبقاء عليه. في أثناء الحرب على داعش ليس مطلوباً من النظام غير أن يتغير قليلاً بما يحفظ ماء وجه المتحالفين، بمعنى أن يؤهل نفسه ليكون شريكاً في تسوية سياسية قادمة، فأوباما صرّح مؤخراً بأن الأسد “لم يقل طبيب العيون” لا ينبغي أن يقود (بمفرده) العملية السياسية في سوريا.

تبقى مشكلة صغيرة أمام هذا التصور، أو بالأحرى هي معضلة كبرى، فالنظام أثبت حتى الآن لحلفائه قبل أصدقائه أنه عصي على محاولات إنقاذه. أقصى إنجاز للنظام، رغم الدعم المادي والبشري الضخم من حلفائه، أنه لم يسمح للثورة بالانتصار، لكنه لم يتمكن حقاً من تلافي عجزه عن الانتصار. لقد سُمح لحلفائه باستنفاذ كافة الوسائل لإنقاذه وفشلوا، فهل يملك التحالف الدولي الوصفة السحرية لفعل ما فشلت فيه روسيا وإيران من قبل؟

المدن

 

 

 

 

التحالف ضدّ الحلفاء.. داعش تتمدد/ حمزة المصطفى

خلافاً لآمال عقدت، وتمنيات بكسر جمود سياسيّ راكم مأساتهم وعمق جراحهم، وأطال تغريبتهم الممتدة منذ أربع سنوات، لم يحدث تشكيل تحالف دولي لمواجهة داعش وبدء الضربات الجوية في سوريّة تغييرًا جوهريًا في مسار الصراع ودينامياته. فالتحالف المنشأ، وكما بدا جليًا، كان تحالف الضرورة لا الاختيار، أنشئ سريعاً من دون استراتيجيّة متكاملة، وركز على تكتيكات عسكريّة، لمواجهة ظاهرة بالغة التعقيد كداعش، خلقت، أصلاً، في ظل عسكرتاريا طائفية.

غداة تشكيله، كتبت في “العربيّ الجديد” مقالة بعنوان “مستقبل التحالف الدولي في سورية”، خلصت فيها إلى “أن التحالف الدولي القائم، قائم على تناقضات دوله. وأن تناقضاته ستبقى رماد تحت جمرٍ، لا يعرف متى تنفخ الرياح فيها”. لم تتأخر الرياح طويلاً، وهبت عاصفة من عين العرب- كوباني، فنفخت في جمرٍ أذكت ناره الأضداد، وهشّمت صورة التحالف ومرتكزاته.

كانت معركة عين العرب- كوباني فخاً نصبه داعش للتحالف، قبيل بدء الضربات. فالتنظيم، قرأ بتمعن مواقف دوله وتوجهات سياساتها الخارجية وتضاد مصالحها، كما توضح في اجتماع جدة 11 سبتمبر/أيلول، ومؤتمر باريس 15 سبتمبر/أيلول الماضي، ولعب على وتر التناقضات بأن حصر أولوياته السورية عسكرياً في اقتحام المدينة ذات الغالبية الكرديّة، والتي تعد عصب مشروع الإدارة الذاتية لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، خشية توظيف الأكراد في قتاله، على غرار ما جرى في شمال العراق.

وعلى الرغم من أن تدمير الإدارة الذاتية، وإضعاف (PYD) عسكريًا، يصبان عملياً في مصلحة تركيا، فإن الأخيرة لم تكن مرتاحة لاستبدال خطر بخطر أكبر، لاسيما وأن داعش اكتسب زخما عسكرياً في الشهور الأخيرة، مكّنه من تغيير خارطة المنطقة برمتها. ولتعظيم منافعها، حاولت تركيا تقليد سلوك الإدارة الأميركيّة في العراق، بعد سقوط الموصل في 10 يونيو/حزيران 2014، والتي “وظفت” تقدم داعش، آنذاك، لإطاحة المالكي وكسر الهيمنة الإيرانيّة المطلقة على القرار العراقيّ، فأصبح تدخلها، ودورها “حاجة” لا يمكن الاستغناء عنها، لمواجهة التنظيم وطرده. وبناء عليه، وضمن فهمها لدورها ولأهمية موقعها الجغرافيّ، طرحت تركيا شروطها للتدخل في سوريّة؛ بإقامة منطقة آمنة، وحظر جويّ، ووضع هدف “إسقاط الأسد” في أولويات التحالف، لكن مسعاها اصطدم ببراغماتيّة أميركيّة أفشلته. وبدل مراعاتها وتفهم هواجسها، تجاوزت الإدارة الأميركيّة تركيا آنيًا، وفتحت اتصالات مع حزب الاتحاد الديمقراطيّ، ونسّقت مع ذراعه العسكري المتمثل بوحدات الحماية الشعبية (YPG)، ومدته جوًا عبر طائرات سي – 130 بحمولات تتضمن أسلحة ومواد غذائية وطبية، فأعاقت تقدم مقاتلي داعش، ومنعت سقوط المدينة، من دون أن تنجح في إزالة التهديد نهائيًا، ما دفع تركيا لتبني الخيار (ب)، والقائم على تقليص الخسائر واستبدال “العدو” بـ “صديق مكروه”، فأعلنت موافقتها على عبور مقاتلي البيشمركة إلى عين العرب – كوباني عبر أراضيها.

لا شك أن ضربات التحالف اليوميّة خلفت خسائر كبيرة في عتاد داعش وعديده، لكن الأخير كسب أولى الجولات وأهمها، فقد عرّى التحالف وأهداف دوله، وخصوصاً الولايات المتحدة، والتي أقر رئيسها بأن “إسقاط الأسد ليس أولويّة”، في حين تحدث وزير خارجيتها، جون كيري، عن “لا أخلاقية” ترك المقاتلين الأكراد من دون سلاح، وتجاهل، بلا أخلاقيته المعهودة، نداءات قوى المعارضة وفصائلها، لتزويدها في السلاح، لمواجهة قوات النظام والمليشيات الطائفيّة المتحالفة معها، وداعش أيضًا. من جهة أخرى، بدأ الوصف الداعشيّ للتحالف بأنه تحالف ضد الإسلام، ولخدمة إيران والأسد، يترسخ لدى شرائح شعبية واسعة في سوريّة، لاسيما بعد الرفض الأميركي الشروط التركيّة، وتسليحها الانتقائي مقاتلي وحدات الحماية الكردية دون سواها. كما دفع التقدم الميدانيّ لقوات النظام، في الأسابيع الأخيرة في مواقع استراتيجية، كما جرى في حلب ومورك وريف دمشق، فصائل من المعارضة السورية المسلحة إلى إعادة التفكير جديًا بمواقفها من داعش. فعدا عن انضمام مقاتلين وقيادات في جبهة النصرة وجيش الشام للتنظيم، وتوقيعه مع جبهة النصرة وفصائل أخرى في القلمون اتفاقًا لمواجهة حزب الله والجيش اللبناني، جمدت فصائل المعارضة معظم جبهات المواجهة والاشتباك معه، كما حصل في أحياء دمشق الجنوبيّة، والغوطتين، وجبهة اخترين في حلب. إلخ. ويؤكد ما سبق، إضافة إلى مؤشرات أخرى، كالسيطرة على قضاء هيت ومعظم محافظة الأنبار، أن التحالف لم يضعف داعش، بل زاد من قوته ماديا ومعنويًا.

لا يراعي التحالف، بأهدافه المعلنة، سوى المصالح الآنية المرتبطة بالبعد الأمنيّ للولايات المتحدة، ولا يحقق أيًا من مصالح الحلفاء الإقليميين، كانوا منخرطين فيه، مثل بعض الدول الخليجية، أو خارجه كتركيا والمعارضة السوريّة التي لم تدع، أصلاً، للمشاركة فيه. كما لا يخفى على مراقب أن استراتيجية التحالف أفادت النظام السوري، وحسّنت وضعه العسكريّ والسياسيّ، وعززت موقع إيران في الساحة العراقية، بعد سلسلة من الانتكاسات. فعلى الرغم من تشكيل حكومة جديدة، برئاسة حيدر العباديّ، فإنها عجزت، حتى الآن، عن اتخاذ خطواتٍ من شأنها رفع الحيف والظلم الذي لحق بالعراقيين من العرب السنة، أو تحقيق مطالبهم المرفوعة منذ سنتين على الأقل. في المقابل، رضخت هذه الحكومة للضغوط الإيرانية، فشرعنت المليشيات الطائفية التي كانت سببا رئيسًا في الأزمة الراهنة، ورفضت الاعتراف بانتهاكاتها وجرائمها، على الرغم من التقارير الحقوقية العراقية والدولية (جديدها تقريرا هيومن رايتس ومنظمة العفو الدولية)، وساوتها في “المكانة والمحاسبة” مع الجيش والقوات الأمنية، وجمّدت مشروع الحرس الوطني، كونها ترى في المليشيات الطائفية قوة محتملة وبديلة لملء الفراغ في المناطق “السنية” التي قد ينسحب منها داعش لاحقًا. لذلك، يخشى، أن يكون التدخل الأميركي العسكريّ المتجدد، وكما كان غزو العراق عام 2003، فرصة إيرانيّة لإعادة ترتيب المنطقة، بما يتوافق مع طموحاتها الامبراطوريّة، ومشروعها التوسعيّ، وبمساهمة عسكرية ومالية عربيّة وخليجية.

في هذا السياق، الدول العربية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعوديّة، مطالبة بمراجعة حساباتها وسياساتها، وتقييم نتائج تدخلها على مصالحها الوطنيّة على أساس حسابات الربح والخسارة في المنظور الاستراتيجي العام، وليس ضمن منظور المهاترات والاستقطاب الأيديولوجي القائم.

العربي الجديد

 

 

 

 

التحالف الدولي في مصيدة «داعش»؟/ بشير عيسى

حين يُقر الرئيس أوباما بأنه ليست لديه استراتيجية واضحة، في حربه على تنظيم داعش، وأنه وإدارته، ليسوا بصدد القضاء على التنظيم، وإنما سيجري العمل على إضعافه وتحجيمه، في مدة تتراوح بين عامين وثلاثة أو أكثر، وأن الأمر يتطلب تدريب «مقاتلين معتدلين» من المعارضة السورية لمواجهته، كون الضربات الجوية غير كافية لحسم الحرب، نصير بذلك أمام مشهد ضبابي، يستدعي طرح العديد من الأسئلة، علها تظهّر حقيقة المشهد.

من حيث الظاهر، فإن قيام تحالف يضم أربعين دولة، لمحاربة 20 ألف مقاتل من التنظيم، بحسب تقارير الاستخبارات الأميركية، أمر يجافي المنطق. وما يثير الاستغراب قول هنري كيسينجر «إن انشقاق 20 ألف مقاتل من القاعدة، لا يشكل خطراً على الولايات المتحدة»! فما الذي حدث، ودفع بالإدارة الأميركية لشن الحرب على التنظيم، هل هو هجومه على كردستان، أم ذبح الصحافيين الأميركيين، أم أن كلا الأمرين كانا الذريعة؟ ثم لماذا المسألة تحتاج لسنوات مع هكذا تحالف؟ هل تريد الولايات المتحدة القول لروسيا بأن خطوط النفط والغاز الإيراني ومعها العراقي، التي ستعبر العراق إلى الساحل السوري، مؤجلة حتى إتمام التسوية، على كافة ملفات المنطقة! أم هناك ما وراء الأكمة ما يوحي بأن واشنطن، قد قررت الاجهاز على التنظيم المنشق، بعدما اخترقته في شكل فاعل، الاستخبارات الروسية ومعها الإيرانية والسورية؟

كل هذه الأسئلة مشروعة سياسياً، والإجابة عنها رهن بموضوعية القراءة السياسية، وما يحمله قادم الأيام. ولكن أليس مرجحاً، وجود تواطؤ من الإدارة الأميركية، يناقض مصالح حلفائها؟ فلو نظرنا للقرارين 2170 و2178 المعنيين بمكافحة الإرهاب، واللذين صدرا مؤخراً عن مجلس الأمن، لرأينا كيف جاءا بما تشتهي سفن النظام السوري، لجهة ما كان يطالب به وفده في مفاوضات جنيف، من دون أن يقدم أي تنازل للمعارضة، بخصوص مشاركتها في شكل فاعل في مرحلة وحكومة انتقاليتين. وإذا نحينا جانباً، الخطاب العدائي الذي تنتهجه الإدارة الأميركية، شكلاً، حيال النظام السوري، وأمعنا النظر في المنعطفات والمفاصل التي تمر بها سياقات الأزمة السورية، وما أفضت إليه الأحداث أثناء تشكيل التحالف، وإعلام واشنطن المسبق لمندوب سورية في مجلس الأمن بقرار الضربات الجوية على مواقع «داعش» و»النصرة»، لرأينا في المضمون ما هو أكثر من التنسيق، وما قد يصل الى حد توريط الحلفاء العرب، ومن بعدهم الأتراك.

فتصريحات نائب الرئيس جو بايدن، التي حمَّل فيها حلفاء بلاده مسؤولية تنامي الإرهاب في سورية، لا يمكن فهمها في شكل دقيق إلا من خلال سياق الأحداث المؤسسة لها، ولكونها تأتي على خلفية التلكؤ التركي في محاربة «داعش». فما قاله، وإن اعتذر عنه، فيه مؤشر على تحول وحقيقة نوايا إدارته، على اعتبار أن الرئيس أوباما لم يعلّق على تصريح نائبه. وبعد أن كان الأسد «مغناطيساً يجذب الإرهاب» بحسب تعبير كيري، أصبح الإصرار على إسقاطه من قبل حلفاء الولايات المتحدة، السبب وراء تزايد وتنامي الإرهاب!

كما يعكس هذا الموقف محاولة تبرئة وتنصل من المسؤولية، أمام النخب السياسية والثقافية الأميركية، وبالتالي أمام الرأي العام، من خلال تحميل تبعات ما جرى للحلفاء، ووضعهم أمام مسؤولياتهم، وبالأخص لجهة الدور التركي المأزوم، الذي فرضه واقع اقتحام قطعان «داعش» لمدينة كوباني، وما نجم عنه من احتجاجات واستنكارات دولية رافضة للموقف التركي، والذي رأت فيه تواطؤاً سافراً.

فالأتراك يعلمون أن ضربهم لـ «داعش»، سيريح نظام دمشق وحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية، المقرب من حزب العمال الكردستاني، والذي تصنفه أنقرة كتنظيم إرهابي. كما أن تدخلهم سيخدم أكراد سورية في إدارتهم الذاتية لمناطقهم، ما قد يشجع كرد تركيا في استكمال مشروعهم، الهادف لإقامة دولتهم. في المقابل لن تجني حكومة أنقرة سوى عداء تنظيم «داعش»، وانقلاب البيئات الحاضنة لهذا التنظيم عليها، ناهيك عن تحرك الخلايا النائمة ضدها، وهو ما يضع موقفها بين فكي كماشة. ويدرك أردوغان أن دخوله لمحاربة الأسد من بوابة «داعش»، من دون موافقة واشنطن والناتو على إقامة منطقة عازلة وحظر جوي فوقها، إنما يعني تورطاً في المستنقع السوري لا طاقة لتركيا وحدها على حمله. وبذلك سيخسر أردوغان حربه قبل أن يبدأها، إذ لم يطل عنب الشام ولا بلح اليمن. فيما يبدو ان غريمه الإيراني قد سبقه في الوصول لكليهما. وحتى الورقة الكردية التي كان يحاول الإمساك بها، قد انتزعتها الولايات المتحدة وإيران، بعدما حمتا كردستان من «داعش». ومع رفض وتجاهل أردوغان لطلب المبعوث الأممي دي مستورا، والمتعلق بدخول عناصر حزب العمال الكردستاني لإنقاذ كوباني، يكون الصراع قد عاد للمربع الأول، بحيث ستكتفي أنقرة مكرهةً، بتدريب وتسليح المقاتلين المعتدلين!

يبقى أن نشير الى مسالة في غاية الأهمية، تتعلق بإعلان التحالف لمقاتلة «داعش»، ثم ضرب المقاتلات الأميركية لمواقع «جبهة النصرة» وتنظيم خراسان، بأنها قد وحدت كل هذه القوى، الأمر الذي أحدث إرباكاً خلخل معه فصائل «الجيش الحر»، لا سيما تلك المتحالفة ميدانياً مع «جبهة النصرة». والسؤال، هنا، ماذا يمكن المقاتلين المعتدلين فعله، مع تغير الخريطة الدرامية على الأرض، في وقت يقطف فيه الجيش النظامي ثمارها؟ هذا ناهيك عن أن قيام دول التحالف، بالشكل الذي أدارته واشنطن، قد أعطى «الحجة الشرعية» لـ «داعش» و «القاعدة»، لإعلان الجهاد عليها، ما يعني ضمناً تخفيف الضغط الجهادي، عن حكومتي بغداد ودمشق!

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

تركيا والحرب على داعش/ سلامة كيلة

تقف تركيا مترددة في المشاركة في “التحالف” الذي تشكّل من أجل الحرب ضد داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، أو بدقة أكبر نرى أنها تعتقد أن أميركا ستكون بحاجة إليها لأن الحرب ضد داعش لن تحسم بالقصف الجوي، بل ستكون بحاجة لقوات برية، وهنا ستكون أميركا مضطرة للتفاهم مع تركيا.

ولذا وضعت شروطا للمشاركة أساسها أن الحرب يجب أن تستهدف النظام السوري كذلك، وأن الهدف يجب أن يكون إسقاطه وليس التخلص من داعش فقط، ولا شك أنها الدولة الوحيدة التي تمتلك قوة عسكرية قادرة على التدخل، ويبدو أن تركيا تريد ذلك، لكن ليس بأي ثمن، بل تهدف إلى تغيير النظام السوري بالتحديد.

وربما كانت هي الوحيدة التي تمتلك هذا الطموح، لأنه لا يبدو أن أميركا قد طرحت على ذاتها هذا الأمر إلى الآن، وربما يتعلق الأمر أيضا بتطورات الوضع في العراق، وبالتفاهم الممكن مع إيران.

ربما هذا التوقّع هو الذي يجعل تركيا تتشدد في رفض المشاركة دون الموافقة على شروطها، لأن الموافقة على هذه الشروط يعني أن تحدد تركيا طبيعة النظام السياسي الجديد في سوريا، ولتشددها “تاريخ” كذلك، حيث اكتشفت بعد عام من الثورة السورية أن لأميركا سياسة لا تصبّ في مصالح تركيا التي كانت تريد تغيير النظام السوري لمصلحة قوى معارضة “حليفة” لها، بينما ذهبت أميركا للتفاهم مع روسيا على حل يعطي الأولوية للسيطرة الروسية على النظام الجديد.

تركيا الآن تعتقد بأنه باتت أمامها فرصة جديدة لكي تعيد فرض شروطها، وبالتالي أن تكون هي من يقرر من يحكم في دمشق. هذه مسألة حاسمة بالنسبة لها، ولهذا ستقاتل من أجلها، نتيجة أن لسوريا أهمية كبيرة في منظور السياسة التركية التي قررها أردوغان منذ أكثر من عقد، والتي أتت رياح الثورة السورية لتعصف بها.

ورغم ضغوط أردوغان على بشار الأسد لكي يجري تغييرا مهما في السلطة لمصلحة تشكيل “دولة تعددية”، فإن بنية النظام السوري لم تكن تسمح بأي تنازل، حتى إن كان هامشيا كما ظهر أصلا في “السياسة الإصلاحية” التي قام بها بشار الأسد، وهو ما جعل تركيا في ورطة، خصوصا أن الأمور لم تكن واضحة في أي مسار تسير سوى أن الثورة سوف تفرض تغيير النظام.

لهذا قررت بعد حوار وضغط لثلاثة أشهر أن تنقلب سريعا وتكون مع الثورة، لكن مع تحضير بديل يخضع لسيطرتها، هو المجلس الوطني المسيطَر عليه من قبل جماعة الإخوان المسلمين.

لقد حصل أردوغان على “امتيازات” كبيرة من بشار الأسد فترة “الصداقة الشخصية” بينهما، حيث وقّع الطرفان تحالفا إستراتيجيا، شمل تشكيل سوق حرة، الأمر الذي جعل سوريا سوقا مهمة للاقتصاد التركي، وممرا مهما للسلع إلى الخليج، إضافة إلى الامتياز السياسي الذي حصلت عليه تركيا في سعيها لأن تهيمن على سوق الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي دفعها لرفع وتيرة “الصراع” مع الدولة الصهيونية حينها. فقد كانت تسعى لأن تصبح “قوة عالمية” كما صرح “وكتب” داود أوغلو قبل سنوات. ولا شك أن ذلك يحتاج لأن تصبح هي القوة المهيمنة في “الشرق الأوسط”، فذلك هو ما يعزِّز اقتصادها وحضورها العالمي، وبالتالي يفرضها فعلا قوة عالمية.

سنلاحظ بأن كل هذا الطموح كان يتمحور حول “كسب سوريا”، التي هي إضافة إلى أنها سوق مهم، ودولة مهمة، هي الشريان الذي ينشط علاقة تركيا الاقتصادية بالخليج.

ولهذا كانت تركيا معنية بأن يكون البديل عن النظام القائم نظاما يرتبط بها لكي تستمر في تكريس كل الامتيازات التي حصلت عليها من نظام بشار الأسد، وهي كبيرة ومهمة. وبهذا يمكنها أن تتحوّل إلى “قوة عالمية”.

ولهذا أيضا ارتبكت حين وجدت أن أميركا تساوم روسيا على سوريا، فأسهمت في دخول “الجهاديين” من أجل أن تربك التوافقات التي كانت تجري بين كل من روسيا وأميركا، لكن عجز روسيا عن الاستفادة من التفاهم مع أميركا لترتيب بديل عن بشار الأسد خلال مؤتمر جنيف2، ومن ثم انكفاؤها بعد انفجار الصراع في أوكرانيا من جهة، ومن ثم عودة أميركا لكي تتدخل في ترتيب وضع المنطقة من جهة أخرى؛ جعل تركيا تعتقد أنه يمكن أن تعيد فرض شروطها، وتحظى بموافقة أميركية لأن تتولى ترتيب وضع النظام الجديد في سوريا.

هذا ما يجعلها تشترط، وترفض المشاركة دون موافقة أميركية على شروطها. لكن، ولتحديد إمكانيات ذلك، لا بد من طرح سؤالين: الأول هل أميركا جادة في سحق داعش، وبالتالي تحتاج فعلا لقوى برية من أجل ذلك؟ والثاني هل تريد أميركا فعلا تغيير النظام السوري؟ وإذا كانت تريد ذلك هل ستفعل ذلك بالتفاهم مع تركيا أو يمكن أن تفعله بالتفاهم مع إيران، أو أن تبقي المجال لدور روسي؟

ما يقوله المسؤولون الأميركيون هو أن المطلوب هو تحجيم داعش وليس إنهاؤها، وأن التركيز هو على وضع العراق وما يجري في سوريا من ضربات هو لقطع الإمداد عن داعش في العراق، وعليه فإن أميركا ربما لا تريد قوات برية.

وكما أشرنا في مقال سابق فأميركا تضغط من أجل التفاهم مع إيران، حيث تريد تحقيق “استقرار” الخليج عبر ذلك، ومن ثم فهي تريد تعديل وضع السلطة في العراق لمصلحة توافق أميركي إيراني، وبعد ذلك ربما تفكّر في معادلة مماثلة في سوريا، وبالتالي إذا ارتأت بأنه يمكن تغيير وضع السلطة في سوريا فسيكون ذلك بالتفاهم مع إيران بالأساس وليس مع تركيا، أو أن يتحقق تفاهم مع أطراف في السلطة مباشرة فتقوم هي برعاية التغيير لمصلحتها.

انطلاقا من ذلك ربما لا يتحقق تفاهم مع تركيا، ومن ثم تترك دون أن تحقق شيئا سوى استثارة الأكراد نتيجة “تخاذلها” في دعمهم في عين العرب، كما قد تبدو شروطها بلا معنى لأن أميركا أصلا لا تريد تدخلا عسكريا في سوريا كما يبدو أكثر من الضربات الجوية، ولعل هذا ما يجعلها تشير إلى حرب طويلة، وتدعو إلى تدريب بضعة آلاف من المقاتلين السوريين على مدى زمني ليس بالقصير، رغم أن الأمر هنا يحتاج إلى سلاح نوعي وليس إلى تدريب مقاتلين فقط.

يبدو أن الهدف الأميركي، إلى الآن -على الأقل- يتمثل في إرباك تركيا، وربما جرها إلى حرب لا معنى لها، لأن كل الحرب على داعش تأخذ شكلا “مظهريا”، أو ربما تسعى إلى زعزعة وضعها في سياق تصور مستقبلي، هي أصلا ليست مستعدة له نتيجة ضعفها الاقتصادي، وعجزها عن استخدام قواتها البرية بعد التحولات التي تبعت الانهيار المالي (والذي يبدو أنه سيتكرر في فترة قريبة)؟

أما تركيا فتعاود طرح طموحها الذي تعتقد أنه الضرورة التي ستجعلها قوة مهمة، فهي تعتقد بأن أميركا ستضطر للموافقة على شروطها نتيجة حاجتها لإنهاء داعش، وهي هنا تنطلق من أساس خاطئ في التحليل. لكنها في كل الأحوال لا تستطيع المشاركة في “الحرب” على داعش وفق المنظور الأميركي الذي يتجاهلها أصلا، ويركّز على إيران بدلا عنها.

لقد كانت أهمية تركيا قائمة حينما كانت أميركا تريد وقف التمدد الشيوعي جنوبا، أما اليوم فهي تريد حصار الصين بعد أن انتهى “الخطر الشيوعي”، ولهذا تحتاج إيران أكثر.

يعني هذا أن تركيا في مأزق كبير، وفي وضع حرج، حيث إن استمرار الصراع في سوريا بالشكل القائم عبر “الحرب على داعش” ربما يؤدي إلى إعادة الحرب إلى تركيا ذاتها. لكنها في الوقت ذاته لا مصلحة لها في دخول حرب ضد داعش من الواضح أنها شكلية إلى أبعد الحدود، وقد تورطها في مشكلات دون أن تحقق لها نتائج مفيدة، لأن الحرب في نهاية المطاف هي “لعبة أميركية” لأغراض سياسية ليست في صالح تركيا.

أظن أن مشكلة تركيا كانت في أنها تعاملت مع الثورة السورية من منظور ضيّق قام على أساس ترتيب سلطة بديلة تابعة لها، في وضع كانت فيه الأحزاب التي اعتمدت عليها غير جديرة بأن تكون قيادة للثورة، وعلى العكس من ذلك كانت ضارّة لأنها بنت سياساتها على أساس صراع غريزي ضد السلطة وبمنظور طائفي، كانت السلطة السورية بأشدّ الاحتياج إليه لتأكيد خطابها الذي قام على طائفية الثورة. وبالتالي كانت تركيا تضع ذاتها في المأزق من الأساس.

الجزيرة نت

 

 

 

 

معادلة كردية جديدة!/ علي العبدالله

مع إطلاق الدخان الأبيض، بعد اجتماع دام تسعة ايام في مدينة دهوك، بالإعلان عن اتفاق المجلس الوطني الكردي وحركة المجتمع الديموقراطي، تكون معادلة كردية سورية جديدة قد ولدت.

ما الذي حصل ولماذا؟

تم الاتفاق، وفق ما سُرب، على تشكيل مرجعية سياسية وإدارية جديدة بنسب متساوية (40 في المئة للمجلس الوطني الكردي و40 لحركة المجتمع الديموقراطي و20 للمستقلين)، وتوحيد مناطق الإدارة الذاتية التي سبق تشكيلها من قبل حزب الاتحاد الديموقراطي عام 2013، وتشكيل قوة عسكرية مشتركة، على ان يتم اجراء انتخابات لاختيار برلمان كردي سوري جديد.

وهذا، ان صح ما سُرب، تغيّر كبير في موقف حزب الاتحاد الديموقراطي لجهة القبول بإشراك أحزاب كردية في القرار السياسي للإدارة الذاتية، والقبول بوجود قوة عسكرية تشترك مع «قوات حماية الشعب» و»قوات حماية المرأة» التابعة له في هذه المناطق.

واضح ان المفاوضات كانت صعبة وحساسة، والاتفاق ما كان ليتم لولا قبول حزب الاتحاد الديموقراطي بالتخلي عن مواقفه السابقة وسياسته القائمة على الانفراد في الحُكم واعتماده سياسة قمعية ضد معارضيه السياسيين والاجتماعيين (اغتيال واعتقال ونفي خارج المناطق).

وجد حزب الاتحاد الديموقراطي نفسه في موقف دقيق وخطير جسدته تصريحات السيد صالح مسلم، الرئيس المشترك للحزب، حيث طالب تركيا، التي طالما اعتبرها عدوة للشعب الكردي، بالتدخل لمنع سقوط المدينة وحمّل الجميع مسؤولية ما سماه الإبادة الجماعية. فقد عجز عن صد هجوم تنظيم «داعش» الإرهابي على مدينة كوباني، وكادت المدينة تسقط، وسقوطها سيعني فشله في حماية الكرد في مناطق الإدارة الذاتية التي شكلها. وحلفاؤه ورعاته ليسوا في وضع يسمح لهم، لاعتبارات جغرافية وسياسية، بنجدته، والذين يستطيعون تقديم الدعم ومنع سقوط المدينة يريدون ثمناً لذلك: فك ارتباطه بالنظام السوري، الذي عقد معه صفقة سلّمه بموجبها ادارة المناطق الكردية في مقابل الإبقاء على وجود علني للنظام في هذه المناطق ومنع الكرد من الانخراط في الثورة السورية، وكذلك مشاركته مع قوى المعارضة في العمل على اسقاط النظام (مطالب قدمتها تركيا لمسلم خلال اجتماعه الأخير مع مسؤولين من الخارجية التركية في اسطنبول، وكررت بعضها الإدارة الأميركية خلال لقاء مسلم مع منسق التحالف الدولي الجنرال الأميركي جون آلن في باريس).

ومع ان شيئاً رسمياً عن نتائج لقاءات مسلم مع الأتراك والأميركيين لم يعلن الا ان ما تم على الأرض يشي بأن اتفاقاً ما قد حصل، حيث صوّت البرلمان التركي على السماح بمشاركة عسكرية تركية في القتال ضد «داعش»، والسماح لقوات اجنبية باستخدام الأراضي التركية في الحرب على التنظيم الإرهابي، تلاه السماح بمرور قوات من البشمركة عبر الأراضي التركية الى كوباني، وبدء غارات طيران التحالف تركيز قصفها على قوات «داعش» في محيط كوباني وداخلها، ثم اسقاط اسلحة وذخيرة ومواد طبية لقوات الحماية الكردية وكتائب الجيش الحر التي تشارك في الدفاع عن المدينة.

غير ان علامات استفهام وأسئلة كثيرة حول تنفيذ الاتفاق لها مشروعيتها تُطرح في ضوء نكث حزب الاتحاد الديموقراطي بوعوده وتهربه من تنفيذ اتفاقات سابقة (اتفاقيتي هولير)، والاتفاق الأخير هو الثالث بين الطرفين. فالحزب الذي يرتبط بعلاقة سياسية وعقائدية مع حزب العمال الكردستاني، الذي دعمه النظام السوري طوال عقد الثمانينات والذي يتلقى دعماً ايرانياً للضغط على تركيا، لإجبارها على تغيير موقفها من النظام السوري، لن يقبل بالاتفاق لأنه اشرك خصومه الكرد، وبخاصة البارزاني، في ادارة المناطق وجعلهم شركاء، بعد ان اصبحوا منقذين، ما يعني ضرب أنموذجه للحل في تركيا، وهو يريح الأخيرة في مفاوضاتها معه حول المصالحة الوطنية. والنظام السوري، حليفه اللدود، لن يقبل بإجراءات تمنح الأحزاب الكردية المشاركة في الائتلاف، وبالتالي الائتلاف نفسه، موطئ قدم وشرعية دولية اضافية. كما ان ايران لن تقبل بذلك، لأن الاتفاق أعطى حلفاء تركيا من الكرد (البارزاني) دوراً كبيراً في مستقبل المناطق الكردية السورية، ما سيزيح ضغطاً عن كاهل تركيا ويفتح لها باباً للولوج الى هذه المناطق (نقلت وسائل الإعلام تصريحات لأعضاء في الحزب المذكور تنفي حاجتهم لمقاتلين كما وتنفي الاتفاق مع الجيش السوري الحر للقدوم والمشاركة في القتال في كوباني).

ونحن في انتظار التوقيع على الاتفاق وإعلانه وتنفيذ بنوده وولادة معادلة كردية سورية جديدة تفتح على توافق سوري معارض، والدخول في حوار مع بقية المكونات التي استفزها فرض الإدارة الذاتية كأمر واقع ودفعها الى التحرك لتشكيل هيئات خاصة (العرب والآشوريين الكلدو سريان) تعزز فيه وضعها في هذه المناطق على أمل دحر الإرهاب والتخلص من الاستبداد وولادة سورية حرة وديموقراطية.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

المشهد في كوباني: نقاش مع رفاق “غير متحمّسين”/ ورد كاسوحة

التقدير الاستراتيجي يقدّم لنا في حالة كوباني معلومات وافية عن ارتباط «داعش» والأكراد بالتحالفات الدولية (أ ف ب)

لا يوجد في سوريا حالياً مشاهد يمكن التعامل معها بوضوح كامل. ثمّة تحالفات تتغيّر باستمرار، وثمّة وقائع ميدانية تفرض نفسها على أيّ «قراءة مسبقة» لهذه التحالفات. وإذا كان الأمر سهلاً بالنسبة إلى الطرفين المهيمنين على المشهد حالياً، وأقصد بهما النظام و»داعش»، فهو ليس كذلك أبداً بالنسبة إلى الأطراف التي اختارت أن تكون ضدّ الهيمنة القائمة بشقّيها النظامي والمسلح.

أمام هؤلاء احتمالات محدودة ولكنها ممكنة، ولكي تصبح أكثر إمكانية عليهم أن يبذلوا مزيداً من الجهد في تفسيرها، بحيث لا تبدو لمن يحكم على المشهد من الخارج طوباوية أو منحازة إلى تفسيرات إرادوية بحتة. لدينا مثلاً معركة كوباني التي ينظر إليها البعض (وأنا منهم) بتفاؤل كبير ويعتقدون بقدرتها على فتح طريق ثالث للصراع في البلد لا تكون اليد العليا فيه لأيّ من القوتين المسيطرتين حالياً. يمكن من هذه الزاوية اعتبار هذه القراءة واقعية، وفي الوقت ذاته تملك ممكنات أخلاقية كثيرة، لكنها بالنسبة إلى آخرين لا يولونها الأهمية المطلوبة، تبدو متناقضة وعلى قدر كبير من «الاختزال والسطحية». ليس من شأننا الحكم على هذه الآراء خارج منطقها الذاتي، فهي بالنسبة إلى أصحابها تبدو معقولة، وتعتمد على قراءة استراتيجية للصراع يظهر فيها الفاعلون الداخليون وكأنهم أقلّ شأناً من القوى الإقليمية والدولية التي تدير المشهد عن بعد. هذا المنطق ليس جديداً ولا يمكن اعتباره أفضل من سواه، غير أنه يضع أمام المؤمنين بقضية كوباني احتمالات للمعركة قد لا تكون جيّدة بالضرورة. وهو ما يدعونا إلى مناقشته بجدّية بعيداً عن المفاضلة التي يسهل إجراؤها على الورق وبالضدّ أحياناً من الواقع الذي يتغيّر يومياً.

سؤال التحالفات

يعتبر أصحاب المنطق أعلاه أنّ التحالفات التي «تسير في ضوئها» المعارك بين «داعش» ووحدات حماية الشعب هي التي تحدّد طبيعة الصراع، ومن هنا يجدون أنه محكوم «بأفق زمني» لا يتعلّق بقدرة الطرفين على تصعيد الغزو أو المقاومة، بل بقرار يصدر عن القوى التي تتولّى إدارة الصراع بالوكالة.

لا يتحدّد الموقف من كوباني بالدفاع عنها فقط بل بالسياق العام للمعركة

الأرض التي يدور عليها الصراع تصبح في هذه الحالة قطعة جغرافية تغيب معها إرادة القتال، ويتحوّل هذا الأخير إلى شيء مبهم يستحيل تقديره من المتابعة الميدانية وحدها. لا شكّ أنّ التقدير الاستراتيجي يقدّم لنا في حالة كوباني – عين العرب معلومات وافية عن ارتباط «داعش» والأكراد بالتحالفات الدولية، وبالتالي يضع إطاراً للمعركة يختلف جزئياً عن الإطار الذي يوفّره الانحياز المسبق إليها من موقع التضامن مع المقاومة الشعبية فيها. المشكلة أنّ هذه المعلومات «لا تعود مهمّة» لاحقاً، فبحكم تغيّر الواقع القتالي يوميّاً ودخول أطراف جدد إلى المعركة (مثلاً لواء «ثوار الرقة» الذي يقدّم مساهمة متواضعة ضمن إطار ما يعرف بعملية «بركان الفرات» مضافاً إليه شراذم «الجيش الحر» التي وافق حزب الاتحاد الديموقراطي على دخولها كوباني أخيراً) تتراجع فعالية «المعلومات المسبقة»، ويصبح ربطها مع السياق الذي تجري فيه المعركة أصعب مع الوقت. حتى الآن تظلّ المعلومات تلك بحاجة إلى تدقيق، وهي للتذكير تؤكّد اندراج الأكراد المدافعين عن كوباني في التحالف الإمبريالي بطريقة من الطرق. فبحسب المعطى الاستراتيجي الذي يقدّمه الرفاق، لا يتحدّد الموقف من كوباني بالدفاع عنها فقط، بل بالسياق العام الذي تجري فيه المعركة، ومن الواضح بالنسبة إليهم أنه سياق يرتبط بتناقضات داخل التحالف الإمبريالي ذاته (تركيا، أميركا، البشمركة الموالية للبرزاني… إلخ). لا يبدون مهتمّين بتناقضات أخرى داخل المكوّن الكردي (أظن أنها أساسية وفارقة، رغم حصول الاتفاق في دهوك بين الأكراد، وبالتالي محاولة «تجاوزها» وجعلها ثانوية)، ويعتبرونها غير مؤثّرة بقوة الدفع الخاصّة بالمقاومة. فبالنسبة إليهم، تتساوى قوى البشمركة المسؤولة عن تسليم مدن عراقية كبرى (نينوى مثلاً) إلى «داعش» مع وحدات حماية الشعب التي لا تزال تقاوم التنظيم وتصعّب عليه مهمّته منذ شهر ونصف شهر على الأقلّ. أيضاً، يعتبرون البرزاني الذي يحكم كردستان بالتوازنات التي يمليها طابع المقاطعة الإقطاعي والمرتبط برؤوس الأموال الغربية مشابها لقيادة صالح مسلم التي حافظت على تماسك المجتمع المحلّي في مناطق الإدارة الذاتية وجنّبته التدمير على يد النظام أو القوى الوهابية «المحتلة» للجزيرة وشمال حلب. «من الطبيعي» أن تُهمَل هذه التناقضات في القراءة الاستراتيجية للصراع، فالتحالف الإمبريالي وفقاً لها لا يتطوّر باتجاهات مختلفة، بل يقوده «سمت» أساسي باتجاه النظام في سوريا وحلفائه الإيرانيين والروس. في المبدأ هذا صحيح، فالتحالف يبني استراتيجيته البعيدة على أساس الصراع مع روسيا وإيران وحزب الله، ولكنه في الحقيقة يواجه تحدّيات جسيمة، ويتعذّر عليه في الظرف الحالي تذليلها بدون معونة الحلفاء الإقليميين. من هنا نفهم «تطوّر» العلاقة بينه وبين تركيا، فالأخيرة رفضت الدخول في التحالف بداية، ثم وافقت مشترطة لهذا الدخول بنوداً أربعة قبل أن تعود «للرفض» على لسان أردوغان الذي قال أخيراً إنّه لن يحارب «داعش» عبر «تسليح» قوّات الاتحاد الديموقراطي التي يعتبرها حليفاً أساسياً لحزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان. هذا التذبذب لا يدلّ على وضوح في الرؤية الاستراتيجية، ويسمح «للنظرية» التي تقول بغلبة الواقع على الاستراتيجيات بأن تتطوّر أكثر. الواقع بحسب هذه «النظرية» يتغيّر يومياً ويفرض على قيادة التحالف الإمبريالي تعديل سياساتها بما يتلاءم مع الأحداث الميدانية. فهي مثلاً لم تكن متحمّسة لتسليح الأكراد في البداية، وتركتهم تحت وطأة حصار «داعش» المدعوم تركياً لأكثر من أسبوعين، ولم تتغير «استراتيجيتها» إلا حين تبيّن لها أن مقاومتهم للحصار قد فاقت التوقّعات. بمعنى أنهم عبر المقاومة البطولية أجبروها على ذلك، ولم يتركوها تفعل ما تريد ببيئتهم. عند هذه النقطة حصل التحوّل الذي أساء البعض فهمه وعدّوه نهاية لاستقلالية القرار الكردي الذي يقود المقاومة المسلّحة ضدّ «داعش» وتركيا. اعتبروا الأمر كما يفعل معظم الخبراء الاستراتيجيين تغيّراً استراتيجياً في التحالفات الكردية، ولم يتعاملوا معه على أساس أنه تكتيك فرضته موازين القوى التي مالت إلى مصلحة قوّات حماية الشعب في لحظة تخلّي العالم بأجمعه عنهم (أليست هذه معجزة يا رفاق؟ صنعها حزب الله من قبل وبعده مقاومة كتائب القسام وسرايا القدس في غزة، فلماذا نستكثرها على الأكراد؟). لا أدري ما هي الخيارات الأخرى الممكنة لديهم في لحظة كهذه. لا النظام السوري قادر على مساعدتهم (هذا إن أراد أصلاً، وأؤكّد مجدداً انعدامَ إرادته)، ولا إيران التي صرّحت بأنها مستعدّة لدعمهم، ولكن لفظياً وفي سياق محدّد يرتبط بمناكفة تركيا التي تحاصرهم وتدعم «داعش». في هذه اللحظة التي تتساوى فيها إرادة الموت والحياة، يصبح من الصعب في ظلّ انعدام الخيارات ألّا يقدم المرء على التنازل جزئياً، وأظنّ أنه لم يكن تنازلاً متدحرجاً كما يعتقد صديق ورفيق عزيز، بدليل أنهم حتى الآن لم يُستعمَلوا في سياق خطّة التحالف الإمبريالي لتحطيم البيئات الاجتماعية الحاضنة لداعش أو المرغمة على احتضانه. بقي «الاستخدام» الذي يتحدّث عنه الرفاق وألومهم جداً عليه في إطار التقاطع الجزئي والمحدود مع الغارات التي تشنّها الطائرات الأميركية، ولم يتعدّ حتى اللحظة هذا الحدّ.

اتفاقية دهوك ودخول البشمركة وشراذم «الجيش الحرّ»

الآن لدينا معطى جديد اسمه اتفاقية دهوك التي تنصّ على تشكيل قيادة سياسية موحّدة لأكراد سوريا، وفي ضوئها يصبح ممكناً توقّع «الأسوأ» بالنسبة إلى المقاومة في كوباني. استمرّت المفاوضات بشأنها – أي الاتفاقية – لأسبوع تقريباً، وخرجت بعد مداولات عديدة بنتائج قد تسعف المدينة المحاصرة على المدى القصير، لكنها لن تعود بعدها كما كانت من قبل. مثلاً تنصّ الاتفاقية على إشراك المجلس الوطني الكردي الذي ينسّق منذ فترة مع تركيا وكردستان والمعارضة السورية التابعة للغرب في الإدارة الذاتية المقامة في كوباني – عين العرب وعفرين والقامشلي، وهو أمر لطالما رفضه الاتحاد الديموقراطي الذي يدير هذه المناطق ويشرف على حكمها عبر مجالس تمثيلية منتخبة. قبوله به اليوم يؤكّد أنه إجراء اضطراري لفكّ الحصار عن المدينة وتفادي «مزيد من الخسائر» في صفوف المقاومة. لكن هذا لا يعني أنه ذو طابع رمزي، فهو مع الوقت وبعد انتهاء المعركة سيغيّر في بنية الإدارة الذاتية للمناطق هناك، ويحاول جعلها شبيهة بإدارة كردستان العراق، إن من حيث التحالفات أو نمط الحكم أو… إلخ. كلّ المؤشرات تقول إنّ هذه هي الطريقة الجديدة التي يعتمدها التحالف الإمبريالي وحلفاؤه للإطباق على المدينة واحتوائها، فبعد فشل «داعش» في اجتياحها أصبحت كلّ الخيارات متاحة، بما في ذلك تطويقها من الداخل عبر أعدقاء من البشمركة وشراذم «الجيش الحر» و… إلخ.

يلومني الرفاق على استخدام منهجية في التحليل تضع الواقع في سياق متغيّر وتحكم على ما يقولون من خلاله، وها أنا عبر فعل الشيء ذاته أصل إلى نتيجة ستنعكس سلباً على المقاومة البطولية التي دعمتها بقوّة منذ هجوم «داعش» على المدينة. هذا هو التغيّر الاستراتيجي في رأيي وليس التقاطع الجزئي مع غارات التحالف الإمبريالي. تغيّرٌ سيفكّ الحصار مؤقّتاً عن المدينة من خلال السماح لقوّات البشمركة (يقال إنها ستكون في عداد مئتي مقاتل أو أقلّ!) بالدخول إليها عبر تركيا، غير أنه سيفتح في المقابل الباب على مساومات عديدة بشأن اتجاهها السياسي. لا أحبّذ طبعاً مصادرة الاحتمالات منذ الآن، وأحترم في الوقت ذاته خيارات الأكراد في جعل وحدتهم السياسية ممكنة، على أن يكون المعيار في هذه الخيارات واضحاً. وهذا على أيّ حال أمر تحكمه التطوّرات على الأرض، فكما غيّرت – أي التطوّرات – سياسات التحالف الإمبريالي قد تفعل الأمر نفسه مع التوجّه الذي يتّبعه البرزاني والأحزاب الموالية له في سوريا. وان لم تفعل، فسيصبح ممكناً عندها انتقاد السياسات والتحالفات التي نتجت من اتفاقية دهوك، ولكن على نحو لا يتعارض مع دعمنا للمقاومة الكردية المسلّحة التي غيّرت كلّ المعادلات على الأرض وسمحت بتضافر عوامل عديدة لهزيمة التنظيم الذي عجزت كلّ جيوش المنطقة عن هزيمته. مرّة جديدة، لا يتعلّق الأمر بداعش ومجابهته فحسب، بل أيضاً بإرادة التحرّر التي تصبح قادرة بفعل المساواة الكاملة وغير المشروطة على مواجهة أيّ تحدٍّ يتعرّض له المجتمع أو البيئة المحلّية، وخصوصاً إذا كان على شكل غزو مدعوم من قوى إمبريالية وإقليمية. هذه القوى التي استهدفت بيئة المعارضة بالأمس عبر قصف المنازل وآبار النفط ومصافي تكريره البدائية تستهدف الآن – عبر داعش – الأكراد، وتحاول عبر المساومات مع تركيا وكردستان جرّهم إلى مربّع لا يعودون فيه قادرين على التصرّف كبيئة محلّية مستقلّة وبعيدة عن الاستقطاب المدمّر بين النظام والمعارضة. واجبنا الآن أن ندعم هذه البيئة بكلّ الوسائل الممكنة، وإذا تغيّرت طبيعة مقاومتها – وهذا ما أستبعده – بفعل التحالفات الجديدة، فلن نكون محرجين في انتقادها، لأننا منذ البداية دعمناها على قاعدة التضامن مع التجربة التي بدت لافتة بكلّ المقاييس، وخارج سياق الصراع القذر على السلطة والثروة بين النظام والمعارضة.

* كاتب سوري

الأخبار

 

 

 

 

 

العلمانية رد مستقبلي على «داعش» ومثيلاته في سورية/ لؤي حسين

لسنا الآن في صدد عرض الأسباب الكثيرة والمتنوعة التي أدت إلى نشوء تنظيمات متطرفة تكفيرية مثل «داعش» في سورية. فهناك الكثير من هذه الأسباب، بعضها محلي وبعضها دولي، بعضها ديني وبعضها سياسي، بعضها آني وبعضها إرثي. لكن، إضافة إلى كل ما يقال ويُعرض من أسباب، فإن هذه التنظيمات تقوم على أيديولوجيا دينية إسلامية تعتمد مقولة أن «الإسلام دين ودولة»، أي أن الإسلام، فضلاً عن أنه دين، هو نظام حكم وقوانين ناظمة لعلاقات الناس بعضهم ببعض وعلاقاتهم مع مؤسسات الدولة الإسلامية الحاكمة.

مسألة أن «الإسلام دين ودولة» ليست جديدة الطرح، فقد طُرحت وتمت مناقشتها والاستمرار في الجدال حولها منذ أكثر من قرن مضى. ولست هنا لأضيف جديداً على مستوى طرحها النظري، بالتالي لن أتناول صحة هذه المقولة من خطئها، فلا يعنيني ما يمكن أن يعرضه الإسلاميون في هذا الصدد. كل ما يعنيني في الأمر شكل النظام السياسي السوري الأنجع للحيلولة دون نشوء جماعات تكفيرية سورية تفرض رؤيتها الخاصة للإسلام على السوريين، مسلمين كانوا أم غير مسلمين.

التطرف والتكفير الإسلامي ينشأ حصراً من الاعتدال الإسلامي. أي لا بد للمتطرف من أن يمر بمرحلة من الاعتدال تبدأ بأن الإسلام دين، لينتقل لاحقاً إلى أن الإسلام نظام حكم توافقي يتم بناؤه بالتراضي، لينتقل بعدها إثر حادث ما أو ظاهرة ما إلى تبني الجهاد على أنه السبيل الوحيد لإقامة نظام الحكم الإسلامي.

هذا التدرج بالتفكير ممكن أن يحصل في دولة علمانية أو دولة دينية أو حتى في دولة غير علمانية تعتمد الشريعة كمصدر رئيسي للتشريع، وتقيم مؤسسات إسلامية عليا كدار الإفتاء، وتعتمد القوانين الوضعية التي لا تتعارض مع الشريعة، وأهمها قوانين الأحوال الشخصية وتمييز المرأة عن الرجل، كحال الدولة السورية. لكن هناك فارقاً كبيراً بين دولة ترعى الإسلام ومؤسساته وتحض عليه، كسورية، وبين دولة تقف موقف الحياد، أو على مسافة كبيرة بينها وبين المؤسسات الدينية. ففي الحالة الأولى التي تمثلها سورية، يصبح التديّن الإسلامي ظاهرة عامة يمكن أن يتحول في أي لحظة إلى تشدد إسلامي، وفي الحالة الثانية يكون ظهور التشدد الديني حالات فردية لا تشكل ظاهرة.

الآن، تنتشر في سورية مجموعات متطرفة تكفيرية عدة، أقواها وأوسعها انتشاراً وسيطرة «داعش». بعض من أعضاء هذه المجموعات والجماعات غير سوري، ولكنه قدِم إلى سوريٍّ يشبهه كان قبل الانتفاضة يتبنى ما اصطُلح على تسميته الإسلام الشعبي أو الوسطي أو المعتدل، وأمام عنف النظام وقمعه، وبعض ممارساته التي تتسم بالطائفية، يسّرت له ثقافته الدينية الانتقال إلى نهج جهادي متطرف يكفّر كل ما عداه.

لا شك في أنه على رأس سبل مواجهة انتشار هذا التطرف الآن في سورية المواجهة العسكرية والأمنية. ولكن هذا لا يمكن أن يتحقق على أيدي النظام السوري، لأنه لا يستطيع أن يجمع حوله الكثير من السوريين، كون القسم الغالب منهم لا يشعر بأنه ممثَّل بهذا النظام، بل يعتبره قسم كبير من هؤلاء نظاماً غاصباً قاتلاً. فلا بد، من أجل ذلك، من تسوية سياسية تنتج عنها سلطة انتقالية تضم جميع مكونات المجتمع السوري وقواه، حتى يشعر جميع السوريين بأنهم ممثلون في هذه السلطة في شكل عادل، بخاصة السوريين السنّة منهم. بذلك، يمكن هذه السلطة أن تواجه «داعش» بالسبل العسكرية والأمنية، وبغيرها من السبل.

الحال التي وصل إليها «داعش» ومثيلاته في سورية، وما يقوم به من قتل وتدمير وتهجير وتكفير يحتّم علينا عدم القبول بنظام الحكم القائم الآن، ولا بصيغته التي كان عليها قبل الانتفاضة السورية، والتي شكلت أهم بيئة مُنْبتة لـ «داعش» ومثيلاته. فكما علينا تغيير هذا النظام إلى دولة ديموقراطية خالية من الثغرات التي يمكن الاستبداد أن يعود من خلالها بأشخاص آخرين أو بصيغة أخرى، كذلك علينا إقامة دولة علمانية لا تكون بيئة مناسبة لنشوء الجماعات الدينية المتطرفة، دولة لا ترعى أي دين ولا تنبذ أي دين، بل تقف على مسافة متساوية من جميع الأديان والمذاهب والعقائد الموجودة في سورية. تؤمّن للجميع حق ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية وفق معتقداتهم، من دون أن يكون لأي رجل دين سلطان في البلاد، ولا لأي مؤسسة دينية سطوة أو سلطة على المواطنين السوريين أو على مؤسسات الدولة السورية، وكذلك على المشرّع السوري، أي أن يبقى الدين في الصدور ودور العبادة مصاناً من جانب جميع مؤسسات الدولة.

الدولة العلمانية، كما بات مصطلحاً عليها، ليست دولة كافرة أو ملحدة، ولا تتبنى أو تشجع الكفر والإلحاد، كحالها تماماً تجاه الأديان. لكنها بالتأكيد لا تجرّم الملحد أو الإلحاد، كما لا تجرّم أية عقيدة، إذ لا يعنيها من المواطن سوى حقوقه وواجباته المتساوية والمتطابقة مع جميع المواطنين. فأمر اعتقاده وعقيدته يخصه هو ولا يخصها هي.

الدولة العلمانية هي التي تمتلك في جوهرها إمكانية أن تكون دولة عادلة، أما الدولة الدينية (أو الإسلامية كما يسميها البعض) أو نصف العلمانية فلا يمكنها البتة أن تكون دولة عادلة. ومن دون العدالة ستبقى بعض الشرائح أو المكونات السورية تشعر بالغبن، ما يدفع ببعض أفرادها إلى أن يكونوا راغبين بالتمرد على الدولة أو الانقلاب عليها في أية لحظة مناسبة.

الدولة العلمانية هذه تنبني على الأفراد وليس على الجماعات، بغض النظر عما إذا كانت هذه الجماعات دينية أو قومية. فعروبية الدولة السورية خلقت أزمة كبرى مع الكرد السوريين بعدم اعترافها بهم كمكون قومي من مكونات الشعب السوري. وقد بدأنا الآن نحصد النتائج السلبية المريبة لهذه السياسات القومجية.

وهذا ينقلنا إلى ضرورة التشديد على أن هذا النوع من الحياد الذي يجب أن تتصف به الدولة العلمانية السورية يجب أن يكون حياداً أيضاً تجاه الأيديولوجيات. أي لا يحق للحزب الحاكم، حتى لو جاء إلى السلطة بنسبة عالية من الأصوات، أن يفرض أيديولوجيته على الدولة ومؤسساتها. فقد عانى السوريون الكثير من الحيف من السلطة البعثية التي «بعثنت» الدولة بكل مؤسساتها ومفاصلها، وجعلت البعث الأيديولوجيا الوحيدة المعترف بها، ملغياً ومانعاً أي أيديولوجيا أخرى، بل إنه حرّم حرية التفكير بالمطلق خارج أيديولوجيته.

سورية، كما هو معروف، متعددة الدين والمذهب والقومية والطائفة والثقافة. ومع وجود غلبة واضحة للعرق العربي وللدين الإسلامي السنّي، فإن بقية المكونات سورية أصيلة معتدّة بأصالتها وبسوريتها. فبعضهم أقدم من العرب ومن الإسلام في البلاد، ولا يمكنهم الشعور بالعدالة والمساواة، إلا في دولة علمانية محايدة تجاه جميع الأديان وتجاه جميع الأقوام.

لا تكفي صناديق الاقتراع وحدها لتمكين العدالة أو توليد الشعور بها، فلا بد من أن تشاد هذه الصناديق على أسس الدولة العلمانية. كما أنه ليس لدينا الوقت للنهوض بإصلاح ديني تنجم عنه دولة علمانية ديموقراطية، كما يفكر البعض، بل ربما علينا أن نعمل على المضي بتجربة معاكسة للتجربة الأوروبية في هذا الشأن: أن نشيد الدولة العلمانية، ومن ثم نعمل على الإصلاح الديني في الإسلام.

* رئيس تيار بناء الدولة السورية

الحياة

 

 

 

لماذا كوباني… وليس نحن!/ هوشنك أوسي

هزّت مقاومة المقاتلات والمقاتلين الكرد في كوباني العالم، نتيجة صمودهم لأكثر من شهر أمام هجوم تنظيم «داعش» الإرهابي، وشغلت هذه المقاومة الرأي العام العالمي، وتابعتها أغلب قنوات التلفزة والصحف الغربيّة في أميركا وأوروبا، وأثارت اهتمام كتّاب الأعمدة والمحللين والخبراء. وفي الوقت عينه، ركّزت تركيا ورئيسها، بالتعاون مع «الائتلاف السوري لقوى المعارضة» وقطاع واسع من الإعلام العربي، على مسألة التشكيك في مقاومة كوباني، واجترار أسطوانة «المؤامرة»، عبر طرح سؤال: «لماذا كل هذا الاهتمام بكوباني وتجاهل المدن السوريّة الأخرى؟!. لماذا تسليح المقاتلين الكرد، وليس الجيش الحرّ؟»، وصولاً إلى استنتاجات وأحكام ما أنزل الله بها من سلطان.

وفي سياق هذه الحملة المحمومة، تجهبذَ الكثير من المثقفين والإعلاميين العرب، في مسألة «الطعن» بصدقيّة المقاومة الكرديّة، ليس فقط في مواقع عملهم، بل بإغراق صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، بمواد وآراء، من هذه القماشة. كما نحى بعض قيادات «الائتلاف» السوري، هذا المنحى، لدرجة أن ممثلهم في تركيا انزلق به الحال في برنامج حواري مشترك، على قناة «الجزيرة»، فقال: «إن أميركا، عبر تسليحها للمقاتلين الكرد، تحاول تشكيل حوثيين جدد في شمال سورية»!.

ومع وجود استثناءات قليلة، يمكن القول: إن مجمل المقالات والتحليلات والبرامج الحواريّة العربيّة، أثناء تناولها حدث كوباني، لم تكتفِ بمغازلة ذهنيّة «المؤامرة» على العرب والمسلمين والسنّة والثورة السوريّة وحسب، بل انزلق إلى التضليل عبر تشويه الحدث الكوباني الكردي السوري، والتقليل من أهمّيته!. واشتعلت حميّة فانتازيا التحليل لدى هؤلاء إلى الحدود القصوى، في انسجام وتماهٍ مع الخطاب السياسي التركي، الرامي إلى التعمية على ضلوع وتورّط أنقرة في دعم «داعش» الإرهابي، عبر إثارة البلبلة والغبار على مقاومة كوباني!.

تحتجّ تركيا ومعها «الائتلاف» السوري، على الاهتمام بكوباني، باعتبارها «خاوية من المدنيين، وأهلها نزحوا إلى تركيا»، ويتغافل أو يتعامى هؤلاء عن وجود مئات المدنيين الذين ما زالوا فيها!. وإذا افترضنا جدلاً أن المدنية خاوية من المدنيين، فهل هذا يجيز إبادة نحو 3000 مقاتلة ومقاتل كردي، متحصّنين في كوباني ويدافعون عنها، على أيدي «داعش»؟!. أوليس هؤلاء بشراً ينبغي إنقاذهم؟! أم أن من مصلحة تركيا وأعوانها في المعارضة السوريّة إبادة هذه القوّة العسكريّة الكرديّة، عن بكرة أبيها، خشية أن يترتّب على انتصارها في كوباني نتائج سياسيّة ذات أبعاد محليّة وإقليميّة ودوليّة، لمصلحة كرد سورية؟!.

يمكن الإجابة عن تساؤل: لماذا كوباني؟ بالأفكار التالية:

1 – القلق الأميركي من وصول الأسلحة إلى «داعش»، مشروع وله ما يبرره. ذلك أنه لا يوجد كيان عسكري، موحّد، منضبط، خاضع لقيادة ثابتة وواضحة، لدى المعارضة السوريّة، يمكن مساءلتها أو مخاطبتها. فـ»الجيش الحرّ» اسم مجازي لمجموعات وميليشيات إسلاميّة مسلّحة، لا يمكن أحداً أن يحصي عددها وأسماء كتائبها وتباين ولاءاتها. فتسمية «جيش»، إذاً، لا تنطبق، كمفهوم عسكري، على مجموعة الكتائب الإسلاميّة المنقسمة على نفسها، التي تطلق على نفسها «الجيش الحر». بينما وحدات الحماية الشعبيّة الكرديّة (YPG) معروفة التنظيم والقيادة، وشديدة الالتزام والانضباط، وهي أقرب إلى الهيكلة العسكرية، على رغم أن تسميتها لا توحي بذلك. بالنتيجة. وبالتالي ما دام أن الأسلحة الأميركيّة التي في حوزة الجيش العراقي، الممتلك للقيادة، قد وصلت إلى يد «داعش»، فمن يضمن عدم وصولها إلى هذا التنظيم الإرهابي، في حال تم تزويد «الجيش الحرّ» بها؟!.

2 – تنظيم «داعش»، حين احتل الرقّة وإدلب وريف حلب…، ارتكب تلك المجازر المروّعة التي ارتكبها بحقّ الإيزيديين الكرد وعشيرة الشعيطات العربيّة في دير الزور، كما «حظي» بحاضنة شعبيّة لن يحظى بها في كوباني. وهذا كله يجعل المدينة الكرديّة السوريّة معرّضة لإبادة جماعيّة من قبل «داعش». وبالتالي، لا الأتراك و»الائتلاف» ولا «الجيش الحرّ» يمكنهم ضمان عدم ارتكاب مجازر في كوباني!.

3 – «داعش» لم تهبط من السماء، بل كانت لها بدايات مهّدت لبلورتها، منذ مطالع الثورة السوريّة. وقد أتيت على ذكر بعض هذه الإرهاصات في مقال نشرته «الحياة» يوم 4/10/2012، بعنوان «مخاطر أخونة الثورة». وهذا من دون أن ننسى اعتراض «الائتلاف» على إدراج واشنطن «جبهة النصرة» على لائحة المنظمات الإرهابيّة، بحجّة أنها تقاتل نظام الأسد، وأنها جزء من «الجيش الحر»، ما شكّل مفاجأة وصدمة للسوريين والغرب، وقدّم هديّة عظمى لنظام الأسد، كي يؤكد ويوثّق للعالم زعم ادعاءاته بأن بديله هو تنظيم «القاعدة»، وأن «الإرهاب التكفيري» هو المعارضة، وبالعكس!.

4 – لا سيما بعد المجازر بحق الايزيديين، تتركّز الأضواء على الأقليّات القوميّة والدينيّة في الشرق الأوسط، التي كانت دوماً محط قمع واضطهاد، من الأغلبيّات القوميّة أو الدينيّة الحاكمة. فالسلطنة العثمانيّة سحقت العلويين والكرد والأرمن والسريان…، باسم الدين والقوميّة السيّدة. وكذلك فعل نظام صدّام، إذ نسب مذابحه بحق الشيعة والكرد إلى حماية العروبة والطائفة السنّيّة الحاكمة. ونظام الأسدين الأب والابن ورّط الطائفة العلويّة في قمعها للشعب السوري، وقد وقفت الطائفة السنيّة في حلب ودمشق إلى جانب هذا النظام نتيجة تشابك المصالح، قبل وبعد الثورة. وبالتالي، فكوباني الكرديّة، المقموعة في نظام الأسدين، والمهمّشة من المعارضة السوريّة، من الطبيعي أن تثير قلق العالم. وبالمعنى ذاته، لو كان هجوم «داعش» يستهدف محافظة السويداء السوريّة، لكان العالم وقف إلى جانب هذه المحافظة، ذات الغالبية الدرزيّة.

5 – لا الجيش الأسدي ولا «الجيش الحرّ» ولا الجيش العراقي صمد في وجه داعش لمدّة أيّام. بينما المقاتلات الكرديّات والمقاتلون الكرد، استطاعوا المقاومة والصمود، على رغم ترسانة الأسلحة والمفخخات والانتحاريين التي يمتلكها تنظيم «داعش». وعلى رغم ما سلف، يبقى التوكيد قائماً على ضرورة تسليح الكتائب المعتدلة من «الجيش الحر»، أو قيام واشنطن بتشكيل «جيش حر» بمعزل عن محور تركيا – قطر، ومنع أي تأثير لهذا المحور عليه، بحيث لا تكون قيادته ومقرّاته ضمن الأراضي التركيّة.

وفي تقديري أن الكرد السوريين ومقاتليهم ليسوا مسؤولين عن عدم تسليح الغرب «الجيش الحرّ». وليسوا مسؤولين عن فشل «الائتلاف» في إقناع العالم بضرورة التدخّل العسكري لإسقاط الأسد. وهم بالتالي لن يرفضوا تسلحيهم وتقديم العون والمساعدة لهم، ريثما يتم تسليح «الجيش الحرّ»!. وإذا كانت أنقرة حريصة، إلى هذه الدرجة على تسليح المعارضة السوريّة، وتريد إسقاط نظام الأسد، فلتفتح مخازن أسلحتها لـ»الجيش الحرّ»، بمنأى عن رغبة واشنطن والناتو!. وإلاّ، فإن رفض تركيا الاهتمام الدولي بكوباني و»تجاهل» المدن السوريّة الأخرى، كما تزعم، هو كلمة حق يراد به باطل، ومؤشّر جديد يضاف إلى المؤشرات السابقة، على ضلوع أنقرة في الهجوم على هذه المدينة الكرديّة السوريّة!.

* كاتب كردي سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى