صفحات العالم

مقالات لكتاب عرب تناولت الخطاب الأخير للأسد

بشار يخاطب عصابته الدولية

 حمد الماجد

الإيجابية الوحيدة في خطاب الرئيس بشار الأسد أمس (الأحد) أنه تحاشى هذه المرة «تريقاته» البليدة، ولم يوزع على الحضور بعض التعليقات الساخرة السامجة كعادته في الخطابات التي ألقاها مع اندلاع الثورة إثباتا للثقة في النفس، فاليوم مختلف لأن «اليوم خمر وغدا أمر»، فالثوار يحيطون بدمشق إحاطة السوار بالمعصم، والمطارات صارت في مرمى الثوار السوريين، وثورتهم في تنام مطرد وحكمه في انحدار واضح.

بشار يدرك قبل غيره أن نظامه الديكتاتوري حوى في كينونته كل أسباب السقوط من دموية ووحشية واغتيالات وتعذيب وطائفية وفساد ونهب لثروات البلاد، هذا قبل اندلاع الثورة، وأما بعدها فالثورة الشعبية الشجاعة أضافت لسيرته الذاتية القبيحة أكثر من ستين ألف شهيد وملايين المهجرين ودمارا هائلا في البلدات السورية، بالحسبة الرياضية البحتة يستحيل أن ينجو من الانهيار، فأي أمل يمكن أن يتشبث به بشار كي يبقى رئيسا طبيعيا لسوريا؟!

لا مجال لتفسير تشبثه بمواقفه على الرغم من المعطيات على الأرض والتي تعمل ضده وضد نظام حكمه، إلا أنه يقامر على احتمالين؛ أحدهما إمكانية ضئيلة جدا على بقاء حكمه، والثاني دمار البلاد. دعونا نتكلم بكل شفافية. الرئيس بشار ولأسباب طائفية قذرة لا يهمه فعلا أن تهوي سوريا إلى الجحيم، هو أشبه بالمحتل الأجنبي الذي يقاوم ثوارا وطنيين ويقاتلهم بكل أنواع الأسلحة التدميرية، فهو كاسب في كل الأحوال، إما أن يدمر الثورة الشعبية، وإما أنه سيدمر بلادا لا تعنيه ولا تهمه ولا يكترث لها كثيرا.. «يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه» هو وطائفته، هذا الديكتاتور لو حكم إيران محتلا لرأف بها وبشعبها وبمقدراتها. بشار وإن نطق بالعربية فسوريا لا يراها إلا كما يراها أبوه مكملة لحلقات الهلال الصفوي، فإما أن تستمر سوريا كذلك وإما أن يسلمها لأهلها خرابا يبابا.. بل لا أبالغ إذا قلت إن بشار لا يملك قرار نفسه، فقفل النظام السوري من النوع الذي له عدة مفاتيح.. مفتاح عند رموز الطائفة العلوية المقربين منه، ومفتاح عند أركان حكمه المنتفعين بوجوده، ومفتاح في طهران، ومفتاح في بكين، ومفتاح في موسكو، وميدالية المفتاح في كاراكاس الفنزويلية. بشار باختصار مثل رئيس العصابة الذي مهما حاول أن يتغير أو يتخذ خطوات تراجعية، فإن أول من يقضي عليه أفراد عصابته لأنه حامل أسرارهم وشريكهم في جرائم القتل والتعذيب والتهريب والاغتصاب، وهذا أحد تفسيرات إصراره على موقفه على الرغم من أن أرض حكمه قد انتقصت من أطرافها.

زعيم العصابة بشار قال إن الربيع العربي فقاعات صابونية وسوف تختفي، والحقيقة أن نظامه أكبر فقاعة، والدليل على فقاعية نظامه تراخي قبضته على البلاد، حيث وصل الثوار إلى الحلقة المقربة منه في عملية «الخلية الأمنية» الشهيرة، وتقدم الثوار في كل ناحية وسيطرتهم على عدد من المنافذ الحدودية للبلاد، حتى إن سهولة تهريب السلاح وصلت إلى حد الحصول على أسلحة متطورة مكنتهم من إسقاط طائراته، وهو النظام الذي يكاد يحقق مع نحلة عبرت حدوده من بلد مجاور، ولهذا قام وخطب ولم يقدم جديدا، لأن الأهم في خطابه أنه طمأن بقية أفراد عصابته في طهران وموسكو وبكين وبغداد والجنوب اللبناني بأنه سائر على «ميثاق شرف العصابة» حتى النهاية.

الشرق الأوسط

قراءة متأنية لخطاب الاسد

عبد الباري عطوان

خمسة تطورات رئيسية يمكن من خلال التمعن فيها وسبر اغوارها ومعانيها، استقراء مكونات المشهد السوري بجوانبه كافة، في الشهور المقبلة من العام الجديد.

*التطور الاول: الخطاب المطوّل الذي القاه الرئيس بشار الاسد يوم امس، وقدّم فيه خطة او مخرجا سلميا من الأزمة، ورؤيته لمستقبل البلاد.

*التطور الثاني: اصدار الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي عام السعودية فتوى حذر فيها علماء دين سعوديين من الدعوة الى الجهاد في سورية، والاكتفاء بالدعاء للمجاهدين ودعمهم بالمال ولكن عبر القنوات الرسمية.

*التطور الثالث: اعلان بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي عزم حكومته بناء سور على طول هضبة الجولان كإجراء وقائي بعد وصول ‘الجهاد العالمي’ الى الحدود وتموضع عناصره مكان قوات الجيش السوري التي انسحبت من المنطقة.

*التطور الرابع: تصاعد شكاوى المعارضة المسلحة على الارض بزعامة الجيش السوري الحرّ من توقف وصول الدعم بشقيه العسكري والمالي، مما يعكس حدوث تغيير في مواقف الدول الداعمة، العربية والاجنبية، بشكل مؤقت او دائم.

*التطور الخامس: انعقاد مؤتمر في جنيف بعد اسبوعين، بمشاركة عناصر سورية معارضة تؤمن بالحوار مع النظام، تحت عنوان الحفاظ على الوحدة الجغرافية والديموغرافية ومنع تقسيم البلاد او تفتيتها، واللافت ان هذا المؤتمر، مثلما قال منظموه، مدعوم من دول اوروبية بينها المانيا وسويسرا والسويد.

هذه التطورات الخمسة مترابطة، بل يكمل بعضها البعض، تنبئ، جزئيا او كليا، بالصورة التي ستكون عليها سورية، وربما بعض جيرانها ايضا، في العالم الجديد، مثلما تعكس حدوث تغييرات، او قراءات جديدة للمشهد السوري من قبل قوى اقليمية ودولية في الوقت نفسه.

‘ ‘ ‘

خطاب الرئيس الاسد جاء مخيبا لآمال معارضيه، من حيث انه لم يكن خطابا لشخص مهزوم يعيش تحت الأرض، ويتنقل من مكان الى مكان، او من جحر الى آخر، وجاء اكثر قوة وبلاغة من كل خطاباته السابقة، وبالتحديد منذ انطلاقة الانتفاضة الشعبية ضد نظامه.

صحيح انه اعترف للمرة الاولى بوجود ‘ازمة’، وغياب الامن، ولكنه ورغم تركيزه على الحلّ السياسي وترحيبه به، وجّه ضربة استباقية لكل الحلول السياسية المطروحة، بما في ذلك مبادرة جنيف التي قبلها نظامه، وجاءت نتاج توافق امريكي ـ روسي.

الرئيس الاسد، قال وبكل وضوح، انه لن يتفاوض مع المعارضة الخارجية التي اتهمها بالعمالة للغرب، وقال انه اذا كان لا بد من التفاوض فإنه سيتفاوض مع اسيادها، اي مع الاصل وليس الصورة ،على حد تعبيره، واكد انه باق في مكانه، ولن يقبل بمجرد المطالبة، ولو بشكل عابر لتنحيه.

نحن امام رجل، مثلما نفهم من خطابه، مصرّ على المضي في نهجه الحالي حتى نهاية الشوط، مهما بلغت الخسائر في الأرواح.

تركيز الرئيس الاسد على محاربة الجماعات الجهادية، وجبهة النصرة، التي لم يسمها بالاسم كان تركيزا مقصودا، لتهميش المعارضة الخارجية وامتداداتها الداخلية اولا، والاعتراف بالدور الفاعل لهذه الجماعات على الارض ثانيا، ومحاولة مغازلة الغرب، والولايات المتحدة بالذات، التي وضعت بعض هذه الجماعات على قائمة الارهاب.

هناك ثلاث نقاط وردت في الخطاب وتكشف عن حالة انكار لدى الرئيس لا يمكن تجاهلها:

*الاولى: تقدمه بمبادرة سلمية تتضمن انتخابات جديدة، وبرلمانا جديدا، ودستورا جديدا، وحوارا وطنيا شاملا يعني اعترافا بان كل ‘الخطوات الاصلاحية’ التي اجراها على عجالة في محاولة لامتصاص غضب الشارع في حينها، وتمثلت في انتخابات برلمانية ودستور، لم تكن مقنعة، ولم تنجح في كسب الشارع بشقيه الداخلي و الخارجي.

*الثانية: وصف الربيع العربي بمجمله بأنه كان ‘فقاعة’، ينطوي على الكثير من التبسيط، فالربيع العربي، وان كنت اختلف مع هذه التسمية، اسقط نظاما مصريا شلّ الأمة لأكثر من اربعين عاما، وكان في خدمة المشروع الصهيوني ووأد المقاومة وإذلال الأمة، مضافا الى ذلك انه لولا هذا الربيع السوري لما تحدث الرئيس الاسد عن حوار شامل وبرلمان جديد منتخب، واعترف بوجود معارضة داخلية يجب الحوار معها، مثلما اعترف بمظالم وقعت على الشعب السوري طوال السنوات الاربعين الماضية.

وربما يفيد التذكير بأن الرئيس الاسد حرّض على الثورة ضد انظمة ‘غير ممانعة’ في بداية ‘هذا الربيع’.

*الثالثة: القول بأنه لا توجد معارضة يمكن التحاور معها، ورفضه بالكامل الحديث مع المعارضة الخارجية، فعدم وجود معارضة في سورية يعود سببه الى عدم قبول النظام بوجود اي معارضة له الا في السجون والمعتقلات. وحتى المعارضة الداخلية التي يقبل الحوار معها، مثل السادة حسن عبد العظيم، وعارف دليلة، ولؤي حسين، وقبلهم ميشيل كيلو (القائمة تطول) كانوا جميعا في السجون والمعتقلات واكملوا مدة حكمهم، وتعرضوا للتعذيب الجسدي او النفسي او الاثنين معا.

‘ ‘ ‘

الرئيس الاسد من الصعب ان يسقط دون تدخل عسكري خارجي، ولكن هذا التدخل بات اقل احتمالا، إن لم يكن مستبعدا اكثر من اي وقت مضى، فالإدارة الامريكية تخشى تبعاته، ولا تستطيع تحمل نتائج مهينة على غرار ما حدث في العراق وافغانستان، وفتوى مفتي السعودية، وحديث الامير سعود الفيصل بالأمس عن تأييد بلاده لحل سلمي في سورية، وترك مسألة خروج الأسد للسوريين، وشكوى الجيش الحرّ من تجفيف منابع الدعم المالي والعسكري له، كلها مؤشرات تجعل من الرئيس السوري اقل قلقا على مصيره من أي وقت مضى.

كثيرون تنبأوا بأن الرئيس الاسد سيسقط في العام 2012 بل قبل ذلك، وكثيرون تنبأوا بسقوطه في هذا العام الجديد، ولكن ‘البرود’ الامريكي، وتفاقم الاستقطاب الطائفي، وامتداد اخطار الأزمة السورية الى دول الجوار (العراق مثالا، والسور الاسرائيلي على حدود الجولان، وفتوى المفتي السعودي، ولا مبالاة النظام المصري، وتزعزع استقرار بعض دول الربيع العربي) كلها عوامل قد تطيل من عمر الرئيس الاسد ونظامه لعام آخر، ان لم يكن اكثر، والله اعلم!

القدس العربي

أوبرا «سفاح دمشق»!

 حسين شبكشي

تعتبر شخصية «حلاق إشبيلية» من أهم أعمال الأوبرا، وهي الرواية التي قام بإعدادها الفرنسي «بومارشيه»، وطورها للأوبرا الإيطالي المعروف «روسيني»، إلا أنه يبدو أن التاريخ السياسي الجديد سيشهد توظيفا جديدا لدار الأوبرا؛ فبعد أن كانت مركزا للفنون الجميلة تحولت إلى مرتع للأقوال القبيحة، متمثلة في خطاب الرئيس السوري بشار الأسد الأخير، وهي ليست المرة الأولى التي يدنس فيها محفلا حضاريا بخطاباته المهينة، فمن قبل كان قد تجرأ وألقى خطابه في جامعة دمشق.

عموما، جاء الخطاب هذه المرة مُعَدا بعناية فائقة والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، وهو موجه للعالم الغربي لأنه يستبق قمة بوتين وأوباما التي ستبحث تبني خطة الإبراهيمي واتفاق جنيف للحكم الانتقالي في سوريا، فرغب في أن يقدم «لوحة» معدة بإتقان لتكون صورة ذهنية قبل لقاء القمة. دار الأوبرا مكان يُضخّم فيه الصوت، لأن المكان مصمم بنوعيات مواد بناء تحدث «الصدى» المناسب، فيبالغ في حجم الصوت وبالتالي في حجم الهتافات والتصفيق والإشادة، كذلك الأمر بالنسبة للحضور، تم إعدادهم بعناية شديدة جدا ليعكسوا تمثيلا دقيقا لفسيفساء الشعب السوري بمختلف خلفياته وطوائفه وطبقاته، فكان بين الحضور نساء محجبات (ليعكس التوجه الديني الإسلامي)، وكان هناك من يرتدي العقال والغترة (ليعكس الحضور العشائري)، وكان هناك العسكر والشباب والطلبة والمتقاعدون، وجميعهم يصفق ويهتف.

دخل بشار الأسد على مسرح معدّ بدقة ومحسوب تُوجّه الإضاءة فيه جيدا، وكذلك الصورة الضخمة التي كانت خلفه وهي مليئة بصور ما يوحي بأنهم ضحايا أحداث العنف في سوريا، وجميع الصور تشكل العلم السوري كاملا، وطبعا كانت تتخلل فقرات الخطاب مقاطع التصفيق الجنوني والهتافات الهستيرية لتختم باندفاع كبير على المسرح لعناق بشار الأسد وتقبيله، في مشاهد تذكرنا بنجوم الروك في حفلاتهم الصاخبة بالغرب.

وطبعا بقي أسلوب الإلقاء والخطابة ذاته لم يتغير؛ شبّه الثوار بأقسى الألفاظ، وأنكر أساسا وجود ثورة، وقال إن للثورة شروطا ومفكرين وأدوات وأهدافا لا بد أن تتوفر قبل أن يطلق عليها اسم ثورة، وهو بذلك كأنه يطلب «بيتزا» من محال الوجبات السريعة. ظل نهج الإنكار والطلبات المستحيلة، وظل يضع شروطا تعجيزية على الآخرين والجميع إلا على نفسه ونظامه المجرم، وأقحم نفسه و«حواره» مع المعارضة في تشبيهات هزلية مضحكة لا يمكن أن يكون مأخذها على محمل الجد ولا الحقيقة. شك الناس كثيرا في أن يكون الخطاب «مباشرا»، كما أوحى النص المرفق مع شاشات البث، لأن دمشق مقطوعة شرايينها المرورية منذ الساعات الأولى ليوم الخطاب، و«رويترز»، وكالة الأنباء العالمية العريقة، قالت إنها تشك في أن الخطاب بث بشكل مباشر، وإن ما حدث هو تسجيل تم بثه لاحقا. بشار الأسد يواصل حكم والده حافظ الأسد، النهج واحد ولم يتغير، ولكنه تجسيد عملي لفكرة حافظ الأسد رئيسا للأبد، وإذا لم يكن الأسد؛ فلنحرق البلد.

إنها «عقيدة» وليست سياسة، هناك قناعة كاملة لدى بشار وزمرته بأن سوريا هي الأسد، والأسد هو سوريا، ولا يمكن الحديث عن أحدهما دون الآخر. كانت هناك كلمات داخل الخطاب الذي ألقاه بشار الأسد فيها إشارات ورسائل مبطنة أيضا؛ فقد شكر كل حلفائه من شبيحة ودول ومؤسسات من الذين أيدوه وساندوه، وأكد على سوريا «موحدة»، وكأن في ذلك تلميحا عن التقسيم المقبل الذي سيكون خيارا يفرضه نظام يرغب في حكم سوريا حتى آخر سوري ميت.

القذافي وصدام حسين طاغيتان وقاتلان ظهرا في أيامهما الأخيرة وسط الشبيحة والهتيفة لإقناع العالم بأنهما يسيطران على الوضع، ولديهما أرتال من المؤيدين، متناسيين أن وضعهما حقيقة أشبه بسفينة الـ«تيتانيك» التي اصطدمت بجبل الجليد واخترقتها المياه وبدأت في الغرق، ولكنهما كقبطان السفينة كانا في حالة إنكار لحجم الكارثة.

خطاب بشار الأسد المسرحي الأوبرالي ليس فقط مادة هزلية، ولكنه سيكون مادة تدرس في يوم من الأيام في مجال علم النفس والحكم، لأن حالة الإنكار والضياع غير مسبوقة تماما. الأوبرا الجديدة اسمها «سفاح دمشق»، تذكروها جيدا.

الشرق الأوسط

أسد مستأسد بين الواقع والإنكار!

    راجح الخوري

عند حدود ستين الف قتيل قلب الرئيس بشار الاسد الصفحة ليبدأ فصلاً جديداً من كتاب الدم الذي كان الاخضر الابرهيمي قد بشرنا انه قد يصل الى مئة الف قتيل وأكثر. لكنه لم يقدم لا “خطاب الحل” ولا “خطاب الوداع”، بل “خطاب الإنكار” او إستمرار الازمة، بما يؤكد ان امام السوريين طريقاً طويلاً من الدم عليهم اجتيازه ربما الى الجحيم الذي رآه الابرهيمي!

واذا كان الاسد قدم ما سمّاه خطة للحل من ثلاث مراحل هدفها الواهم طبعاً، محو سنتين من عمر المأساة للعودة الى حكم الطغيان والاستبداد، فإن القراءة الهادئة في الخطاب والأبعاد الإقليمية والدولية التي تحيط بالأزمة ترسم ثلاث حقائق برزت عبر ما قدمه الاسد في عراضته وسط التصفيق المصطنع:

اولاً: أرسل الاسد المقاتلات لتسقط القنابل على حلب واخواتها ووقف ليسقط قنبلته التي أرادها ان تدمر كل الوساطات والمشاريع السابقة، عندما اشترط على اي مبادرة تأتي من الخارج ان تندرج تحت سقف مبادرته “السيادية” التي تقوم على اعتبار ان لا ثورة في سوريا ولا ثوار بل “جراثيم وارهابيون وقتلة ومجرمون”، وهذا ينسف كل الوسطاء والوساطات من مبادرة “الجامعة العربية” الى نقاط كوفي أنان الستة مروراً بأفكار الابرهيمي ومبادرة فاروق الشرع وهي مبادرة النظام عينه وقد اعلنت على لسان الشرع، وايضاً اتفاق “جنيف 1″ و”جنيف 2” على الاقل لجهة مطالبة النظام بوقف النار اولاً وسحب الاسلحة الثقيلة، فها هو يملي شروطه على الجميع، المعارضة والدول الاقليمية التي تدعمها وذلك كمقدمة لحل ملخصه: ادفنوا قتلاكم وتعالوا الى طاعتي من جديد!

ثانياً: صحيح ان خطابه يشكل انفصاماً كلياً عن الواقع المأسوي في سوريا لكنه انفصام يستند في النهاية الى معطيات الواقع الكارثي للسياسة الدولية حيال الازمة السورية، فليس سراً عشية المحادثات المتوقعة بين كلينتون ولافروف والابرهيمي ان التردد الاميركي – الغربي في دعم المعارضة يترسخ أكثر مع اتساع الحديث عن نفوذ الاسلاميين في صفوف الثوار، ولا من الاسرار ان تراجع الدعم الخليجي للمعارضة نتيجة ضغوط اميركية تنطلق من تصوير سوريا بؤرة محتملة لـ”القاعدة” للإنقضاض على دول الاقليم!

ثالثاً: واضح ان الاسد يستأسد من منطلق ادراكه أن وصول الاسطول الروسي الى طرطوس هو لحمايته وللرد على صواريخ باتريوت الغربية في تركيا ولترجمة ثبات تمسك موسكو بنظامه، وان التطورات المتصاعدة في العراق زادت تمسك ايران به، وان السياج الاسرائيلي في الجولان سيقنع واشنطن اكثر بترك سوريا ساحة لمذبحة تتخبط فيها ايران وروسيا ويتهاوى في جحيمها اهل “النصرة” ورفاقهم!

إنه كتاب الدم، فصل اول من ستين الف قتيل… والآتي أعظم!

النهار

أيها الإخوة المواطنون… فهمتكم… من أنتم؟

    اوكتافيا نصر

لعل السمة الأبرز في خطاب الرئيس بشار الأسد هو أنه ألقاه في دار الأوبرا بدمشق. إنه مكان ملائم تماماً للأداء المسرحي الذي قدّمه الرجل القوي في سوريا خلال إلقائه نصاً مكتوباً بتأنِّ لم يقل فيه أيّ جديد، ولم يُقدّم أي مادّة جوهرية لشعب يمرّ في أسوأ أزمة سياسية وعسكرية في تاريخه.

نستشفّ من الخطاب تلاشي سلطة الحاكِم الذي كان يزرع الخوف من قبل، ومعه نظامه المفلِس. عرض الأسد رؤية جديدة فضحت تعاميه عن الواقع على الأرض في بلاده. فقد كشف كلامه عن نظرة حكومته إلى الحوار، انسداداً خطيراً في فرص التفاوض مع المعارضة التي تسيطر على أجزاء كبيرة من البلاد ومن مدن أساسية مثل حلب بلوغاً للعاصمة دمشق. كما أن تهديداته بمحاربة الإرهاب وهتافات “بالروح بالدم نفديك يا بشار” التي ردّدها الحشد الذي اختير بعناية شديدة، فضحت مرّة أخرى واقع كون الرئيس يحتاج إلى مسرح مجهّز بالديكورات اللازمة مع توزيع الأدوار على المؤدّين، كي يُظهر أنه لا يزال يمسك بزمام الأمور لأن الأحداث على الأرض تثبت العكس تماماً.

لكن الرئيس الأسد تكلّم يوم الأحد، ولا بد من أن نُسجّل له أنه حاول، ربما للمرة الأخيرة، التأثير في المحادثات الجارية داخل سوريا وخارجها، ولجم المعارك الدائرة في أنحاء البلاد. لو لم يكتفِ بذكر مئات آلاف اللاجئين السوريين بطريقة عابرة، وتوقّف أكثر عند المشقّات التي يتكبّدونها، لبدا ربما أكثر صدقاً. لو ذرف دمعة واحدة على عشرات آلاف الأشخاص الذين سقطوا بسبب تعنّته وعدم استعداده للإقرار بأن التغيير هو السبيل الوحيد لوضع حد للحرب المستعرة في بلاده، لكسب ربما بعض المؤيّدين الجدد في صفوف شعبه أو في الخارج. لو أبدى ندماً أو لمّح إلى وجوب تنحّيه عن السلطة أو أقرّ بشرعيّة المعارضة السورية، لاجتذب ربما مزيداً من الآذان الصاغية لخطبه المقبلة، إذا كانت ثمة خطب مقبلة.

لكن الرئيس الأسد لم يُقدّم شيئاً ما عدا صورة عن نفسه تشبه إلى حد كبير صورة الديكتاتوريين العرب الآخرين في اللحظات الأخيرة من عهودهم، وعند البوادر الأولى لسقوطهم. على رغم أن الأسد لم يستخدم كلماتهم بالضبط، إلا أنه كرّر عبارة زين العابدين بن علي السيئة الذكر “أنا فهمتكم” في حين أنه لم تكن لديه أدنى فكرة عما يريده الشعب التونسي. وكرّر الأسد أيضاً الشعار الفارغ الذي ردّده حسني مبارك “أيها الإخوة المواطنون” مع العلم بأنه لم يتعامل معهم على الإطلاق كإخوة له. يبدو الأسد في أدائه كأنه يكرّر السؤال الميلودرامي الذي وجّهه القذافي: “من أنتم؟”، ولو بأسلوب أقلّ حدّة، فقد حاول تشويه سمعة المعارضة السورية بنعت الثوّار بأنهم “حفنة من المجرمين” و”الإرهابيين”.

عرض الأسد لرؤيته عن إنهاء المأزق في سوريا على ثلاث مراحل. ولكن نظراً إلى الفتور الذي تعامل به العالم مع خطابه حتى الآن، لا يبدو لنا أن كثراً يحبسون أنفاسهم ترقّباً لنتائج جدّية على الأرض.

على غرار الزعماء العرب الذين حاولوا من قبله إنما فشلوا، جل ما يستطيع الأسد فعله في رأيي، في هذه المرحلة من اللعبة، هو إلقاء الخطب في أماكن تخضع لحراسة أمنية مشدّدة. قد يكون خطاب الأحد الخطاب الأول لسقوط الأسد.

النهار

أين القائد؟

    امين قمورية

قال الرئيس الأسد في خطابه: “يسمونها ثورة وهي لا علاقة لها بالثورات لا من قريب ولا من بعيد. الثورة بحاجة إلى مفكرين. الثورة تبنى على فكر. فأين هو المفكر؟ من يعرف مفكرا لهذه الثورة؟ الثورات بحاجة إلى قادة. من يعرف من هو قائد هذه الثورة”؟

طبعاً، كان يهدف من وراء هذا القول، الى الطعن في ثورية الحراك الحاصل في سوريا منذ 21 شهراً وشرعيته ونفي الطابعين الشعبي والسياسي عنه، ليخلص إلى النتيجة التي كررها مراراً في الخطاب، ومفادها ان ما حصل هو محض “إرهاب” يقف خلفه، في أفضل الأحوال، “اذلاء جواسيس”، وفي أسوأ الأحوال تكفيريون أو “مجرمون”.

لم تخلُ ثورة في التاريخ من نزعات ارهابية واجرامية، لا بل تكاد صورة “الجهاديين التكفيريين” القادمين من كل أصقاع الدنيا الى قبلة الجهاد الجديدة سوريا، تطغى على كل ما عداها في الحراك الحاصل في هذا البلد. ولكن ان تقزم هذه الانتفاضة والتضحيات الكبيرة التي بذلتها هذا التقزيم، ومن ثم ان تنعت بأنها “ثورة ارهابيين وعملاء مأجورين”، فإن فيهما من التحامل الذي لا يحتمل على ثوار سوريين حقيقيين أمضوا العمر في النضال والسجون من أجل الحرية والتغيير والاصلاح.

مهلاً، لكن الأسد لم يخطئ عندما تساءل: من يعرف قائدا لهذه الثورة؟ فعلاً حتى هذه اللحظة، لم يفرز الحراك السوري الكبير قائداً على مستواه لا على الصعيد الثوري ولا السياسي ولا الفكري. ولعل هذا من حظ الأسد.

فماذا لو كان لهذه الثورة قائد شجاع على غرار أحمد شاه مسعود؟ أو زعيم كاريزمي من خامة زيناوي؟ أو مفكر استراتيجي من طراز غياب؟ هل كان لنظام دمشق أن يصمد هذا الوقت؟

لكن السؤال الأهم: لماذا لم يظهر حتى الآن مثل هذا القائد، أو على الأقل “مجلس ثوري” قادر على تعبئة فراغ القيادة وتوحيد الفصائل والثوار خلف برنامج واحد موحد وهيكلية تنظيمية؟

حتما “الائتلاف الوطني” المعلن في الدوحة لم يملأ هذا الفراغ لا بل ضاعف الخلافات وفرّق ما بين معارضة الخارج والعاملين في الميدان، فهل السبب هو القصور الذاتي ام ان في الامر إن؟ لماذا لم ينصب الدعم المادي والسياسي على جهة سياسية واحدة تمكنها من الامساك بعصب الثورة؟ هل هدف  إبقاء المعارضة صاعدة ولكن مشتتة وبلا قيادة، وإبقاء التوازن مع نظام يتآكل، كي يستمر الصراع ويطول ويأكل معه أخضر سوريا ويابسها، أم أن المطلوب ضرب خصمين لدودين أحدهما بحجار الآخر: التكفيريون بعد تجميعهم في سوريا، والنظام المغرّد في الفلك الإيراني الممانع؟

النهار

روسيا الأكثر إحراجاً بعد خطاب الأسد

المراوحة العسكرية تستدرج أخطار التقسيم

    روزانا بومنصف

ابرز الاسئلة التي بدت مطروحة بعد خطاب الرئيس السوري بشار الاسد وسوقه اعتراضاته على المرحلة الانتقالية التي تضمنها اتفاق جنيف بين مجموعة العمل من اجل سوريا التي انعقدت في نهاية حزيران من العام الماضي، سيكون موجها الى روسيا التي دأب وزير خارجيتها سيرغي لافروف في كل مناسبة على التشديد على تنفيذ ورقة العمل التي اتفق عليها في جنيف ومن ضمنها المرحلة الانتقالية. فمع رفض الاسد اتفاق جنيف والمرحلة الانتقالية، ستواجه روسيا احراجا امام الدول الغربية وتحديا في تسويق افكار حلول للازمة السورية كانت تمسكت بها حتى الآن، خصوصا ان الرئيس السوري لم ينسف كل مبادرة الاخضر الابرهيمي فحسب بل نسف كل الافكار والمبادرات الاخرى بما فيها مبادرة حليفته ايران التي سارع وزير خارجيتها الى اعلان التأييد لما اعتبره مبادرة قدمها الرئيس السوري كما اعلن تماهي خطتي الحل الايرانية والسورية.

احد الاسئلة الاخرى تكمن في اصرار الاسد على محاورة “السيد بدلا من محاورة العبد”، كما قال في توصيفه للمعارضة السورية في الخارج. فهذه الرسالة التي وجهها الى الولايات المتحدة عارضا اعادة الامساك بالسلطة تحت عنوان مواجهة الارهاب والتكفيريين والمحافظة على وحدة سوريا وسيادتها لقيت صدى سلبيا فوريا من الخارج من خلال جملة ردود الفعل الاوروبية والاميركية التي لم تتأخر عن الظهور بعد ساعات قليلة على انتهاء الاسد من القاء خطابه واعتبرت هذا الاخير منفصلا كليا عن الواقع مؤكدة ضرورة تنحيه عن السلطة. اذ ان الرئيس السوري خرج الى العلن من اجل محاولة الافادة من الارتباك الاميركي والدولي حيال البديل منه في حال تنحيه والمخاوف الاميركية خصوصا من السلفيين وكذلك خوف الروس من الاسلاميين ليعرض استمراره لقاء اثمان محددة لم تخرج في الواقع من حيث المضمون عما كرره ولا يزال منذ بدء الازمة التي تشارف على اكمال سنتها الثانية. كما انه يسعى الى محاولة كسب تعاطف او دعم مجددا بناء على اثارة المخاوف مما تتهيأ له العراق على وقع الازمة السورية والمخاطر على لبنان والاردن ومن التخبط الاخواني في مصر ومحاولة فرض اجندتهم السياسية. كما انه يرفض مساواته او وضعه على قدم المساواة كفريق من افرقاء الازمة ويحاول ان يطرح نفسه محاورا وحيدا يعلو وفق افرقاء المعارضة التي تدعمها الدول الغربية. فهل يمكن ان تعيد هذه الدول النظر في مقاربتها للازمة السورية على هذا الاساس؟

الامر مستبعد، بالنسبة الى مصادر ديبلوماسية متابعة، وجدت خطاب الاسد مخيبا للآمال كما كان في كل خطاباته السابقة بحيث انه في كل مرة اطل علنا كان يتم انتظار خطابه من اجل ان يعلن امرا ما يستطيع فيه ان يقدم جديدا ويحض اي دولة من دول العالم على تغيير موقفها منه لجهة احتمال اثارته جدلا بين الدول الغربية مثلا او بينها وبين الدول العربية على ضرورة اعطائه فرصة جديدة من اجل اثبات حسن نياته ازاء قيادة بلاده على نحو مختلف كليا عما سبق القيام به. الا انه، وعلى رغم سقوط اي رهان عليه منذ زمن ليس بالقصير في ظل اعلانه الاستمرار على اعلان خطوات وهمية في غير توقيتها، فقد تم انتظار اعلانه امرا مختلفا في خطابه الاخير مبنيا على ادراكه ووعيه لخطورة ما وصلت اليه بلاده واقراره بارتكاب اخطاء يود تصحيحها ومد يده الى كل الافرقاء في الداخل والخارج وضرورة ان يتنازل في سبيل انجاح اي حل من اجل انقاذ بلاده وشعبها.

اذ انه، في رأي هذه المصادر، ومع ان لا حل للازمة السورية لا يزال ممكنا مع الاسد، وفق اقتناعات غالبية كبرى من دول العالم العربي والغربي، لانه يستحيل غض النظر عن العدد الهائل من الضحايا الذي يتحمل مسؤوليته الاساسية النظام وحده نتيجة المقاربة الخاطئة التي اعتمدها لحل الازمة، فان ما هو مخيب للآمال ومحبط في رأي هذه المصادر الا يقدم اي عنصر جديد في كل ما سماه رؤيته للحل او افكاره له. اذ هناك اجراءات قام بها حتى الآن ولم تؤت اي ثمار وايكاله لهذه الحكومة مثلا قيادة حوار هو رهان مرشح للفشل لان هذه الحكومة لم تحدث اي رد فعل ايجابي لدى تكليفها وكذلك الامر بالنسبة الى كل خطوة من خطوات رؤيته للحل. وترفض المصادر الديبلوماسية المتابعة مناقشة مراحل الحل التي عرضها الاسد كونها تستند الى خلفية تصب في خانة تعزيز نظامه في حين ان هذا النظام انتهى ولم يعد قابلا للعيش وهو يرفض الاقرار بذلك ويحاول تجاهله. وعلى عكس المظهر القوي الذي حاول الظهور من خلاله فان الحشد الموالي خلال القاء الخطاب في دار الاوبرا يشي بالعكس. ولذلك فان المخاوف بعد هذا الخطاب هي من امرين: احدهما اجهاض اي محاولة او مبادرة جديدة ممكنة بين الدول الكبرى خارج اطار مقاربتها من خلال المنظور الضيق والخاص للنظام للازمة السورية مما سيعطل اي جهد جديد يمكن ان يبذل في المدى القريب. والآخر هو متابعته الحل العسكري الامني، وفق ما لمح اليه مما يعني مراوحة الازمة السورية في الحرب الداخلية حتى اشعار آخر في ظل مخاطر رسم ملامحها من خلال تلميحه الى التقسيم مثلا.

النهار

انتهى خطاب الأسد و الحرب مستمرة

    علي حماده

لم يختلف خطاب بشار الأسد الاخير في روحيته عن جميع خطبه السابقة. فمنذ الخطاب الاول في 30 آذار 2011، بدا واضحا ان الخيار الوحيد الذي اعتمده النظام هو موروث عن “الاب المؤسس” حافظ الاسد، أي الحديد و النار. ففي حين كان من الممكن، وبسهولة نسبية احتواء انتفاضة درعا الاحتجاجية في أيامها الاولى، عبر اتخاذ خطوات تأديبية بحق المسؤولين عن اعتقال الاطفال وتعذيبهم، وتعنيف النساء، و إطلاق النار على المدنيين المعتصمين في الجامع الاموي في قلب البلدة، اختار الاسد و بطانته التعامل بالحديد والدم مع الازمة والمضي الى جحيم القتل المتعمد في كل مكان. و ما هي إلا بضعة أسابيع حتى اشتعلت المظاهرات في سوريا من أقصاها الى أقصاها، و اختار النظام التعامل معها بالاسلوب عينه اي الحديد و النار. وقاومت الثورة السلمية كل أشكال العسكرة لمدة ثمانية اشهر متتالية حتى بلغت الاوضاع حدودا ما عادت تطاق، لتنطلق بعدها الانشقاقات في الجيش، وليلجأ السوريون الى السلاح البدائي للدفاع عن أنفسهم، والبقية معروفة وصولا الى تحول سوريا كلها ساحة لحرب تحرير كاملة الاوصاف بين ثورة تحررية ونظام كان ولا يزال متمسكا بخيار حافظ الاسد الستاليني الذي ما أدى الى وأد الثورة بل فاقمها، وزادها اشتعالا، و اجهز في الوقت عينه على “جمهورية حافظ الاسد” و الارث الذي خلفه لاولاده.

في مطلق الاحوال، لم يشذ خطاب بشار الاسد الاخير في دار الاوبرا  عما سبق من خطب لناحية الروحية، و ان يكن تفرد في طرحه لـ”حل” من ثلاث مراحل يبدأ بوقف مشروط لاطلاق النار، يليه مؤتمر وطني، ثم دستور، وحكومة لينتهي بانتخابات نيابية. وفي الوقت الذي حفلت فيه كلمة الاسد بكل أنواع “البروباغاندا” الممجوجة، فإن أهم البنود التي غابت عن “الحل” الذي طرحه الاسد هو البند المتعلق بتنحيه، وتفكيك النظام بمنظومته المخابراتية. هذا اذا ما استثنينا بندا أساسيا نشك ان يقبل السوريون بتجاوزه، هو بند محاكمة أركان النظام وفي مقدمهم الاسد نفسه و بطانته بتمهة ارتكاب جرائم ضد الانسانية.  لكن اذا ما ركزنا على “حل” الاسد (ثمة من يسميه “اللاحل”)، يتبدى ان صاحبه و بالتشاور مع الايرانيين قرر المضي في الحرب المفتوحة. ومن هنا كان الرد العربي و الدولي على الخطاب سلبيا للغاية لكونه لا يلحظ بند التنحي. فلا حل في سوريا بوجود بشار الاسد و بطانته مهما حصل. ولا حوار ممكنا معه او مع جنرالاته. والثورة مستمرة مع كل التضحيات التي يقدمها السوريون حتى تحرير البلاد من النظام بكل وجوهه و تركيبته.

وخلاصة القول إن أي حل لا يتضمن تنحية بشار الاسد عن السلطة ومعه أركان نظامه لن يكون قابلا للحياة، و سيكون وصفة لإدامة الحرب الى ان ينتصر فريق على فريق. وفي حالة سوريا فالثورة مقبلة على الانتصار مهما طال الوقت او عظمت الاكلاف. و هذا واضح من خلال متابعة مسرح العمليات العسكرية.  أول فكرة أتتني بعد الاستماع الى خطاب بشار الاسد قبل يومين، كانت ان الحرب مستمرة، وسوريا ستغرق في مزيد من شلالات الدم لفترة اخرى.

النهار

أسئلة سورية بعد خطاب الأسد

محمد علي سبحاني *

لا يستخف بأهمية خطاب بشار الأسد. فهو يأتي بعد خبو بارقة الأمل التي حملتها المبادرة الأخيرة للمبعوث الأممي، الأخضر الإبراهيمي. وهي لم تكلل بالنجاح. وأخفقت مساعيه لتشكيل حكومة انتقالية متوازنة تجمع بين الحكومة والمعارضة لإعادة صياغة الأزمة، وتعثرت بتعاظم حدة العمليات العسكرية بين الحكومة والمعارضة جراء زيادة الدعم العسكري للمعارضة الذي ساهم في تفاقم الأزمة في عدد كبير من المناطق السورية.

وإذا كانت ثمة بارقة أمل، فهي انطوت في المشروع السياسي للإبراهيمي الذي حاول الحفاظ على وحدة الأراضي السورية من طريق تشكيل حكومة وحدة وطنية تشارك فيها كل الأحزاب القومية والمذهبية من أجل تهيئة الأجواء لإجراء انتخابات. لكن المعلومات التي تحدثت عن 60 ألف قتيل وعشرات الآلاف من المشردين والتخريب الواسع الذي أصاب مناطق متعددة، قضت على مثل هذه الأحلام. وإذا أُجهِضت الاقتراحات التي طرحها بشار الأسد بعد عامين من الاشتباكات والحراك العسكري، رجحت كفة أسوأ الاحتمالات والحوادث الكبرى والخطيرة.

تعود أهمية خطاب الأسد إلى كونه فرصة للسلام بين الحكومة والمعارضة في وقت لم تعد القوات الحكومية تسيطر إلا على نصف المناطق السورية والنصف الآخر وقع بيد قوات المعارضة. ويملك كل طرف برنامجاً عسكرياً للمستقبل، وسبق أن عارضت المعارضة مبادرة الإبراهيمي واقتراحات روسيا وبنودها الستة. لذا، يبدو رفضها مشروع الأسد «طبيعياً» وغير مفاجئ. فهي سارعت إلى رفض اقتراحاته وأعلنت مواصلة عملياتها المسلحة. لكن المهم يبقى الموقع الاستراتيجي المستقبلي لسورية: فإلى شمال شرقها، تسود غالبية كردية. ومدعاة أسف انسحاب القوات الحكومية من المنطقة هذه لأسباب غير معروفة، وشرعت الأبواب أمام بسط الأكراد سيطرتهم، فبادروا إلى نشر قواتهم في المنطقة كلها، ما ساهم في إرساء نوع من حكومة موقتة. في الشمال والشمال الغربي ومناطق من الوسط والجنوب، وحتى في ريف دمشق، أي في مناطق الغالبية السنية، لم يعد للحكومة وجود واضح وبارز، وخرجت المنطقة هذه عن عقالها. في الغرب من سورية المطل على ساحل البحر الأبيض المتوسط، يشكل العلويون غالبية السكان ولهم نفوذ قوي هناك.

ولكن ما موقف الأسرة الدولية إزاء مثل هذه الأوضاع؟ هل سيتحرك مجلس الأمن، ويعقد جلسة خاصة لإصدار بيان في هذا الشأن أم أن نموذج البلقان هو المطروح على بساط البحث لتقليل حجم الضحايا؟ لا شك في أن الجواب يحتاج بعض الوقت.

* سفير إيراني سابق، عن «اعتماد» الإيرانية، 7/1/2013، إعداد محمد صالح صدقيان

الحياة

إنجازات خطاب «الوداع»!

صالح القلاب

ربما ما لم يكن محسوباً حسابه، بالنسبة إلى الذين دفعوا بشار الأسد إلى مسرحية “أوبرا” دمشق يوم الأحد الماضي، أن يكون رد المعارضة الداخلية، التي طالما وصفت من قبل هذا النظام السوري وأعوانه في الخارج، على قلتهم، بأنها هي الشرعية وأنها معقولة ومقبولة، على هذا النحو وبهذه الطريقة وبوضع نفسها على الرصيف ذاته الذي تقف فوقه المعارضة الخارجية التي وصفها صاحب هذا الخطاب في خطابه بأنها عصابات قتل وإجرام، وأنها تأتمر بأوامر قوى أجنبية، وأنه لا يمكن محاورتها ولا الجلوس معها على طاولة المفاوضات.

أول ما قالته هذه المعارضة، التي تضم بين رموزها اثنين من كبار الوطنيين السوريين المخضرمين، هما حسين العودات وحسن عبدالعظيم، هو أن بشار الأسد اعتبر نفسه في هذا الخطاب منتصراً بينما هو غير ذلك، ويؤكد ذلك كله صحة كل ما قيل عن أن الرئيس السوري بدا في خطابه (الأخير) أنه لا يعرف حقيقة كل ما يجري في بلده، وأثبت أنه منفصل عن واقعه، وأنَّ هناك مجموعة تحيط به لا تطلعه على حقائق الأمور ولا على المعلومات الصحيحة، ولذلك فإنه ظهر في إطلالة يوم الأحد الماضي، وكأنه “غائب طوشة” وكالأطرش في الزفَّة.

أكد حسن عبدالعظيم، الأمين العام لهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي (في الداخل)، أن تجمع المعارضة الداخلية لن يشارك في أي مؤتمر للحوار الوطني قبل وقف العنف أولاً ثم إطلاق سراح المعتقلين وتأمين الإغاثة للمناطق المنكوبة المتضررة وبيان مصير المفقودين، وأكد أيضاً أنَّ أي تفاوض، وليس حواراً، يجب أن يكون بإشراف المبعوث العربي والدولي الأخضر الإبراهيمي وأنه “لن يكون هناك أي حوار أو تفاوض بيننا وبين النظام مباشرة، لأن مرحلة الحوار السياسي والحل السياسي فات أوانها وزمانها ومكانها”.

وجاء أيضاً في بيان لهذه الهيئة تلته أمينة سرها رجاء الناصر: “إن خطاب الأسد جاء ليقطع الطريق على ما حمله الإبراهيمي من مبادرة لحل سلمي يجري العمل على تحقيقه وتأمين توافق دولي روسي-أميركي لإنجاح هذا الحل”.

إن هذا هو واقع الحال فموقف المعارضة الداخلية من الناحية العملية بات لا يختلف عن موقف المعارضة الخارجية، وبيت القصيد هو أن خطاب يوم الأحد الماضي كان خطاب هزيمة، وليس خطاب نصر، وأن أهم إنجازات هذا الخطاب هو وضع المعارضة الداخلية والمعارضة الخارجية على رصيف واحد، وهو إضعاف لموقف حلفاء بشار الأسد، وأهمهم روسيا، الذين تمكنوا من تفريغ كل المبادرات العربية والدولية من مضامينها ولعبوا بعامل الوقت مراهنة على إمكانية القضاء على المعارضة المسلحة بالطريقة نفسها التي تم فيها القضاء على انتفاضة حماة عام 1982، فالأمور غدت واضحة كل الوضوح وهوامش المناورة بالنسبة إلى هؤلاء الحلفاء غدت شبه معدومة، فالرئيس السوري لم يذكر “المرحلة الانتقالية”، حتى مجرد ذكر، ولم يأت إلى ما تضمنته تصريحات فاروق الشرع المعروفة ولو بكلمة واحدة، كما أنه بدا في إطلالته (التاريخية)، وكأنه الجنرال الأميركي شوارسكوف، وهو يملي شروطه على الجنرالات العراقيين المهزومين في محادثات خيمة صفوان الشهيرة.

الجريدة

خطاب الأسد محاولة بائسة لتطمين اليائسين في سوريا.. ولبنان

                                            كارلا خطار

لم يأتِ “خطاب الحلّ” لرأس النظام السوري بشار الأسد من وسط دار “الأوبرا”، إلا بعدما أدرك أن الربيع العربي حلّ نظامه البعثي العبثي، وكشف خريفه المزوّر منبئاً بوداع قريب على وقع التصفيق وهدير سفن حربية روسية في طرطوس! إلا أن أبرز ما مرّره الأسد في خطابه، كان عبارة عن رسائل تطمين الى ضباطه وحاشيته في الداخل، كما الى حلفائه “الممانعين” في لبنان والمقتدين بسياسته والمؤمنين بأن الاستبداد هو الطريق الى الانقلاب على الشرعية، في سوريا كما في لبنان.

ليس غريباً بالنسبة الى “مجرم متمرّس” ورث “فنّ” الإبادة والمجازر والمحارق عن نظام والد حكم الشعب السوري بيد من سلاح، أن يعتبر أن 40 ألف قتيل هو نذير ربيع مزوّر. وفي حين يخوّن الأسد كل المعارضين لنظامه في الداخل والخارج، وبالتالي كل الشعب الثائر على استبداده، ويتّهمهم بأنه “غرباء”، فطرح في خطابه “مبادرة حوارية” استبعد فيها كل الأطراف المعارضة فلم يتبقَّ له بالتالي إلا أن يحاور نفسه، ولكنه “تنازل” وأعلن أنه لن يمدّ يده إلا لـ”الأحزاب والأشخاص التي لم تبع وطنها للغريب”، مطالباً بـ”إرجاع النازحين الى سوريا” وفي موقفه هذا تطابق مع مواقف قوى 8 آذار في الأسابيع الأخيرة والتي دعت الى إقفال الحدود وإرجاع النازحين من سوريين وفلسطينيين الى الداخل السوري.

من هنا، وطالما أن الأسد يصرّ على “استرجاع” الهاربين من إجرامه ليقضي عليهم في الداخل، لا بدّ أن تستكمل قوى 8 آذار، من جهتها، حملتها غير الإنسانية على هؤلاء المظلومين تلبية لرغبة الطاغية. وتجوز المقارنة هنا بين رئيس ارتكب المجازر بحقّ شعبه وبين أحزاب في الداخل اللبناني تضع خدماتها بين يديه، حيث يريد الأول التعاون مع “الأحزاب التي لم تبع وطنها للغريب” فيما يقبل، برضى “الممانعين” في لبنان، أن يبيع هؤلاء وطنهم للنظام السوري “الغريب”!

في خطابه لم يوفّر الأسد أي طرف لبناني، مستكملاً بذلك حملة التزوير التي كانت بدأتها وسائل إعلام قوى “الثامن من التزوير” كما وصفها النائب عقاب صقر، فدعا الأسد بالتالي الى “وقف تمويل وتسليح الإرهابيين من قبل الدول الخارجية”. ويُسجّل هنا للقاتل وللممانعين معاً تناغم في المواقف وتنسيق حرفي كامل في دقة تنفيذ الأوامر وتفويض واضح ومباشر من الأول الى الطرف الثاني لترهيب الأحرار في لبنان وسوريا بتحذيرات فارغة من أي مضمون.

كذلك وفي السياق عينه، يستعمل الأسد التحذيرات نفسها حين يستخدم عبارة “ضبط الحدود” التي لم تكن تناسبه في بداية الثورة السورية، فيما اليوم باتت الأكثر ملاءمة له ليمعن أكثر فأكثر في تلويث نفسه بدماء الأبرياء من رأسه حتى أخمص قدميه.. على المنوال نفسه تسير قوى 8 آذار لتكون بذلك الشريك الأساسي للأسد في سياساته الداخلية والخارجية، خصوصاً حين يربط “رئيسهم” من خارج الحدود، وقف التمويل بالسلاح وإعادة النازحين بإقفال الحدود، وهذا ما يؤكد ما نشرته “المستقبل” في التقرير الخطير حول إرسال الأسد مندسين بين النازحين.

و”خطاب الحل” ذاك، الذي بدا فيه الأسد أبعد ما يكون فيه عن أوصاف الأسد المفترس أو حتى عن اللبوة، فلم يكرر نفسه موضوعاً فقط إنما بدا “تكراراً” أو بثاً “غير حيّ” لخطاب رئيس مختبئ خلف جثث الأموات ومقاتلاً بهزء من بقي على قيد الحياة. بدا الأسد غريباً في داره “دار الأسد للثقافة والفنون” في دمشق، وربما هو أراد أن يكون خطابه ذاك، الخطاب المباشر الأول منذ سبعة أشهر، إلا أن ثورة الشعب السوري أعاقته أو بالأحرى أخافته.

حتى “جمهوره” بدا بارداً خلال تصفيقه الحادّ كما يظهر على الشاشة. جمهور برامج الألعاب والتسلية التي تحتاج لتحقق نجاحاً شكلياً الى “زقّيفة”، وتصفيق الجمهور لم ينجح في أن يرسم إشارة تفاؤل على وجه القاتل. خاف الرئيس من أن يحوّله الخطاب الحيّ الى رئيس ميت، وهو نصف حيّ، مدركاً أن الأحياء لن يصفّقوا له.. كان بإمكان بشار أن يخذف كلمة “خطاب” ليقدّم الحلّ الأنسب والوحيد لسوريا باستقالته الفورية.

وبعد هذا الخطاب، أضيف العديد من أوجه الشبه بين الزعيم “الناري” بشار الأسد والزعيم النازي أدولف هتلر، منها وأهمها أن هتلر ألقى خطابه الأخير من دار الأوبرا “كرول” في العاصمة برلين، فيما الثاني اختار دار الأوبرا التي تحمل اسمه في العاصمة السورية.. عساه أن يكون الأخير. وفي تحليل لمضمون كلامهما، يتّضح أن إعلان الحروب جاء انطلاقاً من واقع كل منهما الضعيف، حيث أعلن هتلر في خطابه ذاك الحرب على أميركا فيما شنّ بشار الحرب على كل العالم.

فعلاً خطاب المجرم يستحق تصفيقاً، فقد جاء في توقيت “محشور” فضح فيه بشكل مباشر لا يحتمل الشكّ مواقف قوى 8 آذار وأخرجها الى العلن والملأ وهي لا تزال تردد “طلباتك أوامر”. والظاهر أن “خطاب الحلّ” ليس فقط “منفصلاً عن الواقع” كما وصفته الخارجية الأميركية لا بل “منفصماً” عن نفسه ومتصّلاً فقط بـ”الممانعين” الذي يشكلون له “القشة” الأخيرة. يستحق خطاب القاتل التصفيق لأنه يردد لازمة “الأوبرا” ذاتها منذ اندلاع الثورة في سوريا في آذار 2011 دونما اعتراف بالأزمة الحاصلة، وأخيراً يستحق التصفيق لأنه صدَق حين قال لتلفزيون “روسيا اليوم” في حزيران الماضي أنه “سيعيش ويموت في سوريا”. “خطاب الحلّ” حلّ أعصاب بشار و”حلحل” معه أوصال النظام البعثي.. فهل يكون تأثيره “انحلالاً” على الممانعين في لبنان، أم أمر عمليات جديداً؟ وهل يكون خطاب الأسد هو الأهمّ لمستقبل سوريا كما كان خطاب هتلر؟

في هذا الإطار، يرى عضو كتلة “المستقبل” النائب أحمد فتفت أن الأسد “يردد في خطابه المواقف نفسها مثلما تفعل قوى 8 آذار منذ سنتين”. ويتابع “انطلاقاً من عقل بشار الأسد، فإن خطابه أمر عمليات يثبت من خلاله أنه موجود ولن “يتزحزح” وعلى الجميع التفاوض معه لأنه يريد أن يقيم إصلاحات يعد بها منذ سنتين من دون أن يحقق أي إصلاح”.

ويصف الخطاب الخطاب بأنه “لا يقدّم أي تطوّر فكري باتجاه طروحاته التي لم يبدّلها، رافضاً واقع الثورة معتبراً أن كل ما يحدث يتحمّله المتطرفون”. ويضيف “في خطابه أراد بشار القول أن لا أفق لأي حلول إنما استمرار للحرب”.

ويلفت أنه “في خطابات بشار كلّها لا وجود لأزمة في سوريا ولا لثورة شعب ومجازر”. مضيفاً “أما رسائله الى قوى 14 آذار التي تناولت وقف التسليح فباتت سخيفة ولا أحد يهتمّ لها لأن الواضح أن الطريقة التي يطرح من خلالها الأمور غير قابلة للتطوير”.

من جهته، يعلّق رئيس “اللقاء المستقل” وعضو الأمانة العامة في قوى 14 آذار المحلل السياسي نوفل ضوّ على خطاب الأسد قائلاً “سبحان اللي بغيّر وما بيتغيّر” موضحاً “كنا لغاية الأمس القريب نعاني من نظرية النظام السوري لشعب واحد في دولتين وكان النظام يرفض ترسيم الحدود مع لبنان وكان لبنان يصرّ على ترسيم الحدود ونشر الجيش اللبناني، غير أن النظام وقوى 8 آذار رفضوا هذا الموضوع”.

ويتابع ضوّ “أما اليوم فقد باتوا يطالبون بإقفال الحدود ومنع دخول النازحين الى لبنان..” ويضيف “الأمر سهل جداً، فالمزايدات لا تنفع فقوى 8 آذار هي الموجودة في السلطة والحكم وعلى الوزير جبران باسيل بدل أن يقيم مؤتمرات صحافية في البترون، أن يجد حلاً للأمور على طاولة مجلس الوزراء عندها يمكن أن نبني انتقاداتنا على مواقف الحكومة”، معلّقاً “لا يمكن لأحد أن يكون داخل الحكومة وخارجها في الوقت عينه”.

أما من الجانب السوري، فيرى أن “بشار الأسد ليس في موقع يسمح له بتوجيه الرسائل، حيث أن وضعه مزرٍ لدرجة فقد فيها البوصلة السياسية والأمنية”. مضيفاً “الطريقة التي تحدث فيها تؤكد أن المشكلة في سوريا لم تعد مشكلة الشعب السوري أو الثورة أو الحروب إنما مشكلة بشار الأسد الذي لا يجيد قراءة المعادلات الداخلية ولا الإقليمية والدولية”.

وعمّا إذا لمس تبدّلاً في مضمون خطابه، يشدد ضوّ على أن “الأسد يعود بنا في الذاكرة الى الاجتياح الأميركي للعراق والقذافي في باب العزيزية، لا أكثر ولا أقل”. وعما إذا كان سينعكس خطابه تغييراً أو تلازماً لسياسة قوى 8 آذار، يجيب ضوّ ممازحاً “علينا أن ننتظر يوم الثلاثاء!”.

المستقبل

أسئلة الثورة السورية مع نهاية عامها الثاني

                                            ياسر الزعاترة

بعد أسابيع سيكون بوسع شبيحة بشار الأسد والتحالف المساند له، الاحتفال بمرور عام آخر على الثورة السورية دون أن يسقط “نظام المقاومة والممانعة”، معتبرين ذلك دليلا على سخف التحليلات التي ما برحت تؤكد سقوطه خلال وقت قريب، أو قرب سقوطه بين شهر وآخر.

وبينما تطرح هذه المعضلة أسئلة كبيرة -سياسية وعسكرية- على الأطراف الداعمة للثورة، ومن ضمنها المجموعات المنخرطة فيها، فإن استمرار الثورة وتطورها يطرح في المقابل أسئلة لا تقل حرجا وخطورة على النظام والأطراف الداعمة له، فضلا عن الأبواق التي تتخصص في الشماتة في قوى المعارضة والمساندين للثورة، وكأننا أمام رهان حول مباراة لكرة القدم، أو رهان حول المدى الذي سيصمد فيه أحد اللاعبين في مباراة للملاكمة قبل وقوعه بالضربة القاضية، مع تجنب مقصود لسؤال: من سيحقق الفوز بالنقاط في نهاية المباراة؟

ما من شك أن قوى المعارضة تتحمل بعض المسؤولية عن بث الآمال بتحقيق نصر سريع على النظام خلال الشهور الماضية، وكذلك حال بعض القوى الداعمة لها، لكنها سترد في المقابل بأن جزءا من ذلك يأتي في سياق الحرب النفسية ضد النظام وأركانه ومسانديه، وقد تضيف -وهي محقة هنا- أنها لم تتوقع أن يكون النظام بهذا المستوى من الإجرام بحيث يصر على بقائه ولو على جثث السوريين ومقدرات بلدهم، كما أنها لم تتوقع أن يكون المجتمع الدولي -فضلا عن الوضع العربي (كذلك التركي إلى حد ما)- بهذا المستوى من التخاذل أمام غزارة الدم السوري وحجم تضحياته الرهيب.

لا ننكر بطبيعة الحال أننا -ومعنا كثيرون- عوّلنا على سقوط النظام خلال وقت قريب بعد وضوح تقدم الثوار بشكل جيد على الأرض، بينما توقعنا أكثر أن يكون هناك حل سياسي يقصي بشار الأسد، ويبقي على الدولة السورية ومن ضمنها الجيش الذي يمكن أن يكون جزءا من التسوية باستثناء كبار مجرميه.

لكن ذلك لا يعني أننا لم نتوقع أن تطول الحرب أكثر مما طالت حتى الآن، بدليل أننا قلنا منذ مطلع العام الجاري إننا أمام مشهد أفغاني بامتياز، وهو ما يعكس التكهن بإمكانية أن تطول الحرب على نحو ما حصل مع المقاومة ضد الغزو السوفياتي لأفغانستان، وإن اختلف المشهد في ظل الدعم الأميركي للثوار الأفغان، مقابل موقف معاكس في الملف السوري يتبنى إطالة المعركة من أجل تدمير البلد لحساب الكيان الصهيوني.

وبينما كان النظام يعوّل على عسكرة الثورة السورية كمحطة لإنهائها في زمن أسرع (كان يستجدي وجود مسلح واحد خلال الشهور الأولى كما قال فاروق الشرع من أجل التأكيد على أنها محض إرهاب، معولا على حساسية الغرب تجاه هذا البعد)، فإنه لم يتوقع -كما يبدو- أن يصل الأمر إلى هذا المستوى من التطور العسكري النوعي في فعل الثوار، وإلا فإنه لو قدم التنازلات التي أعلنها في خطابه الأخير للشعب في بداية الثورة، لكان بالإمكان قبولها من لدن كثيرين في أوساط المعارضة.

هذا البعد يؤكد أن حسابات النظام أيضا لم تكن دقيقة، وليس حسابات المعارضة وحدها، وحين نقول حسابات النظام، فنحن نتحدث عن حسابات مسانديه أيضا، وفي مقدمتهم إيران وروسيا، إذ لو اقتنعت كلتاهما بإمكانية وصول الأمور إلى هذا المستوى لدفعتا صاحبهما إلى قبول تسوية يحلم بها الآن ولا يجدها.

إن أقصى ما يحلم به هؤلاء جميعا هو قبول المعارضة بحكومة انتقالية تنتهي بدستور جديد وانتخابات برلمانية ورئاسية، لكن الموقف لم يعد كذلك بالنسبة للمعارضة التي يستحيل عليها القبول ببقاء بشار الأسد في السلطة ولو ليوم واحد، ليس لأنها ترفض ذلك من الناحية الأخلاقية أمام غزارة الدم والتضحيات وبشاعة جرائم النظام فحسب، بل أيضا لإدراكها أن من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- فرض تسوية من هذا النوع على فصائل الثوار التي تكاثرت وتعددت مرجعياتها على نحو لافت خلال العام الماضي.

الآن وفي سياق تقييم المشهد برمته، يمكن القول إن النظام فقد السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد لصالح الثوار، بخاصة الأرياف، لكنه في المقابل ما زال يملك السيطرة على معظم المدن، وبالتالي القدرة على الصمود لفترة طويلة، في حين يدرك الثوار أن تقدمهم باتجاه المدن ليس صعبا فحسب، بل -وهو الأهم- قد يفضي إلى قتل ودمار هائلين في ظل استعداد النظام لذلك، ولعل ذلك هو ما يدفعهم إلى التردد في دخول المدن، ربما باستثناء دمشق التي يشعرون أن دخولها سيفضي إلى إنهاء النظام، وقد فعلوا ذلك أيضا في حلب التي يسيطرون على أجزاء كبيرة منها لذات الاعتبار.

لكن المشهد له بعده الاقتصادي أيضا، إذ إن الحرب تكلف النظام عمليا قرابة مليار دولار شهريا (خزينته على وشك الإفلاس)، بينما تتخبط إيران في وضع بائس يجعل من الصعب عليها دفع الكثير لإسناده (روسيا لا تملك القابلية لدفع الكثير على الصعيد الاقتصادي).

أما الذي لا يقل أهمية، فيتمثل في حقيقة أنه كلما طال أمد الحرب، تتعمق الأبعاد الطائفية التي تجعلها أقرب إلى حرب أهلية بين أقلية لا تتعدى نسبتها 10% مقابل ثلاثة أرباع السكان، وإن لم ينخرطوا جميعا في الثورة.

والحقيقة أن مستوى انخراط السنة في الجيش النظامي بات محدودا إلى درجة واضحة ومفضوحة، بينما تتواصل الانشقاقات بشكل يومي، ولا تسأل هنا عن شعور الطائفة العلوية بأنها تخسر كل يوم عددا كبيرا من أبنائها في المعركة، رغم أن النظام لم يعد يميل إلى الهجوم على الثوار خشية تكبد المزيد من الخسائر، مقابل الاحتفاظ بمواقعه والدفاع عنها بالأسلحة الثقيلة والطيران.

سياسيا، يبدو الوضع سيئا بالنسبة للمعارضة، ذلك أن اطمئنان نتنياهو على مصير الأسلحة الكيمياوية بوجود فرق قوات خاصة (في الأردن) جاهزة للسيطرة عليها لحظة سقوط النظام، مع تطمينات روسية في هذا الصدد، قد أعاد الموقف إلى مربعه القديم الذي لا يمانع في إطالة المعركة بهدف التدمير، دون الخوف من اليوم التالي وشكل الحكم إثر قرار بناء الجدار في الجولان.

ومعلوم أن موقف نتنياهو هو الذي يحرك الموقف الأميركي، وتبعا له الغربي، بل يؤثر على مواقف تركيا والعرب الداعمين للثورة، بدليل أن الدعم المالي والتسليحي أخذ يتراجع خلال الأشهر الأخيرة.

في ضوء ذلك كله يبدو المشهد أكثر تعقيدا من أي وقت مضى، ويطرح أسئلة أكبر على النظام وداعميه وعلى المعارضة وداعميها أيضا، ذلك أن القول إن النظام سيتمكن من حسم المعركة قد بات وراء الظهور (تصريحات بوغدانوف وتصريحات الشرع مثالا)، تماما كما أن بالإمكان التشكيك في قول الثوار إن الحسم سيكون سريعا، وإن بقي التعويل قائما على انهيار غير متوقع في نظام أمني يصعب التنبؤ بلحظة انهياره، أو بتغير درامي في معركة دمشق -يصعب نفيه أيضا- يؤدي إلى انهيار سريع.

من هنا، فإن الأسئلة التي تطرح على النظام وداعميه تبدو أكثر تعقيدا من تلك التي تطرح على الثورة وداعميها، فهي في الحالة الأولى تشير إلى طريق مسدود تماما، بينما هي في الطرف الآخر تبدو مفتوحة على أفق النصر، مع تعقيد كبير في الشق المتعلق بالمدى الذي ستستمر خلاله المعركة، في الوقت الذي يبدو فيه الثوار جاهزين لمعركة طويلة، ليس لأنهم مصممون على ذلك فقط، بل أيضا لأن الخيار الآخر يعني الموت المحتم على كل المستويات.

في هذه الأجواء جاء خطاب بشار الأخير الذي كان من حيث الشكل محاولة للقول إنه رجل متماسك ومصمم على خوض المعركة، بل واثق من الانتصار فيها، لكنه لا يعني بحال إعلان رفض للحل السياسي.

صحيح أن ما طرحه كخريطة طريق للحل كان سخيفا إلى حد كبير، لكنه مثّل تراجعا كبيرا عما كان يطرح في السابق من حيث الاكتفاء بالإصلاحات التي أجريت. وفي الجوهر هو محاولة لرفع سقف التفاوض، ومنح روسيا وإيران ورقة أقوى عبر الإيحاء بتماسك النظام، مع العلم بأن جزءا من الإيحاء بالتماسك كان رسالة موجهة إلى النخبة العسكرية والسياسية في الداخل، وإلى المنظومة الطائفية التي تحمي النظام.

تداعيات خطاب بشار لن تكون في صالح النظام وداعميه إذا لم يتحركوا سريعا بطرح آخر، لا سيما أنه يأتي بعد أسبوع فقط من حديث الإبراهيمي عن حكومة كاملة الصلاحيات في سوريا، الأمر الذي رد عليه بشار بطرح لا يعني غير استسلام للثورة والشعب، أكثرَ من أي شيء آخر.

وبينما تعبنا من التعويل على رشد إيران التي تبدو الوحيدة القادرة على إقناع بشار بالتنحي لأجل تسوية سياسية، فإن الحل هو التعويل على بعد آخر يؤدي إلى حسم سريع للثورة. وهذا البعد يتمثل في اندفاعة عربية وتركية (سلاحا ودعما متعدد الأشكال) خلف الثوار تؤدي إلى حسم سريع، بدل هذه المراوحة أو التقدم البطيء.

بعد عامين من اندلاع الثورة السورية، يمكن القول إن الشعب السوري خسر الكثير على صعيد الأرواح والممتلكات، لكنه ربح في المقابل ثورة نبيلة رائعة ستظل تلهم الأجيال، في ذات الوقت الذي لم يؤد ما جرى إلى تشكيكنا لحظة واحدة، في أن النهاية هي النصر بإذن الله، مهما طال الوقت وكثرت التضحيات.

الجزيرة نت

سوريا: استثمار الفزع!

 يوسف الديني

أصبحت كل أزمات المنطقة مرتبطة بشكل ما بمآلات الأزمة السورية، ربما لهذا السبب تحديدا أدرك الأسد ضرورة استثمار حالة «الفزع» التي يعيشها المجتمع الدولي تجاه سوريا، خلال مدة ساعة تقريبا حاول الأسد فيها أن يستخدم فيها كل طاقاته البلاغية في إيصال حقيقة لطالما بشر بها حتى قبل انفجار الأحداث في سوريا، وهي أنه يعتبر نفسه وحزبه سوريا دون الآخرين، بحيث لا يمكن أن تبقى سوريا كما كانت بعد رحيله، في تلميحات إلى قسر المزاج الدولي على تقبل «التقسيم»، أو التنازل عن رحيله، أو بقاء الأزمة في أتون حرب الشوارع وانتشار القتل المجاني بدم بارد.

في السياسة لا مجال للعاطفة أو التحليل المبني على معطى رمزي عادة ما يتم الحديث عنه بنرجسية بالغة، وهو الوطن العربي الكبير الذي تحول إلى أوطان مهددة بانقسامات صغيرة وهشة، واللافت في الموضوع أن رمزية «الوطن» غير المقسم وبطريقة عاطفية هي الحجة التي يرفعها أنصار بقاء النظام في سوريا مع الإصلاحات كضمانة بين تشكلات المجتمع المتنوعة، على اعتبار أن هؤلاء المبررين للقتل في سبيل الوحدة لا يرون في الأسد إلا صيغة غير دينية قابلة لفرض سيطرتها على الأرض بالكامل، ولا يهم بعد ذلك التفاصيل البعثية أو العلمانية، كما يحاول أن يلمع الأسد الآن باعتباره مفارقا لطغيان الميليشيات الدينية التي اجتمع فيها طوائف كثيرة؛ من «القاعدة» وحتى المقاتلون أبناء الحرب الطارئون ممن دفعتهم ظروف الإبادة الوحشية إلى اختيار السلاح، في ذات الوقت فإن جزءا من عجز المناصرين للثورة السورية يتبدى في القبول بالأمر الواقع على الأرض فيما يخص المعارضة التي كان لشتاتها وتفرقها وتباين أجندتها وعدم سيطرتها على بعض القوى المسلحة أكبر الأثر على بقاء الأوضاع على هذا النحو من التردي، وكل ذلك بسبب أنه لا أحد يفكر فيما تفرزه معطيات الأرض من سيناريوهات التقسيم التي يبدو أن تقييمنا لمزاج المجتمع الدولي تجاهه أيضا يحظى بكثير من العاطفة.

الأكيد أن سيناريو التقسيم يحاول بشار الأسد أن يجعله نتيجة وليس سببا لعدم ضمانة بقائه وعدم رحيله، وهو يحاول الاحتماء بالخارج عبر التهويل من خسائر المصالح الدولية الكبرى في سوريا، سواء لحلفائه الذين بدأوا أكثر من ذي قبل يشعرون بأنها حرب وجود أو عدم في المنطقة، كما أن إتاحة المجال لصحافيين غربيين لنقل تقارير عن أخطاء وانتهاكات تقوم بها بعض المجموعات المسلحة هو جزء من استثمار الفزع عبر تصوير الحالة على الأرض كعنف فوضوي لا يمكن السيطرة عليه، هذه الوصفة السحرية للتمهيد لحالة التقسيم يطرحها السوريون عبر آلة القتل والدم، لكن تقدمها لنا مشاهد سياسية عربية أخرى عبر الاستئثار السياسي والانفراد بالكعكة الذي بدا واضحا في الحالة العراقية والسودانية، وهي ليست إفراز ربيع عربي، وفي ذات الوقت تفرزه بنسب مختلفة حالة الربيع العربي كما هي الحال في تونس ومصر التي يتم استثمار وحدة البلاد فيها لصالح أجندة فصيل سياسي واحد.

المعطيات الجديدة التي أفرزتها لنا الأزمة السورية والتي لعب فيها صمت المجتمع الدولي وتباطؤه وتقاعسه عن طرح حلول جادة أو التفكير خارج صندوق المصالح الضيقة تبدو كارثية جدا، ويوما بعد يوم تزداد الفجوة بين الداخل السوري الذي يحكمه منطق القوة والغنيمة، وبين الخارج الذي يحاول استثمار التقدم على الأرض في سبيل أجندته السياسية، ومن هنا فإن الانفصال بين «الثوار» أو المقاتلين الفاعلين على الأرض، وبين من يتحدث باسمهم في الخارج، يبدو كبيرا في حالة قد تلقي بظلالها إذا ما رحل الأسد لسبب ما.

النظام السوري يهمه نفوذه وسلطته، على الأقل في القسم الشمالي من الساحل السوري وصولا لحمص التي تعتبر مع ريفها نقطة حاسمة جغرافيا، وهو الأمر الذي لا يمكن إلا أن ينعكس على لبنان، وبالتالي المنطقة معرضة لحالات من الانقسام اللانهائية، لكن ليس بفعل مؤامرات الغرب وإنما أخطاء فادحة من التيارات السياسية والأنظمة التي لا تفكر أبعد من أرنبة مصالحها.

هناك من يطرح الآن مشروع طائف سوري مشابه للطائف اللبناني الذي أخمد فتيل الحرب الأهلية، لكن تعايش الطوائف السورية تحت سقف دستور ينظم العلاقات بين كل الكتل لا يمكن أن يتم إلا بوجود برلمان تعددي قوي تكون الأغلبية فيه سنية وتتوزع الحصص على باقي الطوائف الصغيرة، لكن العوائق تبدأ ولا تنتهي بأن طائفا كهذا بحاجة إلى رعاية دولية توافقية، وهي غير موجودة، إضافة إلى تشكلات المجتمع السوري بسبب هيمنة حزب البعث لا تعرف هذا النوع من الفوارق بين مكونات المجتمع.

يقابل مشروع الطائف التقسيم، وهو لا يمكن إلا لثلاث دول على الأقل؛ سنية وعلوية وكردية، وهو ما يعني تفجير ملفات إقليمية مع تركيا التي يستحيل أن تقبل بسيناريو كهذا، وبالتالي فإن جزءا من ارتباك المشهد السوري وبقائه معلقا ليس فقط راجعا لمعطيات الأرض، وإنما إلى ارتباك الأطراف الإقليمية حيال سيناريوهات الحل بعد إيمانها أن لحظات الحسم قد حانت.

الحالة السورية الآن تعيش مرحلة «ترتيب الكراسي»، فالنظام يريد أن يكون طرفا في الحل، لكنه يريد أيضا أن يجلس بجانبه معارضة لا يعرفها الشارع ولا تؤثر فيه، ومن ثم يتم حصار كل الثورة السورية في مجموعة من المقاتلين الخارجين عن القانون من التكفيريين والقاعديين الذين تقول روسيا إن ثمة احتمالية كبيرة لأن يستولوا على الأسلحة الكيماوية، وبالتالي حتى الروس يقلدون الأسد في استثمار الفزع وإعادة بيعه للمجتمع الدولي كغطاء لاستمرار حالة الصمت.

الأسد رغم بلادة خطابه وتكراره وعنجهيته أدرك أن الجميع يستثمر في عامل الوقت، وأن عاما سوريا جديدا يتم الترقب بشأنه، ليس من قبل السوريين وإنما العالم والمجتمع الدولي، وهو يحاول تسويق رؤيته للحل بالتزامن مع أطروحات إيران التي تتضمن انتخابات نيابية ورئاسية يترشح الأسد فيها مع الآخرين، وبالتالي يراهن على قدرة البعث الطويلة في كسب الأصوات وإزهاقها أيضا، وحين يفوز في انتخابات ستبدو نزيهة لن يجرؤ أحد على الاعتراض، فأحد مكاسب الأسد وأمثاله العميقة من تجربة الربيع العربي هو أن القيم السياسية والإنسانية اكتسبت شكلا آخر، فالديمقراطية يمكن أن تفرز سلطة الحزب الواحد، وأن التعددية يكفي أن تكون شعارا براقا أو جدلا بيزنطيا على قنوات الإعلام لا يؤثر على الواقع، واحترام القضاء واستقلاليته يمكن القفز عليه بالتطهير، وبالطبع لا يهم الاقتصاد مهما انحدر، فالثورات أخذت وقتا طويلا لكي تتعافى.

الأكيد أن هذا عام الحسم للأزمة السورية، لكنه أيضا سيكون عام انهيار القيم وإعادة تشكل للمفاهيم السياسية وإن ظلت مسمياتها.

الشرق الأوسط

هل لفقاعة الصابون ان تسقط الاسد؟

د. خليل قطاطو

صدح الرئيس السوري بشار الاسد من على منصة دار الاوبرا، القريبة من قصره، في دمشق، جلّق (الفيحاء)، بأحدث خطبة في السادس من يناير، وسط حشد كبير من معجبيه. بعضهم جاء مقتنعا، وربما أحضر معظمهم رغما عنهم، تحت تهديد السلاح لينضموا الى الجوقة رغم أنوفهم، وينفذوا التعليمات، بالهتاف والتصفيق بحرارة واضحة.

أعترف الاسد بوجود أزمة، واعترف أيضا بانعدام الامن. المنطق يقول انه في حال فشله في توفير الأمن للمواطنين، فالاجدر به ان يتنحى فمهمة توفير الامن للمواطن هي ابسط حقوق المواطن على الدولة. في علم الاجتماع نشأت الدول بداية لتوفير الامن وبسط القانون تحت مظلة العدل الاجتماعي، في سوريا اليوم لا عدل ولا امن ولا قانون، ولا وجود للدولة.

بدا الرئيس بشار الاسدا مستعدا لتغيير الدستور والبرلمان والحكومة، كل شيء، عداه، فهو ثابت في منصبه. شبّه العلاقة بينه وبين المعارضة بالزواج، قال انه يجب ان يوجد الشريك المناسب اولا، الشريك الذي يرضى به الطرف الاخر. انه يدرك ان استمرار هذا الزواج اصبح مستحيلا، ولكنه لا يريد ابغض الحلال، ونسي ان المعارضة خلعته، وهو لا يريد ان يمسك بمعروف ولا يسرح باحسان، ولا يريد الا ان يتركها كالمعلقة.

وصف المعارضة باللصوص (وهو يدرك تماما من الذي سرق البلاد) ووصفهم بالامعة، باعداء الوطن واعداء الله، واعداء الله مصيرهم جهنم (كما يقول سماحته)، وبالطبع مصيره هو وضباطه وشبيحته الفردوس الاعلى، في عليين لأنه نشر العدل بين الناس، ولم يقتل اي نفس بغير حق، فالعصابات الارهابية المسلحة هي التي تملك طائرات الميغ وتقصف طوابير الناس امام المخابز ومحطات البنزين، ولا بد ان السماء هي التي تقذف ببراميل المتفجرات على روؤس الناس الامنة في منازلها، لأنهم اعداء الوطن واعداء الله ،على حد تعبيره.

يصف الرئيس بشار الاسد الربيع العربي بفقاعة الصابون. لم يكن هذا رأيه في الثورة المصرية التي اطاحت بالرئيس حسني مبارك في الحادي عشر من فبراير 2011، على اعتبار ان ذلك النظام كان رجعيا في معسكر الاعتدال العربي مقارنة بنظامه، نظام المقاومة والممانعة. اللافت للنظر انه لم يردد هذه العبارة في هذا الخطاب (التاريخي !) ربما سقطت سهوا، وربما ادرك بعد سنة واكثر من نصف السنة ان هذه النكتة اصبحت قديمة وممجوجة.

لم يقل لنا سيادة الرئيس كيف امكن لفقاعات الصابون هذه ان تطيح ببن علي ومبارك والقذافي (وصالح مجازا) ولكنها ستكون عاجزة عن الاطاحة به، هل لأن الصابون السوري مختلف؟ ام لأن الدبابيس التي ستفقع الفقاعة السورية هي دبابيس مضمونة الفعالية لأنها صنعت في ايران وروسيا والصين (والكل يعرف جودة الصناعة الصينية) !!مثلا.

الرئيس السوري مقتنع جدا بنظرية المؤامرة الكونية على سوريا، مؤامرة عربية، اوروبية، امريكية، واسرائيلية. اذا كان هؤلاء الثوار (الارهابيون كما يسميهم) هم مجرد ادوات في ايدي هذة الدول ويأتمرون بامرها (أمعة) فلماذا تبني اسرائيل بينها وبين حلفائها الجدد جدارا جديدا (على طول حدود الجولان) ،أفتنا يا سيادة الرئيس؟!، كما اوشكت على الانتهاء من بناء الجدار على طول سيناء مع حلفائها الجدد في مصر كما يحلو لاصحاب نظرية المؤامرة النظر الى الامور والربيع العربي تحديدا. مسكينة اسرائيل هذه فقد تحتاج لبناء جدار جديد على اطول جبهة لها اذا نجحت فقاعة الصابون في الاردن. بذلك تكون اسرائيل قد احاطت نفسها بالجدران والاسوار والاسلاك الشائكة من كل الجهات. بذلك يتبخر الحلم الصهيوني، من النيل الى الفرات (اذا نجح الربيع العراقي) ولن يبقى للاسرائيليين الا ان يهربوا الى البحر (من حيث اتوا) او ان نرميهم للاسماك الجائعة في المتوسط كما كان يردد عبد الناصر ومذيع صوت العرب الشهير احمد سعيد قبل ان نصحو على هزيمة 1967 المريرة.

الربيع السوري طال (وطول)، والثوار يشكون من قلة المال والسلاح مؤخرا، والتفوق الجوي للنظام لا يمكن تجاهله، والانشقاقات ليست بالالاف بل بالعشرات فقط، والدعم الامريكي والاوروبي بالكلام فقط بينما السلاح الروسي والايراني لا ينقطع لدعم بشار الاسد. لهذا كله قد يكون النظام ما زال يعتقد انه المتفوق عسكريا وقادر على الحسم، وربما لهذا السبب استخدم الاسد عبارة فقاعة الصابون .لكن هذا لا يجدر به ان يبعث على اليأس ابدا فثورات الشعوب لا تنجح أو تفشل بمقياس التوازن العسكري، هي تملك الارادة والتحدي والعزم التي تمكنها من مجابهة التفوق العسكري. في التاريخ ألقديم والحديث من الأمثلة ما لا يعد ولا يحصى.

الربيع السوري يوشـــك ان يصــــل الى ربيعه الثالث، لا بأس، ولكنه مستمر رغم كل الصعوبات .الربيع السوري ثورة شعبية شاملة بكل معنى الكلمة. انه ليس فقاعة صابون ، اما اذا كان بشار الاسد يؤمن انها كذلك، فلربما تكون أول فقاعة صابون في التاريخ (سيصدقها) ستطيح بدكتاتور، ومرحى بفقاعات الصابــون التي ستعم المنطقة من بعد، وحمام الهنا يا سيادة الرئيس.

‘ كاتب فلسطيني

القدس العربي

الأسد: القول الفصل

نهلة الشهال

اختار إطاراً حضارياً لأول ظهور علني له منذ ستة أشهر: دار الأوبرا في ساحة الأمويين، في قلب دمشق. لعل من نظم الأمر لم يفكر كثيرا في هذا المعنى، بل حكمت خياراته الاعتبارات الأمنية مثلا. ولا يبدو كذلك أن المراقبين عموماً ومن كل صنف قد تأثروا بدلالات مفترضة للمكان المختار… ما يعني فوات القصد، إن كان ثمة قصد.

قدّم الأسد في خطابه رؤية متكاملة، ووصفاً لامس السرد الروائي («story telling») كوسيلة إعلامية وديماغوجية في آن، أبدع فيها القادة الغربيون، وبالأخص منهم الأميركيون، في العقود الثلاثة الأخيرة. وهؤلاء يستندون إلى تراث هوليوود العريق والمكين، بينما الرئيس السوري أكثر عراء من ذلك. ولذا، فما كدنا نرى الأشرار («التكفيريون» هنا) يكمنون في المواقع الخلفية ثم يظهرون حين اضطروا أو دعت الحاجة لاحتلالهم الواجهة، حتى غابت المشهدية، وعدنا بسرعة إلى فجاجة الخطاب السياسي المباشر، بلا بصريات ولا انفعالات تمس المشاعر وتؤثر في كسب قلوب الناس. ثم أن الناس هنا ليسوا على قدر من الطمأنينة يجعلهم قابلين لتصديق «الرواية»، وتبنيها والانحياز بمقتضاها. فهم وبلادهم غارقون في ما أسماه الأسد «الأزمة»، معرفاً إياها بأنها نتاج «عدوان خارجي شرس من طراز جديد» وبأنها حرب حقيقية «أشد فتكاً من الحروب التقليدية». ها قد وُضع الإطار العام الذي تنسلّ منه بعد ذلك بقية الرؤية.

وإن قيل أن في موقف الأسد جديدا، لأنه على الأقل غادر موقع إنكار الواقع الذي تمسك به حتى الآن، المستخف بما يجري، كعارض سيتم تجاوزه «غداً»، فلا بد من ملاحظة أمرين هما: أولاً، اتساع نطاق الدمار والقتل، واشتدادهما واستمرارهما، بحيث استحال إنكار «الأزمة»، وثانياً، الانتقال من الاستخفاف إلى نوع من التعظيم، يصوّر الأحداث الجارية في سوريا كحرب عالمية مكثفة. وهو ما يلتقي مع المنظور الذي لا يرى فيها سوى بُعدها الجيوستراتيجي، منكراً أن يكون وراء الانتفاض السوري دوافع اجتماعية ـ سياسية داخلية. وقد شدد الأسد في خطابه ذاك على الأمان الذي كان متوفراً وحُرم منه السوريون، كما حُرموا من الخبز والماء والدفء والكهرباء. ومن كان يتمتع بذلك كله فلماذا يثور؟ بل الثورات العربية كلها، تلك التي سمّيت «ربيعاً»، ليست سوى «فقاعات صابون ستختفي»، في تجسيد نادر الوضوح للرؤية الجامدة او الستاتيكية للتاريخ، الذي تتراوح محركاته بنظر الطرف المهيمن بين المؤامرة والوهم، وكلاهما حاضر في خطاب الرجل.

بل عرّف الأسد الثورات: هي تُبنى على الفكر وتحتاج إلى مفكرين وقادة. فأين هم هؤلاء؟ والثورة عادة «ثورة شعب، وليست ثورة مستوردين من الخارج ليثوروا على الشعب»، خالصاً إلى أن هؤلاء ليسوا سوى «حفنة من المجرمين». ها قد قضي الأمر، لتصبح تتمة ذلك منطقية: مطاردة المجرمين والقضاء عليهم كرمى لعيون الشعب المظلوم ودفاعاً عن مصالحه.

تلك كلها هي عناصر «الشرعية» التي يعتد بها الأسد ليعلن استمراره ليس في السلطة فحسب، بل في ارتكاب ما يرتكب «مهما كان مؤلماً». وبعد ذلك تجيء التفاصيل. فالرئيس يعترف بضرورة الإصلاح ويريده، ولكن ليس من دون الأمان. الترجمة: استتباب الأمر ـ له ـ شرط أي إجراء إصلاحي. وهو كاد يتعثر بتلك المعادلة الغامضة التي أطلقها، من أن «الإصلاح من دون أمان كالأمان من دون إصلاح»، ووظيفتها على الأرجح التحول إلى شعار يسهل استخدامه. ثم تعثر في الشعار الثاني الذي أطلقه حول الافتقاد إلى شركاء للسير في العملية السياسية. ومرد بؤسه عناصر متعددة، يقف في مطلعها أنه مُستعار مباشرة من الأدبيات الإسرائيلية التي اشتهرت بتبرير إخفاق العملية السياسية السلمية مع الفلسطينيين بقولها «ليس لدينا شريك». ولكن، وعدا كذب الادعاء، وبغض النظر عن الاستحالة الخاصة بالموضوع الفلسطيني، يبقى الإسرائيليون والفلسطينيون طرفين عدوَّين، يحتاج كل منهما لمقابل أو شريك لتجاوز حالة العداء، بينما لا يستقيم في الحالة السورية استخدام تعبير «الشركاء» من قبل السلطة المهيمنة، بقصد تعريف ممثلي قوى سياسية وطنية فاعلة. فإن غابوا، كان مرد العطب في نظام الاستبداد المديد الذي سحق تعبيرات المجتمع عن نفسه وأنكر عليه حقه في ذلك، وقمعه كلما أنتج مثل تلك التعبيرات، حتى خارج السياسة، في الثقافة والفن مثلاً. نظام استبداد خانق، يعيّن على الدوام وباستمرار ما يجوز وما لا يجوز، في كافة المجالات، ويصادر تمثيل المجتمع ويحتكره، أي يلغيه.

وذلك تحديداً ما يسمح للأسد بإعلان أفكاره تلك بوصفها هي المرحلة الانتقالية! وهو ينتقد مبادرة جنيف لاحتوائها بنداً «غامضاً» حول المرحلة الانتقالية. ويسترسل، مازجاً بين اللفظية والتذاكي (تشبه المهاترات فيما القصد عادة هو الإفحام)، بالتساؤل عن «الانتقال من أين إلى أين؟» الخ… لا حاجة إذاً للانتقال إلى تأسيس شروط التسوية العامة في البلاد، أي تجديد بلورة العقد الاجتماعي الذي يستند إليه أي حكم. يتناسى بشار الأسد، أو يجهل ـ بما انه ورث السلطة فحسب ـ أن ذاك كان قانوناً نَظَم وصول والده إلى حكم سوريا. فلم يكن لانقلابه أن ينجح (من ضمن عشرات محاولات الانقلاب الفاشلة)، ولم يكن لسلطته أن تستتب (بينما عرفت سوريا قبله فترات تقلب متكرر واضطراب مشهود)، لولا أنه طرح عقداً توافقياً على القوى الاجتماعية السورية المتعددة، حاول فيه أن يوائم بين ما كان يلائم بازارات دمشق وحلب، أي من جهة الوعد بالاستقرار الذي كان مفتقداً منذ الاستقلال، وبالخلاص مما تحول طفولية يسارية لإسلافه المباشرين، ومن جهة أخرى الوعد برعاية الارتقاء الاجتماعي للطبقات الأكثر فقراً من الريف والمدينة، عبر الدولة الرعائية التي تعترف بالحق في التعليم والطبابة المجانيين، وتتبع سلسلة من التدابير الإنتاجية (في الزراعة والصناعة وفي كثافة التوظيف في القطاع العام) توفر العمل وإمكانية العيش للناس. عوض الانشغال بذلك، يتكلم الأسد عن «جروح عميقة أصابت أنسجة مجتمعنا». وقبل أن يأمل أي كان باستخلاص معقول انطلاقاً من هذا الإقرار، ينتقل الأسد إلى تعريف مهمته بأنها «استرجاع سوريا ثقافياً واجتماعياً وأخلاقياً»، مما يلقي الرعب في النفوس، لأن تلك تعبيرات فاشية.

وفي انسجام تام مع ممارسات القوى التي قفزت للسيطرة على السلطة عقب الثورات في مصر وتونس، ينتهك الأسد المفاهيم. فعلاوة على الاعتداء على مفهوم المرحلة الانتقالية، الجوهرية في أي عملية تأسيس للمستقبل، سواء جرت سلمياً، أو في أعقاب عنف فظيع (كما هي الانتقالات في أميركا اللاتينية بعد الخلاص من الديكتاتوريات العسكرية والبوليسية)، يقوم الأسد بالاعتداء على مفهوم الدستور. فكل ما يقوم به حالياً، وما سيقوم به، محصن بالدستور! وطالما أن الأمر يستلزم كتابة نص ببنود كثيرة، فليكن. وفي هذا ابتذال خطير، إذ يفترض بان الدستور شأن خطير، لأنه يبلور التصور الوطني العام، المشترك والتوافقي، بما يتجاوز أغراض اللحظة.

تلك هي جميعها ما يمهّد لتقديم الأسد لحله السياسي. لا يوجد الكثير مما يستحق التعليق في «مراحل الحل» المقترح، فما ينظمها هو عنوان واحد: تحكم السلطة القائمة بتلك الآلية، وبالتالي بنتائجها. وهذا يخرج المقترح من دائرة الجدية أو الفعلية، ويجعله خطوة شكلية… إلا إذا أخذنا على محمل الجد تلك الدعوة لـ«محاورة السيد لا العبد»، كمحاولة (بائسة) لاستعادة تقاليد في الصفقات مع الأميركيين اتبعها الأسد الأب، أو كصيغة لحصر التفاوض بالمستوى الدولي. وفي هذا المجال تحديداً، أكثر من سواه، يظهر الشبه الكبير بين السلطة السورية ومعارضتها الرسمية، التي تمارس مقداراً مماثلاً من التصورات والمقترحات المتسمة بالشكلانية، فتفضح مفهوما قطعياً للسياسة، يكاد يكون برانياً، وتضع سوريا في دائرة الاستعصاء وفي مسار «حتى النهاية» المرعب.

السفير

ما يريده بشار!

سعيد ناشيد *

في خطابه الأخير، والذي قد يكون آخر خطاباته، ومن داخل دار الأوبرا بدمشق في ما يبدو، قدم بشار الأسد ثلاثة اعترافات مصيرية: أولاً، اعترف بأنه قد اختار الحل الأمني منذ الوهلة الأولى، ليقينه بأن السلمية لم تكن سوى قناع يخفي السلاح. ثانياً، اعترف بأن العمليات القتالية ستستمر بالضرورة وبمعزل عن أي مبادرة سياسية.ثالثاً، اعترف بوجود مواطنين مدنيين يقاتلون بجانب الجيش النظامي، وهم الذين يسمون بـ «الشبيحة».

فما الذي يريده بشار الأسد؟ إليكم ما يريد: يريد أن يتوقف الاحتجاج على القمع قبل أن يتوقف قمع الاحتجاج. ثم ماذا؟ لا ينكر أنه يريد شركاء سياسيين قد لا يمانع في محاورتهم لكنه ينفي وجود شركاء كما يريد، ولذلك لا بأس أن يحاور من يريد. ثم ماذا؟ يريد أن يصدر عفواً عاماً في يوم غير معلوم لكن، تبقى المتابعة باسم الحق الخاص قائمة في حق من يريد. ثم ماذا؟ يريد إصلاح البلاد لكن، على النحو الذي يريد ومتى يريد وكيف ما يريد. ثم ماذا؟ يريد أن يصادق على المبادرات الدولية لكن، بالتأويل الذي يريد. ثم ماذا؟ يريد أن يستمر في الحل الأمني من دون أي أفق زمني محدد. ثم ماذا بعد؟ بشار يريد شعباً لا يشبع من ترديد شعار: «الله، سورية، بشّار وبس». لأنه وحده من يريد.

مختصر الكلام، ليس هناك شيء اسمه ما بعد بشار.

هل بقي ما نضيفه في الأخير؟ من أبرز زلات لسانه (وليس يخفى أن زلات اللسان كاشفة في التحليل النفسي) أنه قال: «ضباطي وصف الضباط»، قبل أن يستدرك بحذف ياء التملك.

تلك زلة لسان تقول كل شيء عن كل ما يريده بشار الأسد.

* كاتب مغربي

الحياة

الأسد في الأوبرا!

طارق الحميد

على مدى قرابة ساعة كاملة تحدث بشار الأسد في دار الأوبرا السورية بدمشق، فقدم خطابا نشازا مليئا بالغرور والغطرسة، وأظهر أنه رجل مفصول عن الواقع، ولا يمكن توقع الوصول معه إلى تسوية، أو اتفاق، حتى وإن كان الأسد نفسه بات مقتنعا بأن الأمور في سوريا لا تسير لمصلحته.

خطاب الأسد كان خطاب غرور، وردا مباشرا على الروس، وغيرهم، بأن لا تسوية، وأنه لو كان هناك من تسوية فإن الأسد هو من يضع بنودها، وشروطها، ويشرف عليها، فالأسد كمن قال للروس: اذهبوا للجحيم، وإن كان الأسد نفسه مدركا، وحسب ما قال في خطابه، أن الأوضاع في سوريا لم تعد تسير وفق مصلحته، خصوصا عندما قال: «نلتقي اليوم والمعاناة تعم أرض سوريا، ولا تبقي مكانا للفرح في أي زاوية من زوايا الوطن؛ فالأمن والأمان غابا عن شوارع البلاد وأزقتها». وهذا هو الكلام الصحيح الوحيد في خطابه، لكن ذلك لا يعني أنه سيتعلم من تجارب غيره، بل إن ذلك يعني أن الأسد سيقوم بمزيد من الجرائم. فما طرحه الأسد من مبادرة ليس إلا لعبة واضحة، وهو ما تنبه له كل من وزيري خارجية بريطانيا وتركيا، وكذلك الاتحاد الأوروبي، الذين سارعوا إلى مطالبته بالتنحي ووصف خطابه بالرياء، وهو كذلك وأكثر.

الأسد كان يحاول إقناع من تبقى من أنصاره بأن ما يحدث في سوريا هو عمل إرهابيين، وإسلاميين يريدون العودة بسوريا إلى القرون الوسطى، والحقيقة أن كل من زار سوريا في السنوات الأخيرة يعي ويعلم أن سوريا تحت ظل الأب والابن تعيش في قرون التخلف، وأبعد ما تكون عن دولة مدنية متحضرة، بل هي دولة بوليسية متخلفة قائمة على تأمين حكم الأسد لا أكثر ولا أقل. ولذا فإن كل ما طرحه الأسد ليس إلا لعبة جديدة قديمة من ألعابه التي استخدمها في لبنان والعراق، وسوريا نفسها طوال فترة حكمه، وطوال الثورة السورية.

ما قاله الأسد يظهر أن لا أمل في الوصول لاتفاق سلمي معه، وهو غير قادر أساسا على استيعاب خطورة ما يدور حوله، فالأسد في خطابه الأخير كان مثل القذافي، لكن دون خفة ظل، ومع غرور واضح، ومحاولة مستميتة للتذاكي على الجميع، بمن فيهم من دعموه مثل روسيا، التي لا شك أن الأسد قد أحرجها في خطابه الأخير.

اليوم، وبعد خطاب الأسد، فإنه لا مناص من العودة إلى طرح ضرورة التدخل الخارجي، وبطرق مختلفة، أبسطها التحرك الآن لدعم الثوار بالسلاح النوعي، وتحديدا الأسلحة القادرة على تعطيل طائرات طاغية دمشق، فمن شأن ذلك أن يعجِّل باقتراب نهاية الأسد، خصوصا أن الثوار يحاصرونه من كل مكان، لكن تبقى الطائرات الحربية هي العامل الفارق، ودعم الثوار بالأسلحة النوعية من شأنه أن يمكنهم من فرض سيطرتهم على المطارات العسكرية، وتطهير سماء سوريا من طائرات الطاغية.

خطاب الأسد في الأوبرا كان نشازا، لكنه بمثابة رسالة للمجتمع الدولي أنه آن الأوان للتدخل في سوريا الآن، فلا أمل في الوصول إلى حل سلمي مع هذا الطاغية بأي حال من الأحوال.

الشرق الأوسط

خطاب الوداع

يوسف الكويليت

الأسد خطب كعادته بمطولاته التي اعتادها، لكن ملامحه بدت غائرة، وليست بلاغة الصياغة والصوت الجهوري هما الحل وربما يكون خطاب الوداع ؛ لأن الرجل كابر لا بأوصافه ولا بطروحاته حيث أظهر نفسه بأنه المنتصر، وقبله من قال إنه فهم شعبه، وآخر نفى التوريث، وثالث شبههم بالجرذان وأُخرج من ماسورة صرف صحي، الأسد لم يستطع أن يكون واقعياً ليعترف بأنه سبب الأزمة وفي زواله حلها، وطبعاً هناك ما يوحي بأنه ذاهب إلى آخر نقطة حتى ولو حلت الكارثة عليه وعلى عائلته..

الحلول لم تعد تُصنع من الخارج لأن من يؤيدون الأسد هم متلازمون معه بالوجود، ولذلك لا تراجع عندهم سواء روسيا أو الصين أو إيران، بالمقابل من يدعمون المعارضة والجيش الحر ماضون إلى آخر نقطة.. وعملية مَن يحاور مَن ليست أكثر من سعي الأسد لأن يكون مصدر السلطات لتدور عمليات المصالحة والحوار والخيارات كلها من سلطته دون غيرها وهذا تجديف سياسي في سراب..

الثوار مجرمون، قطّاع طرق، مستورَدون من الخارج، لكن من وصلوا إلى عمق حلب ودمشق وحماة وغيرها لم يكونوا نبتاً شاذاً، لقد خرجوا على ظلم الأسرة والطائفة، وقبلوا التضحيات وهي ثورة بمقاسات الثورات التاريخية، فقد بدأت سلمية لكن الأسد قابلها بدباباته وهنا أخذت المسارات اتجاهاً آخر حيث إن تضامن الشعب مع نواة الجيش الحر والمعارضة هو الإضافة لأن تتوحد الفصائل بمختلف اتجاهاتها ومذاهبها لإسقاط النظام وهو خيار يريد الأسد التهوين منه ونفيه، بينما يناقض نفسه بطلب إلقاء السلاح ووقف الدعم للمقاتلين، أو الإرهابيين، على حد وصفه، في وقت لم يبق معه من جيشه الذي يريد رفع معنوياته إلا أقليته الطائفية وبعض المحاسيب من مرتزقته..

كل الطغاة يوهمون أنفسهم بالانتصار والأسد الابن الذي قُتل داخل مراكز حمايته أهم أركان سلطته السرية، ثم الوصول إلى مواقع حساسة في حرمه لابد أن من قام بذلك قوة تملك كيف تتحرك داخل مفاصل النظام، وتذرّعه بأنه قوي وأن الشعب السوري معه، لا يوهم إلا نفسه، ولو كان حكيماً وموضوعياً وأراد أن ينقذ نظامه، لاعترف بالواقع وتحرك على ضوئه، ولعل مؤيديه الذين أشاد بهم واتكأ على دعمهم لا يذهبون باستراتيجياتهم للرهان على شخص النظام وحده، وما يدور بالكواليس بين القوى العظمى رهان يختص بمصالحهم، والأسد جزء من لعبة تدار في ميدان سياسي كلّ يرسم حدود منفعته سواء أكانت روسيا والصين، أم أمريكا وأوروبا، وقد أُسقط غيره بفعل تلاقي الأهداف..

المعارضة وجيشها ماضون إلى النهاية والاعتراف بالائتلاف السوري من قبل دول العالم لم يأت لمجرد رؤية غير تحليلية، فالكل يرى بالبديل عن النظام هو من سيحل محله، وتقديرات تلك الدول تُبنى على قراءة ما يجري، لا استنتاجات خارج الواقع، وميدان المعارك الراهنة يتجه إلى التغيير القسري الذي لا يريد الأسد تصوره، ولذلك حشد أنصاره لسماع بلاغة خطابه، لكن الأمور لا تحل بمن يصفقون، وإنما بمن يحملون السلاح ويقفون على مشارف المدن لتحريرها من قسوة الدكتاتور ونظامه..

http://www.elaph.com/Web/NewsPapers/2013/1/784700.html

الرياض

مرة بشار الأسد..

حسين شبكشي

اتفق معظم العقلاء الذين تابعوا خطاب بشار الأسد الأخير أنه كان خطابا موجها بشكل أساسي ومركز للعالم الغربي وليس للسوريين ولا للعالم العربي. ركز بشار الأسد وكرر مرارا تحذيره من الجماعات «التكفيرية الإرهابية» وجعل هذه الفكرة هي ركيزة خطابه وقال: إن هذه الجماعات كلها أذناب لتنظيم القاعدة الإرهابي (وهو اسم كفيل بإثارة الاهتمام الكافي في أذهان المتابعين في العالم الغربي)، ولم يتجرأ بشار الأسد أن يذكر صراحة اسم تنظيم جبهة النصرة التي تردد اسمها في الإعلام وعلى ألسنة المسؤولين الأميركيين وتم إدراج اسم هذه المجموعة على قائمة المنظمات الإرهابية رغم أن دور جبهة النصرة في الثورة والاقتتال بات معروفا ولكنه فضل استخدام اسم تنظيم القاعدة لأن «تسويق» خطر الإرهاب التكفيري يسهل القيام به في حالة استخدام هذا الاسم.

بشار الأسد يحاول في ورقته الأخيرة زيادة ودغدغة مشاعر الغرب وأميركا من فزاعة التكفيريين، والخطاب أعد جيدا هذه المرة، وتمت الموافقة والإشراف عليه سلفا من قبل طهران وموسكو، وكلا الفريقين يستخدم فزاعة «الجماعات التكفيرية» في خطاباتهم السياسية المختلفة وذلك بحسب أسبابهم الخاصة بهم؛ فإيران دوما تسعى للعب بهذا اللفظ في طرح طائفي ويظهر ذلك جليا عبر أنصارها في العراق ولبنان مثلا، أما روسيا فهي تستشهد بتجاربها مع هذه الجماعات في أفغانستان والشيشان وداغستان ومعاناتها معهم. ولكن ما يتغاضى عن ذكره هؤلاء جميعا أن بشار الأسد ومن قبله أبوه قاما بإرهاب دولة مقنن في حق الشعب السوري عبر أكثر من أربعين سنة راح ضحيته عشرات الآلاف من الأبرياء بلا رحمة ولا هوادة.

واليوم ها هو المشهد يتكرر، ويصر الروس والإيرانيون على دعم النظام المجرم حتى الرمق الأخير، والمشهد الإغاثي الإنساني بدأ يأخذ أبعادا مأساوية وباتت مشاهد اللاجئين وهم يعانون على حدود تركيا والأردن والعراق ولبنان تدمي القلوب وسط حالة من الخذلان العربي والعالمي تثير الدهشة والاستغراب والاندهاش والاشمئزاز في آن واحد.

بشار الأسد تنازل بالتدريج إبان حكمه عن السيادة السورية لصالح إيران ورضي أن يخرج ملك العرب والعروبة الذي كان يدور فيه والده بشكل صوري، ولكن الابن قرر أن يتبنى الخط الطائفي الواضح والصريح واختار الطائفة على حساب العروبة والجيرة والمصالح وفي سبيل ذلك فلتحرق الدار بمن فيها، ولم يجد الروس صعوبة في مساندة الثنائي الإيراني – السوري لأن بشار الأسد وأحمدي نجاد كانا بحاجة بعضهما لبعض والروس أدركوا تماما أن هؤلاء الاثنين «معا» وفي هذا الظرف هما الحلف المناسب للظرف المناسب حتى يكونا ورقة ضغط للروس في مواجهة الغرب يساومهم فيها على حساب صواريخ الأطلسي المزمع إقامتها في دول أوروبا الشرقية بمواجهة الحدود الروسية، وهو الأمر الذي اعتبرته روسيا تحديا وقحا وفجا من الغرب ومن فوق أراضيها لدول كانت بالأمس جزءا أساسيا من المعسكر الشرقي إبان حقبة الاتحاد السوفياتي.

الثورة السورية فضحت وعرت وكشفت زيف المواقف والمبادئ والعقائد التي كانت تتبناها بعض الفرق والأطراف والدول وباتت مواقفهم المؤيدة لبشار الأسد ونظامه المجرم غير قابلة لأن تبرر ولا لأن يدافع عنها أبدا. روسيا مدت بشار الأسد وكذلك فعلت إيران مؤخرا بأرتال من العتاد والسلاح والذخيرة لقواته المجرمة بينما يعاني الثوار من نقص في العتاد والسلاح ومن العون الإغاثي. قرار الخلاص من بشار الأسد لم يحسم بعد في موسكو وتل أبيب، إسرائيل لديها هواجس كبيرة جدا من مرحلة ما بعد الأسد التي عاشت فيها في أمان لم تحلم به من قبل وبات الهدوء على هضبة الجولان ينافس الهدوء الموجود على جزر هاواي من دون أي مبالغة.

المشهد السوري يزداد وهجا وإيلاما، ومع ازدياد حالة القنوط واليأس والدماء والقتل ستكون هناك نقطة التحول القادمة. من الصعب جدا التفاؤل مع هذه المشاهد ولكن لا يوجد أي خيار آخر سوى التفاؤل، فالطاغية قد ألقى خطابه الوداعي، ولن يتبقى من بشار الأسد سوى نكات تروى عنه وذكريات أليمة عن حقبته.

الشرق الأوسط

خطاب كئيب ومستقبل مجهول

حامد الحمود – الكويت

لعل أكثر التعليقات تعبيرا عن خطاب الرئيس الأسد الأخير، كان لمسؤول في وزارة الخارجية البريطانية، حيث قال إن الخطاب يبعث على الكآبة. فقد أنهى الخطاب نوعا من التفاؤل الحذر بأن الأخضر الإبرهيمي وبدعم روسي – اميركي سيصل إلى اتفاق مع جميع الأطراف المتقاتلة في سوريا. وأن هذا الاتفاق سيقضي بأن يتنازل الرئيس الأسد عن سلطاته إلى حكومة تشارك فيها المعارضة مع بعثيين لم تلطخ أيديهم بدماء السوريين. إلا أن خطاب الأسد قضى على بصيص الأمل الذي كان يمكن أن يوقف نزيف الدم السوري.

هناك دلائل كثيرة أن الجحيم الذي يعيشه الشعب السوري منذ حوالى السنتين، لن ينتهي عما قريب، حيث أن تحالف إيران وروسيا و“حزب الله“ مع النظام يمكن أن يطيل هذه الحرب الأهلية لسنوات أخرى. فإن كان جيش النظام قد تخلى عن بعض المناطق لقوات المعارضة، فإن الأخيرة قد أنهكت، خاصة أن من يدعمها لا يحمل الود الكافي لها. فالولايات المتحدة وبعض دول الخليج الممولة لها ترغب بسقوط نظام الأسد، لكنها في الوقت نفسه متوجسة من انتصار قوات المعارضة. فالولايات المتحدة تخشى أن تعم الفوضى سوريا مثلما حصل في العراق. ودول الخليج لا تود أن ترى حكما إسلاميا بديلا يدخل في حلف مع الإخوان المسلمين في مصر. وفي ظل هذه المعادلة أو التوازن الذي سيمنع حسم عسكري لقوى المعارضة أو لقوات النظام، فإن عذابات الشعب السوري ستكون أقسى في العام الحالي.

هذا ومن المتوقع أن يبلغ عدد المهجرين إلى تركيا والأردن ولبنان والعراق المليون بنهاية العام – عدا عن حوالى أربعة ملايين مهجر داخل سوريا نفسها، فالوضع في سوريا وصل الى حد أن سكن بعض المهجرين الكهوف. هذا في وقت ارتفعت فيه كلفة الخبز إلى مئة ليره سورية للربطة الواحدة بعد أن كانت بـ 15 ليرة سورية، أصبح الخبز هدية السوريين لأهلهم عند عودتهم من لبنان.

ولم يكن الطقس رحيما مع السوريين. فقد أودى بحياة كثيرٍ من الأطفال في مخيم الزعتري في الأردن. وقد دفع البرد وغلاء الوقود (المازوت) وعدم توافره الناس إلى قطع أشجار الحدائق. وذكر مراسل وكالة الصحافة الفرنسية في حلب أنه حتى كراسي الحدائق في حلب لم يبقَ منها إلا هياكلها بعد أن أخذ خشبها للتدفئة.

إن مأسوية الوضع السوري وتلاشي فرص الاتفاق السياسي وغياب الحسم العسكري، تفرض على العالم مسؤولية حيال هذا الشعب الشقيق. ويتوقع من دول الخليج بإمكاناتها وفوائضها المالية أن تتحمل دورا نسبيا أكبر من هذه المسؤولية. وإغاثة السوريين في دول الجوار والاستعداد لذلك لأشهر وربما لسنوات عديدة هما من أولويات هذه المسؤولية. لذا سيكون المؤتمر الذي تستضيفه الكويت في نهاية الشهر الحالي للجهات المانحة للمساعدات الإنسانية للشعب السوري خطوة كبيرة في مسار قد يستمر لسنوات. وإن كان من شيء ينبهنا إليه هذا الخطاب الكئيب للرئيس الأسد، فهو أن سوريا تنحدر أكثر إلى مصير مجهول. والعمل الإنساني في مثل هذه الظروف أجدى من التنظير السياسي.

النهار

أوبرا بشار

    سناء الجاك

سولو وكومبارس ومن دون جمهور. هكذا كان المشهد في دار الأوبرا السورية خلال إعلان بشار الأسد “مبادرة بقائه” على رأس  “شبّيحة الى الأبد لأجل عيونك يا أسد” وإبلاغه العالم أجمع ان العبيد والتكفيريين لن ينالوا من عزمه على إبادة كل من يقف في طريقه. وأن المعارضة هي صراع على السلطة ليس الا، وان لا ثورة ولا بطيخ. بالكاد فقاعة صابون أعجز من تنفيذ قذارة الظلم والطغيان. تالياً، المطلوب من الجميع الانصياع للرؤية والأفكار التي تمخضت عن “ذاته العلية”.

دار الاوبرا هربت منها الأشباح بعدما احتل مقصوراتها عناصر أمن النظام الأسدي ليرصدوا لا نعرف ماذا، فهم مشّطوا المكان قبل تسجيل المؤتمر “المباشر” الذي لم يغادره أحد بعد العرض، وراقبوا شبّيحتهم الذين اختاروهم بعد فحص مكنونات “انعدام الضمير” ليؤدوا دور الجمهور ويصفقوا ويهتفوا “أبو حافظ… أبو حافظ”.

الأشباح هربت ليس خوفاً من بطش الأمن الأسدي فقط، انما قرفاً من سرقة معاناة الشعب السوري وشهدائه، والادعاء ان احساساً او أسفاً او معاناة يمكن ان يعيشها من يرتكب شبّيحته الفظائع المستمرة منذ عامين. حتى الشياطين تشمئز عندما تعلم ان طائرات النظام الأسدي تقصف النساء والأطفال على أبواب الأفران وترديهم لتغمس لقمة الخبز بدمهم، ثم يأتي رأس هذا النظام ليدّعي ان غيره مسؤول عن “تخريب الصوامع وسرقة القمح والطحين ليتحول رغيف الخبز حلما وليجوع المواطن”.

لا شيء غريباً على هذا النظام، سواء في السلوك او المبادرة. طبيعي ان يقول طاغية مثل بشار ان الثوار الذين يعارضون ديكتاتوريته دمى صنعها الغرب وكتب نصوص ادوارها. طبيعي أكثر ان يرفض أي حوار معهم، ويكتفي بالسماح لمعارضة من صنع مخبريه بالانضمام الى الكومبارس ولكن لأدوار مختلفة. الطبيعي أكثر وأكثر ان يوجه بشار أوراق اعتماده الى من يسمّيه الاصيل لا البديل، مدعياً انه يحاور السيد لا العبد، علّه بذلك يستحصل على اعتراف بوجوده رئيساً على أكثر من شبّيحته الذين تقلصوا ليُحشروا في قاعة دار الاوبرا.

وحدهم هؤلاء الشبّيحة يمالقون ويتجاهلون الثورة والثوار وسقوط 60 ألف قتيل و500 ألف نازح. وحدهم ينتشون بالمضمون الفارغ الا من حلول تضمن بقاء سيدهم المنتشي بدوره، ربما لحصوله على صواريخ “الفاتح” الإيرانية يقصف بها البيوت على رؤوس من فيها، او لمعرفته ان سفن الإنزال الروسية التي تحمل المئات من مشاة سلاحها البحري والمركبات العسكرية رست في طرطوس لدعمه معنوياً في غياب الحاجة الى الدعم المادي. او ليقينه ان العون سيأتيه من مصدر استمراريته الممسك بآلة التحكم الموجهة في إتجاه الدول الغربية والولايات المتحدة.

تحقق اليقين ما إن غادر صدى كلماته جدران الأوبرا، فكان له ما أراد عندما سارع نتانياهو الى الإعلان ان المتطرفين والارهابيين قد حلّوا مكان الجيش السوري عند اطراف الجولان. وبلّغ من يهمهم الأمر الشروع ببناء جدار فصل عنصري جديد في المكان.

هكذا نفهم نشوة بشار وقوته المستمدة من الخارج، ايرانياً أكان أم روسياً ام إسرائيلياً ام من متطرفي “القاعدة” الذين رعاهم وأطلقهم عندما احتاجهم ليشوه الثورة. المهم ان بشار منتشٍ لاكتفاء المجتمع الدولي بإصدار التصريحات المنددة كلما ارتكب جيشه مجزرة، ما يسمح له بالبناء على هذه التصريحات أعمدة المؤامرة والإمعان في القتل وإبادة الشعب. لذا نراه يجتر ذاته العلية، ويصدر مبادرة لا تتضمن الا الاملاءات على من والاه ومن عاداه. ولا يتطرق لشبهة الديموقراطية التي تفترض تداول السلطة بالحد الأدنى. كأنه يحاور نفسه ويكتشف عبقريته ويعلنها حرباً على الجميع.

أي مشهدية أروع من دار الأوبرا لحشر الكومبارس فيها والاستغناء عن الجمهور والانطلاق سولو في مبادرة يعتقد السوبرانو بشار انها تحمل الكثير من التساهل والتسامح. والا كيف يمكن تفسير حال الإنكار المرضية الطالعة من المبادرة والجامعة أطراف مؤامرة خارجية، كل طرف فيها يقدم له خدمة لدوام حكمه عبر إبادة شعبه؟

النهار

خطاب مهزوم وليس منتصرا.. ووداع لدمشق لا لقاء بعده

 صالح القلاب

كان ضروريا جدا أن يظهر الرئيس السوري بشار الأسد بذلك المظهر الذي ظهر به يوم الأحد الماضي، بعد غياب مثير لتساؤلات كثيرة استمر لنحو ستة أشهر.. وأن تكون له تلك الإطلالة البائسة والمخيبة لآمال الذين راهنوا على إمكانية عقد صفقة «مرحلة انتقالية» معه على أساس: «أنْ لا يجوع الذئب ولا تفنى الأغنام».. فهو من خلال هذا الخطاب المرتبك البعيد عن التركيز المفترض في مثل هذه التحولات الخطيرة التي تمر بها سوريا، الذي اتخذ خلال إلقائه في قاعة «أوبرا» دمشق الجميلة، ليس وضعية رجل الدولة المسؤول عن أي حرف وعن أي كلمة يقولها وعن أي إشارة وحركة يقوم بها، وإنما وضعية الفيلسوف أو المحاضر المرتبك الذي يريد إنهاء محاضرته بسرعة لينصرف على عجل.

قبل هذه الإطلالة وقبل هذا الخطاب، الذي كان بمثابة حفلة شتائم وحملة اتهامات مكشوفة ورديئة، كان هناك – ومن بين هؤلاء المبعوث الدولي والعربي الأخضر الإبراهيمي – من يظن أنه بالإمكان أن يتم التعامل مع بشار الأسد باعتباره رقما رئيسيا في معادلة «المرحلة الانتقالية»، التي كثر الحديث عنها والتي بقيت مطروحة منذ البدايات وإن بصيغ وأشكال متعددة، أما بعد إطلالة يوم الأحد الماضي فقد جرى قطع الشك باليقين وقد ثبت لمن كان يبحث عن الحقيقة ولغير المنحازين إلى هذا النظام الدموي المجرم والقاتل أنه من غير الممكن الوثوق بهذا الرجل وأن هناك استحالة لنقله من دائرة العنف إلى دائرة الحلول السياسية المطلوبة التي تجنب البلاد والعباد كل هذه الويلات التي بقيت تعيشها سوريا على مدى نحو عامين.

والمؤكد، وهذا على عكس بعض الآراء والتقديرات، أن روسيا، ممثلة في وزير خارجيتها سيرغي لافروف تحديدا، هي التي تقف وراء هذا الخطاب الاستعراضي، الذي حاول فيه بشار الأسد التذاكي على العالم كله والضحك على ذقون كل المتابعين للأزمة السورية التي تحولت إلى حرب مدمرة طاحنة، وذلك من أجل وضع العربة أمام حصان الحلول السياسية وليذهب الرئيس فلاديمير بوتين إلى الاجتماع الذي من المفترض أن يجمعه بالرئيس الأميركي باراك أوباما للبحث عن نهاية لما يجري في سوريا بورقة رابحة تظهر أن هذا النظام السوري لا يزال قويا ومتماسكا وأن لديه القدرة على أن يرفض أي إملاءات «جائرة»!! بل وأن يفرض بعض الشروط التي تضمنها خطاب يوم الأحد الماضي الغريب والعجيب الذي يدل على كم أن صاحبه منفصل كثيرا عن الواقع وكم أنه لا يدرك حقيقة ما يجري في بلد من المفترض أنه بلده.

إنه لا يمكن إلا أن تكون موسكو وراء هذا الخطاب وأن كل ما جاء فيه من عنتريات فارغة ومن تجاوز لكل حدود التبجح ومن ادعاءات وتقمص وضعية المنتصر بينما وصلت طلائع الجيش السوري الحر إلى بعد مئات الأمتار من القصر الجمهوري (قصر الشعب)!! لا بد من أن الاتفاق عليها قد تم خلال زيارة نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد أولا إلى العاصمة الروسية وثانيا إلى العاصمة الإيرانية، والدليل على هذا أن إيران قد سارعت إلى تأييد ما اعتبرته «الخطة» التي اقترحها بشار الأسد، وأن وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي لم يخجل من أن يقول: «إن هذه الخطة ترفض العنف والإرهاب والتدخل الخارجي وتقترح عملية سياسية شاملة»!! وأنه لم يخجل أيضا من أن يوجه دعوة إلى «كل الفعاليات السورية.. والمجتمع الدولي» إلى اغتنام ما اعتبره الفرصة التي أتاحتها الخطة المشار إليها «لإعادة الأمن والاستقرار إلى سوريا وتجنب امتداد الأزمة إلى المنطقة».

وكل هذا بينما بادرت كل الدول الفاعلة؛ الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وتركيا ودول عربية أخرى، بعد هذا الخطاب مباشرة، إلى مطالبة بشار الأسد بالتنحي واعتبار أن ما جاء في خطابه هو مجرد محاولة للاحتفاظ بالسلطة وأنه لن يخدع أحدا، وفوق هذا، فقد أعلنت واشنطن أنها ستسعى إلى مزيد من الضغط الدولي على الرئيس السوري ونظامه، وقد أعلنت عن وضع أسماء مائة من كبار المسؤولين السوريين العسكريين والأمنيين والسياسيين على اللائحة السوداء والمباشرة في ملاحقتهم على أساس أنهم مجرمو حرب لا بد من إلقاء القبض عليهم وتسليمهم إلى محكمة الجنايات الدولية وبالطريقة نفسها التي اتبعتها مع صدام حسين بعد احتلال العراق في عام 2003.

ولعل ما يؤكد أن خطاب بشار الأسد، هذا المشار إليه، بكل ما احتواه من تضارب ومفارقات وارتباك وانعدام التركيز هو مجرد محاولة للهروب إلى الأمام، هو أن صحيفة الـ«غارديان» البريطانية قد قالت، في تقرير لمحلل شؤون الشرق الأوسط ريتشارد سبينسر، إن خطاب الرئيس السوري أعاد التذكير بالأيام الأخيرة للديكتاتور الليبي وإنه تضمن العبارات نفسها التي كان يستعين بها معمر القذافي قبل سقوطه بفترة وجيزة. وأشارت هذه الصحيفة البريطانية في تقرير محللها هذا إلى أن الأسد قد استخدم المفردات نفسها التي سبق أن استخدمها القذافي قبل سقوطه وقتله على أيدي الثوار. وانتهت هذه الصحيفة إلى القول: «لو كان الوضع على الأرض كما صوره بشار الأسد، لقبل المقاتلون بكل ما تضمنه خطابه من مطالبة لهم بتسليم أنفسهم وأسلحتهم والجلوس على مائدة الحوار، لكن الوضع على الأرض في سوريا ليس كذلك، مما يؤكد أن تفاؤل الرئيس السوري مبالغ فيه، وأن هزيمته باتت وشيكة، وأنه لا يوجد أي أمل في أن يكون هو الفائز، فهو خسر أجزاء واسعة من البلاد، وذلك بالإضافة إلى أن أعدادا كبيرة من رجاله المسلحين قد قتلوا على بوابات العاصمة دمشق. وقد ختمت الـ«غارديان» تقريرها بالتساؤل: «ولذلك، فكيف يمكن للمقاتلين السوريين أن يقبلوا بالعرض الذي قدمه الأسد لهم ما دام أنهم أصبحوا متيقنين بأنه سيسقط لا محالة؟!».

والملاحظ أن بشار الأسد لم يأت على أي ذكر لا لتصريحات فاروق الشرع الذي من المفترض أنه نائبه ولا على بعض ما جاء فيها، خاصة القول إنه لا انتصار في هذه المواجهة؛ لا للجيش والأجهزة الأمنية ولا للمعارضة المسلحة، وإنه لا بد من أن تكون هناك حلول تاريخية ولا بد من تشكيل حكومة وحدة وطنية بـ«صلاحيات كاملة». وهذا يعني أن هذا الخطاب هو «ضربة مغادر» وأنه خطاب هزيمة وليس خطاب انتصار، وكأنه قال فيه، رغم كل ما تضمنه من تهديدات وعنتريات ورفع لسقوف مطالبه: «وداعا يا دمشق.. وداعا لا لقاء بعده»!!

الآن وبعد إطلالة يوم الأحد الماضي، التي تشبه فعلا إطلالة «الأخ قائد الثورة».. وأي ثورة؟! من فوق أسوار العزيزية، فإن القناعة قد ترسخت لدى كل المعنيين بدعم المعارضة السورية بأن انتصار الجيش السوري الحر يجب أن يكون حتميا ويجب أن يكون سريعا وفي أقرب فرصة ممكنة، وأنه لم تعد هناك أي جدوى من الحديث عن «المرحلة الانتقالية» بالصيغ التي روج لها ولا يزال يروج الأخضر الإبراهيمي الذي من المؤكد أنه بعد هذه الإطلالة البائسة قد وصل إلى النتيجة نفسها التي وصل إليها العالم كله، باستثناء روسيا وإيران.. والصين وربما فنزويلا أيضا، وهي أنه: «فالج لا تعالج» وأنه لا شك في أن من يصف ثورات «الربيع العربي»، التي أسقطت أربعة رؤساء والتي ستسقطه هو أيضا، بأنها مجرد فقاعات صابون، إما أنه منفصل عن واقعه وأنه لا يعي ما يجري في بلده، أو أنه قال ما قاله في خطاب يوم الأحد تحت تهديدات وضغط المحيطين به الذين شعروا أن أعناقهم اقتربت من حبال المشانق وأنه بات «لا بد مما ليس منه بد».

ولهذا، وحتى تكون هذه الإطلالة البائسة هي الإطلالة الأخيرة، فإنه لا بد من أن تبلور المعارضة وبسرعة الخطة التي كانت أعلنت عنها لتسلم الحكم، خاصة الجانب المتعلق منها بطمأنة الطائفة العلوية التي تعرف تمام المعرفة أن بشار الأسد يريدها مجرد كبش فداء له ولعائلته ولأخواله وأعمامه ولنظامه، والتي يجب تشجيعها على القفز من سفينة هذا النظام الذي هو نظام طائفي وليس نظام هذه الطائفة التي وقع عليها ما وقع على الشعب السوري وأكثر خلال الأربعين سنة الماضية.. إن الانتصار على هذا النظام غدا قريبا، وإنه على المعارضة أن لا تضيع دقيقة واحدة، خاصة لجهة توحيد قواها، وأن تكون اليد العليا في المجالات العسكرية للجيش السوري الحر الذي يجب أن يكون موحدا وتحت أمرة قيادة واحدة.

الشرق الأوسط

الفقاعات تحاصر القصر الجمهوري..

سهيل كيوان

عندما يعلن رئيس بلد غارق بدماء أكثر من ستين ألف قتيل من أبنائه، وملايين أخرى، ما بين جريح وفاقد لبيته وأملاكه، ونازح وجائع ومشرّد، بأن ما يجري ليس سوى فقاعات صابون سوف تتلاشى قريبا، فهذا يجعلنا نتوقف ونتأمل كيف وصل سيادته إلى مثل هذا التشبيه الكيميائي الفيزيائي واللغوي العجيب. سبق وقال محللون، إن سيادته يتعامل مع الواقع بشكل مقلوب، فهو ما زال مصرًا ومؤمنا بشكل صوفي بقدرة اللغة على الحلول مكان الحقائق الملموسة وتغيير مسارها.

ليس سهلا أن يهتدي رئيس دولة في مثل هذه الظروف المعقدة والمصيرية إلى تشبيه بمثل هذه الخفة، وهو تشبيه يبدو سخيفا كعادة الأفكارالعبقرية لحظة ولادتها، مما يؤكد أن فكرا خلاقا يقف وراء تشبيه كهذا.

الجميع يعرف أن الرئيس يمر بظروف نفسية معقدة، ولا شك أنه قلق ومشغول حتى قمة رأسه بتسيير أمور الناس، وتوفير احتياجاتهم الضرورية من الوقود والخبز وأكياس جمع الجثث والأكفان، خصوصا أن الناس صاروا يقفون أمام الأفران، وعيونهم شاخصة إلى السماء خشية تدخل طائرات معادية، تلقي عليهم براميل من نار ونحاس، فتحرق طوابير الخبز وعاجنيه وخابزيه وناقليه وبائعيه ومن كانت لديهم نية بتناوله في حال توفرت لهم الشهية.

ليس لدى الرئيس وقت لتفكير إبداعي بمثل هذا العمق الذي يحتاج إلى هدوء نفسي ونوم عميق بدون مهدئات كيماوية، ولهذا وأغلب الظن أن سيادته استعان بمختص في مجال الدعاية والإعلانات، وعلى الأرجح أنه روسي من الحقبة السوفييتية، أو روماني من الحقبة التشاوشيسكية، لأن وصف كل ما يحدث في سورية والعالم العربي منذ أكثر من عامين بأنه فقاعات، لا يهتدي إليه سوى مبدع كبير في مجال الدعاية والإعلان من تلك الحقبة. واضح أن رجل الإعلانات هذا استفاد من تجارب سابقة، ولا شك كان أمامه عدة خيارات للتشبيه من عالم الأحياء، ولكن التجارب علمته أن تشبيه الشعب الثائر بالكائنات المنحطة يؤدي حتما إلى نتائج كارثية، فالجرذان والجراثيم والقمل والجنادب وأبو بريص وغيرها كسرت حاجز الدونية ولم تعد ترضى بالإهانة. ولهذا رأى رجل الإعلانات العبقري، أن يطلق على هذه المخلوقات تشبيها محايدا، بعيدا عن عالم الأحياء، وفي الوقت ذاته يحقق الهدف، فالفقاعات تنفجر من نسمة هواء، أو من ملامسة قشة، وقد تنفجر تلقائيا بدون أي تدخل عربي أو روسي أو إيراني.

هناك مصادر تؤكد أن الرئيس فكر بتشبيه الخارجين عن عصا طاعته بالنمل، ولكن مستشاريه العباقرة وفي اللحظة الأخيرة أقنعوه بأن النمل لا تنتهي مهما قتلت منها، وليس هذا فقط، قتل النمل يحتاج إلى مبيدات كيماوية، وسيكون الأمر محرجا لجهات كثيرة في العالم لا تحبّذ استخدام الكيماوي منعا للروائح والفضائح وتلويث أجواء الدول البريئة المجاورة، ثم إن هناك أفلاما تظهر قوة النمل وعناده وتصميمه الغريب على تحقيق أهدافه، فلا تثنيه مبيدات ولا نيران ولا طوفان، ثم أن للنمل سورة في القرآن الكريم، وسليمان الحكيم تعلم من النملة وسمع كلامها، وقادة جيوش غزت العالم وتعلمت الإصرار من النملة، والرئيس نفسه ما زال يذكر قصة (تيمورلنك والنملة) التي حاولت أربعين مرة حتى نجحت بنقل حبة قمح، وقصيدة (الجدجد والنملة) من الابتدائية، وهو يذكر النمل وهي تمضي في قوافل منتظمة حتى تصل إلى هدفها مهما كان محصنا، تسحب ضعف وزنها بتعاون وتفاهم وتخطيط يشبه عمل جيش نظامي، كذلك ترسل بعضًا منها للقيام بمهام استطلاع، إنها تلك النملات الوحيدات البعيدات عن المجموعة، يظنها المغفل تائهة، والحقيقة أنها تستطلع الطريق والهدف، ثم تعود لتخبر الجموع فتخرج للزحف، ولا شك أن هناك قصصا كثيرة عن النمل التي قاومت المبيدات والكيماويات، بل ونجحت بتحويل بعض أصناف المبيدات إلى غذاء. وسبق للرئيس نفسه أن قال لزملاء له يوم كان طالبا جامعيا، إن النمل تستحق الاحترام، ومن النذالة رشها بالمبيدات، فهي تسحب أوزانا من الغذاء تفوق وزنها! لهذا واستبعادا لمجرد التلميح بقوة أو عناد وبطولة المتمردين، تقرر استبعاد تشبيه االنملب عنهم!

تشبيه الفقاعات، يضرب عصفورين بحجر واحد، فهو يوحي بالتفاهة المطلقة أولا، وثانيا، يوحي بأن الرئيس تزحزح وصار مستعدا للتفاوض وتقديم تنازلات، فالجميع يذكر أنه اختار الجراثيم في خطابه الأول، وهذا استفز وأهان وأثار، الانتقال إلى الفقاعات، يعني أنه تنازل عن التشبيهات البذيئة، وعلى المعارضة تلقف الفرصة، وفي الوقت ذاته يقول بأنه تمْسَح ولم يعد قابلا للتأثر، وأنه لا يقيم وزنا لما يحدث مهما علا منسوب الدماء والدمار، حتى صار يرى ملايين البشر مجرد فقاعات، وهو بهذا يدخل عالم الفلسفة من أوسع أبوابه.

الفقاعات صغيرة وأصغر، أو كبيرة وأكبر وبأحجام شتى، الفقاعات منها ذكر ومنها أنثى، الفقاعات كهلة وشابة وطفلة. إلا أنه وبعد معجزة الفقاعات التي رماها بوجه الشعب والعالم، فوجئ سيادته بأنها صارت تظهر في طعامه، أثناء وبعد إعداده، لا طعام بلا فقاعات، لا حمّام بلا فقاعات، لا فرك أسنان بلا فقاعات، فقاعات على الأرض، على الجدران، تظهر بهدوء تام، في زجاجات المياه والأكواب، في زيت المساج، على وجه فنجان القهوة والحليب، في كأس النبيذ، في العجين الخامر، في رغيف الخبز، في وسادة الرئيس وفراشه، في حذاء الرئيس وجيوبه، على وجهه وفي مخاطه ولعابه، على جلده وظهره وقفاه، الفقاعات ليس كما ظن الرئيس ومستشاروه، الفقاعات تحاصر القصر الدكتاتوري ذ وعيب أن نقول الجمهوري-..الفقاعات تغمر كل شيء وتظهر في كل شيء…لا قوة تصمد أمام الفقاعات…ولا نصر إلا للفقاعات..حتى الرئيس وفي آخر لحظاته يحاول أن ينافق ويقول…صدقوني أنا نفسي لست سوى فقاعة…

ماذا بعد خطاب الأسد والردود عليه

حلّ سياسي أم انحلال للدولة السورية؟

    اميل خوري

ماذا بعد خطاب الرئيس بشار الاسد وردود الفعل عليه، هل يتم التوصل الى اتفاق اميركي – روسي على تسوية بعدما عزز هذا الخطاب الموقف الروسي الداعي الى اتفاق على حل قبل رحيل الاسد لئلا تسود الفوضى بعد تنحيه اذا لم يسبقه اتفاق كامل على البديل فيحصل ما يحصل حاليا في مصر وليبيا وتونس واليمن نظرا الى تعدد “الرؤوس” وفوضى المعارضات المتفقة على رحيل الاسد لكنها غير متفقة على البديل، الامر الذي يجعل الاسلاميين الاصوليين المنظمين يستولون على السلطة، وهو ما ترفضه روسيا وتخشاه الولايات المتحدة الاميركية واوروبا؟

والسؤال الذي أخذ يثير القلق في الدول المجاورة لسوريا ولاسيما لبنان هو: هل يؤدي استمرار الخلاف على الحل السياسي مع استبعاد الحل العسكري الخارجي الى استمرار الاقتتال الدخلي الى اجل غير معروف اذا لم يتمكن اي طرف من التغلب على الطرف الآخر فيصبح هذا الوضع شبيها بالوضع الذي ساد لبنان في حروبه التي دامت 15 سنة ولم تنتهِ إلا بالتوصل الى اتفاق عُرف باتفاق الطائف، لأن الولايات المتحدة الاميركية حاولت حل الازمة اللبنانية بمفردها لتنطلق الى حل ازمة الشرق الاوسط، لكن الاتحاد السوفياتي تصدى لها فكان العنف الذي ادى الى اخراج القوات المتعددة الجنسية التي اتت الى لبنان لوقف الحرب فيه، وبعدما استهدفت اعمال العنف مقري القوات الاميركية والقوات الفرنسية، وسقط منهما عدد كبير من القتلى والجرحى، وكان قد سبق ذلك تفجير مبنى السفارة الاميركية في بيروت، ولم تستطع المدمرة الاميركية “نيو جيرزي” بمدفعها العملاق حماية تلك القوات فانسحبت من لبنان؟

عندها ادركت الولايات المتحدة انها لا تستطيع بمفردها حل الازمة اللبنانية، وتاليا حل ازمة الشرق الاوسط ومن ضمنها القضية الفلسطينية، وما دام اي طرف مقاتل لم يستطع التغلب على الطرف الآخر خصوصا بعدما رسم الديبلوماسي الاميركي سيسكو خطوطا للمقاتلين ممنوع عليهم تجاوزها، وحظر على سوريا استخدام طيرانها  الحربي لمصلحة الطرف الحليف لها والا تصدت لها الطائرات الحربية الاسرائيلية، وهو ما حصل فعلا.

وبما ان المعروف عن الولايات المتحدة انها تجيد السياسة البراغماتية عندما تفشل في تنفيذ مخططها، فإنها التفت على الدور السوفياتي يومئذ بعقدها صفقة مع الرئيس حافظ الاسد وكان حليف السوفيات. وقضت تلك الصفقة بأن يدخل الجيش السوري الى لبنان ويوقف الاقتتال فيه ويخرج الفلسطينيين المسلحين منه وعلى رأسهم ياسر عرفات الى تونس، وصدر في قمة الرياض العربية قرار بذلك مع تطعيم القوة العسكرية السورية بقوات رمزية من دول عربية لتبديد هواجس زعماء لبنانيين ولاسيما العميد ريمون اده الذي طالب بأن تكون ما سمي “قوة الردع العربية” متساوية بعددها لأن لسوريا مطامع في لبنان قد تحققها اذا كان عدد قوتها يفوق كثيرا عدد القوات العربية الاخرى. لكن الصفقة الاميركية – السورية المقرونة بموافقة عربية وبعدم ممانعة اسرائيلية قضت بغير ذلك فصحّ ما توقعه اده اذ خضع لبنان لوصاية سورية دامت 30 عاما وخلافا لما نص عليه اتفاق الطائف.

فهل تكرر الولايات المتحدة في سوريا ما فعلته في لبنان اذا لم تتوصل الى اتفاق على حل؟

ثمة من يقول إن تطور الوضع الميداني في سوريا هو الذي يتحكم بالمواقف العربية والدولية ويفرض الحلول، لكن انتظار هذا التطور قد يطول وتكون له تداعيات على دول الجوار يصعب تلافيها او احتواؤها.

وثمة من يقول ان الولايات المتحدة اذا لم تتوصل الى اتفاق مع روسيا، فإنها قد تلتفت الى ايران كما التفتت في الماضي الى سوريا لحل الازمة اللبنانية اذ كان عقد صفقة معها هو اقل كلفة من عقدها مع روسيا. وكما تخلت سوريا في الماضي عن تحالفها مع الاتحاد السوفياتي ثمنا لصفقة مغرية عقدتها مع اميركا، فإن ايران قد تفعل الشيء نفسه ثمنا لصفقة مع اميركا في سوريا وربما تكون هذه الصفقة اساسا لتقاسم مناطق النفوذ في المنطقة تكون بديلا من “سايكس – بيكو”.

ثم ان التوصل الى عقد صفقة اميركية – ايرانية يحل مشكلة السلاح خارج الدولة في لبنان ويطور دستور الطائف على نحو يحقق مزيدا من التوازن في توزيع الصلاحيات بين السلطات، كما حققت الصفقة الاميركية – السورية في الماضي حلا لمشكلة الفلسطينيين المسلحين في لبنان ووضع دستور جديد عُرف باتفاق الطائف.

هل بعد خطاب الرئيس الاسد امل في حل اميركي – روسي للأزمة السورية، أو أميركي – ايراني وإلا فحرب طويلة يمدها كل طرف خارجي بالسلاح والمال وصولا الى “حل التعب”؟

النهار

حالتا فصام

حسان حيدر

يكاد التطابق يكون شبه تام بين سياسات النظامين السوري والإيراني، الداخلية منها أو الخارجية، وهي سياسات يربط بينها رفضهما القاطع والدائم للاعتراف بالأخطاء، ولازمة لوم «الأعداء» و «الحروب الكونية» عند كل أزمة، وإخفاء القلق الذي يعتريهما من احتمال أن تؤدي الانتفاضة ضد الأول والعقوبات المتزايدة على الثاني، إلى انهيار أحدهما أو كليهما، أو على الأقل إلى فك الارتباط بينهما.

ففي الخطاب الأخير الذي ألقاه الرئيس السوري بشار الأسد، تجسدت المكابرة والقفز على الوقائع في أقصى حالاتهما، فبدا كأنه يتحدث عن دولة أخرى غير سورية، أو عن مشكلة محلية صغيرة في مدينة سورية صغيرة، وليس عن ثورة تعم أرجاء بلده وقد أسقطت سلطته عن أجزاء كبيرة منه وتهدد ما تبقى منها.

وفي عينة صارخة لمرض ضعف الذاكرة التقليدي لدى الطغاة، كرر الأسد الشعارات نفسها التي يستخدمها منذ نزل شعبه إلى الشوارع قبل عامين مطالباً برحيله، فطرح مبادرة خيالية ووضع شروطاً أكثر خيالاً، وسخر من «ربيع سورية»، متوعداً السوريين بأنه سيواصل قتلهم حتى لو قبلوا بوقف إطلاق النار، ومتجاهلاً أنه هو المحاصر في جزء من عاصمته، لا ينام ليلتين في المكان نفسه، ويخفي مكان وجوده حتى عن المقربين منه، مخافة اغتياله بالسم أو بالقنص.

ووصل به الأمر حد تجاهل سقوط ما يزيد عن ستين ألف قتيل ومئات آلاف الجرحى والمعتقلين وملايين النازحين، أو أي ذكر لجهود الموفد الدولي والعربي الأخضر الإبراهيمي الساعي لمرحلة انتقالية في سورية.

أما القيادة الإيرانية التي اعترفت بأن صادراتها النفطية خلال العام المنصرم انخفضت إلى النصف وأنها مرشحة للمزيد من التراجع، وان خسائرها المالية تقارب خمسة بلايين دولار كل شهر نتيجة نظام العقوبات الذي يضغط بقوة على مفاصل اقتصادها، وأن رحلات طيرانها الداخلي توقفت لعدم تمكن شركتها الوطنية من دفع ثمن الوقود، فتصر على مواصلة الإنفاق الهائل وغير المبرر على التسلح وكأنها في أزهى أيامها، وليست محاصرة ومعزولة.

وهي توجت حال الإنكار هذه بإجراء مناورات عسكرية جديدة مكلفة في الخليج لاختبار قدرتها على إغلاق مضيق هرمز والسيطرة على الملاحة الدولية فيه، معتبرة أن مشكلتها ليست في الداخل الذي يعاني من تراجع في السياسة والمعيشة بل في «مؤامرات» الخارج، على حد قول مرشدها، الذي استغرب الدعوات الصادرة، حتى من قلب نظامه، إلى تأمين النزاهة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، متسائلاً: «أي دولة تنظم انتخابات أكثر حرية من إيران؟»، وكأن الثورة الخضراء لم تحصل في 2009 ولم يسقط فيها مئات القتلى والجرحى، أو أن السجون الإيرانية ليست ملأى بآلاف المحتجين على التزوير في الانتخابات السابقة وان قادة المعارضة ليسوا قيد الإقامة الجبرية وممنوعين من ممارسة العمل السياسي.

دمشق وطهران تعانيان من حال فصام عن الواقع، لكنه فصام اختياري يستند إلى مبررات أيديولوجية تجعل نظاميهما يلجآن عمداً إلى رفض الحقيقة ما لم تتطابق مع ما يفترضان أنه «الصحيح» و «الطبيعي»، وينكران وجود أسباب دفعت شعبيهما إلى التعبير عن اليأس من إصلاح النظامين والمطالبة بتغييرهما. ولان المشكلة هي نفسها في دمشق وطهران، فإن ما بدأ في سورية لن يتأخر كثيراً في الوصول إلى بلاد فارس.

الحياة

خطاب الأسد الأوبرالي

عناية جابر

أيا يكن موقف المراقب السياسي من الوضع السياسي السوري، مواليا أم معارضا، ‘منحبكجياب أم اثوريا’، عربياً أم تركياً أم أعجمياً، فإنه سيضطر اليوم الى اعتبار الخطاب الأخير للرئيس السوري في دار الاوبرا مفصلا سياسياً بالغ الدلالة في عمر المسألة السورية. وبمعزل عن المواقف الإجبارية لمن هم في موقع مسؤول هنا وهناك ولمن يشعر بضرورة التصريح من أجل الحفاظ على معنويات جماعته وتماسكها، بمعزل عن كل ذلك لا يستطيع مراقب مستقل إلا أن يسجل على صعيد الشكل أولا أهمية الخطاب في هذا الوقت بالذات.

ففي الوقت الذي تتنازع سورية المتمزقة رياح الأطماع الإقليمية والدولية وتحاول وبنجاح أن تجعل من أطراف الصراع الداخلية مجرد أدوات في مشروعها، فاجأ الحكم في سورية الجميع بمبادرة سياسية للتسوية أظهر فيها، وبغض النظر عن مضمونها وعما يمكن أن تؤدي إليه، على الأقل تماسكه وقدرته على الحركة والمبادرة وجر الآخرين كل الآخرين الى التموضع وفقاً لما يطرحه. في الشكل ما من شك أن ذلك يحسب لهذا الفريق الذي يظهر قدرة سياسية فائقة الدهاء والمرونة، خصوصاً إذا ما قورن موضوعياً بالاداء المتواضع المتميز بقلة الخيال والمبادرة للفريق المعارض.

أهمية المبادرة التي أطلقها الرئيس السوري بشار الأسد تنطلق من محاولة إرجاع التسوية الى الداخل السوري وانتزاعها جزئياً من يد الأطراف الدولية الأساسية، التي يتردد في أكثرية الدوائر الدبلوماسية والإعلامية عزمها على إيجاد حل وتسوية للنزاع السوري. ضربة كانت ستكون كبيرة االمعلميةب لمصلحة سورية الدولة لو تسنى للمعارضة القليل من الاستقلالية عن مراكز القرار الإقليمية، لكي ترد على مبادرة الأسد بمبادرة مواجهة تعيد اللعبة الى الداخل، لكن ذلك لم يحصل.

على أي حال جاءت المبادرة الرسمية السورية بتوقيتها ومكانها وشكلها ومحتواها لكي تنسجم ليس فقط مع المعطيات الدولية الجديدة، بل لكي تدفعها الى الأمام ولكي تحتل فيها موقعاً متميزاً، موقع الشريك الرئيس، المبادر المرن القابل بالتعاون والمنفتح على الحلول. ولم يغب طبعا عن بال المراقبين جميعاً أن المبادرة السورية أتت مباشرة بعد فشل القوات العسكرية المعارضة، حسب المعلومات المتوافرة، في تسجيل نصر عسكري مميز كان قد تم الإعلان عنه في صفوف القيادات المعارضة المتمركزة في انقرة وبيروت وباريس. الأمر الذي أضفى على الخطاب، في هذا الوقت بالذات، هالة من النصر المعنوي على الأقل.

الدهاء السياسي لفريق السلطة في سورية نجح إذا من حيث الشكل في تسجيل نقاط كثيرة في صالحه، من خلال إطلاقه لهذه المبادرة، وإن تكن مفاعيل هذا الدهاء متوقفة طبعا على استمرار دوران العربة التسووية الدولية التي يقودها الدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي بدعم روسي- اميركي، على ما قيل، كما على بقاء موازين القوى العسكرية على الأرض على ما هي عليه الآن.

غير أن خطاب الأسد لم يكن شكلياً وحسب وهو لم يكتفِ بتسجيل بعض المواقف كما تردد هنا وهناك. ففصاحة بنود التسوية الواردة في خطاب الأسد لم تخرج إجمالا عما صار يعرف باتفاق جنيف، فلماذا سارعت الدول الغربية الى تسجيل اعتراضها على الخطاب؟

القراءة الموضوعية لخطاب الأسد الأوبرالي تستدعي الوقوف عند جانبين منه. ففيما تركز اهتمام أكثرية المراقبين على بنود المبادرة والتبحر في معانيها ومحتوى السلطة القادمة في دمشق، كان الدبلوماسيون الغربيون يتحسسون من ديباجة التسوية المعروضة ورأوا فيها ابعدا كبيراً عن الواقعب. الحقيقة أن الديباجة الأوبرالية احتفالية نصر من قبل خطاب الأسد. يقول الخطاب ان الأزمة في سورية تتضمن وجهين، واحد داخلي وآخر خارجي. وأما الثاني فكان يستهدف عبر تحقيق هدف إسقاط النظام، تغيير تموضع سورية الإستراتيجي. وبما أن الخطاب يعكس في اللحظة التي كتب بها موازين القوى الفعلية على الأرض، وفشل المشروع المعارض حتى الآن في تسجيل نصر نوعي يعتد به، خلص الى أن التسوية يجب أن تترجم هذه الحقيقة عبر تكريس االموقع الوطنيب لسورية.

في ترجمة غير حرفية لخطاب الأسد يمكن الزعم أنه قال: الحل هو في بقاء سورية في موقعها الاستراتيجي وأهلا وسهلا بحل داخلي طائفي إصلاحي يشاركنا به الآخرون. هنا بالذات كانت أهمية الخطاب على ما أظن وهنا بالذات تعقدت الألسن. فلو كان الإصلاح الداخلي هو الهم الرئيس للقوى الدولية لكان عليها أن تثني على خطاب الأسد ذلك أنه ذهب معهم باتجاه الحل الجنيفي لا أن تراه ‘بعيدا جدا عن الواقع’.

والحال إن الخطاب المذكور لم يخن كثيراً الوقائع الفعلية عندما وصل الى هذا الاستنتاج. فالمعارضة العسكرية بجميع قواها الداخلية والخارجية، الإخوانية والسلفية، لم تستطع بالطبع لا أن تسقط النظام، ولا أن تحتل مدينة على الأقل تأوي قيادتها من شظف الإقامة في المنافي، كما لم تستطع أن تسجل نصراً عسكريا مبينا، كاحتلال مطار أو السيطرة على طريق رئيسة أو ما شابه. بالمقابل على المراقب الموضوعي أن يعترف بأن النظام حافظ على تماسك مشهود على صعيد القيادة السياسية والعسكرية والإدارية والدبلوماسية، كما حافظ على تماسك ودعم قاعدته الشعبية وأغلبية سكان المدن الرئيسة السورية من جميع الطوائف. طبعا هو لم ينتصر لكنه ليس فقط لم يسقط بل هو في وضعية بعيدة أقله عن السقوط.

التحفظ الغربي، خصوصاً الامريكي، هدفه رفع السقف فقط من أجل المناورة في المفاوضات القادمة أم رفض النتيجة كما هي على الأرض ومترجمة بخطاب الأسد االبعيد جدا عن الواقعب وباعتبارها مؤقتة طالما أن الحرب سجالٌ ؟

القدس العربي

تقسيم البلد وإقامة الدولة العلوية؟!

محمد مشموشي

لعل الكلمة «المفتاح» في الخطاب الأخير للرئيس السوري بشار الأسد، والتي لم ينتبه إليها كثيرون، هي كلمة «جغرافيا» التي كررها ثلاث مرات في ثلاثة مواقع من الخطاب دفاعاً عن نفسه وعن نظامه. مرة في مجال الدعوة إلى ما وصفه بـ «حراك وطني» سوري يكون في نظره قادراً على «إبقاء سورية جغرافياً»، وأخرى في سياق التحذير من إمكان نجاح الثورة حيث «سورية التي نعرفها لن تكون موجودة بالضرورة بالاسم أو بالجغرافيا»، وثالثة في صيغة التنديد بالفكر الإرهابي والتكفيري الذي «يدمر الجغرافيا والمعنى السياسي» لسورية.

وبعيداً عن كل ما ورد في الخطاب، ووصف حقاً بأنه كان خارج الزمان والمكان، فقد سبق الأسد بيومين فقط حليفه الاستراتيجي وصديقه العارف به جيداً، الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، بالتحذير من أن سورية باتت مهددة أكثر من أي وقت آخر بالتقسيم.

فهل هذا بالذات، أي تقسيم سورية بالانسحاب إلى جبال العلويين لإعلان دولته فيها، ما كان الأسد يهدد به وهو يعرض في خطابه ما يعرف سلفاً أن أحداً من الثوار في سورية، أو من أصدقاء سورية في العالم، لن يقبل به؟

واقع الحال، أنه بعد حوالى عامين على الثورة المتصاعدة ضد نظام الأسد وسقوط ما يزيد على ستين ألف إنسان ونزوح نحو ثلاثة ملايين من قراهم ومدنهم، لا يمكن تصور أن يخرج رئيس هذا النظام على الناس ليقول ما قاله لو لم يكن يضع نفسه جدياً أمام هذا الخيار. وكما هي عادة الأنظمة الفردية والاستبدادية في مثل هذه الحال، فالتهمة جاهزة: المسؤولية تقع على عاتق الثورة والثوار.

بل أكثر، لم تتوقف أجهزة الإعلام والاستخبارات في العالم عن الإشارة منذ بدء الثورة إلى أن الترسانة الحربية الأكبر والأهم للنظام موجودة أصلاً في جبال العلويين، وحتى إلى أن الأسد نفسه يقيم فعلاً في تلك المنطقة في شكل دائم أو أنه بات ينتقل إليها أخيراً من وقت إلى آخر.

ولنعد إلى المعاني التي تضمنها نص الخطاب المكتوب:

فهل تبرر، مثلاً، الدعوة إلى «الحراك الوطني» الذي وصفه بـ «البلسم الوحيد للجروح العميقة التي أصابت أنسجة مجتمعنا وكادت تمزقه»، ذهابه إلى القول انه «الوحيد القادر على إبقاء سورية جغرافياً»، ثم لاعتبار أن كل مواطن مسؤول وقادر على تقديم شيء ولو كان بسيطاً أو محدوداً بنظره؟!. بل، هل يتساوق ذلك مع عنوان الخطاب الذي جاء في صيغة مبادرة من الداخل، كما قال، لوقف حمام الدم الذي يفتعله الخارج ولا علاقة له بأي عامل آخر؟

فـ «بقاء سورية جغرافياً»، وفق تعبيره، أو سورية الجغرافيا والأرض والموقع والشعب والتاريخ، ليـــس منّة من حاكم أياً كان اسمه أو لونه أو طراز حكمه، فضلاً عن بقائه في السلطة أو عدم بقائه فيها. لذلك فإن عبارة «إبقاء سورية جغرافياً»، بواسطة هذا الحراك أو من دونه، لا بد أنها تعني شيئاً آخر في ذهن الأسد وفي خطته للمستقبل: عدم بقاء هذه الجغرافيا موحدة، أو عملياً تقسيمها.

ولتأكيد هذا المنحى، يقول في موقع آخر من الخطاب، وإن في سياق التحذير من الفكر التكفيري الذي يحمّله المسؤولية عما ينوي فعله أو أقله يفكر فيه: «سورية التي نعرفها لن تكون موجودة، ليس بالضرورة بالاسم أو بالجغرافيا، وإنما على الأقل سورية التي عرفناها كمجتمع».

في الواقع، لا يشي بغير ذلك كلام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (حليف الأسد العنيد) مرة على عدم استعداد الأسد للتنحي، وأخرى على استحالة إقناعه بالتنحي. كما لا يشي بغيره لجوؤه إلى تدمير معظم البنية التحتية للمدن السورية الكبرى ما عدا اللاذقية وطرطوس وغيرهما من مدن الساحل التي يتصورها جزءاً من دولته المقبلة.

كذلك لا يعني تفسيره الهمايوني لـ «المرحلة الانتقالية» التي اتفق عليها في جنيف، والتي يقول لافروف إنها لا تتضمن تخلي الأسد عن سلطاته على رغم أنها تنص على «تشكيل حكومة بصلاحيات كاملة» (أين هي إذاً صلاحيات الأسد المطلقة؟)، إلا أن فكرة الدولة الموهومة هذه ليست بعيدة عن روسيا التي تمحضه كل دعمها وتأييدها حتى الآن.

وإلا، فلماذا ابتلع المسؤولون الروس ألسنتهم منذ خطاب الأسد قبل ثلاثة أيام، فلم يقولوا كلمة واحدة تعليقاً عليه ولو بأسلوب الناطق الصيني (الحليف الآخر) الذي لم يجد ما يقوله إلا أنه يطالب بحل سلمي للأزمة، أو على طريقة المسؤول الإيراني الذي سارع إلى تأييد الخطاب وما ورد فيه؟

ماذا قال الأسد في خطابه قبل أيام فقط عن اتفاق جنيف المعلن قبل شهور، والذي فسرته كل من موسكو وواشنطن على طريقتها؟

«مبادرة جنيف التي أيدتها سورية، فيها بند غامض هو بند المرحلة الانتقالية. طبعاً هو غير مفسر لسبب بسيط، لأننا عندما نتحدث عن مرحلة انتقالية فأول شيء نسأله: انتقال من أين إلى أين؟، أو من ماذا إلى ماذا؟ أن ننتقل من بلد حر مستقل إلى بلد تحت الاحتلال مثلاً؟ هل ننتقل من بلد فيه دولة إلى بلد ليست فيه دولة بل حالة فوضى مطلقة، أم ننتقل من قرار وطني مستقل إلى تسليم هذا القرار إلى الأجانب؟»

أما تفسير الأسد للاتفاق فهو بكل بساطة: «المرحلة الانتقالية هي الانتقال من اللااستقرار إلى الاستقرار… وأي تفسير آخر لا يعنينا». والاستقرار، كما يبدو من «مبادرة» الأسد للحل في سورية وإيحاءاته عن الجغرافيا، ليس سوى الانسحاب إلى جبال العلويين وإقامة دولته فيها.

الحياة

حليفا طهران المأزومان

د. نقولا زيدان

الذين شاهدوا واستمعوا لبشار الأسد منذ أيام يلقي خطاباً بلغة خشبية في قاعة مقفلة قرب ساحة الأمويين، ترسّخت قناعاتهم بأن الديكتاتور الفاشي عازم على المضي في الحرب ضد الشعب السوري حتى النهاية. إنه الأسلوب الهتلري بعينه الذي يذكّرنا بالساعات التي كانت الدبابات السوفياتية عام 1945 قد أحكمت الطوق حول برلين وبالتحديد عند ضاحيتها المسماة شونوفيلد (Schônefeild) وكان “الفوهرر” يستعرض بعض المجنّدين المراهقين المساكين من الأحياء القريبة لمقاومة يائسة جنونية ضد الفولاذ الروسي ووابل القذائف المنهمر من دون انقطاع. كانت مأساة النزع الأخير قبل انتحار الطاغية في مخبئه “البونكر” (Bunker)، وكذلك كان حاكم دمشق يستعرض بعض من ظلوا أوفياء له لئلا يصيبهم اليأس والانهيار.

راجت أخبار ومعلومات في دمشق وصلت الى سائر العواصم العربية أن الاجتماع الجماهيري المهزلة قد تم تصويره سابقاً وأن جميع الحاضرين قد جرى استحضارهم بالأسماء حيث جرى التدقيق من قِبَل الأجهزة بكل اسم على حدة، بينما الباقون كانوا من العسكريين والضباط وعناصر الشبيحة وقد ارتدوا جميعاً الثياب المدنية. فلم يُسمع أثناء الخطاب قط للحراسة كالمعتاد، لأي صوت لطائرة أو مروحية… إنه مسرح الدمى الذي بطله الديكتاتور الدموي.

مهما يكن من أمر فالخطاب لم يأت بأي جديد قط، حيث راح بشار الأسد يكيل التهم للدول الإقليمية ويتحدث عن مؤامرة عالمية وعن الإرهابيين من تنظيم القاعدة الذين هُرعوا الى سوريا لإسقاطه. ثم كان كلامه عن مبادرة مزعومة، وعن استفتاء أسدي وعن مؤتمر وطني للحوار… وكل ذلك تحت إشرافه. فمعارضة الخارج هم مجموعة من الخونة، أما معارضة الداخل فغالبيتها من تلك الوجوه البائسة الملتبسة المزورة نفسها التي أرسلها الى طهران منذ أسابيع والتي هي من صنعه هو وتأليفه وتوليفه فهم المدعوون للحوار. إنه في الواقع يرمي الى قطع الطريق على المقترحات والأفكار التي أدلى بها الإبراهيمي عشية سفره الى نيويورك والتي رغماً عن الثغرات التي تضمنتها قد نصت في احد بنودها على وجوب تخلّيه عن بعض صلاحياته لحكومة انتقالية كاملة الصلاحيات. لا بل تحدث الإبراهيمي عن نظام جمهوري برلماني غير رئاسي… فهل يرضى الديكتاتور بمقترحات من هذا القبيل؟ لذا جاء هذا الخطاب والاجتماع الجماهيري الكاريكاتوري المفبرك…

إلا ان خفايا وهواجس ومخاوف أخرى تشغل بطل مسرحية الدمى هذه ألا وهي شكوكه المتزايدة حول حقيقة النيات الروسية حيال بقائه في الحكم. إن التصريحات المتضاربة والمتناقضة الصادرة عن القادة الروس تقض مضاجعه، فبعضها يلمح الى إمكانية تنحيه وبعضها الآخر يتحدث على أن فرصه في البقاء تتراجع وتتضاءل والبعض الأخير يقول إن لا حيلة لموسكو في إمكانية إقناعه بالتنحي. لذا أرسل نائبه فيصل المقداد الى هناك للإطلاع من كثب على حقيقة النيات الروسية حياله. وما إن عاد المقداد من هناك حتى طار الى طهران لمعرفة مدى استعداد طهران لمزيد من التورّط في المأزق السوري المريع. ثم إن احتياط سوريا من القطع النادر قد تدنى الى نحو 4 مليارات من الدولارات من اصل 16 مليار دولار. فقد انفق الاسد في حربه حتى اللحظة 12 مليار دولار، فهل طهران على استعداد لتغطية العجز الذي يتخبط فيه، وما موقف طهران من نصب بطاريات الباتريوت قرب حدودها مع تركيا والحدود الشمالية – الشرقية السورية؟ وماذا عن حرب اقليمية اذا اندلعت!

ان الحليف الرئيسي الاستراتيجي للنظام الأسدي وهو طهران لقلق جداً في الآونة الأخيرة من جراء تدهور الوضع الداخلي لربيبه السوري وهو الذي اصبح يقاتل من اجل البقاء داخل العاصمة دمشق نفسها، بل اصبحت مطاراته الدولية معطلة في دمشق وحلب معا فتراه مضطراً للاستعانة بمطار بيروت. انه حقاً في حال تدعو للرثاء، فقد شاهده اصدقاؤه في إيران وهو يلقي خطابه مربكا وقد انهكه الاعياء والخوف على مصيره المحتوم.

إلا ان طهران لقلقة ايضا بما آل اليه الوضع العراقي المتفجر حيث يحكم ربيبها الآخر نور المالكي، فالوضع العراقي اشبه ببرميل بارود حيث اندلعت انتفاضة شعبية عارمة ابتداء بالأنبار ومروراً بالموصل ونينوى وانتهاء بمحافظة صلاح الدين، لا بل وجدها مقتدى الصدر فرصة سانحة لينضم جانب مهم من الشيعة الى الثائرين السنة. أما الأكراد فهم أيضاً على استعداد للمواجهة مع المالكي وقد حشدوا قواتهم عند مداخل كركوك المتنازع عليها، وتتبنى مطالب الثائرين في اتهام الحكومة بالفساد والرشوة والانحياز الطائفي والمذهبي وتوقيف عشرات الألوف واغتصاب النساء في السجون ثم المطالبة باسقاط النظام. حقا لقد كانت الصفقة الأميركية – الإيرانية في العراق مشروعاً سياسياً فاشلاً. فكما اطل علينا الاسد مربكا في خطابه المسرحي يسكنه الضنك والاعياء كذلك اطل علينا نور المالكي متجهماً متعبا حيث يكاد الوضع عنده يفلت من تحت السيطرة، فلم يبق له سوى قطعات من الجيش العراقي الطري العود.

ان الأحلام التي طالما راودت طهران وخطها اللوجستي الممتد من فارس مروراً بالعراق وسوريا وصولا الى جنوبي لبنان يتعرض بقوة للتفكك في غير موقع وحلقة منه الان، فبعد سحب اصابعها من قطاع غزة ها هي تخسر المزيد من حلفائها.

ان المشروع الإيراني يتعرض لنكسة منكرة بل هزيمة ان اكتملت فسوف تصل اصداؤها وتداعياتها حتماً الى لبنان.

المستقبل

خطاب للاسد محمل ومثقل بالدلالات يلغي الخصم ويعلي من شأن الذات ويقود البلاد الى نفق مظلم

ابراهيم درويش

لندن ـ ‘القدس العربي’ لا بد لمن راقب خطاب الرئيس السوري بشار الاسد، وهو اول خطاب يلقيه منذ حزيران (يونيو) العام الماضي، سيعتقد ان امرا لم يتغير في سورية، فالرئيس بدا وكأنه يمسك بزمام الامر، مع اعتراف منه بان البلاد تعيش ‘ازمة’ تحتاج الى حل امني وسياسي مشروط بالشروط السورية، تشرف عليه الحكومة السورية الحالية. مما يعني ان الحديث عن الحلول السياسية الدولية لا تهم النظام، فكل ما طلبه الرئيس الاسد هو توقف الدول الجارة عن دعم ‘الارهابيين’ والتوقف عن ادخالهم الى سورية وحرمانهم من الدعم العسكري والتمويل.

واللافت ان الاسد يريد الحل السياسي ولكنه لا يجد شريكا يمكنه التحاور معه، فالاسد لا يعترف بالمعارضة السورية في الخارج ولا يرى في الربيع العربي سوى ‘فقاعة’ ستنفجر عاجلا او آجلا. وحديث الاسد عن الجهاديين و’القاعدة’ مثير لان نظامه رعى الجهاديين اثناء الحرب على العراق، ولكن مجرد حديثه عن جهاديين هو اعتراف بوجودهم في سورية.

اللغة لم تتغير

ولم يخرج الاسد في خطابه ولغته، عن اللغة السابقة التي استخدمها في كل خطاباته، اي العاطفية في الحديث عن ضحايا الحرب، وفي هذا الخطاب اضاف مكونا جديدا وهو ان بيته ـ عائلته خسرت في الحرب، في اشارة غير مباشرة لمقتل زوج اخته بشرى، آصف شوكت، نائب وزير الدفاع في تفجير مجلس الامن القومي، في تموز (يوليو) العام الماضي. كما لم يتغير خطاب الرئيس من ناحية تأكيده على دور الجيش السوري في مكافحة ‘الارهاب’ ودفاعه عن كرامة سورية، وقدم بعض الامثلة الهزيلة عن انجازات النظام لمواجهة الجماعات المقاتلة في حمص ودرعا، وربما حاول ان يشير الى ان نظامه كان قادرا على احلال الامن في المدينتين اللتين شهدتا اعنف المعارك في بداية انطلاقة الانتفاضة، فيما اراد من حديثه عن الجهود الشعبية في مواجهة بعض اهالي مدينة الحسكة في الشمال للمقاتلين المتسللين من تركيا، اعطاء فكرة ان نظامه لا يزال يحكم سيطرته على الشمال.

ومن هنا فمن تابع خطاب الاسد يجد نفسه امام رئيس ثابت ويقود البلاد ضد مؤامرة تستهدف كرامتها وسيادتها، ويقاتل جماعات ارهابية ‘انبطاحية’ ومستسلمة للغرب، بل وتريد فرض احتلال غربي على البلاد. وما يلفت الانتباه في خطاب الاسد، على الرغم من الهتافات التي هتفت باسمه ومقاطعته المستمرة اثناء خطاب استمر ساعة، ان الاسد ظل يخطئ ويتلعثم احيانا في قراءة خطاب كتب له بلغة شاعرية.

لا يريد الرحيل

ولم يظهر في خطاب الاسد اية نية للتخلي عن السلطة، عندما اكد على ان المصالحة الوطنية والحوار مع الافراد والجماعات السياسية سيتم برعاية من حكومته، وهو وان لم يرفض مبادرة جنيف التي تقدمت بها روسيا الا انه قال ان بعض بنودها غير واضحة، خاصة تلك التي تتحدث عن نقل السلطة، بدا الاسد في خطابه غير معزول ولا خائف، وكأنه اراد ان يبدد الشائعات حول قرب هروبه من العاصمة او خارج سورية وأنه اسير قصره الجمهوري، فقد بدا بين جمهوره المصفق له واثقا من قدرته على البقاء، وكان يتحدث حديث رجل لا يواجه نظامه سيناريو السقوط في اية لحظة، حسب التقديرات الصادرة عن اطراف المعارضة وبعض المحللين الغربيين.

وعليه فخطاب الاسد مثقل بالدلالات، والرسائل الموجهة للقوى المحلية والاقليمية والغربية التي اعلنت وفاته وحضرت جنازته، وفيه شحنة من العاطفية من انه كرأس الدولة يشعر مع امهات الشهداء وعائلات المفقودين وان وقف اطلاق النار من جانب ‘الارهابيين’ هو من اجل السماح للمشردين الذين هجروا من بيوتهم بالعودة الى البلاد. ولم يفت الاسد التأكيد وان بحياء على محور المقاومة، وان سورية هي قلعة النضال، والمراد من كل ما يجري هو اضعافه بارسال الجهاديين الى اراضيه كي يتمكن الغرب من اضعاف بلد ظل يمثل تهديدا والتخلص من الجهاديين.

المقاومة والجولان

ومن هنا جاء الحديث عن الجولان والفلسطينيين في سورية الذين رفض زجهم في الازمة وانهم مواطنون سوريون يدافعون عن وطنهم الثاني سورية وليسوا مثل من احتضتنهم سورية ولكنهم انتهزوا الفرصة المناسبة للهروب لانهم تعاملوا مع البلد كفندق فاخر، في تلميح الى حركة حماس التي قررت اغلاق مكاتبها في سورية والخروج منها بعد ان رفضت ان تكون ضلعا في الازمة. مع ان الاسد وهو في دمشق يعرف ما جرى لاهالي مخيم اليرموك من تشرد وقصف الشهر الماضي.

هل هو حالم؟

وبعيدا عن الخطط التي وضعها الاسد والمقترحات ‘الداخلية’ لحل الازمة فان تساؤلا يطرح ويتعلق بواقعية تحليل الاسد للازمة، فالخطاب ان قرن بالواقع وما يجري من تطورات ميدانية يظهر ان الرئيس معزول عن الواقع ويجهل او يتجاهله، فمن يقف المقاتلون على ابواب عاصمته لا يمكنه ان يتحدث بهذه اللغة، لغة الرئيس المعروفة بالتركيز على التفاصيل، فالاسد يتحدث عن مقترحات تحتوي على تفاصيل فرعية تحتاج لسنوات كي يتم التوصل لتطبيقها، وكأنه يتحدث في وضع طبيعي. فاقتراحاته الاولى مع بداية الازمة رفضت لانها لم توفر الحد الادنى لبدء الحوار، فكيف سيتم تقبل ما يقوله من معارضة باتت موجودة على الارض ومعترفا بها من المجتمع الدولي، على الاقل من جماعة اصدقاء سورية. ففي ظل عدم اعتراف الاسد بحدوث تغير على الارض ووجود معارض له مطالبه ولديه ما يمكنه المقايضة عليه، فانه يختصر الواقع بنفسه وخطابه واضح في القول اما انا او الموت.

اعادة انتاج الخطاب

يمعن الرئيس الاسد في الحديث عن المخاطر التي تعترض بلاده، ويستخدم كل مفردات قاموس الحرب الاهلية، من الطائفية والحقد، ويستمرئ الحديث عن دم الضحايا والقتلى والدمار واللعب على العواطف، والسيادة والقانون، ويريد حكما بناء على الدستور الجديد لحفظ حقوق الناس. عندما يخرج الاسد اعداءه من المعادلة باعتبارهم حفنة من المجرمين والتكفيريين والمستوردين من الخارج والانبطاحيين المؤتمرين بأمر الخارج فهو يقضي على اي مبادرة سياسية، لانه يحصر الحل به وبنظامه. وطالما آمن الاسد بالحل الامني كوسيلة للقضاء على معارضيه فالدم سيسيل وسيتجاوز عدد القتلى الستين الفا الاخير، ومخطط التقسيم سيصبح حقيقة، وسورية الضاربة في التاريخ ستدخل نفقه المظلم، والاسد الذي يبكي على الموت الذي حل ببيته قد لا يجد فرصة اخرى كي يبكي نفسه امام مجموعة هتفت باسمه، لان باب الفرص سيغلق امامه. وفي النهاية ربما يعرف الاسد اكثر مما لا نعرف ويقرأ الخارطة السورية الجديدة التي رسمتها ‘الثورة’ بطريقته الخاصة، فهو ان يرفض تسمية ما يجري في بلاده بالثورة لغياب الفكر والقيادة عنها، ولكن الاسد يعرف ان الناس عندما يطفح الكيل بهم لا يحتاجون لقائد لهم يقودهم، او فكر يوجههم. وماذا ينتظر السوريون بعد، لا احد يعرف ولكن ما سيجري على الميدان سيقرر المصير. والمشهد في سورية اليوم يقوم على ثنائيات الخير والشر، فالنظام يرى المعركة على انها بين شعب ضد مجرمين، والمعارضة تراها معركة بين شعب ورئيس مثل مسرحية امام شبيحته.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى