صفحات سورية

رهانات بشار الاسد العشرة


نور الله اليد

مع انطلاقة الانتفاضات العربية، استشعر الأسد ريحاً آتية من المغرب العربي منذرة بعواصف الخماسين، ولتفادي هذه العواصف قام الأسد على مدى أكثر من عام ونصف برهانات تجنبه السقوط، لعل من أهمها:

الرهان الأول: أنا ابن أبي، الأسد إلى الأبد: بدأ بشار الأسد رهاناته على استدامة حكم نظامه لسورية قبل أن تبدأ الانتفاضة عندما أكد لمجلة وول ستريت في مطلع عام 2011 أن سورية لن تعرف ما عرفته كل من تونس ومصر لأن النظام السوري يستجيب لتطلعات الشعب السوري في مقاومة المشروع الصهيوني الأمريكي ومن ثم فإنه ونظامه في حصانة مطلقة وهو لا يخشى شيئا، فقد قام منذ تسنمه الحكم بما يجب أن يقوم به من إصلاحات، وهو يقول في مقابلة لاحقة: ‘إن لم تكن قد بدأت بالأساس ولم يكن لديك النية والخطة فالآن تأخرت وإذا لم يكن لدينا هذه النية والرؤية انتهى الموضوع ولا داعي لأن نضيع وقتنا’. ولكن هذا الرهان انتهى مع الأسابيع الأولى للانتفاضة عندما قال المتظاهرون هاتفين: يا بشار مانك منا، خود غراضك وارحل عنا.

الرهان الثاني: الإصلاحات أو الوعد بإصلاحات عاجلة يطالب بها الشعب، وخاصة الشباب، عندما اعترف في خطابه في نهاية آذار 2011 قائلاً إن بعض مطالب المتظاهرين محقة وإن مجموعة من الإصلاحات ستُنجز في وقت قريب. فأعطى الأكراد المقيمين ‘مؤقتاً’ في سورية منذ بداية الستينيات حق الجنسية السورية ورفع حالة الطوارئ وأصدر قانونا جديدا للإدارة المحلية، وقانونا للإعلام، وعدل الدستور. ورافق ذلك الدعوة للحوار، ونظّم مؤتمراً لذلك برئاسة نائبه في تموز 2011، وذهب كل ما قيل في هذا المؤتمر هباءً. ذلك أن نتائج المؤتمر ستفضي عملياً إلى إسقاط النظام. ولكن المتظاهرين رفضوا الحوار في جمعة ‘لا للحوار’ في 8 حزيران 2011. ولم يستجب الشارع لأي من هذه الإصلاحات لأنه يعرف ما تخفي الأكمة، فلا حالة الطوارئ رفعت فعلياً ولم يتغير أي شيء فعلياً، فالدستور الحالي أعطى الرئيس صلاحيات أكثر مما كان له في السابق، وعاد حزب البعث إلى السلطة بغالبية 188 نائباً من أصل 250! وكان أوضح رفض لهذه الإصلاحات ضعف نسبة المشاركة في انتخابات الإدارة المحلية وانتخابات مجلس الشعب التي لم تتجاوز في أحسن البلدات 20′! وهتف المتظاهرون: الشعب يريد إعدام الرئيس.

الرهان الثالث: العنف طريقاً لإيقاف الانتفاضة. فقد استعمل العنف منذ اليوم الأول ضد المتظاهرين وقتل في عشرة أيام في شهر آذار 2011 (الأيام العشرة الأولى للانتفاضة) 121 مواطناً معظمهم في درعا. وتابع العنف بدفعه بالجيش إلى المواجهة مع المتظاهرين ظاناً أنه بذلك سيتمكن من إطفاء الانتفاضة في غضون أيام، وبالفعل فقد احتل الجيش السوري مدينة درعا على أساس أن الجيش سينهي الأزمة في غضون أسبوع وكان يقول لزواره من عرب وعجم أنه بحاجة لأيام فقط ليضع حداً لهذه الانتفاضة. وأصبح الأمر محل تهكم في الشارع السوري باستخدام كلمة ‘خلصت’ للدلالة على شيء يقال إنه سينتهي ولن ينتهي أبداً. وها هو اليوم وبعد سنة ونصف يتابع مسيرة العنف المتزايد ولكن بلا نتيجة. ولا يزال السوريون يهتفون: الموت ولا المذلة.

الرهان الرابع: التعتيم الإعلامي، على أساس أن أحداً لن يعرف ما يجري في سورية وأن وسائله الإعلامية هي الوسائل الوحيدة للإخبار عما يجري في سورية بما يتطابق مع الصورة التي أراد أن يقدمها للعالم، أو يسمح لوسائل إعلامية خارجية أن ترى ما يريها أن ترى وأن تنقل المعلومات التي يريدها أن تنقلها، وهو في كل الأحوال لن يسمح لها بالتنقل كيفما تريد. ولكن المنتفضين بوسائلهم المتواضعة كشفوا للعالم منذ اليوم الأول ما يجري. ومع تطور الأحداث بدأ المنتفضون في مساعدة الصحافة الخارجية على الدخول إلى سورية والقيام بعملهم الإعلامي وهذا ما مكّن العالم من رؤية ما يحدث بالرغم من قيام النظام بقتل عدد من هؤلاء الصحفيين الاجانب وآخرهم الصحفية اليابانية ميكا ياماموتو.

الرهان الخامس: تماسك النظام. فالنظام بناء شيُّد على مدى أربعين عاماً قوامه مجموعات مصلحة من مختلف الطوائف، وإن كانت الغلبة في الجانب الأمني لطائفة الرئيس. ولكن العنف غير المبرر ضد المتظاهرين دفع البناء إلى التصدع شيئاً فشيئاً، على شكل انشقاق عن النظام، بدأ من الجيش الذي رفض منشقوه قتل المتظاهرين. وتصاعدت الانشقاقات العسكرية حتى وصلت إلى المقربين من النظام. وكذلك انشقاق المدنيين من كبار الموظفين والسفراء وعلى رأسهم رئيس الوزراء السابق. وأصبحت الكليشة المعروفة في الإنشقاق: أنا…أعلن انشقاقي عن النظام الأسدي… كليشة مألوفة للسوريين وغيرهم. طبعاً يجب ألا ننسى البرجوازية السورية، أو أصحاب المصالح الذين استشعروا سقوطه فانشقوا على طريقتهم.

الرهان السادس: الحماية الدولية، على الأقل من روسيا في كل ما يتصل من قرارات قد تتخذ بحق النظام في مجلس الأمن ومن قوة ردع تمنع الدول الأخرى من الانخراط في دعم الانتفاضة السورية. وهذا ما تحقق له وأكثر، إذ ساعدت الصين بقدر ما ساعدت روسيا وإن كانت تقوم بذلك من الصف الثاني. أما إيران فهي الحليف الاستراتيجي ودعمها للنظام السوري، ومن سار في ركابها، هو تحصيل حاصل. إلا أن اعتماد الانتفــاضة السورية على نفسها وتحولها إلى السلاح يضعف من قيمة الحماية الدولية. وعلى عكس كل ما يقال عن حرب بالوكالة فإن ما يجري في سورية هو حرب بين النظام السوري والشعب المنتفض الذي يحارب بما يغنم من سلاح من الجيش النظامي والآن يتساءل المدافعون عن الأسد ونظامه إن كانوا أحسنوا عملاً أم أن الأوان قد آن للتخلي عنه… والسؤال المقابل الذي يناقش اليوم في المحافل الدولية هو حول كيفية تأمين حماية للشعب السوري من نظامه القاتل. وإيران تحتاج إلى المساعدة والحماية بقدر ما تحتاج سورية وأكثر. وأصبح بشار رهينة للدول الحامية وخاصة إيران.

الرهان السابع: استثمار البعبع الطائفي. ومنذ اليوم الأول كان الموضوع الطائفي هو الأهم بالنسبة للنظام السوري فهو في حال قيام نزاع طائفي في سورية ستكون له فرصة المخلص والمنقذ ليعود مجدداً جلده ومطيلاً عمره. وبالعودة إلى خطاب بشار الأسد الأول في آذار 2011 نجد أنه استعمل كلمة طائفية في صيغ مختلفة محذراً ومخوفاً من مؤامرة ستلعب على هذا الوتر. وقد حاول النظام تحويل ما جرى في بانياس واللاذقية وحمص تالياً إلى أنه صدامات طائفية، ولكن محاولاته باءت بالفشل، فقد تنبه السوريون إليها وقاوموها بكثير من الفطنة، وسموا إحدى الجمع باسم ‘جمعة صالح العلي’ (17 حزيران 2011) وهو علوي من أهم قادة الثورة السورية ضد الفرنسيين، وكانوا قد سموا جمعة سابقة باسم ‘الجمعة العظيمة’ (22 نيسان 2011) التي تسبق عيد الفصح، وهتف السوريون في مظاهراتهم أجمل شعاراتهم: ‘واحد واحد واحد…الشعب السوري واحد’.

الرهان الثامن: الحرب الإقليمية، إذا أن ذلك قد يكون مخرجاً للنظام السوري إذ سيكون من الممكن عندها خلط الأوراق وتراجع الموضوع السوري الداخلي إلى الصف الثاني أمام الأزمة الإقليمية، ناهيك ما قد يمد ذلك النظام من قوة مثل التدخل العلني لحزب الله وإيران وقوى أخرى في العراق مؤتمرة بإمرة إيران وكذلك حزب العمال الكردي. بدأ النظام السوري عبر حزب العمال الكردي باستثارة تركيا، واستثارة الشجن الطائفي في شمال لبنان ومناوشة الجيش الأردني مؤخراً. وطبعاً لم ينس النظام استحضار أرواح المجموعات الجهادية وأتباع القاعدة في عمليات تفجيرية داخل سورية. إلا أن كل هذا لم يفده في شيء، فكل هذه الدول عاملت مع رهان الأسد بكثير من الحكمة، ووقع النظام في شر أعماله في قضية الوزير ميشال سماحة. وهنا لن يسامح اللبنانيون لا ميشيل سماحة ولا الأسد.

الرهان التاسع: التدويل، فقد كان قبوله لمبادرة الجامعة العربية، ومبادرة الأمم المتحدة بهدف نقل المسألة الداخلية لتصبح مسألة دولية لعله بذلك يجد مخرجاً لنفسه على أساس أن أي حل للمسألة السورية سيكون تحت ناظريه من جهة، ومن جهة أخرى فإن اللعب مع المبادرات الإقليمية أو الدولية سيعطيه المزيد من الوقت لإنهاء الانتفاضة بطريقته العنفية. ولكن الرد على ذلك جاء من كوفي أنان الذي أدانه وأدان المجتمع الدولي المتخاذل. وانتهى هذا الرهان دون تحقيق أهداف الرهان، طبعاً إلا كسب الوقت وارتكاب المزيد من القتل الذي يدينه ويفقده أية شرعية باقية.

الرهان العاشر: عسكرة الانتفاضة، فالعنف المتزايد على المتظاهرين والمجازر الوحشية (مجزرة الحولة) جعل من حمل السوريين للسلاح أمراً لا مفر منه، وأصبح النظام بذلك أمام شرعية الدفاع عن النفس والدولة، وحقق بذلك هدفه بجلب المعارضة إلى الميدان الذي يبرع فيه آملاً القضاء على الانتفاضة بتكبيدها هزيمة عسكرية. إلا أن السحر انقلب على الساحر، فالجيش الحر هو جيش مجموعات مسلحة، لا يبقى في مكان ثابت ولا يخوض معركة عسكرية بالمعنى التقليدي، وخسر النظام سيطرته على 70′ من الأراضي السورية.

ومع انتهاء الرهانات لم يبق في جعبة النظام إلا المزيد من المذابح والقتل وإشاعة الدمار، والقتل للقتل. أي أن النظام تحول الآن من نظام دولة إلى نظام عصابة، وهو ما اتهم به المعارضة في بداية الانتفاضة السورية، ليصبح اتهامه موجهاً إليه نفسه. وهو الآن لا يعرف ما يريد لذا يتابع القتل بطريقة غاية في العبثية، فلا أحد الآن يعرف معنى لكل هذا القتل، سوى أنه قتل للقتل، فالمنتفضون لا شيء يمكن يثنيهم على ما عزموا عليه سوى فنائهم.

وبعد رهاناته العشرة، ليس على الأسد وقد أطبق بأصابعه العشر على راحتي يديه إلا أن يوجه ضربة إلى مرآته ويكسرها لينهي حكمه وحكم أبيه لسورية على مدى 42 عاماً.

‘ أستاذ جامعي سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى