صفحات العالم

مقالات لكتاب عرب تناولت “داعش” والازمة في المنطقة

 
من يدفع ثمن «داعش» واشنطن أم طهران؟/ جورج سمعان
كل ما حدث ويحدث في سورية والعراق لم يدفع الإدارة الأميركية إلى إعادة النظر في أولويات استراتيجيتها. أعلن الرئيس باراك أوباما قبل أكثر من سنتين أن منطقة الشرق الأوسط لم تعد لها الأولوية، التي انتقلت إلى المحيط الهادئ. مثل هذا التوجه يكفي أن يعزز مواقع إيران التي لم تتأخر في ملء الفراغات التي خلفها سقوط نظامي «طالبان» وصدام حسين ويكفي لإيقاظ طموحات الحركات الجهادية الساعية إلى السيطرة على ما تستطيع، لتكرار تجربة أفغانستان أو الصومال أو اليمن ومالي، وهو ما تحقق لـ «داعش» في الأيام الأخيرة. ومن نتائج هذا الانكفاء أو الانسحاب من الإقليم، ما أصاب ويصيب الديبلوماسية الأميركية من ارتباك وضياع في الرد على التحديات سواء في العراق أو في سورية.
غياب الرؤية الديبلوماسية طبعت مواقف الرئيس أوباما منذ اندلاع «الربيع العربي» الذي تزامن مع الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة. لم يحسن التصرف حيال أحداث مصر والبحرين. وفاقمت سياسته حيال سورية الأزمة في هذا البلد. بل كان من نتائج تجاهل دمشق وحلفائها «الخطوط الحمر» التي لوّح بها أكبر الأثر في ما وصلت إليه الأوضاع في بلاد الشام عموماً. وهو بلا شك يتقاسم مع نوري المالكي وأعوانه وحلفائه المسؤولة عن الاندفاعة الأخيرة لـ «داعش». ولا جدال في أن الولايات المتحدة تكاد تخسر معظم مواقعها السياسية في الإقليم. فمصر في ظل حكم عبد الفتاح السيسي لن تكون كما كانت أيام الرئيس حسني مبارك. ستكون القاهرة جزءاً من المنظومة الخليجية التي لم تعد تثق بواشنطن، ولا تلتقي ومقارباتها لأزمات المنطقة، والدور الإيراني الغالب من بيروت إلى بغداد لا يحتاج إلى شرح.
لم يعد من مكان للسياسة الأميركية في المنطقة التي يتنازع السيطرة عليها تيار «الممانعة» وتيار «القاعدة» الجديدة التي لم تتقيد بحدود واعتبارات سياسية. وهي تطرق أبواب بيروت وعمان وستتمدد عملياتها تفجيرات وعمليات انتحارية في عموم المنطقة. ولن يبقى أمام واشنطن سوى خيار وحيد هو التعامل مع إيران وأذرعها في المنطقة، لئلا نقول مراعاة رغباتها وسياساتها. نجحت طهران في دعم حلفائها وتحويلهم أرقاماً صعبة عصية على التغيير في كل من دمشق وبغداد. ولن تتخلى عنهم في المدى المنظور ما دامت المحادثات في شأن الملف النووي لم تنتهِ بعد. لم تكن العقوبات وحدها من دفع الجمهورية الإسلامية إلى معاودة التفاوض في هذا الملف. موقف الرئيس أوباما ورسائله المتكررة إلى الإيرانيين، حتى أيام الرئيس محمود أحمدي نجاد قرأت فيها النخبة المتشددة في طهران حاجة أميركا الملحة إلى تفاهم يسهل عليها مغادرة قواتها العراق ومن بعده أفغانستان. وقرأت فيها حاجتها إلى شرق أوسط يتمتع بالحد الأدنى من الاستقرار، ما يتيح لها الانكفاء الآمن نحو المحيط الهادئ. ألم توافق واشنطن عام 2010 على التمديد ولاية ثانية لنوري المالكي نزولاً عند رغبة إيران؟
إدارة الظهر للشرق الأوسط لن تمر بلا ثمن. إن اضطراب الإقليم بعد اندفاعة «داعش» يهدد بلا شك المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، ويهدد أمن إسرائيل واستقرار الأردن ودول الخليج، وكذلك أمن الطاقة، إن لم يكن لأميركا التي تتجه إلى الاكتفاء الذاتي من النفط والغاز، فلحلفائها وشركائها، من أوروبا إلى اليابان وغيرهما من دول جنوب شرق آسيا. وسيشكل جيش المقاتلين الجهاديين الآتين من الغرب أكبر هاجس أمني لدول الاتحاد الأوروبي وأمن مجتمعاته. ولن تكون إيران بمنأى عن هذا الخطر. لن تنعم خريطة مواقعها في العالم العربي بالهدوء، ستتآكل مصالحها وتتقلص حدود نفوذها كلما أمعنت في تحدي غالبية أهل الإقليم ودفعهم إلى خيارين لا ثالث لهما: إما حلفاؤها وإما «الدولة الإسلامية». وهي تجد نفسها في العراق اليوم، كما في سورية، جزءاً من الحرب الأهلية والمذهبية المفتوحة. والواضح أن ليس هذا ما يريده الرئيس حسن روحاني الراغب في تسويات رغبته في النهوض بالاقتصاد والحؤول دون انهيار البلاد، فهل ينجح في فرض سياسته أم يعجز عن مقاومة «المقاومين» و «الممانعين»؟
ربما رأى تيار الصقور في إيران أن الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة يجدون أنفسهم في مأزق كبير حيال ما يجري في العراق، لذلك لن يكون أمامهم ســــوى تقديم تنازلات إلى طهران في الملف النووي للمساهمة في مواجهة تمدد «داعش». ولكن يغيب عن هؤلاء أن بلادهم بدأت الانخراط الميداني، تماماً كما يفعل الأميركيـــون، لوقف تقدم «الدولة الإسلامية». وستجـــد طهران نفسها هي الأخرى أمام خــيارين لا ثالث لهما: إما التخلي عن نوري المالكي والحفاظ على جزء كبير من نفوذها في بغداد، أو تهديد هذا النفوذ في العراق وسورية أيضاً. لن يفيد الصقور أن يقارنوا بين ما قدمته الجمهورية الإسلامية إلى نظـــام الرئيس بشار الأسد لبقائه على رأس السلطة، لاعتماد الصيغة نفسها في مواجهة «الدولة الإسلامية». لا يمكن إيران أن تستنزف مواردها المالية القليلة لدعم نظامين معاً. ولا يمكنها أن تدفع بقوات كبيـــرة والتدخل مباشرة في خوض حرب واســــعة في بلاد الشام ستنظر إليها الغالبية السنية في الإقليم حرباً مذهبية. ولن تتوانى هذه الغالبية عن المواجهة، ليس دفاعاً عن «داعش» بل تحت عنوان مقاومة «الاحتلال» الجديد. فضلاً عن أن خروج إقليم سني عن سيطرة بغداد وسيطرته على الحدود مع سورية، سيطرح مشكلة لوجستية أمام كل أشكال الدعم الذي تقدمه الآلة الإيرانية إلى كل من النظام في دمشق وحلفائه في لبنان.
قد يرى المتشددون في إيران ما يجري في العراق تطوراً يصب في مصلحة بلادهم. وهو ما سيدفع إدارة الرئيس أوباما إلى تقديم بعض التنازلات في الملف النووي قبل أن يقوم تفاهم مشترك معها على مواجهة «داعش». لكن الأمر أكثر تعقيداً. لا يكفي أن يقوم التفاهم السياسي الثنائي هذا للعودة بالعراق إلى ما كان، ففي مواجهة هذه الهبة الإقليمية والدولية لمواجهة «الدولة الإسلامية»، يرى خصوم طهران والمعترضون على السياسة الأميركية ما حدث في المحافظات الشمالية والغربية في العراق «ثورة» لا يمكن إخمادها من دون تفاهمات أوسع تشمل أهل السنة في هذه المحافظات والدول العربية، التي لن يروق لها التدخل الإيراني الميداني في كل بلاد الشام. وما لم يقم مثل هذه التفاهمات سيكون صعباً القضاء عسكرياً على «داعش»، ليس لأن هذه «الدولة» تملك جيشاً كبيراً وتمتلك من العتاد ومصادر التمويل ما يمكّنها من المقاومة، بل لأنها تتحرك في بيئات حاضنة ورافضة للأوضاع القائمة في كل من بغداد ودمشق، ولن تتوانى هذه البيئات عن الدفاع والمقاومة. ولن تتخلى هي ومن يتعاطف معها في الخارج عن هذا «السلاح» الورقة في مواجهة أسلحة إيران وأذرعها في بلاد الشام. وما يزيد الوضع تعقيداً أن التسوية السياسية لا يمكن أن ترى النور قبل دحر هذا التنظيم الممسك فعلياً بمقاليد السلطة والسيطرة. وما لم تتوافر ضمانات أكيدة ووسائل دعم حقيقية لأهل السنة، فإن هؤلاء لن يجازفوا بتكرار تجربة «الصحوات».
لعل هؤلاء المتشددين ومن يواليهم يبالغون في انتظار ثمار التهافت الأميركي والغربي عموماً على وجوب مواجهة «داعش» سريعا. يعتقد بعضهم أن الإدارة الأميركية وشركاءها سيجدون أن لا مفر من إعادة النظر في سياساتهم حيال «الأزمة الشامية» برمتها، أي إعادة النظر في مواقفهم من حكم الرئيس بشار الأسد وحكومة نوري المالكي، أو بالأحرى في المرحلة التالية لرحيل هذين الحكمين، بما يحفظ لإيران الدور والنفوذ والحضور الواسع. لكن مرحلة الانتظار هذه سيف ذو حدين، فكلما تأخرت مواجهة «الدولة الإسلامية» بعد تفاهمات سياسية تشرك جميع اللاعبين والمتورطين في العراق وسورية، وحتى لبنان، ستشمل الأخطار والتهديدات هذه الأطراف كافة. ولعل الضغوط التي يمارسها أهل كردستان تستعجل مثل هذه التفاهمات، فهم قد لا يعلنون الاستقلال، كما يشتهون أو يستعجلون إذا ما واجهوا معارضة كتلك التي بدأت تلوح في إيران وتركيا بعد أميركا، إلا أنهم لن يكونوا مستعدين للعودة إلى ما قبل حركة «داعش». كما أنهم لن يستكينوا على حدود «الدولة» الجديدة. فهل يكون فشل الفيديرالية مدخلاً إلى طرح الكونفيدرالية وتعميمها في سورية أيضاً الحل الوحيد؟ إضاعة مزيد من الوقت لا يخدم أحداً من المتورطين الذين دفعتهم «داعش» إلى لعبة «روليت روسية» لن يعرف أحد منهم من سيكون ضحيتها الكبرى، فهل يعيد أوباما النظر في استراتيجيته ويعود إلى التلويح بسياسة القوة للحفاظ على ما بقي من صورة أميركا قوة قائدة، ولإعادة التوازن في الشرق الأوسط؟ وهل يتجاوز روحاني اعتراض المعترضين ويقدم «الضحايا»، أو التنازلات المطلوبة في بغداد ودمشق… وبيروت؟ لا مجال للعودة إلى الوراء. ما قبل «داعش» شيء وما بعدها شيء آخر.
الحياة
من يحارب «داعش» ؟/ غسان شربل
ليست بسيطة تلك المشاهد التي تتلاحق. شاب يخرج من العتمة ويقف في المسجد الكبير في الموصل. يخاطب الحاضرين بوصفه «الخليفة». يقول بلهجة قاطعة: «ابتُليت بأمانة ثقيلة فأعينوني عليها». فجأة ينشغل العالم بأسره بالبحث عن جذور «الخليفة إبراهيم».
ليس بسيطاً ايضاً أن تسقط الموصل، ثاني المدن العراقية، في يد مئات من أبناء التنظيم. الموصل التي كانت خزان ضباط الجيش العراقي في العقود الماضية. الشق الآخر من المشهد المروع هو انهيار وحدات الجيش العراقي. القائد العسكري الذي كان يثير ذكر اسمه الرعب في النفوس ترك قواته وسلم نفسه الى عناصر البيشمركة. نقلوه الى أربيل ومنها عاد الى بغداد. بعد أربعة أيام دخل المسلحون الى مقر الفرقة الرابعة في بغداد واستولوا على ترسانة من الأسلحة. خلع جنود الجيش ثيابهم وارتدوا الدشاديش وفروا.
ليس بسيطاً ابداً أن يسقط «داعش» الحدود العراقية-السورية. وأن يوسع انتشاره في محافظات كبرى في الدولتين ويستولي على حقول النفط. وأن يطالب السكان بالتوبة أو الجزية. وأن يهجر أهالي مدن وبلدات ليستولي عليها نظيفة في غيابهم ثم يفرض عليهم شروط العودة والطاعة.
أثارت الإطلالة المدوية لـ «داعش» المخيلات. من أين جاء بأسلحة حديثة استخدمها قبل استيلائه على ترسانة الوحدات العراقية التي تبخرت؟ من أين جاء بالأموال الموجودة في حوزته حتى قبل استيلائه على كنز الموصل؟ وكيف تحركت مجموعات «داعش» بمثل هذه الحرية؟ أين معلومات الجيش العراقي والحليف الإيراني؟ وأين طيران الجيش السوري وغاراته؟
لا أحاول أبداً الإيحاء بوجود مؤامرة حيكت في الظلام. إنني أطرح أسئلة أمام مشهد غير مسبوق وشديد الخطورة.
سألت عراقيين كثيرين ولم أعد بجواب شافٍ. كان لا بد من سؤال سياسيين من أبناء المنطقة السنّية التي يفترض أنها تعيش اليوم في كنف «أبو بكر البغدادي». يعتقد هؤلاء أن «داعش» ظاهرة غريبة ومثيرة للتساؤلات. ويرجحون ألا تطول سيطرتها وسطوتها. يقولون إن الإعلام وقع في فخ براعة «داعش» الذي يتعمد إثارة الرعب في نفوس خصومه. وإن الإعلام يتجاهل أن ما حصل في المحافظات السنّية في العراق هو نتيجة تراكم احتجاجات بدأت قبل سنة ونصف السنة «وكانت تعبّر عن رفض المكون السنّي لنهج نوري المالكي وسياسة الإقصاء والتهميش». وأضافوا أن عصب الاحتجاجات كان يتشكل من «مواطنين غاضبين إضافة الى قوى إسلامية وبعثية ووطنية شاركت في مقاومة الاحتلال الأميركي وواصلت بعد انسحابه مقاومة السلطة الطائفية المتحالفة مع طهران».
سألت عن الجهة التي تستطيع محاربة «داعش» فجاء الجواب: «لا يمكن محاربة داعش من الخارج. كل دور أميركي سيعطي هذا التنظيم فرصة لتعميق شرعيته لدى جمهوره. أي دور إيراني في دعم الجيش العراقي سيضاعف الطابع المذهبي للصراع. «داعش» يسقط سريعاً إذا رفع الظلم اللاحق بالمكون السنّي واستعادت العملية السياسية القدر الضروري من التوازن. وهذا يعني عملياً غياب المالكي ونهجه والاعتراف بالقوى الفعلية في الشارع السنّي ومطالبها. الحل ليس بمحاولة إحياء الصحوات. الحل بإعادة التوازن الى العراق وهو ما يضعف نفوذ فريقين هما: القاعدة ومشتقاتها من جهة وإيران من جهة اخرى».
لفتني قول أحدهم إن «داعش» ولد ايضاً من «أزمة دور السنّة في العراق وسورية ولبنان، أي في المنطقة التي صارت توصف بالهلال الشيعي على رغم أن السنّة ليسوا أقلية فيها».
واضح أن المنطقة لا تستطيع احتمال استقرار دولة «الخليفة ابراهيم» في المناطق التي تسيطر عليها. وثمة مؤشرات الى أن أميركا ترعى اتصالات لإسقاط الدولة من داخلها. أغلب الظن أن هوية من سيتولون محاربة «داعش» ستؤثر على صورة المعركة ومسارها ومصيرها.
الحياة
إيران تستعيد مع المالكي في العراق خطأ النظام السوري في لبنان عام 2004/ روزانا بومنصف
واجهت ايران في العراق في الاسابيع الاخيرة من خلال مشارفة الاخير على التفسخ والتقسيم في ضوء سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية على مناطق شجعت انتفاضة سنية على نظام نوري المالكي ورغبة كردية في الاستقلال ما يماثل الى حد كبير ما واجهه النظام السوري في لبنان حين قرر التمديد قسرا للرئيس اميل لحود عام 2004 وسعى الى اخضاع كل المكونات اللبنانية لارادته تحت وطأة التهديد بمزيد من اخضاع لبنان. اذ ان طهران التي دعمت المالكي في تحكمه بكل المؤسسات الاساسية وسمحت له بتغذية المشاعر المذهبية وقمع الطوائف الاخرى في العراق واجهت تحديا مصيريا لنفوذها وسلطتها ليس في العراق فحسب بل في المنطقة تبعا للتطورات العراقية ولا يزال. وفيما مضى النظام السوري في تحدي المجتمع الدولي في لبنان بعد التمديد وانتشار الاغتيالات وصولا الى اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه ما أدى الى انتفاضة لبنانية حقيقية أدت الى انسحاب القوات العسكرية السورية من لبنان، فان المجتمع الدولي الذي سلم لايران بنفوذها في العراق يتركها تواجه وتحصد ما زرعته في حال لم تصحح المسار السياسي في العراق واذا عمدت الى تشجيع المواجهة بدلا من تهدئة الامور على نحو يستوعب الوضع ويساهم في لملمته من خلال نفوذها على الافرقاء الشيعة. وهو ما يعتقد انه بدأ في التوجه نحو محاولة البناء على رفض مراجع شيعية لاعادة نوري المالكي لرئاسة الحكومة لولاية ثالثة. خسرت سوريا وقتها لبنان الذي اعتبرته لاكثر من ثلاثة عقود حديقتها الخلفية ومتوجا سلطانها ونفوذها في المنطقة، والامر نفسه ربما يتكرر مع ايران الذي اثار نفوذها حساسيات داخل العراق على رغم ان هناك عوامل واعتبارات اخرى مختلفة ايضا ووجود مصالح اقليمية ودولية في العراق، وكثر يتحدثون عن تلاقي المصالح الاميركية والعراقية في مواجهة تقسيم العراق وفي مواجهة تنظيم الدولة الاسلامية، ولكن التداعيات على ايران قد لا تختلف او لا تقل عن تلك التي أثارها استبداد النفوذ السوري في لبنان ايضا. وهذا لا يعني ان وضع العراق لا يشكل تحديا لمنطقة الشرق الاوسط ككل ولدول الجوار تحديدا ليس عبر تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام فحسب بل عبر مخاطر انقسامه او فدرلته تبعا للتقسيمات الميدانية الراهنة. لكن مدى الانخراط الايراني الموغل في رسم سياسة العراق ومصيره يجعل الكرة في الملعب الايراني اكثر من اي دولة اخرى اقليمية كانت او غربية.
هل ان اضطرار ايران الى مراجعة مقاربتها للوضع في العراق وحض سياسييه على مرونة وانفتاح مناقضين للسياسة التي شجعت عليها طوال الاعوام الماضية وذلك خشية خسارة العراق كلا وجسر العبور الذي يشكله الى سوريا فلبنان يمكن ان يشكل مؤشرا او عاملا في مراجعة مقاربة ايران للاوضاع في مناطق نفوذها في المنطقة ام انها ستحاول مقايضته بتحريك اوضاع في مناطق اخرى؟ وتبعا لذلك هل يمكن اقناع “حزب الله” مثلا بان يفصل موضوع انتخابات الرئاسة في لبنان عن سياسة ايران في المنطقة وعدم ربط هذا الموضوع بمصالحها سلبا او ايجابا على هذا الاساس او هل تتركه طهران يفعل ذلك في اطار مقاربة للوضع اللبناني مماثلة للوضع في تأليف الحكومة ؟
لا يبدو الامر واعدا بالنسبة الى مصادر ديبلوماسية واخرى سياسية متابعة أقله حتى الان انطلاقا من ان الوضع العراقي أربك ايران الى حد بعيد ولا يزال خصوصا انها لا تزال في غمرة مفاوضاتها النهائية مع الدول الغربية على ملفها النووي، وهو ما لم يكن في مصلحتها. ويتوقف على سبل المعالجة في العراق وامكان نفاده من المخاطر التي تتهدده ومدى ما يمكن ان تستخلصه ايران من هذه التجربة لجهة حصر الاضرار في العراق وعدم تأثيره جوهريا على مصالحها الحيوية فيه، علما انه من غير المحتمل ان تظهر أي ضعف او مراجعة لما حققته في دول اخرى في المنطقة اقله في المدى القريب خصوصا ان هناك استحقاقا يتصل بما ستسفر عنه المفاوضات حول الملف النووي وما اذا كانت ستمدد المفاوضات ام لا. ومن غير المحتمل تاليا بالنسبة الى هذه المصادر ان تظهر تساهلا او تهاونا في ترك “حزب الله” يفصل بين مصالحها في المنطقة ومصلحة لبنان من خلال التعاون في تسهيل حصول انتخابات رئاسية قريبا. وهذا الاقتناع الديبلوماسي والسياسي هو الذي يشكل العامل الاساسي امام عدم الحماسة لفتح قنوات حوار مع طهران راهنا في الملف اللبناني لاعتقاد عميق بانها ليست جاهزة للتعاون حول لبنان فيما هي منشغلة في مسائل اكثر حيوية بالنسبة اليها، علما ان كثرا يقولون بعدم الرغبة بالتفاوض مع ايران في شأن لبنان. لكن عدم الحماسة تطاول احتمالات مقاربة الحزب في موضوع الرئاسة ايضا على القاعدة نفسها اي عدم امكان فصل نفسه عن السياسة الايرانية ما يعني استمرار تعطيل الانتخابات الرئاسية حتى اشعار آخر، وذلك على رغم ان الحزب لا يبدو في الواجهة على هذا الصعيد ويتذرع بما يعلنه حليفه العماد ميشال عون في هذا الاطار لجهة رفضه تأمين النصاب لجلسة انتخاب الرئيس نظرا لعدم توافر النصاب لانتخابه رئيساً، مع ان كل المعلومات تجزم بطي صفحة الترشيحات التي تم التداول بها حتى الان لمصلحة البحث عن مرشحين آخرين.
النهار
إيران لماذا تتمسك بالمالكي؟/ راجح الخوري
للمرة العاشرة وربما العشرين يلتقي اياد علاوي مع مقتدى الصدر وعمار الحكيم في دعوة نوري المالكي الى الإستقالة، معتبرين ان بقاءه في رئاسة الحكومة مرة ثالثة سيؤدي الى تقسيم العراق، لكن المالكي مصرّ على البقاء، في وقت تبدو العاصمة بغداد عرضة للتهديد امام ثورة العشائر السنيّة التي صادرت “داعش” الارهابية صورتها، وخصوصاً الآن بعد اعلان “دولة الخلافة”.
يقول الفريق حامد عطية المالكي قائد سلاح الطيران انه نفّذ ١٢ الف غارة جوية على الأنبار في ستة اشهر، فماذا كانت النتيجة؟
لقد بقيت ٨٠٪ من المحافظة خارج سيطرة الحكومة، ويمكن ان تنهال على المالكي ١٢ ألف مطالبة بالاستقالة، ولكنه لن يقدم على ذلك قبل ان يتلقى مكالمة هاتفية من طهران تقول: “انتهت اللعبة اذهب الى بيتك”، وهذا لن يحصل الآن قياساً بالسياسة الايرانية الهجومية في الاقليم!
عندما اعلن المالكي يوم الجمعة الماضي انه لن يتنازل ابداً عن البقاء ولاية ثالثة في رئاسة الحكومة معتبراً ان “الانسحاب من ارض المعركة امام الارهابيين يعد تخاذلاً عن تحمل المسؤولية الشرعية والوطنية والاخلاقية”، كان يرد على كل الزعماء الشيعة العراقيين قبل السنّة والاكراد وعلى العالم أجمع الذي يطالبه بالتنحي لتشكيل “حكومة وحدة وطنية تمنع تقسيم العراق وتحول دون اخطاء الماضي” كما اعلن المرجع علي السيستاني.
وكان واضحاً اكثر ان طهران هي التي تتمسك به كما تتمسك ببشار الاسد، لا حرصاً على العراق بل دفعاً له الى مزيد من التأزيم الذي قد يوائم حساباتها، وبما يلتقي مع حسابات الاميركيين الذين اختاروا العراق لإطلاق عفريت التقسيم الاقليمي منذ نزولهم فيه عام ٢٠٠٣.
المالكي يفعل ما تأمره به طهران، على ما يقول الجنرال جي غارنر، الذي سبق له ان تولى المسؤولية في العراق، لمحطة “سي ان ان”: “انه مجرد عميل ايراني يريد منا ان نضرب “داعش” ليجني المكاسب السياسية لنفسه وللإيرانيين”. والتصريحات الايرانية منذ إنفجار الأزمة تثبت ان المالكي ينفذ بدقة رغبات طهران التي ارسلت ست مقاتلات “سوخوي” عراقية كانت لديها منذ ابعدها صدام حسين، وقامت امس بمهاجمة مواقع قرب كركوك.
اسامة النجيفي السنّي كان قد أعلن سحب ترشّحه لرئاسة البرلمان إستجابة لدعوات من قادة التحالف الشيعي، الذين اوضحوا له ان المالكي ربط عدم ترشّحه بتخلي النجيفي عن الترشّح، لكن المالكي انقلب على هذه الصيغة نهاية الاسبوع، وهو ما دفع المراقبين الى التأكيد ان طهران تريده ان يبقى وانه لم يكن ليصد الزعماء الشيعة والسنّة والاكراد لو لم يكن مدعوماً منها، وعلى هذا تتعمّق المعادلة التي تقول ان بقاءه يعني التقسيم!
النهار

 

الخلافة ومأزق الإسلام السياسي/ سليمان تقي الدين
دفعت حركة «داعش» الأمور في المنطقة إلى الذروة ميدانياً وسياسياً. أنتجت وقائع على الأرض خارج السياق الذي وصلت إليه الأمور في العراق وسوريا. فرضت عنواناً للبحث يتعلق بمستقبل كيانات المنطقة وفتحت الباب على تحريك حدود أخرى، كما وضعت سقفاً للإسلام السياسي عالياً وصادماً ومقلقاً لكل دول المنطقة والحركات الإسلامية بإعلانها قيام «دولة الخلافة». هذا الشعار الذي أطل برأسه مع بدء الثورات العربية في تونس ومصر وتركيا بالحديث عن «الخلافة السادسة» والذي سرعان ما سُحب من التداول.
«دولة الخلافة» هي الآن تحدٍ عسكري مادي ميداني اقتطع لنفسه جغرافية واسعة الأطراف متماهية مع البيئة الإسلامية السنية المناهضة لنظامَي العراق وسوريا. ينتشر عناصر «داعش» أو يتواجد أتباع هذا «التنظيم» في وسط ديمغرافي شعبي يزيد من صعوبات مكافحته.
واقعيا، تمكن محاصرته ومقاومته كما حصل مع تنظيم القاعدة في العراق من قبل العشائر وحركة «الصحوات». لكن الأمر يتوقف الآن على الحل السياسي أو المشروع السياسي المطروح لحل الأزمة في العراق وسوريا المتشعبة بأبعادها الإقليمية والدولية. أما رفع السقف السياسي بإعلان قيام دولة الإسلام الدينية تحت مسمى «الخلافة» فهو، على خطورة معانيه وأبعاده وتداعياته، يطرح مأزق الإسلام السياسي في المنطقة.
فإذا كانت المجتمعات التي تدين بالإسلام وتتخذ لدساتيرها وهوياتها صفة إسلامية أو مرجعية فقهية أو تشريعية أو نظامية، فإن «داعش» ألقى بوجهها جميعاً كرة النار هذه أو «الثقّالة» بزعمه إمكان قيام «دولة الخلافة». فإذا كانت المنطقة قد عرفت نموذج الدولة التي تجعل دستورها «القرآن» كالمملكة العربية السعودية ومليكها حارساً على تطبيق الشريعة، أو كما هو حال المملكة المغربية مع صيغة «أمير المؤمنين» أو السودان حديثاً مع دستور وضعي يحتوي كل الأحكام الشرعية، فإن «داعش» طرحت في وجه هذه النماذج تحديات أكبر بجعل السلطة والمرجعية للخليفة أي للقائد الديني غير المدني.
وبقطع النظر عن الممارسة السياسية لـ«داعش» وعن طريقة تطبيقها لأحكام الشريعة والفظاعات التي ارتكبتها، المناقضة للإسلام بحسب مراجعه الفقهية القديمة والحديثة، والمناقضة لثقافة المسلمين الحالية، ولنماذج أخرى من حكومات الإسلام السياسي، الإيراني والتركي وحتى الإخواني في لحظته العابرة المصرية، فهي تضع على جدول البحث السياسي (الميداني الآن) والفقهي، كل منظومة الإسلام السياسي أمام محاكمة خطيرة. لسنا معنيين بالمجادلة الفقهية المتروكة لأصحابها وقد سمعنا ردود الفعل الشاجبة والمبطلة لهذه الخطوة، بل نحن معنيون بتأكيد فشل الإسلام السياسي في حل مشكلات الشعوب والمنطقة وفي المقدمة تقديم نموذج وحدوي مستقر ومسالم يؤطر عملية تنمية بشرية أساسها الحرية والكرامة وحقوق الإنسان. فالعمامة والعباءة أو الطربوش الإيديولوجي «الإسلامي» لم يقدم في الماضي والحاضر نموذجاً خاصاً للمشاركة في حضارة العالم المعاصر، وهو الآن يشكل ظاهرة الحروب الأهلية والدينية والإقليمية ويضع المجتمعات الإسلامية أو المفطورة على الثقافة الإسلامية في حال من النزاعات المتوحشة. وفي كل هذه «المنافسات» بين الحركات الإسلامية لا نجد إلا ملامح ومضامين الصراع على السلطة والاستهانة لأجل ذلك بكل القيم المدنية والإنسانية والمكتسبات التي حققتها شعوب هذه المنطقة والطموحات التي تتطلع إليها. فلسنا هنا من القائلين بأهمية الكيانات السياسية القائمة إلا من باب الحرص على هذه المكتسبات في وجه «الفوضى الوجودية» وليس «الفوضى الكيانية» أو الحدودية.
ولا بد أن نلفت هنا إلى أن تصعيد حركات الإسلام السياسي «العنفي والتكفيري» من أحد وجوهه مبارزة بين «النماذج» أو المفترضات النزاعية القديمة بين «الخلافة والإمامة» المتجددة على أرض الصراع الطائفي السني الشيعي والعربي الفارسي والتركي الفارسي (السلجوقي الصفوي) أو الوهابي العثماني ذي الاتجاه الصوفي السلفي.
وإذا كانت «الإمامة» ممكنة، «فالخلافة» ممكنة نظرياً وعملياً ولو من باب المقابلة التي دونها الكثير من الفوارق التاريخية والمعطيات الاجتماعية الراهنة.
المهم أن «داعش» ظهّرت الصورة القصوى لعالم تحكمه حركات تستمد شرعيتها من «المرجع الديني» وحكمت سلفاً على أنها آلية لحروب أهلية تسلس قيادها في نهاية المطاف لقوى كبرى خارجية تستخدمها في إعادة صوغ مصالحها في المنطقة دون اعتبار لكون ذلك يغرقها في الظلامية والتخلف.
السفير
خلافة البغدادي وولاية الفقيه خامنئي .. وجهة نظر/ عبد الوهاب القصاب
الخلافة والإمامة قضيتان أخذتا من الجهد الفكري لفقهاء الأمة الكثير، وظلت الإمامة شأناً مفهوماً في الفكر الفقهي الشيعي، وبمدرسته الإثني عشرية بصورة أكثر تحديداً، وتم توارثها كما وضعت أسسها، ووجدت الحلول للتحديات الأصولية التي جابهتها منذ وفاة الإمام الحادي عشر.
ولعل واحداً من أهم الحلول التي توصل إليها فقهاء المذهب الإثني عشري لتداول قضية الحكم هو نظرية ولاية الفقيه التي تطورت منذ وضع أسسها أحمد النراقي، حتى كتب قواعدها الخميني، في كتابه “الحكومة الإسلامية” الذي كان نتاج محاضرات ألقاها في حوزة النجف، أواخر عقد الستينيات، وطبع كتاباً عام 1971.
وبهذا ورث الجزء الشيعي من العالم الإسلامي، المتمثل بإيران، فلسفة للحكم، يتولى فيها الفقيه العارف بالشرائع أمر المسلمين، ويصبح بمثابة الخليفة بالنسبة لهم متمتعاً بالسلطتين، الدينية والدنيوية. الولي الفقيه الحالي رقي إلى مرتبة آية الله، بعد وفاة سلفه آية الله الخميني، صاحب نظرية ومدرسة الولي الفقيه التي لم يتفق معه بشأنها فقهاء شيعة آخرون، وظلت مدرسة النجف على الأقل معارضة له فيها، سواءً في زمن آية الله الخوئي، مرجع الشيعة الأكبر، عندما أطلق الخميني نظريته، أو في زمن المرجع الأكبر الحالي، آية الله السيستاني، وإن تم تحييد معارضته، بعد أن هيمنت دولة ولي الفقيه الإيرانية على العراق بعد الاحتلال.
لكن الخلافة فقدت عناصر فعلها، كسلطة دينية وزمنية، تتناول أمر الناس في شؤون حياتهم، منذ زمن طويل، منذ هيمن المتسلطون على دار الخلافة العباسية، بدءاً من القرن الثالث الهجري، فاعتبار أن الخليفة هو ولي أمر المسلمين، وهو المرجع في سياسة أمور الدنيا للرعية قد فقدت معناها، منذ أول تسلط للمتغلبة الترك على الخلافة العباسية، أيام عزها، وفي أيام واحد من أقوى خلفائها، وهو المعتصم، الأمر الذي يجعله ينقل العاصمة من بغداد إلى مدينةٍ، بناها خصيصاً له ولجنده أسماها (سر من رأى)، سامراء حالياً، بسبب أن جنوده المجلوبين الترك، (المماليك) بلغة عصر لاحق، قد أصبحوا عنصر إقلاق لأهالي بغداد، حتى ضجوا بالشكوى.
وقد رأينا كيف أن أوراق الحكم كانت تسحب من يد الخليفة ورقة ورقة، سواء من خدمه ومماليكه، الأمر الذي أوصل إلى قتل واحد من أقوى الخلفاء، وأطولهم حكماً، وهو المتوكل على يد مماليكه وغلمانه، إلى سيطرة المتغلبين، بدءاً بالبويهيين، ثم السلاجقة من بعدهم.
شهدت هذه الفترة نشوء خلافتين موازيتان أحداهما في الأندلس الي تعد امتداداً لخلافة الأموية التي قضى عليها العباسيون، ثم الخلافة الفاطمية التي أسسها أبو عبد الله الشيعي الذي أسس الخلافة الفاطمية في المغرب على أنقاض دولة الأغالبة التي كانت تدين بالولاء للعباسيين. وبعد أن تمكن صلاح الدين من القضاء على الخلافة الفاطمية، مهد السبيل لإعادة الولاء للخلافة العباسية، ولو إسمياً، لكن الخلافة العباسية تمكنت، بعد دحر السلاجقة وإخراجهم من بغداد، من استعادة جزءٍ من هيبتها، على الأقل، في المدى الجغرافي الذي يمثله العراق بحدوده الحالية، إلا أن ذلك لم يستمر طويلاً، إذ تولى هولاكو، بعد احتلال بغداد عام 1258 من إسقاط الخلافة العباسية.
لم تعد الخلافة مؤسسة ذات تأثير بين في الشأنين السياسي والعسكري، ولا في العلاقات الدولية، فلم يعد يهتم بوجود الخليفة، أو عدم وجوده، أحد، ففقدت الخلافة دورها كقوة مؤثرة، على الرغم من تبني المماليك استمرارية السلالة في الفرع المصري منها، والذي استمر إلى القرن السادس عشر، وتحديداً عام 1517، عندما احتل السلطان سليم ياوز القاهرة، عاصمة المماليك وعاصمة الخليفة الإسمي، حيث يروي المؤرخون أن الخليفة محمد المتوكل على الله، آخر الخلفاء الإسميين العباسيين، تنازل للسلطان سليم العثماني عن الخلافة، وسلمه الوديعة النبوية التي هي البيرق، والسيف، والبردة، ومفاتيح الحرمين الشريفين، لكن الخلافة لم تكن بينةً واضحة في سلوك السلاطين العثمانيين، فاستمر الحاكم العثمان يلقب بالسلطان، ولا تظهر الخلافة إلا في الفرمانات والمراسلات، التي يشير فيها السلطان لنفسه بأنه خليفة رسول رب العالمين، وخادم الحرمين الشريفين.
كانت تشوب صحة الخلافة العثمانية شائبة، كون العثمانيين ليسوا من قريش، كما تشير أغلب مذاهب أهل السنة والجماعة، فيما عدا الحنفيين، حيث لا يشترط أبو حنيفة النسب القرشي شرطاً لازماً لصحة الخلافة. ومن هنا، نجد شدة تمسك العثمانيين بمذهب الإمام أبي حنيفة النعمان.
لكن العهد الأخير من حكم السلطنة العثمانية، وعندما تكالبت الدول عليها، بعد أن وصمتها بالرجل المريض، وتخلفت هذه الدولة عن اللحاق بقطار العلم والتقانة التي عجلت بتفوق الغرب عليها، فشهد القرن التاسع عشر تراجع حدودها، شيئاً فشيئاً، ما حدا بالسلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) للدفع باتجاه التمسك بالخلاف، ودفع باتجاه “الجامعة الإسلامية”، حتى تم النظر إلى عبد الحميد الثاني وكأنه رمز الإسلام. تهافت دور الخلافة بعد عبد الحميد، وشهدت فترة خلافة شقيقه السلطان محمد رشاد اندحار تورط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى حليفة للألمان، ثم اندحارها، وانتهت الخلافة رسمياً على يد مصطفى كمال أتاتورك، عندما جرد آخر الخلفاء السلطان محمد السادس، ونفاه من تركيا عام 1924.
لم تعد قضية الخلافة بعد هذا التاريخ، ولو أنها شيء رمزي، تختلط فيه الأحلام بالرؤى، والأصولي بالسلفي وبالشعبوي، نجد أن هنالك أحزابا انصرم قرن تقريباً عليها، وهي تنادي بالخلافة. فإعادة الخلافة أمر تتفق عليه غالبية القوى السياسية الدينية السنية، باعتبارها أساس فلسفة نظام الحكم الاسلامي، لكن هذه الرؤى تتوقف، عند محاولة نقل الصورة إلى الواقع، في ضوء تحديات القرن الحادي والعشرين، وانتشار قيم جديدة لفلسفات نظم الحكم، وشيوع دور الرأي العام في تسيير دفة الدولة، وهي عين القيم التي أدخلها أقوى السلاطين العثمانيين في عهد الدولة الآفل الأخير، وكانت هي عين السبب في خلعه ونفيه.
إن قيم المساواة والحرية والتعددية وحقوق الأنسان، وطبيعة العلاقات بين الدول، وانتفاء ما اصطلح عليه شيوخ الفكر السياسي المسلمون في القرون السالفة بدار الإسلام، ودار الحرب من حيث تداخل الحدود والمصالح، ليس بين الدول فحسب، بل وبين الشعوب على اختلاف مشاربها ودياناتها. وأدخل هذا نمطاً جديداً من فلسفة الحكم ليست غربية بالتأكيد، إلا أنها هجينة بالتأكيد، وما ترسب من تراث الحكم الشرقي السابق اختزل نفسه بسمة مكروهةٍ من الرأي العام، هي سمة الجبروت والطغيان، وتسلط الحاكم وزمرته على رقاب الناس، بما لا يستوي مع التراث الديني، ولا مع قيم الإنسانية الجديدة الآخذة بالانتشار.
يجرنا كل ما جاء أعلاه إلى السؤال: على أي فلسفة للحوكمة سيسير خليفة داعش؟ وهل سيرجع في حكمه إلى النصوص التي كتبت في القرن الثالث والرابع الهجريين، أي قبل ألف عام أو يزيد؟ أمام الحركات الإسلامية تحدٍ كبير، هو ضرورة التماهي مع معطيات العصر، لا يجوز أن تتمتع بما يجود به هذا العصر من منجزات، وتعود للحكم على وفق تفسير أفتى به فقيهٌ قبل ألف ومائة عام!
ونتساءل، هنا، ما الفرق بين ولاية الفقيه، وولاية أمير المؤمنين. هناك لدينا خامنئي الذي يدّعي ولاية أمر المسلمين، وهنا لدينا أبو بكر البغدادي الذي يدّعي الشيء نفسه، وينتحلان النسب الحسيني نفسه، ويزينا رأسيهما بالعمامة السوداء نفسها. كلاهما يغردان خارج السرب، ويحكمان بنصوص متشابهة النشأة، وإن اختلفت بحيثيات الحكم، فللقرن الحادي والعشرين إلزاماته التي لا تستقيم مع طروحاتهما.
العربي الجديد
في مسألة الخلافة: أمير المؤمنين كقائد ميليشيا/ د. عبدالوهاب الأفندي
انتظرت بكثير من التلهف ردة فعل حزب التحرير على إعلان ميليشيا «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) إقامة الخلافة في المناطق التي تسيطر عليها في سوريا والعراق في غرة رمضان الحالي. ذلك أن الحزب إياه بنى عقيدته، وميز نفسه عن بقية الحركات الإسلامية، بالدعوة إلى إنشاء الخلافة الإسلامية كحل سحري لكل مشاكل المسلمين.
وظل الحزب يعيب على الدول التي رفعت راية إسلامية، مثل السعودية وإيران وأفغانستان والسودان، أنها لم تعلن دولة الخلافة، وتلغي الحدود بين البلدان الإسلامية، وتعلن رفضها للنظام الدولي والأمم المتحدة وغيرها. وتفيض أدبيات الحزب بالتغزل في مؤسسة الخلافة التي يرى غيابها في عام 1924 مصدر كل شر، وعودتها مثل عودة المهدي المنتظر، ستملأ الدنيا عدلاً بعد أن ملئت جوراً.
وها هي أخيراً جماعة تأتي وتعلن الخلافة، وبنفس الصيغة التي كان حزب التحرير ينادي بها. أليس من الواجب إذن على قادة الحزب حله فوراً والالتحاق بأمير المؤمنين؟
لم يطل الترقب، حيث أصدرت فروع الحزب في كل أنحاء العالم، بدءاً من الأردن، تصريحات رافضة لقرار داعش إعلان الخلافة خلال أيام من الإعلان. وبحسب قيادات حزب التحرير، فإن سبب الاعتراض هو عدم هيمنة داعش الكاملة على الإقليم الذي أعلنت فيه الخلافة. ويتضح من تصريحات قيادات الحزب المتوالية في عدة بلدان (لبنان، تونس، بريطانيا، إلخ)، أن الحزب قرر رفض خلافة داعش، ثم بدأ يبحث عن المبررات. فقد أضاف متحدث لبناني اعتراضات على منهج داعش في القتل العشوائي والتعامل مع المعارضين، بينما قال متحدث تونسي أن البغدادي غير مؤهل للخلافة، وأن زعيم حزب التحرير في سوريا هو مرشح أفضل للخلافة، مضيفاً أن إعلان «داعش» المتعجل للخلافة هو مؤامرة غربية لتشويه المشروع.
وفي كل التصريحات التي صدرت عن قيادات الحزب، لم تصدر أدنى مراجعة لمفهوم الحزب لفكرة الخلافة كما كان الحزب ينادي بها، بل إن تصريحات أمير الحزب في الأردن عطاء بن خليل الرشتة تشير إلى أن الخلاف مع داعش هو خلاف فني، حيث جاء في بيانه أن داعش «لو كانت تبسط سلطانها على أي منطقة ذات شأن فيها مقومات الدولة وأعلنت إقامة الخلافة وتطبيق الإسلام لكانت تستحق البحث ليُرى إن كانت الخلافة التي أقيمت هي وفق الأحكام الشرعية».
وهذا يعيدنا إلى موقف الحزب الأساسي، الذي يرى كما يظهر من هذا التصريح وأدبيات التنظيم، وهو أن مجرد إعلان الخلافة في بقعة من الأرض الإسلامية يكفي لحل كل مشاكل العالم الإسلامي.
ويغفل الحزب تماماً في أدبياته ما أجمع عليه المسلمون من أن مؤسسة الخلافة التي تلت عصر الخلافة الراشدة لم تجسد قيم الإسلام كما يجب، وكانت ملكاً عضوضاً. هذا فوق أن الخلافة حتى في صورتها المشوهة قد انهارت عملياً منذ القرن الثالث الهجري، حيث تسلطت على الخليفة المزعوم فئات عسكرية انقلابية، من بويهيين وسلاجقة وغيرهم، جعلت منه دمية في يد هذه القيادات. وفي نفس الوقت، هيمنت القيادات المحلية في معظم الأقاليم على السلطة بصورة مستقلة عن الخلافة، وأصبحت هذه الأقاليم خارج سلطان الخليفة الفعلي.
وقد انتهت الخلافة عملياً حتى بهذه الصورة الشائهة عندما اجتاح المغول بغداد عام 1258 الميلادي وقتلوا آخر خلفاء بني العباس.
ورغم أن السلطان سليم الأول تسلم بصورة شكلية رموز الخلافة بعد فتحه لمصر عام 1517 من أحد أدعياء الخلافة من بقايا العباسيين، إلا أن سلاطين بني عثمان لم يرفعوا دعوى الخلافة بصوت عالٍ بسبب الإشكال الفقهي الذي كان يرى ضرورة أن تكون الخلافة في قريش. ولم يتم رفع لواء الخلافة إلا على استحياء في عهد السلطان عبدالحميد ثم في أثناء الحرب العالمية الأولى وما بعدها.
ومن الواضح أن رؤية حزب التحرير التبسيطية التي ترى أن الخلافة الإسلامية سقطت في عام 1924 عندما ألغى مصطفى كمال أتاتورك مؤسسة الخلافة التركية (وهي مؤسسة كان أتاتورك نفسه قد أنشأها قبل عامين كسلطة «دينية» على نموذج الفاتيكان) تمثل إساءة فهم جوهرية لمسألة الخلافة. وقد كان آخر «الخلفاء»، السلطان عبدالحميد الثاني، عبارة عن موظف لدى الحكومة التركية، مثلما كان خلفاء سابقين تحت هيمنة قادتهم العسكريين. ولكن حاله كان أفضل من حال سلفه السلطان محمد السادس وحيد الدين، الذي خضع لسلطات الاحتلال البريطانية، ووقع على معاهدة سفير التي سلمت معظم أراضي السلطنة لأعدائها، مما دفع بعض أقوى أنصار الخلافة، مثل الشيخ رشيد رضا، إلى تفضيل مصطفى كمال عليه.
من هنا فإن الزعم الذي تقوم عليه فلسفة حزب التحرير حول أن الخلافة كانت المؤسسة الضامنة لوحدة الأمة الإسلامية وسلامة أراضيها طوال تاريخها حتى قام بإلغائها كمال أتاتورك هي أسطورة لا حقيقة لها. وقد كنا قدمنا في كتابنا «من يحتاج الدولة الإسلامية؟» (والذي ظهرت آخر ترجمة عربية لطبعته الثانية عام 2010 بعنوان «لمن تقوم الدولة الإسلامية؟») نظرة نقدية لهذا الفكر التبسيطي، وطرحنا البديل الديمقراطي والوحدة الطوعية (بحسب نموذج الاتحاد الاوروبي). ولم نكن نحن أول من تقدم برؤية من هذا النوع، حيث سبقنا إلى جوانب منها كل من العلامة محمد إقبال، ومحمد حسين نئيني وضياء الدين الريس وطارق البشري وكثيرون قبل هؤلاء وبعدهم.
ولكن حزب التحرير ظل متجمداً على هذه النظرة الخرافية للخلافة باعتبارها عصا موسى. ورغم أن كثيراً من الحركات الإسلامية لا توافق حزب التحرير رؤيته الشكلية البحتة للخلافة، إلا أنها في نهاية الأمر كلها تدعو للخلافة بطريقة أو بأخرى، بدون نظر كافٍ أو تمحيص لعبر التاريخ ولا لحقائق الواقع. ولا شك أن تجربة داعش تضع فكرة الخلافة بمفهومها التقليدي تحت منظور نقدي جديد، لأن الصورة الكاريكاتورية التي نفذت بها الفكرة تفضح تهافت هذه النظرة التبسيطية لمسألة الخلافة. فنحن نشهد هنا ميليشيا طائفية بالمعنى الضيق، ومرفوضة حتى ممن يشاركونها المنظور الطائفي، مثل القاعدة وجبهة النصرة، تعلن من جانب واحد تصديها لقيادة العالم الإسلامي بكامله والتحدث باسم الإسلام للعالم أجمع. وهذه بلا شك مهزلة المهازل.
الأمر لا يتعلق هنا بسلوك جماعة نشاز تسير على نهج الخوارج في دعوى «لا حكم إلا لله» مع الإيحاء بأن أهواء قادتها المتشاكسين هي الحكم الإلهي الذي لا معقب له، وإنما كذلك برؤية مختلة وتفسير قاصر لمقتضى تعاليم الإسلام في مجال الحكم والسياسة. ولا يجب أن يقتصر هذا على انتقاد مبادرة داعش وأنصارها. فالأمر أبعد من ذلك، لأن التاريخ الإسلامي مليء بزعماء ميليشيات كثر نصبوا أنفسهم خلفاء وأمراء للمؤمنين. وعليه فإن سلوك داعش ليس بدعاً من الأمر، ولا تكفي مراجعة أهليتها لإعلان الخلافة على انتقاد سلوك المسلحين دون مراجعة الأفكار (حتى لا نقول الأوهام) التي بني عليها هذا السلوك.
٭ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
القدس العربي
للمرجعية الصامتة مايكروفانات وفتاوى/ هيفاء زنكنة
منذ سنوات والكثير من النقاش يدور حول دور المرجعيات الدينية بالعراق، وعما اذا كانت مرجعيات صامتة (الساكتون) او ناطقة ( الناطقون)، إشارة الى رفض الأولى التدخل في الشأن السياسي، ربما عملا بمبدأ «التقية»، واستعداد الثانية لهذا التدخل. هل تتفاعل المرجعية مع ما يعيشه الناس سياسيا، ام ان دورها يقتصر على الحقوق الشرعية، والمسائل الفقهية، والتصرف بأموال «الخمس»، أي ما يؤديه المتدينون الشيعة من دخلهم لمن يقلدونه من علمائهم؟
طفا هذا الجدل على السطح بشكل أوضح بعد الاحتلال الانكلو امريكي للعراق، وكان في ظاهره مقتصرا على الجدال الفقهي ما بين الدور الصامت والناطق، الا انه بات، تدريجيا، تداخلا بين الدين والسياسة والاعلام. وفي هذا التداخل يطغي السياسي والاعلامي على الديني، أو يقدم ما هو ديني مبطنا بالخطاب السياسي – الاعلامي. وجرى توظيف هذا الجدل في السنة الأولى للإحتلال بأوضح صورة حين وصف زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر المرجع الديني علي السيستاني، المقيم بمدينة النجف، جنوب بغداد، بانه مرجعية صامتة، بينما يرى الصدر نفسه رمزا او ممثلا للمرجعية الناطقة.
ولكن، هل هناك، حقا مثل هذه الفروق الجوهرية التي تستدعي الخلاف والمصالحة بين المرجعيات، كما حدث، مثلا، في لقاء المصالحة بين السيستاني و مقتدى الصدر، يوم 13 نيسان/ابريل 2014، في منزل السيستاني، والذي بحثا فيه مستجدات الأوضاع في العراق؟
التساؤل المطروح هنا ليس فقهيا، فالجانب الفقهي بلغته ومصطلحاته، خارج دائرة معرفة الناس العاديين، وانا منهم. ولكن التساؤل هنا يتعلق بالخلط ما بين الديني والاعلامي والسياسي ودرجة التداخل فيما بينها وكيف يبرز احد هذه العناصر على سواه في حقبة زمنية محددة .
ان مجريات الاحداث بالعراق، خلال الاحد عشر عاما من الاحتلال، تجعل من الصعب الاقتناع بوجود مرجعية صامتة، مهما اراد البعض تمييز نفسه عنها او معها. اذ بات للمرجعية « الصامتة» صوت اعلامي، مما يعني، بالضرورة، ان لها، شاءت ام ابت، تأثيرا سياسيا.
لأوضح. لكل مرجع ديني، تقريبا، ساكتا او ناطقا، اذا كان مقيما بالنجف او بغداد، يستقبل الزوار او لا يستقبلهم، مهما كانت مكانته في سلم التراتبية الحوزوية، موقع على الانترنت يروج لافكاره وتعاليمه ودروسه . افضل مثال على ذلك هو موقع المرجع الاعلى السيد علي السيستاني، المعروف بانه قلما يظهر الى العالم الخارجي بشخصه. يعثر الزائر في الموقع على السيرة الذاتية والمؤلفات والتقارير والاستفتاءات والبيانات والمواقع التابعة والارشيف ووكلاء السيد السيستاني. يشرف على الموقع مكتب السيد السيستاني الخاص، ولديه، كما رؤساء الدول وقادتها ومن يحتل مرتبة عليا في التراتبية المرجعية، متحدث اعلامي – ديني ناطق باسمه. والحقيقة هي ان للسيستاني متحدثين في مدينة النجف اولهما، حسب الموقع الالكتروني، « فضيلة العلاّمة السيد أحمد الصافي ممثّل المرجعية الدينية العليا»، وثانيهما «ممثل المرجعية الدينية العليا في كربلاء المقدسة الشيخ عبد المهدي الكربلائي»، ومهمتهما القاء الخطب واصدار البيانات والقاء التصريحات باسم السيد السيستاني. هذه التصريحات تطلق، اسبوعيا او حسب مقتضيات الحاجة، كما تراها المرجعية، تحت عناوين على غرار: « الأوضاع الراهنة في العراق « و « حول التطورات الأمنية الأخيرة». حيث ناقش السيد احمد الصافي يوم 4 تموز/يوليو، مثلا، الجوانب السياسية والدستور وانعقاد مجلس النواب ويقدم نصائحه حول كيفية تنظيم المتطوعين لمحاربة « الارهاب». فما معنى الصمت أذن؟ اليست المرجعية الصامتة، متطابقة مع الناطقة، ومثالها الابرز هو مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري وميليشيا جيش المهدي وتيار كتلة الاحرار ؟ الا يقف الشيخ عبد المهدي الكربلائي على منصة اعلامية، كل يوم جمعة، وامامه عشرات المايكروفونات الملتقطة لكل نفس وكلمة يصدرها ممثلا للمرجع علي السيستاني؟
هذا التداخل الوظيفي الاعلامي ـ السياسي- الديني أفرغ الصمت من مضمونه فبات نطقا اعلاميا سياسيا مؤثرا. كما تم افراغ مفهوم «التقية»، من مضمونها، بانتهاء النظام الاستبدادي وتأسيس نظام يقلد ساسته المرجعية الصامتة والناطقة، كل حسب حزبه وولائه المذهبي. وكما هو معروف يخضع التاثير الاعلامي، بدوره، للتوظيف السياسي، بمستوياته المختلفة، من التحريض والدعم الى الحث والابتزاز . وكلما ازداد التوظيف الاعلامي ـ السياسي تراجع الجانب الديني والروحي. وقد ادى اصدار الفتاوي الدينية من السيد السيستاني، عبر المتحدث باسمه اعلاميا، خلال سنوات الاحتلال، الى تعزيز «العملية السياسية»، مما اسقط عليها، رغم طائفيتها وفساد المشاركين فيها، صبغة العصمة التي يتحلى بها المرجع واستغلت سياسيا، ان لم يكن بعلمه فبعلم المتحدثين باسمه، لمداعبة شعبوية العواطف باسلوب يستثير الناس ويدفعهم الى ردود افعال لا يتحملون مسؤوليتها مادام المرجع قد افتى بها. وهو فعل مماثل، في جوهره، لمن يفتي للناس بمكان في الجنة وحور العين.
وقد بلغ سلاح الفتاوى الدينية، المستثيرة للعواطف الغريزية والمؤججة للمشاعر أقصى مداه، يوم الجمعة 13 حزيران، حين أفتى السيستاني بلسان ممثله الشيخ عبد المهدي الكربلائي، بوجوب « الجهاد الكفائي» للدفاع «عن الوطن وأهله وأعراض مواطنيه». مما يوحي بان الوطن، كان حتى لحظة هرب افراد الجيش من مدينة الموصل بخير واعراض الناس مصانة، وكأن فتاوى الجهاد التي يطلقها قادة القاعدة وداعش وحثهم الناس على الجهاد بانواعه وتصوير قتالهم وكأنه واجب شرعي أو تكليف إلهي غير كاف.
لقد أدى اصدار فتوى وجوب الجهاد، في ظل غياب القوانين، الى اضفاء صفة الجهاد المقدس على ممارسات نظام المالكي ومنها قصف المدن، والكل يعرف ان قصف المدن لا يقضي على «الارهاب» وان القصف عقوبة جماعية للسكان الابرياء . واي ادعاء بغير ذلك هو اكذوبة مفضوحة. كان الاولى بالمرجعية أما ان تكون صامتة حقا (كما يفعل رهبان الاديرة المنعزلة الصامتين المتفرغين للعبادة) او ان تنطق داعية الى السلام والرحمة وتآلف الناس الذين هم بامس الحاجة الى الارشاد الروحي والتعامل مع نظام سياسي يستند الى دولة تحترم المواطن وتطبق القوانين سواسية على الجميع. ان تسييس الفتاوى وفضح دور رجال الدين في تمزيق لحمة المجتمع دينيا وطائفيا سيؤدي بالناس الى نبذ الدين ولكن ذلك لن يحدث بين ليلة وضحاها، بل سيكون، كما يحدث بالعراق، صراعا داميا وبتكلفة بشرية باهظة.
ومع صدور مئات الصحف والمجلات وانطلاق عشرات القنوات التلفزيونية المحلية والفضائية، بلا تنظيم نوعي، مبادلان السيستاني بمدينة النجف بحثا فيه مستجدات الأوضاع في العراق والانتخابات البرلمانية المقبلة بعد خلاف حول وصف الصدر للمرجعية بالصامتة.

٭ كاتبة من العراق
القدس العربي
فصل المقال ما بين داعش والبعث من علاقة واتصال/ وائل عصام
اذا ذهبت لسامراء وسألت جيران البغدادي عن بيته فيسقولون لك «في الثمانينات كنا نسميهم بيت «المومني» نسبة لتدينهم، فقد كانوا ملاحقين من أمن نظام صدام منذ الثمانينات، وكان البعثيون يسمونهم «بيت الوهابية».
وهكذا هم قادة «القاعدة» والفصائل الاسلامية المسلحة بالعراق.. جلهم سجناء سابقون عند الاجهزة الامنية البعثية التي كانت تعتبر السلفية والوهابية الخطر الثاني بعد حزب الدعوة الشيعي .لكن الولع لدى البعض بربط البعثيين بداعش بات «موضة» تتجاهل بديهية ان البعث كعقيدة وفكرة تراجع امام الهويات الطائفية والعرقية بالعراق، التي باتت هي المحرك والدافع الاول .
وحتى قبل سقوط بغداد لم يكن الانتماء البعثي في العراق مؤثرا في تراتبية المواقع الحساسة بأجهزة الامن والحرس الجمهوري امام الولاءات العائلية والعشائرية المناطقية، وكانت مظاهر الترهل بالحزب تنظيما وفكرة يتحدث بها كل من يعرفه من الداخل من اعضاء القيادة القومية، نزولا عند الأعضاء العاملين.
طه ياسين رمضان نائب الرئيس العراقي قال لنا مرة في احد احتفالات الحزب بالسابع من نيسان/ابريل قبل سقوط بغداد بثلاث سنوات، انه بات مستاء من كثرة الحزبيين وقلة البعثيين ..انه حزب السلطة ينتمي له الجميع، وكل العراقيين بعثيون وان لم ينتموا، كما قال الرئيس الراحل صدام حسين.
يسهب كثيرون في الحديث عن انتماء قيادات في «القاعدة» لحزب البعث مثل حجي بكر او الانباري، او خلفيتهم كضباط عسكريين في الجيش العراقي وينسون او يتناسون المفارقة الكبرى، وهي ان الكثير من قيادات جيش المالكي وأعضاء من حزبه ايضا كانوا بعثيين مثل عبود قنبر والغراوي، وحتى نائب الرئيس العراقي القيادي البارز في المجلس الاعلى عادل عبد المهدي كان بعثيا يوما ما.. كثيرون من حزب الدعوة والتيار الصدري كانوا بعثيين، بل ان ان نسبة (الكسب الحزبي) كانت عالية في مدينة الصدر معقل جيش المهدي العدو الأشرس للبعثيين والفصائل الاسلامية كـ»القاعدة»، ولم يكن الانتماء للبعث يعني الانتماء لعقيدته.. كانوا حزبيين لا اكثر.
يتحدث بعض الباحثين ومنهم الغربيون عن دور اساسي لضباط جيش صدام في «القاعدة» والفصائل الاسلامية التي تمردت على الوجود الامريكي في العراق، ويعتبرون انتماءهم لمؤسسة الجيش دافعا أساسيا لمقاتلة الجيش الامريكي، خصوصا بعد حل الجيش العراقي.. لكن السؤال البديهي الذي يتجاهله كثيرون، اين هم ضباط الجيش العراقي من الشيعة؟ لماذا لم يتمردوا وينضموا ويشكلوا فصائل تقاتل الامريكيين ومن بعدها قوات الحكومة في مناطق الشيعة، كما حدث في مناطق السنة؟
الجواب ببساطة ان الانتماء الطائفي هو العامل المؤثر الاساسي في اتخاذ موقف سياسي من الاحتلال او الحكومة العراقية، ولم يكن الارتباط بالمؤسسة العسكرية او الحزبية.. نعم شارك كثير من الضباط الشيعة لكن في جيش المالكي وقواته التي كانت تقاتل فصائل اسلامية سنية انضوى فيها ايضا ضباط سنة من المؤسسة العسكرية.
في سجن الجرائم الكبرى بالكرخ وخلال فترة اعتقالي هناك عام 2005 التقيت بمقاتلين معتقلين كانوا في الجيش السابق او بعثيين، لكنهم معتقلون بسبب انضوائهم في فصائل اسلامية، وكانت يومياتهم في السجن هي الاشتباك والعراك مع سجناء اخرين شيعة معتقلين على خلفية انضوائهم في جيش المهدي، وكان كثير منهم ايضا بعثيين.
كان يقود السجناء السنة شيخان سلفيان احدهما جنابي والثاني من راوة.. ينظمان حلقات توعية للسجناء يوميا.. نصف حديثهما شتم للأحزاب الشيعية ونصفه الاخر شتم لحزب البعث «اللي وصلنا لهالحالة».
وعندما كنت اسألهم عن انتماء بعض البعثيين لبعض الفصائل.. كانوا يقولون «لقد تابوا من كفرهم وقبلنا توبتهم».
اما الضباط العسكريون الذين شاركوا في «القاعدة» او في فصائل المقاومة العراقية فقد شاركوا كأشخاص، وبدور ميداني محدود تتطلبه خبرتهم العسكرية، وكان معظمهم ذوي ميول دينية معروفة، وكان ما يربط البعثيين بالاسلاميين في هذه الفصائل هو الرابط العشائري المتين والعميق في مناطق السنة العراقيين.. علينا الا ننسى ان المجتمع السني في العراق متداخل عشائريا، وهذه الهوية العشائرية العميقة هي التي خففت من الصدام بين البعثيين والاسلاميين ووحدتهم امام عدوهم المشترك التيار الشيعي السياسي.
اما القيادات السياسية والأساسية لهذه الفصائل الاسلامية فكانت فقط للاسلاميين المؤدلجين الذين كانوا جميعا في سجون النظام البعثي الذي لاحقهم كوهابين وسلفيين، تماما كما لاحق حزب الدعوة. لذلك من الصيغ المتبعة للانضمام لهذه الفصائل هو (التبرؤ من حزب البعث).. اما صدام حسين فقد كان ينظر اليه كزعيم سني اكثر منه بعثيا، لذلك يختلط الامر على البعض بين حبه لصدام وولائه للبعث.
وما محاولة الاحزاب الشيعية اختصار خصومها بتسمية «البعثيين والصداميين والوهابيين التكفيريين» الا اختصار لمكونات السنة العرب من قوميين وإسلاميين.. فاجتثاث البعث هو اجتثاث بالحقيقة للدور السني، لذلك نجد ايضا ان بعثيين شيعة لم يتم اجتثاثهم، بل وصلوا مواقع عليا، ونجد ان ايران والأحزاب الشيعية ترسل الميليشيات، التي تقاتل في العراق ضد «البعثيين الارهابيين»، للقتال الى جانب البعثيين في سوريا ولحمايتهم لانهم ينظرون للبعث على انه سني في العراق وعلوي في سوريا .
ببساطة انه العقل العربي يحلل الاحداث والوقائع حسب روح الخصومة وليس استنادا للمعلومة الموضوعية.. دوما يربط خصمه بالعمالة لعدو جماعي .. فكل من هو مختلف معي هو مع عدوي حكما. لذلك من المهم للمجتمع ولمعرفة الحقيقة، تجريد المعلومة من السياسيين لانهم يزيفون المعلومات حسب مصالحهم.
كيف يمكن تصديق ان من عانوا لسنوات في زنازين نظام البعث يقاتلون من اجله اليوم، كيف يتم تجاهل الصراع العميق بين القوميين والاسلاميين، حتى مع اختلاف حدته بين بعث العراق سوريا وناصري مصر؟
واذا أردنا المرور سريعا على تاريخ بعض قيادات «القاعدة» في العراق يتبين لنا حجم المفارقة بين ارتباطهم الشكلي بحزب وعدائهم الأيديولوجي العميق له.
اضافة لابو بكر البغدادي الذي كانت أسرته ملاحقة من النظام في الثمانينات تحت خانة الوهابية، فان ابو عمر البغدادي القيادي السابق كان له على رأس التنظيم ضابط طرد من الاجهزة الامنية لميوله السلفية. يقول لي احد مرافقي من كان يعرف بجزار «القاعدة» ابو عمر الكردي، وهو من الذين أعدمتهم الحكومة العراقية، بعد ان نفذ اكثر من مئتي عملية تفخيخ، احدها كان عملية اغتيال الحكيم،، يقول صديقه الذي كان يرافقه ان الكردي كان يصف نفسه «بالوحش»، ويقول «لقد تحولت لوحش.. هل تعرف كيف يمكن ان يصبح الانسان بعد اعتقال في زنزانة منفردة لخمس سنوات»، لقد كان الكردي معتقلا في جهاز الامن في النظام العراقي من عام 1991 حتى 1995 بعد عودته من افغانستان، كان ينظر للبعثيين على انهم من حولوه وحشا. اما المساعد الاشهر للزرقاوي في الانبار الحاج ثامر الريشاوي، فقد كان هو الاخر ضابطا بالجيش، واخوه فراس في الحرس الجمهوري، وابعد ايضا بعد اكتشاف ميوله السلفية، ولمن لا يعرف الحاج ثامر فهو مدبر تفجير الامم المتحدة مع ابو عمر الكردي وعشرات التفجيرات الاخرى، وشقيقته هي ساجدة الريشاوي الانتحارية المفترضة في الاردن، وابن عمه هو زعيم الصحوات في الانبار عبد الستار ابو ريشة كلهم من عشيرة واحدة. والان يقود احد رفاق الزرقاوي ولاية صلاح الدين في تنظيم الدولة الاسلامية، وهو من هيت بالانبار، وكان ايضا ضابطا بالأمن، واذا سألته عن عمله السابق فسيبدأ باستغفار الله وتأكيد التبرؤ، بعدما حارب البعثيون واجهزة الامن رفاقه السلفيين لسنوات.
استطيع سرد عشرات الاسماء ممن يقودون الان الفصائل الاسلامية الجهادية، وسنرى ان العامل المشترك الاول بينهم هو انهم سجناء سابقون ومطاردون من اجهزة الامن العراقية في زمن صدام حسين. من قيادات الجيش الاسلامي وجيش المجاهدين حتى «القاعدة»، وحتى المعتدلين كجماعة الشيخ حارث الضاري كانوا على خلاف كبير مع البعثيين.
الخلاصة ان الانتماء البعثي في العراق وحتى سوريا كان عابرا، لم يتأصل في الشخصية، كان في بعض الحالات قناعا لإخفاء «القناعات الفرعية الكامنة».. وظلت الهوية الطائفية للسنة والشيعة والعلويين وحتى باقي الاقليات، او العرقية للأكراد هي الهوية المتحكمة في الفعل السياسي والعقل الجمعي لمجتمعاتنا. لذلك لا يمكن وضع البعثيين كأحد الاطراف الحقيقية بالصراع في العراق، بل ان الانقسام الطائفي والعرقي قضى على كل المسميات والديكورات، لان مجتمعاتنا احتفظت بروابطها البدائية القبلية العرقية والعقائدية الدينية كأساس للعلاقة في ما بينها.
وتبقى الحادثة الابرز في رصد التحول بمصير البعث العراقي هي ما اختاره قائده عزت الدوري ان يكون جيش رجال الطريقة النقشبندية الصوفي المحتمي بجبال كردستان هو الفصيل العسكري الاول لحزب العبث القومي العلماني. ومن يعرف ابناء عزت الدوري عن قرب كابنه احمد الذي كان في اليمن لفترة ما، يلاحظ انه اضافة لادبه الجم وخلقه الدمث اسلامي متدين اكثر منه بعثيا عقائديا نهل من كتابات ميشيل عفلق.
٭ كاتب فلسطيني
القدس العربي

 

هل توحّد «داعش» بين الرياض وطهران؟/ عبد الرحمن الراشد
قبل أسابيع قليلة، لم يكن تنظيم داعش يُعرف إلا في بضع مناطق سورية، اليوم بسببه صار العالم في حالة استنفار حقيقية، خشية من تهديدات التنظيم بعد أن تمدد إلى العراق، ووصل إلى حدود تركيا والأردن والسعودية. وبسبب دعايته وانتصاراته الميدانية قد يكبر جيشه سريعا من خمسة آلاف إلى خمسين ألف مقاتل قادرين على تهديد دول المنطقة، والعالم.
الولايات المتحدة وضعت أجهزتها في حال استنفار. أعادت ووسعت إجراءاتها الصارمة في تفتيش ركاب الطائرات. ودول الاتحاد الأوروبي استنفرت أجهزتها الأمنية لملاحقة مشبوهين مرتبطين بدعوات الجهاد في سوريا.
السؤال الافتراضي الذي لم يخطر على بال أحد من قبل: هل تستطيع «داعش»، التي تعلن الحرب على الجميع، أن تضطر الأعداء إلى التوحد ضدها؟ مثلا، هل تلتقي إيران والسعودية، البلدان المتحاربان الإقليميان الرئيسان في المشرق العربي، وتتفقان على التعاون ضد «داعش» وبقية فصائل «القاعدة»؟
لا توجد عداوات دائمة، وإشارات إيران المتلاحقة للتعاون مع السعودية في المجال العراقي وغيره، توحي باستعداد الحكومة الإيرانية التي لها أسبابها المختلفة. فالتنافس، وحتى الاقتتال السعودي الإيراني على المستويات العسكرية والدبلوماسية والإعلامية والدينية، ليس خفيا على أحد. وقد جربت إيران المواجهة بعد أن كانت تستمتع في الماضي باستباحة المنطقة العربية تحت رايات عروبية وإسلامية مزورة، من خلال النظام السوري و«حزب الله» وحماس. لقد انتهى ذلك الوضع، وحل محله وضع جديد. لم يعد ممكنا أن يبقى نظام الأسد في سوريا، ولن تظل هيمنة حزب الله على كل اللبنانيين، ولم تعد لحماس القدرة على منازعة السلطة الفلسطينية، ولن يكون لحكومة المالكي في العراق نفس الهيمنة والقدرة على إقصاء نصف الشعب العراقي.
إيران في حال دفاع، وتدرك أنها أصبحت أمام واقع سياسي جديد، سيؤثر على أمنها واستقرارها، بعد أن أتت العواصف على وكلائها الإقليميين. بين الخسارة الكاملة والخسارة الجزئية، باستطاعة إيران أن تؤمن على سلامة حدودها، وتشارك في الأمن الإقليمي، ودعم القوى الموالية لها. كله يمكنها تحقيقه من خلال تعاون قوى المنطقة الرئيسة، إنما ضمن القبول بالوضع الجديد، والتاريخ الجديد. التعاون يقضي بالتخلي عن ثلاثة أوضاع قديمة: بشار الأسد ونوري المالكي وهيمنة «حزب الله». البديل لها التعاون من أجل تمكين نظم مختلطة، تمثل القوى الوطنية، ولا تستثني أحدا إلا الإرهابية والإقصائية. وهذا سيعني القبول بالسنة العرب في العراق، والعلويين في سوريا.
وقد يرى البعض أنه ليست للسعودية اليد الطولى حتى تطرح نظاما إقليميا جديدا في المشرق العربي، وأنها نفسها مهددة بعاصفة «داعش» بكماشة من حدودها العراقية واليمنية! وهذا ليس صحيحا. «داعش»، وبقية القوى الإسلامية المتطرفة، قادرة على تخريب المناطق التي فيها فراغ سياسي، أو منهكة بالنزاعات العسكرية، مثل أفغانستان، والصومال، واليمن، وسوريا، والمحافظات السنية في العراق. فهو تنظيم يتم استخدامه لتعميم الفوضى وتعميق الأزمات. قد يستطيع تهديد أمن السعودية الداخلي، كما فعلت «القاعدة» من قبل، لكنه ليس مؤهلا لتهديد الدولة نفسها.
الإيرانيون، إن كانوا حقا يريدون التوصل إلى توافق في العراق، حتى لا يخسروه، بإمكانهم ذلك من خلال الاعتراف وإدخال السنة العرب. كذلك عليهم التخلي عن سياسة الهيمنة، عندما كانوا يمكنون أفرادا أو جماعات للتسلط على كل البلاد، كما فعلوا من خلال المالكي وكذلك عبر نظام الأسد. الفوضى والأخطار تمنحان الفرصة للتعاون في سبيل إعادة استقرار المنطقة وإنهاء الحرب الباردة بين السعودية وإيران، حتى لا تتسع دائرة الحريق.
اعلاميّ ومثقّف سعوديّ، رئيس تحرير سابق لصحيفة “الشّرق الأوسط” ومدير عام قناة العربيّة
الشرق الأوسط
لا “دولة” ولا “خلافة”.. لا يزال اسمه “داعش”/ عبد الوهاب بدرخان
بعدما ألغى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» هذا المسمّى، الذي اختُصر عربياً بـ«داعش»، ليعتمد اسماً بديلاً هو «الدولة الإسلامية» بداعي أن زعيمه أعلن نفسه «أميراً» للمسلمين ولم تعد ولايته على «العراق والشام» فحسب. وطالما أن الحديث هو عن مجموعة مسلحة استفادت من تزعزع الحكم والانقسام المذهبي والسياسي للشعب في هذين البلدين، فالأفضل الاستمرار في إطلاق اسم «داعش» عليه، حتى لو كان يستفزّ قادته وعناصره الذين استشعروا فيه تحقيراً وصاروا أخيراً يعاقبون الناس إذا استخدموه. والواقع أن الكلمة المستهجنة «داعش» ما كانت لتُستنبط وتحظى بطابع كاريكاتوري أسود لو أن عناصر التنظيم أشاعوا انطباعاً آخر غير الدموية واللاإنسانية على نحو ما فعلوه منذ ظهورهم في مناطق منكوبة أصلاً بحرب فرضها النظام السوري عليها.
لم يكن اسم «داعش» ليعني شيئاً في حد ذاته، فلا جذر له في اللغة ولا إشارة في مراجع الإسلام، باعتبار أن الاشتقاقات الدينية شائعة بقوة. غير أنه اكتسب مع الوقت المعنى الذي يشينه. فمن يقول «داعش» يقول الاسم ويعبّر عن رأي سلبي في صاحبه. وهذا لا يتوفّر في الاختصار الأجنبي بعد ترجمة التسمية الى الإنجليزية (إسلاميك ستايت أوف إيراك أند سيريا)، إذ أفضى إلى «آي اس آي إس» ما يمكن أن يكون اسماً لعلامة تجارية جذابة، ويُلفظ «آيزيس» ما يذكّر بأسطورة إلهة الأمومة في مصر القديمة، وهذه تزوجت أخاها «أوزيريس» الذي غار منه أخوها الآخر «ست» فقتله. و«إيزيس» هو اللفظ اليوناني القديم للإسم، أما اللفظ الفرعوني فكان «حيزيت» أو «حاز»، ويُعتقد أن اسم «العزى» اشتُقّ منه لأحد أصنام العبادة ما قبل الإسلام. وفي كل ذلك إيحاءات كثيرة يمكن إسقاطها على الواقع، لمن يريد أن يحلل علاقات التزاوج والطلاق وحروب الإخضاع والإلغاء بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش».
وكان سوريون لاحظوا أن مواطنيهم الخارجين من مناطق سيطرة هذا التنظيم ويريدون العودة إليها حيث بيوتهم وعائلاتهم، يحرصون على القول إن «الدولة» فعلت كذا أو قالت كذا، إذ عوّدوا أنفسهم على ذلك بغية السلامة. ولما اختلط الأمر على الآخرين في البداية اضطروا للتوضيح بأن المقصود بـ«الدولة» هو «داعش» وليس «النظام» لأن الأخير أصبح طرفاً ولم يعد دولة، قبل أن يضيفوا أن «العصابتين» تعملان معاً منذ البداية، وقد شوهد رجالهما معاً أكثر من مرّة، وتتوفّر تسجيلات لاتصالات هاتفية تنسيقية بين «داعشيين» و«شبّيحة». أما لماذا أطلق الناس اسم «داعش»، فلأن الفهم العام سرعان ما التقط أنه جيء بهذه العصابة لتخريب الثورة، فلا هي «دولة» ولا هي «إسلامية»، وبالتالي فإن إجمالها «العراق والشام» بدا أكبر كثيراً من الحجم الحقيقي لما هو مجرد «تنظيم» في نهاية المطاف. وطالما أن الهوس بلغ بزعيمه حدّ إحياء «دولة الخلافة» وإعلان نفسه «خليفة» «أميراً» فقد استحق فعلاً أن يكون «داعش» اسماً لعصابته، طالما أنه يسيء الى الإسلام والمسلمين، وليقل بعد ذلك أنه أمير أو إمبراطور، لا فرق.
ليس في الأمر انفصال عن الوقع، ولا إصرار على شعبوية فارغة، فيما يواصل التنظيم التوسع جغرافياً رابطاً محافظات العراق العربية بمحافظات سوريا الشرقية. ولكنه أثبت مهارة غير مسبوقة في صناعة رسالته الإعلامية، وفي استخدام الوسائل الحديثة للتواصل. وفي الأسبوعين الأخيرين ضخّ في الإعلام مزيجاً من عراضات القوة العسكرية لاجتذاب مزيد من المتعاطفين أو الراغبين في التطوّع ومشاهد القتل الجماعي لإشاعة الخوف والرهبة. ثم جاء إعلان «الدولة الإسلامية» و«أبوبكر البغدادي» أميراً بمثابة تتويج لـ«الفتوحات»، فبماذا سيشار إلى التنظيم منذ الآن بعد أن غيّر اسمه، هل سيقال «الدولة» والبغدادي هل سيدعى زعيم التنظيم أو «أمير المسلمين»؟ إذن، سيكون «داعش» قد حقق انتصاره الأكبر إعلامياً. والحال أن ثمة قنوات تلفزيونية تمتنع كلياً عن اعتماد كلمة «داعش»، مصرّةً على الاسم الكامل، ومن ثم بدأت تستخدم «الدولة الإسلامية». وقيل إن النقاش في غرف الأخبار أخذ بالقاعدة الكلاسيكية التي تقضي باستخدام الأسماء من دون تحريف، ثم تطرّق إلى أن اللغة العربية لا توفّر إمكان الاختزال إلا إذا كانت الجهة المعنية (كـ «فتح» و«حماس» و«وعد»…) هي التي تصوغ اسماً مختصراً وتعتمده.
صحيح أن هناك انطباعاً عاماً بأن أحداً لا يأخذ «داعش» على محمل الجدّ، ولكنه استطاع أن يصنع حالاً باتت تستدعي تدخلاً دولياً، وإحياءً لـ «الحرب على الإرهاب» بعدما كانت الإدارة الأميركية أعلنت انتهاءها بل تستعد للانسحاب من أفغانستان بنهاية هذه السنة. ففي سوريا كما في العراق أصبح «داعش» علامة فارقة، ولو بحالين متناقضتين، ومعطىً قلب الموازين والحسابات. والأكيد أنه في صدد استدراج البلدين إلى كارثة، فالأخطر من «داعش» هم من سمحوا له بأن يتضخّم ويتغوّل إلى هذا الحدّ.
الاتحاد
“داعش” بين سخافتين/ فهمي هويدي
لا أجد أسخف من مسلسل “خلافة داعش” المعروض علينا هذه الأيام، سوى أصدائه في أوساط النخبة المصرية.
(1)
لا أعرف إلى أي مدى انشغل الرأي العام العربي بحكاية الخلافة الإسلامية التي أعلنتها “داعش” عن بقية مسلسلات شهر رمضان، لكني أستطيع أن أقول باطمئنان إن مسلسل الخلافة لم يضرب بقية مسلسلات رمضان فحسب، بل نافس مونديال البرازيل أيضا.
ومن لديه أي شك في ذلك فليفتح أي صحيفة عربية، وسيجد أن أصداء الخلافة تزاحم أخبار المونديال، والفرق بين الاثنتين أن الأولى فرقعة كبيرة حدثت في بلاد الشام، أما الثانية فهي حقيقة على أرض البرازيل. وظلت الإثارة أهم القواسم المشتركة بينهما، وإن تميزت الفرقعة بأن الإثارة فيها مكتوبة بالدم ومحفوفة بالخوف.
مبلغ علمي أن الباحثين في الفكر السياسي الإسلامي اتفقوا على أن الإسلام لم يحدد شكلا ولا نظاما للحكم، ولكنه فقط أرسى قاعدة “الشورى” لتكون أساسا للحكم، بما يعني أنه حدد “قيمة” يصوغها أهل كل زمان، حسب ما تقتضيه مصلحتهم. وقد ظلت الخلافة الراشدة نموذجا فريدا في التاريخ يُشعر المؤمنين بالاعتزاز والفخر.
ولا بأس في أن تختلط مشاعر الاعتزاز بالخلافة عند المؤمنين بالحنين إليها، من باب إنعاش الذاكرة وترطيب الجوانح ليس أكثر، إذ لا يستطيع أحد أن يمنع المسلمين من استعادة عصورهم الذهبية واستلهامها، لكن ذلك لا ينبغي له أن يمثل التزاما بمرجعية الشكل، بقدر ما يعني الحث على الاسترشاد بمنظومة القيم الإيجابية التي سادت في تلك العصور.
(2)
في عام 1953 أطلق القاضي تقي الدين النبهاني في القدس دعوته إلى إقامة الخلافة الإسلامية، وجمع شمل المسلمين تحت لوائها، وأسس لأجل ذلك حزب التحرير الإسلامي الذي لا يزال يتبنى تلك الدعوة، وله أتباعه في فلسطين والأردن وفي شرق آسيا وبعض دول المهجر، التي يستشعر بعض المسلمين المقيمين فيها بأنهم بحاجة إلى مظلة تحميهم.
ورغم أن “أمراء” حزب التحرير أعدوا عدتهم لذلك وقسموا العالم العربي إلى ولايات، فإن دعوتهم ظلت محصورة في نطاق الدعوة والتبشير، ولم تذهب إلى أبعد من ذلك طوال الستين سنة الماضية، إلا أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي تأسس عام 2006، ما إن حقق بعض الانتصارات العسكرية في العراق وسوريا في الآونة الأخيرة، مستعينا بقيادات جيش صدام حسين، ومستثمرا غضب أهل السنة وانتفاضتهم، حتى أعلن في 29 يونيو/حزيران الماضي (أول أيام شهر رمضان) إقامة الخلافة وبيعة الخليفة، ودعا المسلمين في أرجاء الأرض للانضواء تحت لوائه.
واستفاد التنظيم من تدهور الأوضاع في العراق واضطرابها في سوريا فبسط سيطرته على معظم أنحائها الشرقية وتقدم بسرعة في المحافظات السنية بالعراق.
وفي انتشاره، استولى على كميات كبيرة من السلاح الموجودة في مخازن البلدين، وعلى أموال من البنوك التي وقعت في أيديه، كما وضع يده على حقول نفط وبعض الأراضي الزراعية، وهى عوامل وموارد أقنعت قادته بإمكانية استمرار دولة الخلافة وتمددها.
ثمة لغط حول دور الأطراف الخارجية في إطلاق داعش وانقضاضها المفاجئ، كما أن هناك جدلا حول طبيعة وهوية التنظيم في كل من العراق وسوريا، وكونه يتسم بقدر من المرونة ويحرص على التعاون والتفاهم مع العشائر في العراق، فضلا عن اعتماده على قيادات محلية عراقية.
أما في سوريا فهو أكثر عنفا وأشد قسوة وغلظة، ومن بين قياداته “مجاهدون” قادمون من الخارج، أبرزهم مسلم من جورجيا تسمى باسم أبو عمر الشيشاني، ينتسب إلى كيان اسمه “جيش المغتربين والأنصار”، الذي يضم عددا كبيرا من المقاتلين المسلمين الذين ينتمون إلى الجمهوريات السوفياتية السابقة.
على أهمية تلك الخلفية، فإن ما يهمني في السياق الذي نحن بصدده هو مسألة الخلافة المعلنة، التي أصبحت تحتل حيزا كبيرا من التغطية والمتابعات الإعلامية.
وقد أثار انتباهي أن تلك المتابعات أخذت المسألة على محمل الجد، وتعاملت مع الفرقعة وكأنها حقيقة مستقرة على الأرض، وليست مجرد سحابة عابرة في فضاء المنطقة ضمن تجليات الفوضى التي تعتمل بين جنباتها.
من المفارقات أن حزب التحرير، الذي اعتبر الخلافة ركيزة مشروعة وغاية مرادة، أصدر بيانا في عمان اعتبر فيه إعلان الخلافة -الذي أصدره “داعش”- “لغوا لا قيمة له.. لا يقدم ولا يؤخر”.
كما أن اتحاد علماء المسلمين الذي يرأسه الدكتور يوسف القرضاوي، أصدر بيانا في الثالث من يوليو/تموز الجاري أعلن فيه “أن إعلان فصيل معين للخلافة باطل شرعا، لا تترتب عليه أي آثار شرعية، بل تترتب عليه آثار خطيرة على أهل السنة في العراق والثورة في سوريا”، واعتبر الإعلان تعبيرا عن “الافتقار إلى فقه الواقع وأشبه بالانقضاض على ثورة الشعب، التي يشارك فيها أهل السنة بكل قواهم”.
الدكتور أحمد الريسوني -الفقيه المغربي ونائب رئيس اتحاد علماء المسلمين- نشرت له صحيفة “التجديد” في الأول من يوليو/تموز الجاري تصريحا، قال فيه إن إعلان الخلافة الإسلامية ليس أكثر من وهم وسراب وأضغاث أحلام، سواء من ناحية الواقع العملي أو من الناحية الشرعية، وأضاف قائلا إن البيعة المزعومة تمت من أشخاص مجاهيل لشخص مجهول في صحراء أو كهف من الكهوف، فلا تلزم ولا تعني إلا أصحابها”.
(3)
من الأمور الجديرة بالملاحظة أن كثيرين انشغلوا بفرقعة إعلان الخلافة، الأمر الذي صرف انتباههم عن العوامل الكامنة وراءها أو البيئة التي أفرزتها، ومن ثم فإن أبصارهم اتجهت صوب تنظيم “داعش” وممارساته في العراق وسوريا، ولم يدركوا أن التنظيم هو جزء من مشكلة، ولكنه ليس جوهر المشكلة.
ذلك أنه في جذوره حركة مقاومة عراقية ضد الاحتلال الأميركي ارتبطت بتنظيم القاعدة، لكنها انفصلت عنه لاحقا وتبنت مشروع الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، ولم تتخل تماما عن رسالتها العراقية، لذلك فإنها لقيت تعاونا من جانب ضباط جيش صدام حسين ومن العشائر ومن قواعد أهل السنة، التي ضاقت بالحكم الطائفي في بغداد.
لذلك فإنني لا أبالغ إذا قلت إن التنظيم فيه من التعبير عن انتفاضة أهل السنة العراقيين وتجسيد غضبهم واحتجاجهم، بأكثر مما فيه من تطلعات التبشير بإحياء الخلافة.
يستوقفنا في هذا الصدد أن وزير الخارجية الأميركي جون كيرى بدا مدركا لتلك الحقيقة أكثر من أغلب “الخبراء” والمحللين العرب/ على الأقل فذلك ما كشف عنه محضر اجتماعه الأخير مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي نشرت نصه جريدة “الحياة اللندنية” في الثالث من يوليو/تموز الجاري الحالي.
إذ ذكر النص في أكثر من موضع أن الرجل انتقد السياسات الطائفية “غير الحصيفة”، التي اتبعها المالكي، والتي أثارت استياء وغضب أهل السنة والأكراد، وقال إن منظمة “داعش” إرهابية حقا، ولكن ليس كل الذين وقفوا معها -سواء كانوا مقاتلين أو مساندين- إرهابيين أو تكفيريين، ولكنهم مواطنون عراقيون معتدلون حاربوا ضد تنظيم القاعدة في الماضي، ويطالبون الآن برفع المعاناة عنهم والكف عن التهميش والإقصاء، وما كان لهم أن يلجؤوا إلى المقاومة المسلحة ومساندة “داعش”، إلا لأن خياراتهم ضاقت نتيجة السياسات الرعناء التي اتبعتها حكومة المالكي.
(4)
بعض عناصر النخبة المصرية قرأت الحدث من منظور آخر، فهي لم تقرأ الأزمة السياسية الداخلية في العراق، ولم تتوقف عند غضب أهل السنة ومعاناتهم، ولكنها حصرت اهتمامها في التعليق على مسألة إعلان الخلافة الإسلامية، وفي القسوة المفرطة التي اتبعها “داعش” مع مخالفيه، والقهر الذي مارسه بحق الذين خضعوا لولايته.
ثم وظفوا ذلك كله لصالح حسابات السياسة الداخلية والصراع الحاصل الآن في مصر بين السلطة والإخوان، وكانت الرسالة التي حرصوا على توصيلها هي أن “داعش” هي النموذج الذي يسعى الإسلاميون إلى تطبيقه حيثما وجدوا، وأن الجميع لا بد أن يحمد الله ويشكر الرئيس عبد الفتاح السيسي لأنه أنقذ مصر من المصير البائس، الذي حمله “داعش” إلى المناطق التي خضعت لسلطانه.
للدقة، فإن ذلك لم يكن خطاب تلك الفئة من النخبة المصرية فحسب، ولكنني وجدت صدى له في صحف الدول الخليجية، التي تقود الحملة ضد تجليات الربيع العربي، حيث شاهدنا صور الإعدامات التي نفذها تنظيم “داعش” تتصدر الصفحات الأولى في بعض صحف تلك الدول، في رسالة ضمنية تقول للرأي العام هذا هو المصير الذي ينتظركم إذا ما وصل الإسلاميون إلى السلطة، وهي الرسالة التي حرص بعض السياسيين على التلميح إليها في عدة مناسبات أخيرة. وقد قرأنا هذا الأسبوع تصريحا لأحد القادة العرب علق فيه على تفاعلات الداخل وأزماته التي جلبها نظامه، قائلا لبني وطنه: “إذا نظرتم حولكم فستدركون أنكم أفضل كثيرا من غيركم”.
ليس عندي دفاع عن تجربة الإسلاميين في السلطة، ولكن ما يعنيني في اللحظة الراهنة هو الخطأ المتعمد في قراءة الحدث، وتوظيفه لصالح حسابات الصراع الداخلي في تجاهل وانتهاك لقيم المعرفة والأمانة العلمية، من شأنه أن يضلل القارئ ويشوه إدراكه.
أخطر ما في ذلك الخطاب أنه يضع الجميع في سلة واحدة، ويعتبر أن فكرة الاعتدال الإسلامي خرافة روجتها بعض الجماعات وحيلة انطلت على كثيرين.
والحقيقة من وجهة نظرهم أنه لا فرق بين طالبان وبوكو حرام وداعش وبين الإخوان وحزب الوسط وحركة النهضة التونسية وحزبي التنمية والعدالة في المغرب وتركيا. فكلهم إرهابيون حملوا أسماء متباينة وأخفوا قسماتهم تحت أقنعة مختلفة. وقد عبر عن ذلك أحدهم حين كتب قائلا: كلهم داعشيون.
وهى ذات الفكرة التي تبناها غلاة المحافظين في الولايات المتحدة ويروج لها بشدة “اللوبي” الصهيوني هناك.
لقد أشرت قبل قليل إلى محضر لقاء وزير الخارجية الأميركي مع رئيس الوزراء العراقي، الذي حرص فيه الأخير على تصوير معارضيه بأنهم جميعا إرهابيون وداعشيون، فما كان من الوزير الأميركي إلا أن أكد له أنه يتعين التمييز في المعارضين بين المتطرفين منهم والمعتدلين.
وهذا المنطق هو الذي ينبغي أن يفكر به أي سياسي مسؤول، ليس فقط تقريرا للواقع، وإنما أيضا لكي يجد طرفا يستطيع التفاهم معه، لأن إعلان الحرب على الجميع دون تمييز هو حماقة كبرى تجعل الصراع بلا نهاية وتكبد الجميع خسائر فادحة. ومن المؤسف والمحزن أن نجد بعض مثقفينا في مصر يؤججون تلك الحرب المفتوحة، حتى وصفهم أحد الكتاب العرب بأنهم أصبحوا بمثابة “كتيبة إبادة” (الحياة اللندنية 3/7).
إن مقاومة “شيطنة” الإسلاميين جميعا أصبحت ضرورة ملحة، في وقت صار فيه الفرز فريضة غائبة وأحد سبل الخروج من المأزق السياسي الذي نعاني منه.
الجزيرة نت

 

هل يُقسّم العراق إلى ثلاثة أجزاء من جديد؟/ روجر أوين
أدّى البروز المفاجئ والمروّع لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، على أنه القوة المقاتلة الأفضل تدريباً والأحسن تمويلاً والأكثر حماسة وفاعلية من الناحية العسكرية في الشرق العربي، إلى إثارة حديث كثير عن إلغاء حدود «سايكس- بيكو» المصطنعة التي أُرسيت خلال مرحلة الاستعمار القديم والتي قسّمت سورية والعراق. لكن، على رغم وجود عنصر حقيقة على هذا الصعيد، تبدو المسألة أكثر تعقيداً وتكمن أفضل طريقة لفهمها في النظر إلى جذور الدول الحديثة من منظار تاريخي مفصّل.
أولاً، فيما ينطوي التقسيم على منطق إداري – بحيث أنّ العراق مثلاً كان مؤلفاً من ثلاث محافظات عثمانية قديمة وكبيرة هي البصرة وبغداد والموصل – إلا أنّ هذه العملية لم تكن منظّمة أبداً إذ لم تكن معالم الحدود الغربية لهذه الدولة واضحة فيما عبّر عدد كبير من المجموعات القبلية والإثنية والعرقية عن امتعاضه من النظام الجديد والأكثر مركزية.
وما زاد الأمور سوءاً في العراق هو قيام البريطانيين، الذين كانوا يعتبرون أنّ البصرة هي المحافظة الوحيدة من بين المحافظات الثلاث التي يملكون فيها مصلحة استعمارية طويلة، بتسليم الحكومة إلى دولة العراق المستقلة والجديدة عام 1932 من دون توفير المؤسسات التي من شأنها السماح لها بتنفيذ مهامها الأساسية القاضية بمراقبة أراضيها وحماية حدودها وضبطها.
بالتالي، وجد العراق نفسه أمام عملية تمّ خلالها تحدّي الحكم من بغداد في شكل دوري من قبل هذه المجموعة أو تلك حين بدت الحكومة وجيشها ضعيفين وبشكل أوضح من قبل الأكراد وأحياناً من قبل المجموعات الأخرى في الجنوب والغرب أيضاً.
وتعدّ مسألة اكتساب هذه العملية هوية طائفية أو عدمها، أكثر تعقيداً. صحيح أنّ البعض رأى أنّه تم تقسيم العراق إلى ثلاثة مكونات مؤلفة من الأكراد في الشمال والسنّة في الوسط والشيعة في الجنوب، لكنّ ذلك يبدو إملاءً عقائدياً خارجياً بقدر كونه واقعاً سياسياً محلياً تعدّ فيه الطائفة أحد العناصر المحدّدة للهوية وأحياناً الأكثر أهمية. فعلى سبيل المثال، كان «الفلاحون» لغاية الحقبة التي شهدت إصلاحات في الأراضي في منتصف القرن العشرين، ينتمون إلى طبقة اجتماعية أكثر أهمية تشمل السكان الذين يعيشون على الزراعة بين النهرين الكبيرين دجلة والفرات، مقابل أصحاب الأراضي الذين يسيطرون على الوسط السياسي.
ومن ثمّ، تمّ دفع ثمن إلغاء النزاع الطائفي خلال فترة الحكم الديكتاتوري الذي مارسته مجموعة من الرجال الأقوياء بدءاً من نوري السعيد وصولاً إلى صدّام حسين، مع العلم أنّ عمليات الإطاحة بالأوّل على يد الجيش عام 1958 وبالثاني على يد الغزو الأجنبي عام 2003 خلّفت تبعات غير مقصودة على المجتمع العراقي. ولا شكّ في أنّ الحدث الأكثر تناقضاً هو ذلك الذي سمّي بتحرير العراق على يد القوى الأنغلو- أميركية التي، على رغم أنها أعلنت أن لا نية لها في قيام نظام في العراق على النسق اللبناني، من خلال إنشاء نظام تكون فيه الطائفة أساس التمثيل السياسي، انتهى بها الأمر إلى تطبيق ذلك فعلياً، لكن في ظلّ وجود بعض العوامل الخاصة التي سمحت للّبنانيين بالحفاظ على التوازن الخاص بين الطوائف الكبرى الثلاث التي تملك حجماً متكافئاً تقريباً.
اما في العراق فلم تكن نسبة الشيعة متكافئة مع نسبة السنّة كما هي الحال في لبنان، بل كانت خمسة مقابل واحد. من جهة أخرى، كان العراق بحاجة إلى جيش أكبر بكثير من جيش لبنان من أجل الدفاع عن نفسه وفرض الأمن الداخلي وأقل تأثراً بالنزاع الطائفي وأكثر انفتاحاً على تلاعب القوى الطائفية التي كانت موجودة في المجتمع الأوسع.
ومن ثمّ، بعد النجاح الأخير الذي حقّقته الانتخابات الوطنية في جميع أنحاء البلد وإنشاء برلمان يمثّل شرائح واسعة من المجتمع، لم يكن ذلك كافياً لإزالة الانطباع بأنّ نوري المالكي الذي يعدّ رئيس وزراء ديكتاتورياً آخر كان يدير إدارة شيعية بأكثريتها وفاسدة بعد أن تمّ استبعاد السنّة من عملية توزيع السلطة والنفوذ فيها.
بالتالي، قد يحظى العراق بمستقبل لا يقتصر فيه النزاع المسلح الذي تحوّل إلى نزاع طائفي على تقسيم البلد إلى ثلاث وحدات سياسية وشبه إدارية، بل قد ينتهي الامر الى جرّ قوى الدول المجاورة لا سيّما إيران والمملكة العربية السعودية إلى هذا النزاع على طول الخطوط الطائفية. فضلاً عن ذلك، يبدو أنّ هذه الأمور تصبّ في الوقت الحالي في مصلحة كافة الفرقاء المعنيين، لا سيّما الأكراد بالتأكيد، وربما تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» الذي، على رغم حديثه الصارم عن قرب السيطرة على بغداد، مدينة الخلفاء العباسيين، قد يشعر بأنّ محاولة غزو سكان المدن وحكمهم يفوق قدرته الإدارية والعسكرية الحالية.
ولا شيء من ذلك يعد بمستقبل سهل في ظلّ وجود حدود داخلية صعبة وسريعة التغيير، وانعدام الثقة الكبير بين المجموعات المتخاصمة فيما يعدّ العراق مركزاً للتدخل العسكري الخارجي، ربما من قبل أعضاء من القوات المقاتلة الأخرى المعروفة والفاعلة مثل «الحرس الثوري» الإيراني و»حزب الله» اللبناني.
ومن الجيّد مقارنة ذلك مع عملية تاريخية مماثلة حصلت في سورية حيث استولى الفرنسيون على محافظتين عثمانيتين فضلاً عن متصرفية جبل لبنان عقب الحرب العالمية الأولى وقسّموها إلى وحدات سياسية قبل توحيدها عام 1946. ومن ثمّ، وصلت حقبة حكم آل الأسد الطويلة، الأب ومن ثمّ الابن، حيث كانت دمشق قادرة على بسط سيطرتها على كافة أنحاء البلد على مدى عدّة عقود قبل أن يؤدي الوعي المتزايد للانقسام الطائفي بعد عام 2011 إلى استفاقة المجموعات السنّية المعارضة. وكما هي الحال في العراق، يبدو إمكان هيمنة طائفة واحدة على الطوائف الأخرى من الوسط بعيد المنال في الوقت الحالي.
* أكاديمي بريطاني – جامعة هارفارد
الحياة
نموذج البغدادي: زمن «العدمية» العربي/ خليل العناني
من فوق منبر «الجامع الكبير» بمدينة الموصل دعا الخليفة «الداعشي» أبو بكر البغدادي، المسلمين إلى طاعته والإسراع بمبايعته بعد إعلان قيام «الخلافة الإسلامية» قبل أيام. وهو الإعلان الذي لا يزال البعض يتعاطى معه باستخفاف إما باعتباره مجرد «زوبعة» أو «مزحة ثقيلة» سوف تنتهي قريباً.
إعلان «الخلافة الداعشية» يشي بأن قطار التغيير في العالم العربي قد وصل إلى مرحلة جديدة من «العدمية» والعبث واللامعنى. وهي مرحلة تهيل التراب على كل أساطير الحداثة والتحديث التي صنعتها وروجت لها الانتليجنسيا العربية طيلة القرن الماضي. حيث يبدو الأمر وكأن العرب قد داروا حول نفسهم دورة كاملة كي يعودوا إلى» نقطة الصفر» حين رُسم عالم «سايكس- بيكو» والآن يُصار إلى إعادة رسمه وتشكليه ليس من خلال مستعمر أو قوة أجنبية وإنما من خلال حركات وجماعات وقوى تمتلك الجرأة والأيديولوجيا والسلاح.
ظهور البغدادي وإعلان قيام «دولته» هو قمة التراجيديا والفشل العربي في العصر الحديث. وهو بمثابة إعلان صريح عن موت «الدولة» العربية الحديثة رمزاً ومعنى ومضموناً. وابتداء فإن ظهور الرجل وخروجه على الناس علانية بعد اختفاء دام حوالي عشر سنوات يمثل بحد ذاته تحدياً صريحاً وصارخاً لسيادة هذه «الدولة» وما تمثله من بنية ومؤسسات وتقاليد جرى بناؤها وتكريسها طيلة القرن الماضي وتبدو الآن عاجزة وفاقدة للحضور الرمزي والمادي. البغدادي، الذي خطب في الناس مرتديا زياً أسود من القرون الوسطى لا يبدو فقط غارقاً في أحلام «الدولة السلطانية» المتغلبة التي تحكم بالسيف والقهر، ويطالب الجميع بمبايعته وموالاته، وإنما يطرح نفسه بديلاً للأنظمة القائمة. وهو يعتبر نفسه «الأحق» بالخلافة والإمامة، ليس فقط من منظور ديني أممي، وإنما أيضاً من منظور زمني وواقعي باعتباره يقدم «البديل» الأنجع عن «الدولة الوطنية» القائمة.
دعك من التناقضات الجلية سواء في مضمون خطبة «الخليفة» الفارغة المعنى والمضمون والتي لا تليق بمقام «الخلافة»، أو في مظهره الحداثي (الخليفة المزعوم يرتدي ساعة «رولكس» حديثة قدرت صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية ثمنها بحوالى خمسة آلاف دولار)، ولكن الملفت هو قدرته على جذب آلاف الشباب المسلمين من الشيشان وحتى المغرب للانضمام إلى دولته والانضواء تحت خلافته المزعومة (يقدر البعض عدد من ينتمون لتنظيم «الدولة الإسلامية» ما بين سبعة إلى عشرة آلاف مقاتل). بل الأكثر من ذلك فإن البغدادي ورجاله يخططون لتوسيع رقعة «دولتهم» كي تصل إلى الخليج شرقاً وموريتانيا غرباً وسورية شمالاً وأفريقيا جنوباً.
حال العرب منظوراً إليهم في مرآة البغدادي و»دولته الجديدة»، يكشف بؤس ومفارقات اللحظة الراهنة. فمن جهة أولى، فإن البغدادي، وبمعنى من المعاني، هو «الابن الشرعي» للدولة العربية الحديثة التي وُلدت مشوّهة وفاقدة للتناسق والتناغم الهوياتي والإثني والجغرافي. وهو المنتج الأكثر فجاجة لكانتونات «سايكس- بيكو» المصطنعة والتي يشهد بعضها الآن انفجاراً وتمزقاً كبيراً والآخر بالانتظار. وهو من جهة ثانية، بمثابة «الحصاد المر» لعقود من القمع والقهر والعنف الذي استخدمته تلك «الدولة» المصطنعة من أجل تثبيت حكمها وسلطانها على حساب المجتمع والمواطنين. وهو من جهة ثالثة، التجسيد الحقيقي لفشل هذه الدولة في تقديم أي نموذج ناجح أو فعال للحكم طيلة القرن الماضي. وهو من جهة أخيرة، وهي الأهم، دليل على فشل «الربيع العربي» في تحقيق وعوده بالتغيير والاستقرار، وذلك بعدما نجحت «الثورات المضادة»، ولو موقتاً، في إجهاض آمال التغيير السلمي في المنطقة. ومن هنا فليس غريباً أن تكون «دولة» البغدادي الجديدة هي بمثابة الوجه الآخر لدولة «التغلب» والتسلط التي حكمت، ولا تزال، العالم العربي منذ أكثر من نصف قرن. وهي وريثة السلطة الأبوية ولكن هذه المرة تحت عباءة الدين، وكأنما ترد، بنفس الطريقة والأسلوب، على «قهر» الدولة العربية لمواطنيها، ولسان حالها يقول «أنا أولى بالقهر منكم». ومن المفارقات أن يترحم البعض الآن على تنظيم «القاعدة» باعتباره أقل فجاجة وأكثر رحمة من خطر «الدواعش».
وبإعلان خلافته، يطرح البغدادي نموذجاً منافساً لبقية نماذج الحكم والسلطة القائمة في العالم العربي سواء نموذج الدولة «التسلطية» القاهرة، أو نموذج «الدولة الديموقراطية» التي بشر بها «الربيع العربي» أو النموذج «الإخواني» الذي سقط ويجري الآن الإجهاز عليه. وهو يستفيد من الصراع والتناقضات بين هذه النماذج كي يصنع لنفسه مكاناً بين جمهور متزايد أصبح فاقداً للأمل والقدرة على التغيير السلمي.
أما ما يثير الحيرة والقلق حقاً، فأنه على رغم المخاطر الوجودية والجيواستراتيجية التي يمثلها البغدادي ودولته المزعومة، والتي قامت فعلياً بإزالة الحدود بين سورية والعراق وتهدد بعمل مماثل مع بقية بلدان المنطقة، فإن ثمة حالة من الشلل والفشل تسود دوائر الفعل عربياً وإقليمياً ودولياً. فحتى الآن لم تتفق دول المنطقة ومعها روسيا وأميركا على استراتيجية محددة للتعاطي مع «داعش»، وهو ما يسمح لهذه الأخيرة باللعب على التناقضات بين هذه الدول والاستفادة من صراعها على مناطق النفوذ في المنطقة. حتى وإن توصلت هذه القوى إلى حل يسهم في إزاحة أو تحجيم «الخطر الداعشي»، فإنها حتماً لن تنجح في تقديم بديل مقنع لكثير من الشباب العربي اليائس الذي يبدو محشوراً الآن بين خيارين قاهرين، مرة باسم «الحداثة الزائفة» وأخرى باسم «الخلافة العابثة».
* كاتب وأكاديمي مصري.
العربي الجديد
تداعيات دولة داعش على محاور أربعة/ د. سعيد الشهابي
فجأة تغير المشهد، وقام المشاركون فيه بتغيير ادوارهم، بل تغير خطابهم كذلك. فالوضع لا يحتمل التأخير بعد ان اصبح الخطر يداهم الجميع. المشهد السياسي والامني بشمال شرقي الجزيرة العربية في الاسبوعين الماضيين يختلف عنه قبل ذلك، بعد ان اتضح ان «فرانكستاين» اصبح يلاحق صانعيه، حسب رواية الكاتبة البريطانية «ميري شالي» الخيالية. فلم يكن هدف السعودية او تركيا من ضخ اموال النفط او تسريب السلاح المتطور للمجموعات المسلحة اقامة «الدولة الاسلامية» لتتاخم الحدود الشمالية للجزيرة العربية والجنوبية لتركيا، مهد الدولة العثمانية.
الخطاب الذي كانت وسائل اعلام البلدين، ومعها الاعلام الغربي، كان مختلفا تمام، وما اكثر الاصوات التي ارتفعت مطالبة بالتدخل العسكري الامريكي ضد سوريا على غرار ما حدث في ليبيا واسقاط حكومة العراق. بل ان العلاقات بين السعودية وامريكا تعقدت كثيرا بعد قرار ادارة الرئيس اوباما في مثل هذه الايام من العام الماضي عدم التدخل العسكري ضد نظام بشار الاسد. مع ذلك توالت الدعوات لتسليح المعارضة السورية مع علم الجميع ان الفصائل الاقوى فيها تنتمي للتيارات المتطرفة.
من الذي كان يخطط لذلك؟ وما الجهة التي كانت تسعى لايصال الوضع الى ما هو عليه اليوم؟ وماذا يقول عقلاء الامة ومفكروها وعلماؤها، ان بقي منهم احد ملتزما بمبادئه وقيمه ومنطقه الراشد. ففي زمن الفتنة تغيب الحكمة وتهيمن العواطف وترتفع اصوات الطيش والانتقام والعصبية الجاهلية. أليس غريبا ان لا يتصدى لما حدث بمنطق الاسلام والشرع الا بعض منظري السلفية الجهادية مثل ابي محمد المقدسي، بينما ينساق علماء كبار وراء الدعوات التي لا يمكن ان تفيد الامة يوما؟ مخططو الفتنة كانوا واضحي الاهداف، وسيواصلون دق أسفين الفرقة بين المسلمين، ومن الضرورة هنا تلخيص المشهد السياسي الذي تمت الاشارة اليه في محاور اربعة منفصلة ولكنها ذات صلة ببعضها.
المحور الاول حالة الهلع التي هيمنت على الموقف السياسي بعد اعلان حركة داعش قيام «الدولة الاسلامية» في المناطق التي تهيمن عليها في العراق وسوريا. لم ينحصر الهلع بالعراق، بل تعداه للدول التي ستكون «دولة الخلافة» على حدودها.
ففجأة قامت السعودية باجراءات تؤكد ذلك الهلع. فأعلن الملك عبد الله اتخاذ «كافة الإجراءات اللازمة» لحماية المملكة مما قد ترتكبه المنظمات «الإرهابية»، وفي رسالة بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك ندد بما اسماه «تيارات وأحزاب غايتها زرع الفرقة بين المسلمين». وقال: «لن نسمح لشرذمة من الإرهابيين بأن يمسوا وطننا أو أحد أبنائه أو المقيمين الآمنين»، وأضاف: «نعلن أننا ماضون بعون الله تعالى في مواجهة ومحاربة كل أشكال هذه الآفة». وفي السياق، أشار إلى «بعض المخدوعين بدعوات زائفة ما أنزل الله بها من سلطان، فلم يفرقوا بين الإصلاح والإرهاب»، معتبراً أن «هدفها خلخلة المجتمعات بتيارات وأحزاب غايتها زرع الفرقة». واتخذت الرياض اجراءات تعكس حالة الاضطراب السياسي في المملكة، فأعفى الملك نائب وزير الدفاع من منصبه بعد أسبوعين على تعيينه. وتلى ذلك قرار السعودية ارسال 30 الفا من القوات الى الحدود مع العراق في خطوة استنفار غير مسبوقة. ولم يقتصر الاستنفار العام على السعودية، بل ان الاتحاد الاوروبي نفسه اتخذ اجراءات مشددة لمنع مواطنيه من التوجه الى سوريا للمشاركة في القتال. اما بريطانيا فتشعر اكثر من اي وقت مضى بالخطر المحدق باراضيها خصوصا بعد الاعلان عن قيام «الدولة الاسلامية».
وقبل اسبوعين منعت بريطانيا الشيخ السعودي محمد العريفي من دخول اراضيها. وقال متحد ث باسم وزارة الداخلية البريطانية في بيان عبر البريد الإلكتروني «يمكنننا تأكيد أن محمد العريفي منع من دخول المملكة المتحدة»، مضيفا «الحكومة لا ترفض دخول أناس إلى المملكة المتحدة إلا إذا اعتقدنا أنهم يمثلون تهديدا لمجتمعنا».. كما ندد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في بيان حمل توقيع رئيسه، الشيخ يوسف القرضاوي، بإعلان تنظيم «داعش» قيام خلافة إسلامية يقودها البغدادي، وقال البيان ان ذلك «إعلان باطل شرعاً، لا يترتب عليه أي آثار شرعية؛ بل يترتب عليه آثار خطيرة على أهل السنة في العراق والثورة في سوريا، بل يؤدي ذلك إلى توحيد قوى الأعداء بمختلف أصنافهم لضرب الثورتين.»
اما المحور الثاني فيتمثل بما يبدو من خلاف في الموقف ازاء ما يجري في شمال العراق بين الولايات المتحدة وبريطانيا. فواشطن تبدو ا كثر حماسا لمواجهة داعش، بينما تمارس بريطانيا دورا مزدوجا بين الرغبة في حماية اراضيها من مخاطر الارهاب ودعم «الفوضى الخلاقة» في المنطقة ومن ذلك عدم التصدي لداعش. فما ان حدثت الازمة الاخيرة في شمال العراق حتى اعلن وزير الخارجية الامريكي عزمه على زيارة بغداد للتفاهم حول ما يمكن عمله لمواجهة تمدد السلفية الجهادية. وتمخض اللقاء عن دعم امريكي بارسال صواريخ من نوع «هيل فاير» للعراق. تبع ذلك مفاوضات في جنيف بين الامريكيين والايرانيين للتنسيق حول ما يمكن عمله لوقف انتشار «داعش».
الملاحظ ان وزير الخارجية البريطاني هرع لزيارة بغداد بدون اعلان مسبق، في اليوم التالي لزيارة كيري، وابدى موقفا مختلفا تماما عما ذكره وزير الدفاع البريطاني قبل يوم واحد فقط. ففي مقابلة مع قناة الجزيرة قبل اسبوعين قال فيليب هاموند ان بريطانيا لن تتصدى لداعش الا اذا اعتدت على دولة ثالثة (من مجلس التعاون الخليجي).
السياسة البريطانية تبدو مضطربة تماما وغير موجهة بشكل جاد لمواجهة الارهاب. واضطر ويليام هيغ لزيارة بغداد على وجه السرعة لمنع تداعي العلاقة مع امريكا التي شعرت ان ما حدث يمثل فشلا ذريعا للسياسات التي انتهجها الغربيون ازاء المنطقة. فهو، بدون شك، تأكيد لفشل مشروع الحرب ضد الارهاب. فبعد اثني عشر عاما توسعت دائرة الارهاب لتصل الى ادغال افريقيا وشمال شرق آسيا وعمق اوروبا.
المحور الثالث يتصل بغياب موقف الاعتدال الديني عن المنطقة، برغم وضوح مشاريع التقسيم المصاحبة لتوسع دائرة العنف والارهاب. المشكلة الخطيرة ان الكثير من افراد النخبة من علماء وكتاب واعلاميين انساقوا، خلال الازمة السورية، وراء مشاريع الطائفية والتطرف، واصبح من الصعب عليهم التراجع عنها. فغاب الصوت العاقل عن الساحة، وارتفعت اصوات الخلاف والاختلاف، وتم تجاهل ثوابت الامة كالوحدة والتفاهم وتحرير فلسطين. هذا الغياب يمثل ردة خطيرة اضعفت مشروع الاسلام السياسي بوجه خاص، فاصبح يهمش تدريجيا
الى الدرجة التي ضرب فيها حكم الاخوان المسلمين في مصر بقسوة ووحشية غير مسبوقة ولم يتحرك اغلب المحسوبين على الاخوان في البلدان العربية. كما تم تهميش حركة النهضة التونسية واخرجت من الحكم برغم فوزها بالاغلبية في الانتخابات البرلمانية.
وهكذا جنح قطاع كبير من «المعتدلين» لمسايرة التطرف واستدرج لخطابات
التشدد والطائفية، وبذلك ضعفت مجموعات الاعتدال الاسلامي كثيرا. وكشفت التجربة ضعف الانتماء لدى هذه النخبة التي لم تصمد امام التحديات التي ساهمت انظمة الاستبداد واعداء الامة في فرضها على المنطقة.
ويمثل المحور الرابع مفاجأة كبرى لمن يقرأ المشهد بهدوء، بعيدا عن العواطف والتعصب. فقد جاء الموقف الناقد لما حدث في شمال العراق بعد توسع حركة داعش، ليس من علماء الامة ومفكريها المحسوبين على «الاعتدال»، بل من داخل السلفية الجهادية نفسها، في الوقت الذي امتنعت النخب المحسوبة على الاسلام السياسي عن ابداء موقف واضح، وربما انساقت مع الحدث وتداعياته. هذه المرة تحدث اكبر منظري السلفية الجهادية بوضوح، بعد خروجه الشهر الماضي من السجن. ونقلت وكالة انباء رويترز الاسبوع الماضي عن أبي محمد
المقدسي، الذي وصفته المؤسسة البحثية التابعة لأكاديمية وست بوينت العسكرية
الأمريكية بأنه «المنظر الإسلامي الأكثر تأثيرا على قيد الحياة.» قوله: «عيوننا لا تقر بسفك دم مسلم من أي طرف من الأطراف التي هي داخل دائرة الإسلام ولو كانوا من العصاة… فإما أن تصلحوا وتسددوا وتتوبوا وتؤوبوا وتكفوا عن دماء المسلمين وعن تشويه هذا الدين أو لنجردن لكم ألسنة كالسيوف الصقال تضرب ببراهينها أكباد المطي ويسير بمقالها الركبان». وفي تصريح شهير عام 2005 بعيد الإفراج عنه من حكم سابق بالسجن انتقد المقدسي الزرقاوي وندد بالتفجيرات الانتحارية التي ينفذها تنظيم القاعدة ضد المدنيين الشيعة في العراق.
هذه المحاور الاربعة هي الابرز في الوقت الحاضر، وتكشف مدى تداخل السياسات والمواقف بين الفرقاء بسبب ما يجري في سوريا والعراق.
٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
القدس العربي

 

خيار «الخليفة» بين ثلاثة/ زهير قصيباتي
أيهما أفضل ظلم المالكي أم جور البغدادي وبطشه؟
لأن «ربيع» القتل في عزه العربي، ليست المسألة أن تموت برصاص «أبو بكر البغدادي»، «الخليفة ابراهيم»، أو رئيس الوزراء الذي يكاد يحلم بصفة الامبراطور… ليست المسألة أن تختار الموت بصواريخ «كتائب القسّام» لا صواريخ نتانياهو أو قذائف طائراته. الحال أن القتل في عزه والعرب في قعر الحضيض، لذلك اختاروا في الغرب نعي أمة.
وربما كان السؤال أمس مع إبادات جماعية لعائلات فلسطينية في غزة، هو ذاته الذي لا يتغير بين هدنة وأخرى: كم كلفت بطولات «القسام»؟ هل من مقارنة بين الخسائر الإسرائيلية وفجيعة الفلسطينيين الذين فقدوا ترف الاختيار بين موت الذليل وموت الشهيد؟
ولكن، هل من مقارنة بين المحاصرين في غزة، والمحاصرين في العراق بين رياح الصراع المذهبي وسلطة ظالمة و «خلافة» جائرة؟
ما لم يعد يقبل الجدل أن الموت الفلسطيني المعلن تحول عبثاً باسم بطولات موسمية، لم تجرّ سوى المزيد من المآسي، بل تعيد لإسرائيل بين سنة وأخرى «شرعية» اعتبارها في الغرب «ضحية للإرهاب»… فيما الضحايا الفلسطينيون مجرد أجساد تطويها القبور، و «الهدنة».
ما لم يعد يقبل الجدل هو عبث التساؤل عن حجم القتل، ومَنْ يبطش أكثر بالعرب، إسرائيل أم بعض حكامهم و «أمراء» تنظيماتهم وفصائلهم التي تلتحق بها فروع «القاعدة» العميقة و «الجهاد» بنسخِهِ الحديثة، ومشاريع «الخلافة».
لا يقبل جهداً كبيراً في النقاش- أو حتى رسم خيوط أملٍ- حل لمآسي الفلسطينيين الذين لم يعودوا وحيدين في عقود من النكبة، تلوح في أفق المنطقة العربية. أفق النهج الإسرائيلي معروف، كما «البصيرة» الغربية المتعامية عن مصير شعب. أما حال الديكتاتوريات التي تنقذ «شرعية» بقائها «صحوة» دولة البغدادي وما يشبهها، فصراع مفتوح على صراع القوى الكبرى، دولياً وإقليمياً، والتكهن بالأثمان بات كتفسير الماء بالماء.
بعد شهر على اكتساح «داعش» الموصل وتكريت، لم يتمكن الجيش العراقي من إعادة فرض سلطة بغداد التي فقدت كذلك كركوك، منذ أدخلها مسعود بارزاني تحت عباءة إقليم كردستان. ورغم نفور بارزاني من المالكي ونهجه وتهديداته قبل «غزوة» تنظيم «داعش»، بات أكيداً أن طهران التي لم تقبل بعد باستبدال المالكي رئيساً للوزراء، التقطت ورقة الانفصال التي لوّح بها الزعيم الكردي، لتجعل الأخير متواطئاً مع «مشروع» إسرائيلي لتطويق حدود إيران من شمال العراق. هكذا تعوّم طهران رؤيتها لأولوية منع تقسيم البلد الحليف، بالتصدي لإرهاب «داعش» وطموح بارزاني إلى الاستقلال.
والمفارقة ان إيران التي باغتها ربما، تقريب موعد جلسة البرلمان العراقي لبت مصير الرئاسات الثلاث، تراجعت عن ربط التعاون مع «الشيطان الأكبر» في بلاد الرافدين بإنجاح واشنطن مفاوضات البرنامج النووي الإيراني. لذلك، يستقيم لدى الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني «تبادل الخبرات والمعلومات والتمويل والتكنولوجيا» مع ذاك «الشيطان» إذا قبلت الولايات المتحدة، لإنقاذ السلطة المركزية في بغداد، وهدم دولة «أبو بكر البغدادي» زعيم «داعش». وإذ يقر رفسنجاني بتقاطع مصالح واضح بين الإيراني والأميركي في العراق، يبدو كمن يعزف على وتر واحد مع المرشد خامنئي الذي يشدد مطالبه «النووية».
إذاً، ألا يصح القول بعلاقة عضوية بين ملف «الخليفة ابراهيم» وأوراق المرشد النووية؟ أم يجانب الصواب توقّع توسيع التدخل الإيراني في العراق، كلما تعثّرت مفاوضات مجموعة «5+1» مع طهران، ورفضت إدارة أوباما التقاط «غصن الزيتون» الذي تلوّح به إيران كي يطلق الغرب يدها لاستئصال «داعش»؟
خامنئي لا يريد حليفه العراقي مقسَّماً، بل أن يبقى ضعيفاً تحت مظلة «الحرس الثوري» وتحكّم تكتل شيعي موحد بقرار الدولة.
لذلك كانت الحملة الديبلوماسية الإيرانية في منطقة الخليج للتحذير من تداعيات احتمال تقسيم العراق، لأن «عدوى» انفصال الأكراد هناك ستنتقل سريعاً إلى كردستان الإيرانية… ولذلك ايضاً يصعّد المالكي حملته على قيادات الأكراد العراقيين، ليضعها في كفة واحدة مع «داعش» و «البعثيين وتنظيم القاعدة والإرهابيين».
بذلك، يبدو المالكي الطامح إلى رئاسة الوزراء مجدداً، كمن يمحو الأيام العشرة التي هزت العراق بعد 10 حزيران (يونيو)، وكأن شيئاً لم يحصل، وأقصى المطلوب حملة دعائية ناجحة، عشية جلسة البرلمان… فالقائد الأعلى للقوات المسلحة التي «تبخّرت» في الموصل ما زال يجيد رص صفوف الخصوم، واختراع أعداء جدد.
أربيل عاصمة السياحة في «فردوس» أكراد العراق، باتت «قاعدة للإرهاب». والمالكي برده هذا على دعوة بارزاني الى تغيير «بنيوي» للنظام، إنما يؤسس فعلاً لأحقاد شكا منها الزعيم الكردي، لتضيف إلى صراعات العراق ومذابحه صراعاً مكشوفاً بين العرب والأكراد.
لذلك كله، كركوك التي انتزعها بارزاني في غفلة من المالكي، مرشحة لـ «الملحمة» الجديدة، والمذبحة. والخيار هو بين حلم الزعيم الكردي وسطوة قائد القوات المسلحة المتهالكة، ودولة «داعش» المتمددة على جثث العراقيين، إرضاءً لـ «الخليفة ابراهيم».
الحياة

 

تمهل.. لا تجدد جواز سفرك/ عبدالرحمن الخطيب
استوحيت عنوان المقالة من الأحداث المتسارعة التي شهدها العالم العربي الأسبوعين الماضيين. فمن انتهت صلاحية جوازات سفرهم من اللاجئين السوريين والعراقيين، ولم يتمكنوا من تجديدها، يفضل التروي، لمعرفة إلى أي بلد سينتمون بعد أن تتغير خريطة المنطقة برمتها. في الواقع حين نشرت صحيفة «الحياة» مقالة لي قبل أسبوعين بعنوان «إرهاصات التقسيم الطائفي»، كنت أظن أن موضوع التقسيم ربما سيستغرق عامين أو ثلاثة على أقل تقدير. فكانت المفاجأة أن دولة العراق والشام سيطرت على الحدود العراقية – السورية، وألغت الحدود بينهما، وأعلنت الخلافة الإسلامية تحت اسم الدولة الإسلامية، استناداً إلى مبدأ ولاية المتغلب. وبعد أيام عدة من سيطرة البيشمركة الكردية على كركوك، الغنية بالنفط، أكد رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني أن الاستقلال هو حق طبيعي لشعب الإقليم، لا ينبغي إخفاؤه، وأنه سيجري استفتاء شعبياً على خيار الاستقلال خلال الأشهر المقبلة بعد موافقة برلمان كردستان على ذلك. كانت ردود الفعل الغربية تجاه إعلان دولة العراق الخلافة، وتجاه موضوع استقلال إقليم كردستان فاترة، وكأن هناك موافقة ضمنية. حتى إن طلب رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، ووزير الخارجية الأميركي جون كيرى، اللذان زارا كردستان الأسبوع الماضي، من البرزاني أن يتراجع عن قراره بانفصال إقليم كردستان عن العراق، كان خجولاً جداً. والمتابع لتصريحات تركيا المعارض التاريخي الشرس واللدود لإقامة دولة كردية يلاحظ أنها أتت فاترة أيضاً. وكأن غض الطرف عما يحصل هو لتسريع عملية التقسيم.
من يعتقد أن ما يحصل الآن في المنطقة العربية هو عمل ارتجالي أو وليد اللحظة فقد جانب الصواب. فصناعة القرار الغربي تعتمد على الكثير من الدراسات والبحوث الأكاديمية العلمية، والسياسية، والاجتماعية، والاستراتيجية. بل إن هناك دراسات في ردهات صناع القرار السياسي في الغرب عن مخططات استراتيجية لتقسيم الدول العربية وضعت أساساتها قبل ثلاثة عقود.
من المعروف أن منطقة الشرق الأوسط جرى تقسيمها بعد اتفاقية «سايكس بيكو» عام 1916. حين تم اقتسام ما تبقى من المشرق العربي بعد الحرب العالمية الأولى بين إنكلترا وفرنسا، التي أعقبها وعد بلفور عام 1917 لليهود في فلسطين. ولكن على ما يبدو أن الغرب لديه رغبة مستدامة في تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ في كل قرن تقريباً. فتبني طرح تقسيم منطقة الشرق الأوسط بدأ التخطيط له اليهودي الأشكنازي البريطاني الجنسية برنار لويس عام 1980. كما طرحه بريجنسكي مستشار الأمن القومي السابق للرئيس جيمي كارتر عام 1980 بقوله: «إن منطقة الشرق الأوسط ستحتاج إلى تصحيح الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو ومقررات مؤتمر فرساي. وفي عام 1983 وافق الكونغرس الأميركي بالإجماع في جلسة سرية على مشروع برنارد لويس، وتم اعتماده وإدراجه في ملفات السياسة الأميركية الاستراتيجية لسنوات مقبلة. لويس هذا قدّم خرائط قسّم فيها غالبية الدول العربية. تحقق منها الآن انفصال السودان إلى دولتين: دولة الشمال السوداني الإسلامي، ودولة الجنوب السوداني المسيحي. بل إنه ذكر دارفور، لفصلها عن السودان بعد فصل الجنوب مباشرة، إذ إنها غنية باليورانيوم والذهب والنفط. وتكلم أيضاً عن تفكيك ليبيا، وهذا ما يُخشى منه الآن. كما ألغى الكويت وقطر والبحرين وسلطنة عمان واليمن والإمارات العربية من الخريطة التي قدمها، ومحا وجودها الدستوري بحيث تتضمن شبه الجزيرة والخليج ثلاث دويلات فقط، هي: دويلة الأحساء الشيعية، وتضم الكويت والإمارات وقطر وعمان والبحرين. ودويلة نجد السنية. ودويلة الحجاز السنية. كما خطط لتقسيم العراق إلى دويلات: دويلة شيعية في الجنوب حول البصرة، ودويلة سنية في وسط العراق حول بغداد، ودويلة كردية في الشمال والشمال الشرقي حول الموصل (كردستان)، تقوم على أجزاء من الأراضي العراقية والإيرانية والسورية والتركية. ثم في تاريخ 29-9-2007 صوّت مجلس الشيوخ الأميركي، شرطاً لانسحاب القوات الأميركية من العراق، على تقسيم العراق إلى هذه الدويلات الثلاث. أما سورية فقسمها لويس إلى: دولة علوية شيعية، تمتد من دمشق مروراً بحمص إلى لواء إسكندرون، ودولة سنية في المنطقة الشمالية والشرقية، ودولة الدروز في الجولان ولبنان. وكلف البنتاغون الكولونيل المتقاعد من الجيش الأميركي رالف بيتر بإعداد تقرير وسيناريو مفصل عن إمكان تحقيق تلك المخططات من الناحية اللوجستية والعسكرية. وفي هذا المضمار فإن عبارتي «الشرق الأوسط الجديد»، و«الفوضى الخلاقة»، اللتين صرحت بهما وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في أبريل عام 2005 لصحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، لم تكونا وليدة أحداث 11 سبتمبر 2001، أو بدعاً من إدارة المحافظين الجدد في البيت الأبيض لينفذها جورج بوش الابن، آنذاك، بل كانتا مشروعاً متكئاً على الدراسات السابقة.
من الملاحظ، من مجريات الأمور في سورية، والعراق، ولبنان، واليمن، وتكاثف الحديث، وكثرة الأطروحات والتحليلات السياسية، أن الحلول النهائية والناجعة تتجه باتجاه تقسيم تلك البلدان. وأن هذا الحل هو الحل الأقرب لحال منطقة الشرق الأوسط. تقود هذا الحل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا. لتنفيذ مخطط تحقيق حلم دولة إسرائيل الكبرى، والسيطرة على الأماكن الغنية بالنفط والثروات الطبيعية. يؤكد هذا المنحى إعادة صحيفة «نيويورك تايمز» نشر خريطة تظهر فيها خمس دول بالشرق الأوسط وقد قسمت إلى 14 دولة وفقاً لاعتبارات دينية، وطائفية، ومذهبية، وتعللاً بأن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضّرهم، وإذا تركوا لأنفسهم فسيفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمر الحضارات. ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة تقسيم أراضيهم أو استعمارها بطرق حديثة مبطنة. كما أعادت مجلة «أتلانتك» الأميركية بعنوان «الخريطة الجديدة للشرق الأوسط» نشر ما وصفتها بالخريطة الجديدة للشرق الأوسط كانت نشرتها في عدد يناير 2008 بمناسبة مرور 5 أعوام على غزو العراق.
وإذا أردنا الحديث عن تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي نادى به بعض زعماء الغرب فإن مؤشراته لاحت في الأفق القريب. كما أن التصريحات الغربية العلنية بأن الصراع المسلح في المنطقة سيمتد أمده لسنوات طوال باتت تشنف آذاننا يومياً. ثم لم يعد خافياً على أحد أن الأقمار الاصطناعية التجسسية تصور أدق تحركات القوى المتصارعة على الأرض في المنطقة، من نقل أسلحة ومعدات، وجنود، ومجاهدين أجانب، وخلافه، بل لديها إمكان تصوير أرقام السيارات. وبطبيعة الحال فإن الاستخبارات الغربية تعلم بأدق تفاصيل التغيير الديموغرافي الذي ينتهجه النظام الإيراني والسوري والعراقي وحزب الله اللبناني في المنطقة.
من هنا يمكن القول إن زعم الغرب بأنه يدعم الأنظمة الديموقراطية، أو يعادي الأنظمة الديكتاتورية، لترويضها لتتحول إلى أنظمة ديموقراطية ما هو إلا مسرحية مبتذلة، وفيلم هندي قديم. وإن الهدف الأول والأخير من تقسيم المقسم أصلاً سيزيد من حدة الصراعات والحروب، وسيستنزف ثروات وخيرات البلدان العربية، وسيؤدي إلى صوملة المنطقة، بما يعود بالفائدة الجليلة على مصانع الأسلحة، وبالتالي سيعمل ذلك على تحسين الاقتصاد الغربي المتدهور.
* باحث في الشؤون الإسلامية.
الحياة

 

لمحاربة «داعش» ثمنٌ في العراق وسورية/ عبدالوهاب بدرخان
كان لا بد من العودة بالإسلام إلى أحلك مراحله، وأن تُطرح مسألة «الخلافة» على هذا النحو الدموي المقترن بالإرهاب، والكاريكاتوري الأسود، لكي يستطيع المشروع الإيراني تقديم نفسه كـ «بديل» نموذجي يبدو فيه «الولي الفقيه»/ المرشد نسخةً منقّحة من «الخليفة الراشد» يلمّ صاحبها بتعقيدات العصر ومتطلّباته، ويستطيع أن يقارع الدول الكبرى ويقلقها ويجبرها على الاعتراف به ندّاً وقوة إقليمية. والحال أنه يعبث حالياً بمصير بلدين عربيين كبيرين كانا بنظاميهما مصدر قلق للعرب والغرب معاً، إن لم يكن باستبدادهما بشعبيهما فبرعونتهما والأدوار التي تنطّحا لها. استفادت إيران من سورية ومن الفلسطينيين (في لبنان) للذهاب إلى ثورتها، ومن حربها مع العراق للمضي في التسلح، ثم بعد سقوط النظام السابق في بغداد لاستعادة «الإمبرطورية الفارسية». ولا شك في أنها تناولت، كإسرائيل، مسألة الإرهاب واستغلّتها ضد العرب، وها هي تتموضع لتكون المستفيدة الوحيدة من تزاوج «الإرهاب والخلافة» إن لم يكن مذهبياً فبتكريس النفوذ.
ما أصل الأزمة في سورية والعراق؟ الاستبداد وليس الإرهاب، وإن أصبحا صنوين مترادفين. وحشية النظام في سورية ذهبت إلى أقصى ما يمكنها التخريب، ووحشية النظام البعثي في العراق التي نقلت كل أمراضها بالوراثة إلى من تولّوا بعدها. وكلا الوحشيتين تخصّبت في مفاعلات الأيديولوجية الإيرانية، وبنسب عالية جداً، لتقصيا أي إمكانٍ لـ «تعايشٍ» أو حتى «محاصصة» في أفضل ما تعنيه من توازنٍ للحكم، أو أسوأ ما تضمره من انعدام ثقة. فالحكم لمن اختاره «الخليفة/ المرشد» وبإمرته وأجندته وبالأسلوب الذي حدّده وبشعار «الممانعة» المخاتل الذي يرفعه. وهذا ما ضخّم التعنت والتشبث بالسلطة واحتقار الشعب التي لم يفتقدها هذان النظامان أصلاً. لكن هذا ما ضخّم أيضاً مشكلة الحكم ليس في سورية والعراق فحسب، بل في كل مكان تتدخّل فيه إيران. ففي اليمن انتظر حوثيو إيران ارتسام خريطة الطريق الوطنية ليبدأوا العبث بها وتخريبها وصارت «الممانعة» ضد الدولة تعادل حماية تنظيم «القاعدة» ودعاة الانفصال في الجنوب. وفي البحرين تمارس المعارضة نهج «اللاحوار الوطني» لتفرض «ممانعتها» الخروج من الأزمة وعودة والوئام. وفي لبنان تشارف الدولة على الانهيار بسبب تجاوزات «حزب الله» و «ممانعته» وجودها. ولا ننسى تدخل إيران في فلسطين وتوفيرها الذريعة لإسرائيل لفرض «الممانعة» على التفاوض مع السلطة وعلى المصالحة بين «فتح» و «حماس» وعلى انبعاث أي مشروع وطني فلسطيني جديد.
كلّها مشاكل حكم تحاول طهران معالجتها وحلّها بسياسة اليد الغليظة، لكنها اصطدمت أخيراً بتجاهلها «حقائق» كل بلد، أو بلغت اللحظة التي تتطلّب من «ولاتها» وأتباعها أن يحسموا خياراتهم أو تحسم هي مصيرهم. احترق نوري المالكي ولم يعد إنقاذه متاحاً لكن، «لحسن الحظ» يمكن استبداله بـ «شيعي» آخر من حزبه أو من كتلته. واحترق بشار الأسد ولم يعد إنقاذه متاحاً و «لحسن الحظ» يمكن استبداله بـ «علوي» آخر لكن قطعاً ليس من عائلته. في البلدين استخدمت إيران الإرهاب ورقة بوجهين، واحدٌ لإظهار نظاميها في سورية والعراق كضحيتين، وآخر لتظهير «تطرف» المعارضتين وخطورة إيوائهما الإرهاب. ومن الواضح أنها استهلكت ورقة الإرهاب، وأن السحر انقلب على الساحر، تماماً كما جازفت ودفعت الوضع في البلدين إلى حافة التفكيك والتقسيم. صحيح أن هذا يعزز أوراق المساومة مع القوى الدولية، لكن هل تسعى إيران – «الخليفة/ المرشد» إلى التقسيم فعلاً، أم تريد المساومة فحسب. في أي حال بدا «الخليفة البغدادي» وكأنه سبقها فحدّد خياره.
لكن المواجهة مع إرهاب «داعش» فرضت نفسها، بل فرضت على المالكي استدعاء تدخل أميركي، بل إن تنظيم «داعش» زاد الأزمتين السورية والعراقية ترابطاً. وكلما تداخلتا تشابهت العقبات التي تؤخر معالجتهما، وكل تأخير يعني استغلالات تفكيكية من النوع الذي سارع إليه الأكراد في ضمهم كركوك واستعدادهم للاستفتاء على الاستقلال. أما «داعش» فيستغلّ الوقت الضائع مواصلاً تغيير الحدود والتمدد جغرافياً وحتى اجتماعياً، ليجعل من أي حرب عليه أكثر صعوبة وتعقيداً. لعل ترحيب بنيامين نتانياهو بـ «الاستقلال» المرتقب لكردستان كان موجّهاً أكثر لزعزعة الحسابات الإيرانية منه إلى التعبير عن رغبة إسرائيلية معروفة في رؤية دويلات ضعيفة ومتناحرة بالقرب منها. لكن طهران التي انتقدت أربيل لم تقل كلمتها الأخيرة بعد في ما يخص التفكيك والتقسيم، إذ إن لها مصلحة فيه لكنها غير واثقة بمنع وصول عدواه إلى داخلها.
الحرب على «داعش» قد تصبح مغامرة طويلة إذا لم تحصّن سياسياً، ما رفضه المالكي ولم يرده الأسد، فكلاهما من مدرسة تجهل مفهوم السياسة. سعت واشنطن في تدخلها المستجدّ إلى فرملة الاندفاع عراقياً نحو التقسيم، على رغم أن الواقع بات يفرضه، لكنه في الوقت الحالي يخدم مشروع «داعش»، وإذا اقتضته الظروف فلا بد من إنضاجه لمنح كل «قطعة» مقومات الحياة والأمان. لذلك، يراد إعطاء الحل السياسي فرصة أخيرة، فلا شيء يضمن التعايش السنّي – السنّي ولا التعايش الشيعي – الشيعي، فـ «حقائق» البلد تبقى أكثر تأثيراً من أي مشروع للهيمنة. وطالما أن «داعش» فرض نفسه طرفاً لا يمكن التفاوض أو التعايش معه أو مجرد التفكير في جذبه إلى حلول سياسية طالما أنه صار «خلافة»، فالأحرى أن يصار إلى التعاون مع الأطراف التي بذل المالكي كل جهد لتهميشها. والمطلوب الآن هو ما كان مطلوباً وممكناً منذ عام 2006، على رغم التراكمات المفسدة التي أُضيفت إليه، أي تفعيل الدستور واحترام حقوق المكوّنات كافةً، وفي هذه الحال قد يكتفي الأكراد باستقلالية معزّزة مع دوام الارتباط بالعراق، لا لشيء إلا لأن لهم مصلحة في صيغة كهذه حتى إشعار آخر.
لكن هذا يفترض أن النظام في العراق لن يعود كلياً دمية في يد قاسم سليماني. وإذا حصل فسيكون بمثابة إعلان بإخفاق الإدارة الإيرانية لهذا النظام، إذ منعته من إنصاف السنّة ودفعته إلى استتباعهم. لكن هذا هو ثمن محاربة جدّية للإرهاب، إذا استمرّت إيران معنية بها. تلقائياً، هناك أيضاً إسقاطات على الإدارة الإيرانية للأزمة السورية، فلا يمكن الاعتراف بأن أخطاء المالكي تبرر رحيله، لأنها أوصلت العراق إلى ما هو عليه، من دون إقرار مقابل بأن أخطاء الأسد تبرر كذلك التخلّص منه، لأنها دفعت سورية إلى الواقع «الداعشي» الراهن. وإذا غدا إنصاف السنّة ثمناً لازماً وضرورياً لضرب الإرهاب، فهل يصحّ في العراق ولا يصحّ في سورية حيث هم غالبية واسعة. هذا يفترض أيضاً بلورة تفاهم إقليمي لضمان أي حلول سياسية حقيقية تمنع معاودة فئة التسلط على الفئات الأخرى. ولا بدّ من أن تفاهماً كهذا سينطوي بالضرورة على امتناع كل الأطراف، خصوصاً إيران، عن العبث بورقة «داعش».
كان أسامة بن لادن قد شوّه «الجهاد» ببُعده الديني. وكان حكّام كثرٌ شوّهوا مفاهيم المسؤولية والرعاية والعدالة. وكانت «ولاية الفقيه» أفسدت معاني الولاية ومزايا الفقه. فلا عجب أن ينتج الإفساد والمثابرة على التشويه معتوهاً يقود عصابة مسلحة، لا تلبث أن تسمّى «إمارةً»، ثم «دولةً»، ثم يعلن نفسَه «خليفةً»، لتبدو «دولة الخلافة» كما لو أنها حققت أخيراً «حلم المسلمين». ولوهلة تبرّع البعض شرقاً وغرباً بالقول إن «الخليفة إبراهيم/ أبو بكر البغدادي» ضرب ضربته وأحرج المسلمين، شعوباً وحكّاماً، فالناس ستصدّقه لأنه يقول أقوالاً ويفعل أفعالاً، ويظهر قوةً حيث يضعف «خلفاء» غير معلَنين وقدرةً حيث تعجز «حكومات» لا مرجعية دينية لها. ومنذ العقد السابق إلى الآن كان الآخر الذي يقول أيضاً ويفعل، وله مرجعية دينية، هو «الخليفة/ المرشد».
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة

 

من البصرة إلى بيروت/ هشام ملحم
القتال على الجبهة الواحدة في العراق وسوريا، سيستمر وقتاً طويلاً ولن يستطيع أي طرف فيه، لا نظاما بغداد ودمشق، ولا القوى المناوئة من “داعش”، الى القبائل السنية المعارضة في العراق وتنظيمات المعارضة السورية المختلفة، تحقيق حسم عسكري واضح. الانظمة التي تعتمد على قاعدة مذهبية او إتنية وتسيطر على معظم أجهزة الدولة من قمعية وخدماتية، مثل النظامين في بغداد ودمشق، تستطيع ان تستمر في الحكم حتى لو كانت محاصرة.
ما يعتبر اليوم “وضعاً غير طبيعي” في البلدين، مرشح لان يتحول وضعاً يمكن التعايش أو التأقلم معه في المستقبل المنظور. الاطراف الاقليميون والدوليون المؤيدون والداعمون مادياً وسياسياً للنظامين، قادرون ومستعدون لإبقائهما على قيد الحياة في المستقبل المنظور، بينما الاطراف الذين يدعمون المعارضين للنظامين غير قادرين، أو الاصح غير مستعدين للتدخل بشكل فعال أو مباشر للتعجيل في اسقاط هذن النظامين.
تلاحق التطورات يجعل من الصعب التهكن أو التنبؤ بيقين بصورة المستقبل المنظور، ولكن يمكن القول ببعض الثقة أن ايران ستبقى في المستقبل القريب الطرف الاقليمي الاهم في ما يجري في العراق وسوريا ولبنان. واذا اصرت ايران، كما قال حديثاً المرشد الأعلى علي خامنئي، على ان تملك 190 الف جهاز طرد مركزي في المفاوضات بينها وبين مجموعة 5 + 1، فان هذا الموقف سيؤدي الى انهيار المفاوضات. واذا حصل ذلك، فان ايران ستقترب من ان تصير “على عتبة” الدولة النووية، أي ستكون لديها كل المقومات التي تسمح لها بالتحول دولة نووية خلال فترة قصيرة من الزمن.
عملياً، هذا يعني ان ايران تكون قد وجهت ضربتين الى حلفاء واشنطن في المنطقة، اقليمياً باتت الطرف المؤثر في منطقة تمتد من البصرة الى بيروت، الى حفاظها على خيارها النووي. (يمكن ايران في هذه الحال تخفيف وتيرة نشاطها النووي لتفادي ضربة عسكرية اميركية، يشك كثيرون في ان الرئيس اوباما يمكن ان يقوم بها).
من ناحية اخرى، لن يتأثر نفوذ ايران الاقليمي سلباً اذا توصلت الى اتفاق نووي مع المجموعة الدولية، لانه لا رابط بين الاتفاق وسلوك ايران الاقليمي. الاتفاق النووي سيخفف العقوبات على ايران، الامر الذي سيعزز قدرتها على تأكيد نفوذها في الدول العربية التي تعتمد عليها.
هذا المشهد يبين مدى فداحة اخفاق ادارة الرئيس أوباما في فهم واستيعاب التطورات والتحولات التاريخية التي عصفت بالمنطقة منذ بداية الانتفاضات العربية والحرب في سوريا والانهيار الاخير في العراق، وتطوير استراتيجية فعالة مع حلفائها العرب وتركيا لمواجهتها بنجاح.
النهار
في مسألة الخلافة والجدل الذي أثارته/ د. بشير موسى نافع
فاجأت دولة العراق والشام الإسلامية، في مطلع هذا الشهر، عموم المسلمين بإعلان الخلافة الإسلامية واختيار قائدها، أبو بكر البغدادي، خليفة للمسلمين، والتخلي عن اسمها السابق لصالح اسماً أكثر اختصاراً ودلالة: الدولة الإسلامية. بعد أيام على الإعلان، خاطب الخليفة الجديد مسلمي العالم، داعياً إياهم، سيما أصحاب التخصصات، بالهجرة إلى دولة الخلافة. أثار الإعلان ما يشبه العاصفة السياسية والفكرية، في العالم الإسلامي على وجه الخصوص. في العراق، حيث نظام المالكي الطائفي الأكثر عرضة للتهديد من الدولة الجديدة/ القديمة، قال رئيس الحكومة المنتهية ولايته أن الإعلان يشكل خطراً على أمن العالم بأسره. أما في العواصم الغربية وروسيا، وبعد أيام من عودة دوائر الدولة والإعلام السريعة لتاريخ مؤسسة الخلافة ومغزى استعادتها في سياق النظام العالمي، لم يكن ثمة تحفظ في التوكيد على الخطر الذي كانت تمثله الدولة ولم تزل. وبالرغم من أن بعض الجماعات الإسلامية المسلحة رحبت بالإعلان، نظر أغلب علماء المسلمين، بمن في ذلك أصحاب المواقف السياسية المعارضة، وعموم المسلمين المهتمين بالشأن العام، إلى الأمر بقدر من الاستهجان، أحياناً، والتوجس، في أحيان أخرى.
خلال أيام قليلة من حزيران/يونيو الماضي، سيطرت الدولة الإسلامية بقوة السلاح على مساحات واسعة من العراق، بما في ذلك معظم محافظات نينوى، صلاح الدين، والأنبار، بعد أن كانت قد سيطرت على معظم محافظة دير الزور السورية. وفي استعراض لا يخلو من دلالات سياسية، أزال مقاتلو الدولة المحطات الحدودية الرسمية بين سوريا والعراق، المحطات التي جسدت خط الحدود الفاصل بين الدولتين منذ زهاء المئة عام. باعتبار مساحة الأرض، عدد المسلحين، تعداد السكان الذين يقطنون هذه المنطقة ومدنها الرئيسية، ومصدر الثروة المتمثل في آبار نفطية وثروات أخرى، تتمتع الدولة الجديدة بمقومات لا تتمتع بها كثير من دول العالم. ولكن دولة الخلافة الجديدة أسست لعداء مستحكم بينها وجوارها كله، وعليها أن تعيش حرباً مستمرة ضد قوات الحكومة العراقية ومن يقفون معها، ضد النظام السوري وأغلب القوى التي تقاتله، وضد إقليم كردستان (العراقي، حتى الآن)، وتركيا. بالرغم من حجم المظلمة التي تعرض لها سنة العراق، التي تضعهم بين خيارين لم يكن لهم من إرادة في اختيارهما: دولة المالكي ودولة البغدادي، والتصميم الذي يظهره مقاتلو الدولة في ساحات القتال، فليس من المتوقع أن تنجح الدولة الإسلامية في الحفاظ على مكتسباتها لزمن طويل. ولكن هذه ليست المسألة الآن. المسألة هي إعلان الخلافة.
حررت الزميلة مضاوي الرشيد ونشرت مع زميلين آخرين في العام الماضي كتاباً بعنوان «نزع الغموض عن الخلافة؛ Demystifying the Caliphate»، وكان لي شرف كتابة فصله الأول، المتعلق بواقعة إلغاء الخلافة في 3 آذار/مارس 1924، بقرار من المجلس الوطني الكبير، برلمان الجمهورية التركية الوليدة. يوفر الكتاب، من وجهة نظر دارسي التاريخ والسياسة والأنثروبولجي، جوانب متعددة لجدل المسلمين واختلافاتهم حول مسألة الخلافة خلال القرن الماضي.
وقد تعلق الفصل الذي ساهمت به بلحظة إلغاء الخلافة، التي ولدت كل ما جاء بعدها من جدل وخلافات واهتمام. ولأن ثمة رواية سائدة لتلك اللحظة، ارتكزت إلى كتابات علماء عثمانيين كبار، مثل آخر شيخ للإسلام، الشيخ مصطفى صبري، إضافة لكتاب وعلماء آخرين، لم يكن من السهل مقاربة المسألة بقدر كاف من الموضوعية. ولكن الحقيقة أن السردية السائدة، التي قالت أن مصطفى كمال كان لديه مخطط مسبق للقضاء على الخلافة وسلطة الإسلام السياسية، أو أن إلغاء الخلافة كان مؤامرة بريطانية، ماسونية، إلخ، أو أن القرار اتخذ من قبل رجالات الدولة الجمهورية الجديدة لاسترضاء القوى الغربية في مباحثات الصلح بلوزان، لم تستند إلى أدلة صلبة. ما ساعد هذه السردية على الانتشار والسيطرة على الثقافة الإسلامية لعقود طوال كان بلاشك الشعور الإسلامي العام بهول المفاجأة، بعظم القرار التركي بإلغاء المؤسسة التي عاشت قروناً، بالرغم من ضعفها وتهميشها، لتجسد وحدة الأمة ووجودها السياسي في الساحة العالمية. ولم يكن مدهشاً أن يكتب شوقي في سقوط الخلافة واحدة من قصائده الخالدة، التي صورت الحدث وكأنه لحظة لسقوط سقف العالم. «ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواحي،» قال شاعر العروبة والإسلام.
ثمة عوامل موضوعية بحتة دفعت الأوضاع إلى 3 آذار/مارس 1924، بدون أن تكون هناك مسودة أو مخطط لدى أي ممن لعبوا دوراً في ذلك القرار. أولها، كان تبني السلطان/ الخليفة منذ الاحتلال البريطاني المباشر والسافر لإسطنبول في آذار/مارس 1920، لسياسة مناهضة للقوى الوطنية التي بدأت قبل ذلك حرب الاستقلال في الأناضول، واعتقاده بأن سياسة المهادنة للبريطانيين ستحافظ على ما تبقى من ملك. وهذا، ما حول الأناضول خلال العامين التاليين إلى ساحة لحربين وليس حرباً واحدة وحسب: ما يشبه الحرب الأهلية بين القوات الموالية لحكومة الخليفة وقوات المقاومة الوطنية، وحرب بين القوات الوطنية وقوات الاحتلال الأجنبي، واليونانية منها بصورة خاصة. عندما حققت القوى الوطنية انتصارها الحاسم في خريف 1922، واضطرت القوى الغربية لدعوة حكومة المجلس الوطني في أنقرة لمؤتمر صلح جديد في لوزان، دعت القوى الغربية حكومة اسطنبول أيضاً للمؤتمر، في محاولة لصناعة ثنائية في التمثيل العثماني.
هنا اضطر المجلس الوطني لاتخاذ قرار بإلغاء السلطنة في مطلع تشرين ثاني/ نوفمبر ، وإعلان أنقرة ممثلاً وحيداً. ولأن القرار كان بإلغاء السلطنة، فقد تم اختيار عبد المجيد الثاني خليفة جديداً. ولكن لا عبد المجيد، ولا عموم مسلمي تركيا والعالم، اعتادوا فكرة وجود خليفة بلا سلطة، خليفة باعتباره رمزاً دينياً وحسب، سيما بعد إعلان الجمهورية في العام التالي. وهنا بدأ مسلسل أزمات العلاقة بين الجمهورية وحكومتها، من جهة، ومؤسسة الخلافة، من جهة أخرى.
خلال الستة عشر شهراً التالية استشعرت أنقرة أن الخليفة يحاول توكيد سلطته بما يتجاوز كونه خليفة وحسب، وبدأت وفود من العالم الإسلامي ترد اسطنبول لتوكيد موقع الخليفة الجديد في العالم الإسلامي. وسرعان ما دبت الخلافات بين قادة حرب الاستقلال أنفسهم، سيما بعد أن اتضحت ميول مصطفى كمال للتفرد بالحكم، وتزايدت المخاوف من بروز تحالف قوة جديد بين معارضي مصطفى كمال ومعسكره ومؤسسة الخلافة. ولكن هناك خلفية أخرى خيمت على وضع الخليفة الجديد طوال فترة توليه القصيرة. ففي حين نظر قادة الجمهورية الوليدة بواقعية إلى ميزان القوى المختل حولهم، واعتقدوا أن عليهم الاكتفاء بحدود الدولة التي حققوا استقلالها، أوحى وجود مؤسسة الخلافة بأن على الجمهورية أن تحمل أعباء إسلامية لا تستطيع، ولا يريد قادتها، حملها. في ظل الصعود الغربي الهائل بعد الحرب الأولى، تصور كمال ومعسكره أن عليهم إدارة الظهر كلية لمشاكل العالم الإسلامي، المحتل كلية تقريباً من القوى الإمبريالية، أو أن يخسروا ما تبقى لهم.
ما يعنيه هذا أن قرار إلغاء الخلافة كان صنيعة أخطاء وتحولات وموازين قوى، في سياق تاريخي قاهر، أكثر منه مؤامرة من أحد. وخلال السنوات التالية، لم تتوقف محاولات إحياء الخلافة، ولا كان عدد الطامحين في الموقع قليلاً. الشريف حسين أعلن خلافته بالفعل بعد أيام قليلة من صدور قرار أنقرة.
وما أن أطاح التسع السعودي بالأشراف في الحجاز، حتى بدأ الملك فؤاد محاولة أخرى. ولم يخف ملك أفغانستان رغبته في تولي المنصب المرموق. وحتى الثلاثينات من القرن الماضي، كانت هناك محاولة أخرى من الملك فاروق، وإن لم تأخذ صيغة رسمية. ولكن الزمان كان قد تغير، ليس فقط على صعيد ميزان القوى العالمي، ولكن أيضاً على الصعيد الإسلامي نفسه، الذي شهد صعوداً غير مسبوق للوعي القومي وللدولة القومية. اوليوم، كما الأمس القريب، لا يكفي لأن يعتقد أحدهم بصواب عملية إحياء الخلافة ليتمكن فعلاً من إحيائها.
٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
د. بشير موسى نافع
القدس العربي

 

داعش وداهش والصرخي بينهما/ صقر أبو فخر
يطوي المشرق العربي، في هذه الأيام، على ما تُنبئ به وقائع الأحوال العجيبة، مرحلة ما بعد النكبة الفلسطينية برمّتها، وها هو يتجه نحو حقبة غبارية سديمية، ربما بدأت غداة الاحتلال الأميركي للعراق في 9/4/2003، ولم تتضح معالمها تماماً بعدُ. وما نشاهده، اليوم، إنما هو اشتباك العجاج بالنقيع، في مشهد مروِّع، لم تألفه العين العربية قط؛ فقد عدنا إلى مفرداتٍ، مثل الخلافة والشريعة وأهل الذمّة والروافض والنواصب والجزية والطاعة وعقد الأمان ودار الحرب ودار الاسلام والشورى وأهل الحل والعقد والمبايعة، واندثرت من اللغة السياسية السائدة عبارات، مثل النهضة والتقدم والحداثة والتحرّر والديمقراطية والحريات الفردية والمواطَنة والمساواة والعدالة الاجتماعية والدستور وغيرها. ومثلما أن هناك شبه قانون لموت الحضارات، هناك، أيضاً، في الفيزياء مصطلح التآكل، وفي علم الأحياء مصطلح الشيخوخة، وفي الكيمياء مصطلح التحلّل، والفساد في علم الاجتماع، والانحطاط في التاريخ. أما في السياسة، فثمّة مصطلح “التشرنق”. وما يجري اليوم في العراق وسورية هو “التشرنق” بعينه، أي انتصار الماضي على الحاضر.
* * *
كان العالم العربي يحتمل، في طور محاولاته للصعود، شخصيات مثيرة مثل الدكتور داهش (اسمه الأصلي سليم العشي من القدس). وكان لا بد من كوميدياتٍ سودٍ أحياناً، من طراز محمود الصرخي ومقتدى الصدر. لكن، هل يحتمل، اليوم، وهو في طور انحطاطه وانحداره المتسارع، شخصية من عيار أبو بكر البغدادي؟ كان داهش شخصية درامية وانتحارية، ولديه قدرات إخفائيّة وإيهاميّة خارقة. إنه “هوديني” العرب الذي انتحرت من أجله الأديبة اللبنانية ماجدة حداد، في سنة 1945، ودخلت في طاعته أفواج من الكُتّاب والمثقفين. أما محمود الصرخي، فقد أبلغ إلى أتباعه الداخلين في طاعته أن الإمام المهدي ظهر أخيراً، وهو مقيم في منزله، لكن، لا يراه أحد غيره، فجاءت الجموع لتحتفل بالظهور. ثم أبلغ إليهم أن الامام المهدي خطب أخته، فهبّت الجموع، إياها، للمباركة، وكان بين هذه الجموع كثيرون مستعدون للانتحار، في سبيل العريس لو رغب في ذلك. وافتتح مقتدى الصدر ظهوره السياسي بقتل عبد المجيد الخوئي في 10/4/2003 بتسع عشرة طعنة خنجر، ولما استوى على الزعامة، وصار له أتباع مطيعون، منع استعمال الطاولات والكراسي ومكيفات الهواء في مكاتبه.
الآن، صار لدينا “بول بوت” عربي جديد في العراق، علاوة على دولة الخلافة وخليفة، وخلاف ذلك، مثل دولة للأكراد ودولة في جنوب السودان. لِمَ لا؟ لتكن دولة الخلافة إذاً! غير أن هذه الدولة لا قوام لها إلا تلك العشائر البدوية المهمّشة المنتشرة في الفيافي القاحلة بين دير الزور والأنبار. وهذه العشائر دخلت طاعة الخليفة أبو بكر البغدادي، وبايعته مثلما بايعت نوري المالكي، وقبله صدام حسين، وهي لم تبايع البغدادي إلا بعدما سيطرت “داعش” على المنطقة… إنها مهنة “الأرزقية” المعروفة في باديتي الشام والسماوة.
إن أَسوأ جار للمدينة هو البادية، حيث يسود فقه التغلّب. “وما الممالك إلا التغلّب والحكم بالقهر” (ابن خلدون). و”الولاية لا تتبع إلا الشوكة، ومَن اشتدّت وطأته، وجبت طاعته” (الغزالي). و”انتصارات داعش” التي نشهدها، اليوم، مؤقتة، بل أشنع من الهزائم. لكن، ثمة أمر إيجابي وحيد، في معمعان هذه المقتلة الجارية في العراق، هو أن فكرة الخلافة باتت مبتذلة ومرذولة ومرفوضة ومكروهة وكريهة، والداعون إليها صاروا مَعْيرة لكل كبير وصغير. والواضح، إلا لمَن له عينان ولا يرى، أو له أذنان ولا يسمع، أن ولاية الفقيه في العراق مستحيلة، والخلافة مستحيلة أيضاً، ومستحيلان لا يصنعان وطناً على الإطلاق. وبين الولاية والخلافة صار العراق (ومعه سورية وتوابعها) وليمة للثعالب.
* * *
قال داهش، يوماً، لأحد أصدقائه: “الناس تريد الهروب إلى الماضي، أو إلى العالم الآخر، والاتصال بالأرواح للخروج من كابوس الحياة. الصوت الذي يسمعونه من عالم الموتى هو صوتهم؛ صوت الموت الصادر من أعماقهم”. لقد انتهى داهش صورةً في متحف الداهشة في نيويورك. وانتهى بول بوت مريضاً طريداً في أدغال كمبوديا، بعدما طرد سكان المدن إلى الأرياف، وقتل أربعة ملايين كمبودي. وقُتل أبو مصعب الزرقاوي في فيافي العراق. وسينتهي إبراهيم البدري، أو بول بوت العربي، في حفرة رملية مقطّع الأوصال جراء غارة جوية، أو دامياً بطعنات كثيرة على غرار عبد المجيد الخوئي، أو معمر القذافي، أو في قعر اليمّ على منوال صاحبه أسامة بن لادن… لقد انقطع حيلنا.
العربي الجديد

 

شبح «القبرصة» يخيم على سوريا والعراق!/ هدى الحسيني
عندما اقتحمت «داعش» الموصل وأطلقت تهديداتها باحتلال بغداد، لـ«تصفية الحسابات»، أعادت وضع السنّة في بغداد إلى ما كان عليه من عام 2006 إلى 2007. عادت التهديدات بالقتل والرسائل تحت أبواب منازلهم تطلب منهم المغادرة أو الموت. قال أحد العراقيين السنّة لمحطة «إن بي سي»: «إنه تأثير الدومينو، تقتل (داعش) الشيعة هناك، فتقتل الميليشيات الشيعية السنّة في بغداد. السنّة هنا يعيشون في قلق مزمن. ما يجري الآن نسخة مما وقع عام 2006».
«داعش» في الموصل والشمال تسببت في تحويل السنّة إلى لاجئين. ليس هناك من شيعة كثر في تلك المنطقة. اعتمدت «داعش» على تدمير المقدسات للآخرين، وهذه استراتيجية لإبعاد السكان المحليين، وبمجرد أن يرى هؤلاء أن المؤسسات السنية والشيعية والصوفية القائمة والمسيحية قد تدمرت، سيزداد عدد الأعداء المحليين لـ«داعش».
كان أمرا لافتا أن يتعرض غرب العراق وشماله لتمرد شعبي من دون أن يعترف نوري المالكي بالأخطاء المذهبية التي اقترفتها حكومته، إلى درجة أن المحليين شعروا بأن «داعش»، رغم مساوئها، أفضل من حكومة المالكي. لكن هناك دلائل على أن الناس في المناطق بدأت تراودهم أفكار أخرى، إنما المهم ألا يكون المالكي يراهن على الوقت وعلى انقلاب سنّة المناطق على «داعش»، كي يعود إلى الممارسات المذهبية نفسها.
يجب ألا يقلل من فاعلية ما فعلته «داعش»، وفي الوقت نفسه يجب ألا نبالغ بأهمية وقع أفعالها. إنها مجموعة إرهابية، أقدم زعيمها وبطريقة عبثية على إقامة خلافته. لا أحد في القاهرة أو في الرياض أو في جاكرتا، حيث الكثافة والثقل السنيين، ينظر إلى هذه الخلافة بطريقة جدية، كما أن قلة تراهن على أن أبا بكر البغدادي سيبقى على المسرح لوقت طويل. هناك 10 ملايين دولار جائزة لرأسه، وأسلوب «داعش» بفرض السيطرة عبر القتل الجماعي سيرتد لاحقا عليها حتما.
حقق نجاحات لافتة في الأسابيع الأخيرة، وصار قوة يحكى عنها، إنما تعارضه روسيا، والسعودية وأميركا وإيران وأوروبا الغربية والحكومة السورية، ثم إن حلفاءه يشعرون بخجل التحالف معه. كل هذا يشير إلى أن كفته لن تبقى راجحة أو رابحة.
سرّع في ظهور «داعش»، إضافة إلى أساليبها الوحشية والإرهابية، «زواج الملاءمة» الذي عقده مع الذين مارست عليهم حكومة المالكي التعسف والظلم والتهميش. لكن مهما كانت مظالم الطرف الآخر في هذا «الزواج»، فإنه لا يشارك أهداف البغدادي. طالبان قبله أخذت أفغانستان وسيطرت على كابل وفيها مليونا إنسان، وأعلنت الإمارة الإسلامية، ونصّبت الملا عمر نفسه خليفة، ولم يبق شيء من ذلك.
قد يكون أبرز ما سرّعت به «غزوة داعش»، وإعلان البغدادي أنه ألغى حدود سايكس – بيكو، هو العودة إلى اقتراحات تخفف من حدة التوترات المذهبية في العراق. هناك أيضا شعور عام بأن المالكي يجب أن يغادر. هو راهن في كل الحالات على القضاء على أي دور وربما وجود للسنّة في العراق. حتى الأميركيون والإيرانيون الذين لديهم الكثير ليخسروه في العراق، يشتركون في القناعات بأن المالكي هو المسؤول. أميركا تريد حكومة شيعية بمشاركة نوعية من قبل السنّة والأكراد. إيران تريد حكومة شيعية تستطيع أن تحجم انتفاضة الأطراف الأخرى.
لكن على خلفية عدم الاستقرار المتزايد في العراق وسوريا أيضا، بدأ واضعو السياسات برسم الخطوط العريضة لمرحلة ما بعد سايكس – بيكو، وكثر الحديث عن ترتيبات سياسية جديدة تعكس التركيبة العرقية والدينية في المنطقة، وتتضمن إمكانية تقسيم العراق وسوريا إلى دويلات سنية، وشيعية وكردية. في واشنطن، وفي ظل معظم السيناريوهات التي تجري مناقشتها، هناك افتراض بأن الولايات المتحدة يجب أن تلعب دورا قياديا في التخطيط لبنية سياسية جديدة في الشرق الأوسط، وأنه ليس من خيار أمام الأميركيين سوى استخدام قوتهم العسكرية والدبلوماسية لتأمين أسس النظام الجديد. لكن إذا نظرنا إلى أرض الواقع في العراق وسوريا، نلاحظ عدم وجود دلائل على أن السنّة والشيعة الذين يقاتلون هناك أو اللاعبين الآخرين مثل الأكراد مع القوى الإقليمية الأخرى الداعمة، قد تعبوا وعلى استعداد لعقد صفقة في وقت قريب. بعض الأوساط في واشنطن تستعيد المفاوضات التي أدت إلى توقيع اتفاقية دايتون التي وضعت حدا لحرب البوسنة وصربيا، علها تكون مثلا لاتفاق بين السنّة والشيعة والأكراد في العراق وسوريا.
ديفيد إغناتيوس، الكاتب المخضرم في صحيفة «واشنطن بوست» والمقرب من البيت الأبيض، اقترح عقد مؤتمر شبيه بمؤتمر فيينا (بعد حروب نابليون اجتمع كبار أمراء وزعماء أوروبا لتحديد حدود أوروبا على قاعدة لا غالب ولا عقوبات. بدأ المؤتمر في سبتمبر/ أيلول، 1814 واستمر 100 يوم)، يجمع اللاعبين الأساسيين حول طاولة للبدء في تأطير هيكل أمني جديد للمنطقة، على أن يجلس حول الطاولة المملكة العربية السعودية، وإيران، وتنضم إليهما الولايات المتحدة والدول الأخرى الأعضاء في مجلس الأمن إضافة إلى تركيا ومصر.
المشكلة هي أن الأطراف المتصارعة تعتقد أنها قادرة على الحسم العسكري، وبعد ذلك تفكر في إتمام صفقة بين «غالب» و«مغلوب». يضاف إلى ذلك أن هناك الكثير من اللاعبين الإقليميين انجذبوا إلى هذه الصراعات بين الحكومات والإثنيات والمذاهب والعشائر، حيث التحالفات تستمر في التحول، كما أن أبا بكر البغدادي ليس ولن يكون نابليون بونابرت، ولا يبدو على السنّة أو الشيعة الاستعداد لتقديم أي تنازلات، ثم إن خطوط التماس بين مقاتليهم تتغير باستمرار، وليس واضحا ما إذا كانت واشنطن قلقة مما يحدث في العراق وسوريا. هي تتدخل عسكريا إذا ما تهدد الأردن.
الحروب المذهبية هذه أنتجت مشكلة كبرى وهي مشكلة اللاجئين، وهذا يدفعنا إلى التفكير في مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، لكن «وظلم ذوي القربى أشد مضاضة… على النفس من وقع الحسام المهند». وإذا كان الأميركيون والغرب والقوى الإقليمية يحاولون منذ أكثر من 60 عاما بحث أين يجب أن ترسم الحدود بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مع عدم وجود اتفاق حول حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، فمن المحتمل جدا أن تنهمك هذه القوى في السنوات الـ60 سنة في تجارب لا نهاية للبحث عن خطوط حدود للشيعة والسنّة والأكراد. أيضا إن محاولة تأطير الوضع القائم في دول مستقلة بدلا من تعديل حدود سايكس – بيكو، يمكن أن تشعل حروبا إقليمية كثيرة ومتعددة، تكلف كل المعنيين المباشرين وغير المباشرين الكثير من المال والأعتدة والأرواح.
في العشرين من هذا الشهر تأتي الذكرى الأربعون لعملية تقسيم قبرص. يتذكر لاكيس زافاليس، من شمال قبرص، أنه كان قائد كتيبة من عناصر الحرس الوطني، عندما تلقى أمرا بالانسحاب المؤقت من موقعه الأمامي (صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية – 6 من الشهر الحالي). كان ذلك قبل 40 عاما حيث بدأت تركيا عملية «اتيلا»، وهو الاسم الذي أعطته لغزوها قبرص. احتلت القوات التركية ثلث الجزيرة (قبرص التركية) حيث يوجد خمس السكان فقط. قبل ذلك الغزو كانت ميليشيات القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين تقوم بعمليات ذبح جماعي متبادل بين الطوائف ما بين عامي 1963 و1967 (مراجعة لما وقع في الموصل وقبلها تظهر خيوطا مشابهة لذلك الوضع).
لذلك يرى بعض المراقبين السياسيين أن الأفضل أن تسعى واشنطن، إذا استطاعت، لوقف إطلاق نار مؤقت يمكن أن يخدم كوسيلة للتعايش السلمي، على أن تراجع تجربة تقسيم جزيرة قبرص كمثال أفضل لما بعد سايكس – بيكو. لكن هذا يحتاج إلى قوات أممية تفصل بين المقاتلين وتثبت وقف إطلاق النار. بعد تسع سنوات من الغزو التركي عام 1974، أعلنت أنقرة الجزء الشمالي من الجزيرة «الجمهورية التركية لشمال قبرص». منذ ذلك الحين ما زال القبارصة اليونانيون يطالبون بكل الجزيرة، والقبارصة الأتراك باعتراف العالم. لكن، لمدة 40 سنة، توقفوا عن قتال بعضهم بعضا، والجزء اليوناني انضم إلى المجموعة الأوروبية، في حين أن الجزء التركي مزدهر اقتصاديا وسياحيا.
في حالة العراق، كما يقول أحد المراقبين، فإن الدولة الكردية صارت موجودة بالفعل، ويمكن للولايات المتحدة وتركيا المساعدة في تخفيف بعض المشاكل المتفجرة، كما يمكن لإيران المساهمة في تحقيق بعض الاستقرار في الدولتين الشيعية والعلوية في العراق وسوريا بدل التحريض، أما السعودية فإن دورها ضروري لحماية المناطق السنّية في كل من العراق وسوريا.
الواقع الذي فرضته هذه الأزمات وما انبثق عنها من بشاعات يعرقل إيجاد حلول نهائية، وقد تساعد أنصاف الحلول على كبت الأمراض المذهبية.
الشرق الأوسط
“داعش” اعترف بلبنان/ حـازم الأميـن
انتزع لبنان اعترافاً عزيزاً وثميناً به ككيان وكوطن من تنظيم “داعش”، فالأخير أطلق على عضو فيه، نفذ عملية انتحارية ضد هدف شيعي في بغداد، اسم “أبو حفص اللبناني”، وهو اللبناني مصطفى عبدالحي ابن منطقة المنكوبين في طرابلس. فأسامة بن لادن حين نعى اللبناني زياد الجراح، قال إنه جاء من “بلاد الشام”، وقال عن المصري محمد عطا أنه جاء من “أرض الكنانة”. لا أوطان ولا دول حديثة في وعي “القاعدة”.
“أبو حفص اللبناني”! قد لا يُسَر اللبنانيون بهذا الاسم، ذاك أنه من غير منظومة كلامهم وأسمائهم، لكن عليهم أن يُقدروا للتنظيم خطوته النادرة. فـ”أبو حفص اللبناني” تعني أن هناك لبنان في مكان ما من وعي التنظيم الارهابي، وهو وإنْ وظف التسمية في فعل دموي وإجرامي، إلا أنه أعطى للتاريخ الحديث حقه. فمصطفى عبدالحي ولد لبنانياً وعاش لبنانياً ونفذ العمل الانتحاري ضد هدف شيعي في العراق بدوافع من المرجح أن تكون لبنانية. واللبنانية هنا ليست مواطنة ايجابية على ما تَرد العبارة في سياقات أخرى، إنما اللبنانية المشحونة بزمن الاحتقان والتخلف والاحتراب.
فلنتخيل معاً لبنانية مصطفى عبدالحي. يجب أن لا نهرب من حقيقة أن في بلدنا مصنعَ عنفٍ من غير المستبعد أن يُنتج انتحاريين في “داعش”. فالشاب ابن حي المنكوبين شمال شرقي مدينة طرابلس. الحي الذي أنتج حتى الآن ثلاثة انتحاريين، إثنان منهم شقيقان، وثالثهم هو “أبو مصعب اللبناني”، علماً أن الأخير غادر أيضاً الى “الجهاد” برفقة شقيقه. نعم “الجهاد” هناك في المنكوبين عائلات وأنساب، وليس سلفية فردية على ما هي حال السلفيين الجهاديين. القابلية لـ”الجهاد” أصابت عائلات وتحولت إلى عدوى جيلية.
نفي لبنانية “المجاهدين” لا يفيد. يجب أن نكون واقعيين، وأن نحذو حذو “داعش” في الاعتراف ببضاعتنا الوطنية، وأن نذهب بعدها في البحث عن إجابة عن السؤال: لماذا ذهب أبناؤنا إلى “الجهاد”؟
يجب أن نعترف أن “داعش” قارب وجدانات فتية وشبان. فالحرب هناك في العراق طائفية على نحو ما هي الحرب عندنا طائفية. هناك سنة يُقاتلون مع “داعش” وشيعة يقاتلون مع المالكي، فلماذا ننجو نحن من هذا الانقسام؟ ما الذي يُحصننا منه؟ في طرابلس كثيرون من فتية الأحياء الفقيرة استبدلوا بروفايلاتهم على “فايسبوك” بصور “الخليفة العراقي”، وأعلام “داعش” ظهرت في بعض الأزقة. واللبنانيون هناك لا يعيشون في جزيرة، فالبغدادي أشعل حماسة يجب عدم التغاضي عن أسبابها.
“هاجر” عشرات من فتية حي المنكوبين إلى “الجهاد”، قُتل منهم أكثر من عشرة! سألت شيخاً طرابلسياً معتدلاً هذا السؤال فكان جوابه “طائفياً”، إذ قال لي إنهم يذهبون للقتال في سورية والعراق للأسباب نفسها التي ذهب بسببها شبان شيعة للقتال إلى جانب “حزب الله” في سورية!
الإجابة ليست دقيقة طبعاً، ذاك أن “حزب الله” ماكينة تجنيد متينة، وليست الحماسة ما يدفع مقاتليه للذهاب الى سورية، بل الوظيفة، في حين لا ماكينة تجنيد مركزية تدفع بفتية المنكوبين إلى “داعش”.
ربما أفادت ملاحظة حازم صاغية في تفسير بعض أسباب “الجهاد” في الخارج لدى جماعتيه اللبنانيتين. فقد ذهب للقتال في سورية شبان من الشمال ومن الجنوب ومن البقاع، أي من المحافظات التي ألحقت بلبنان الكبير… وعن هذا قال لي صديق مسيحي: “رحم الله البطريرك الحويك”.
موقع لبنان ناو
دولة «داعش».. تيه المفاهيم وانحرافات التاريخ/ جراهام إي. فولر
يمثل الصعود المفاجئ الذي حققه تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) خلال الأسابيع القليلة الماضية، وإعلانه إقامة «الخلافة الإسلامية» في مناطق سيطرته، الممتدة من شمال غرب العراق إلى شمال شرق سوريا، نقطة تحول استراتيجية في مسيرة المقاتلين الجهاديين، ومعهم أيديولوجيتهم الراديكالية الساعية إلى توسيع نفوذها في الشرق الأوسط. وإذا كان هذا التقدم لا يعدو من الناحية السياسية كونه ظاهرة مؤقتة من غير المرجح أن تستمر طويلا، فإن مجرد إعلان دولة «الخلافة» يؤسس لمواجهة أيديولوجية جديدة في المنطقة. ذلك أن خطر «الخلافة» وتهديدها كان حاضراً بقوة في خطاب جورج بوش الناري وتبريراً أساسياً لحربه الكونية على الإرهاب التي امتدت طيلة عقد من الزمن. لكن إلى أي مدى يتعين علينا الخوف من مفهوم الخلافة؟
هنا لابد من الرجوع إلى التاريخ وتسليط الضوء على بعض التفاصيل. فمنصب الخليفة أو أمير المؤمنين، يعود إلى فترة ما بعد وفاة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، حيث كانت الدولة الإسلامية الفتية في حاجة إلى من يقودها سياسياً وروحياً، ومنذ تلك الفترة ومنصب الخليفة حاضر في حياة المسلمين، لاسيما بوصفه لقباً روحياً يسهم في إضفاء الشرعية على القادة الذين آل إليهم الحكم أو انتزعوه انتزاعاً، حتى وإن كانوا يحكمون وفق منطق علماني برداء ديني.
وبالنسبة للغربيين، فهناك مفهوم قريب، وإن كان مختلفاً، يتمثل في البابوية. فقد كان البابا يتمتع بسلطة دنيوية واسعة في أوروبا، وكثيراً ما استغلها أسوأ استغلال. لكن، وبصرف النظر عن فساد الشخص الذي يتولى البابوية وسوء إدارته، فقد ظل ذلك المنصب في إطلاقه يحظى باحترام وتقدير كبيرين باعتباره رمزاً للغرب المسيحي. والأمر نفسه تقريباً ينطبق على «الخليفة» في العالم الإسلامي، الذي ظل على الدوام يحيل إلى نموذج مثالي من الحكم يتطلع له جمهور المسلمين، من غير أن يستطيعوا تجسيده واقعاً على الأرض، باعتباره رمزاً لوحدة الأمة الإسلامية، وأيضاً للحكم الرشيد. هذا التطلع إلى المثال سياسياً وروحياً في إطار ثقافي إسلامي ما زال يغري، حتى الآن، العديد من المسلمين، وإن كانوا يعترفون بأنه نموذج غير واقعي ولا يوجد سوى في عالم المثل البعيد. لذا فعندما أقدم الزعيم التركي، مصطفى كمال أتاتورك في عام 1923 على تأسيس الدولة التركية المعاصرة على أنقاض الخلافة العثمانية التي ألغاها بعدما استمرت لحوالي سبعة قرون، صُدم العالم الإسلامي. فالمنصب ظل، رغم مشاكله، موجوداً لمئات السنين في إسطنبول، وكأن رئيس الوزراء الإيطالي استيقظ ذات صباح فقرر إلغاء البابوية بوصفها مفهوماً عتيقاً ومؤسسة مثيرة للجدل! فكيف ستكون ردة فعل الكاثوليك حول العالم؟ الحقيقة أن البابوية ليست ملكاً لإيطاليا حتى تغليها، ولا كانت الخلافة ملكاً لتركيا حتى تطمسها، لذا يشعر العديد من المسلمين بالحنين لقوة ورمزية المنصب الذي في غيابه ظل الإسلام والأمة من دون سلطة تتحدث باسميهما.
لكن أغلب المسلمين لن يقبلوا على الأرجح انبعاث المنصب من جديد في حياتهم المعاصرة، فأين وكيف ومن سيختار وبأي صلاحيات وبأي مكانة دولية يمكن تأسيس الخلافة؟ فهذه الأسئلة تصعب الإجابة عنها، ومع ذلك ما زال المفهوم يستحضر في أذهان المسلمين فترة من الازدهار والقوة عرفها التاريخ الإسلامي.
وفيما يحافظ الكاثوليك على البابا كرمز للماضي والوحدة الدينية، خسر المسلمون من جهتهم المؤسسة المركزية التي تستطيع التحدث باسم الإسلام، حتى في إطاره السني، وتذود عن حياض المسلمين في العالم. ورغم الحضور المتواصل للفقهاء ودورهم المؤثر في حياة المسلمين، إلا أن العديد منهم ينظر إلى غياب سلطة موحدة باعتباره مصدراً للضعف ولافتقاد رؤية إسلامية موحدة تقود الأمة.
وفي حقبة غزا فيها الغرب عدداً من بلاد الإسلام، وأطاح بقياداتها، واستولى على مواردها الاقتصادية والطاقية، يظل الشعور بالضعف وغياب القيادة في العالم الإسلامي انشغالا حقيقياً وملموساً لدى كثير من المسلين. لذا فعندما تُستخدم عبارة «الخليفة»، فإنها تمس وتراً تاريخياً حساساً، حتى وهم ليسوا مهتمين بإعادة المنصب من جديد.
وفي وقت تعرضت فيه أفغانستان والعراق لاحتلال أميركي، ودمرت أجزاء واسعة منهما بسبب النيران الأميركية، وتبقى سوريا في مرمى النيران الغربية في ظل الحرب الأهلية الجارية بتحريض خارجي.. تجد المشاعر والأفكار الراديكالية لها أرضاً خصبة في العالم الإسلامي. لذا ليس غريباً أن نسمع اليوم دعوات تطالب بتوحيد الأمة الإسلامية وجمع شتاتها.
لكن الحقيقة تظل أن الرؤية التي يبني عليها هؤلاء المتشددون نظرتهم للعالم الإسلامي غير مقبولة ومستهجنة من غالبية المسلمين، وإن كان ما شهده العالم الإسلامي على مدى العقد الأخير من دمار وعنف يبرر في جزء منه ردود الفعل المبالغ فيها التي تتخذ من الرجوع إلى الخلافة، وتبني أفكار راديكالية تجسيداً واضحاً لها. وهنا لا يمكن اعتبار ما تدعو إليه «داعش» على أنه يمثل الوجه الحقيقي للخلافة الإسلامية التاريخية، مثلما أن محاكم التفتيش الإسبانية، أو إبادة سكان أميركا اللاتينية على أيدي المستعمرين الإسبان لا تعبر عن البابوية.
وإذا كانت دولة «الخلافة» التي أعلنتها «داعش» لن تدوم طويلا، فإنها ترمز في العمق لمدى التيه والانحراف الذي جرف المفهوم بعيداً عن مدلولاته التاريخية. ومع أن أغلب المسلمين سيرفضون نسخة «داعش» من الخلافة التي أقامتها بملامحها القاسية وغير المتسامحة، إلا أن الأوقات العصيبة في حياة الأمم والشعوب تنتج ردود فعل راديكالية، لذا سيستمر بحث المسلمين عن طريقة لتجاوز تركة الاستعمار وحدوده المصطنعة والتطلع لانسجام سياسي واقتصادي وثقافي وديني أكبر، وهو على الأقل ما يفترض أن تمثله الخلافة الحقيقية بالنسبة لعموم المسلمين.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»
الاتحاد

 

سوريا وخطأ دعم التنظيمات الإسلامية/ عبد الرحمن الراشد
الاعتقاد بوجود تنظيم إسلامي عسكري صديق وآخر شرير محض خرافة، فكل التنظيمات الإسلامية التي نراها اليوم على الساحة من أفغانستان إلى الجزائر ونيجيريا، تكفيرية وعدوانية، ترفع رايات الإسلام، وتشابه غوغاء المنشقين من المسلمين في فجر الإسلام، والذين اصطلح على تسميتهم بالخوارج. والتاريخ مليء بروايات مروعة عنهم وعن جرائمهم وقد قاتلهم الخلفاء عثمان وعلي ومعاوية.
وتأكيدا على خطأ الوثوق بحملة الرايات الدينية، الجبهة الإسلامية السورية، وهي الجماعة التي قدمت للسوريين على أنها تنظيم معتدل، وأن هدف تأسيسها مواجهة مد التنظيمات المتطرفة مثل داعش. ومع مرور الوقت تظهر الجبهة الإسلامية مثل داعش، ترفض المواطنة وتؤمن فقط بالرابطة الدينية، وتعتبر أن واجبها نشر الدعوة بين مسلمي سوريا، كما لو كانوا كفارا!
والغريب أن أطرافا عربية وغربية صدقت حكاية أن اختراع تنظيم إسلامي بديل لتنظيم البغدادي وجماعة الجولاني، وغيرهما من الحركات المتطرفة، سينظف الثورة السورية من التكفيريين والإرهابيين. هذه الجماعات الدينية التي تزعم أنها وسطية، ومعتدلة، وبديلة، لم تثبت صدق ما زعمته ولا مرة واحدة! الذي يحدث أنها تلعب دور الجسر الرابط بين الاعتدال والتطرف. فهي تتسلل باسم الاعتدال وتحول الفرد الذي يؤمن بالتعايش ومدنية الدولة، إلى التكفيرية، ليرفض مواطني بلده من ليسوا على دينه أو طائفته أو لا يلتزمون بتشدده!
أنا لا أقول: إنه لا يوجد معتدلون، بل لا توجد تنظيمات عسكرية معتدلة، لأن حمل السلاح والاستعداد للتضحية بالنفس غالبا مرتبط بالفكر الديني المتطرف. ومن هنا كان مشروع الجبهة الإسلامية السورية فكرة ساذجة، أو شريرة، نجحت في تقوية الجماعات التكفيرية الأخرى مثل داعش، وأضعفت القوى المدنية الوطنية مثل الجيش الحر. من روج لفكرة ضم الجماعات الإسلامية في الحرب هم من قاموا بهدم فكرة التغيير في سوريا، التي كانت تقوم على الخلاص من نظام أمني فاشي يتحكم في تفاصيل حياة الإنسان السوري، وإحلال نظام مدني يتسع للجميع، وينهي معاناة الشعب السوري.
تكرر في سوريا بتبني الجبهة الإسلامية وجبهة النصرة، ما حدث في أفغانستان من قبل، بالاستعانة بالجماعات الجهادية للتخلص من الشيوعيين. عمليا، استولد نظام مشابه، بل أكثر إيذاء وخطورة، لأنه يستعير إيمان المسلم وتاريخه، لإقامة نظام يرفض الآخرين، يقوده متطرفون طموحون للحكم يستبيحون الدماء والأعراض ويكفرون المسلمين الآخرين، وهم من حذر الإسلام نفسه منهم. ولاحقا انتقل مقاتلو العشرات من الألوية والكتائب السورية إلى صفوف داعش، معجبين بنجاحاتها، وشراستها، لتذهب أموال وجهود الذين اخترعوا ودعموا الجماعات الإسلامية «المعتدلة» تماما ضد الهدف الذي خططوا له! يقول لي أحدهم إن تنظيما مثل الجبهة الإسلامية السورية اخترع لمقاتلة جيش الدولة الإسلامية في العراق والشام، أي داعش! وبالفعل تم التخلص من مئات المتطرفين في مطلع هذا العام، لكن انظروا ما حدث لاحقا؟ تمكنت داعش بفضل نجاحاتها وبشاعة أفعالها من اجتذاب عشرات الآلاف من الشباب المبهورين والمغسولة أدمغتهم. النتيجة تم التخلص من بضع مئات الداعشيين وتم تعويضهم بآلاف آخرين!
وهذا يعيد الجميع إلى الطريق الأول، إلى دعم المعارضة الوطنية التي تمثل كل السوريين، ومساعدتها على تشكيل قوى تمثل كل فئات المجتمع السوري، وفي المنافي الخارجية آلاف المنشقين والمجندين السابقين، والشباب الراغب في إنهاء مأساة بلده. من دون بناء جيش مدني يؤمن بوطنه، والقيم الوطنية، التي لا تتعارض قط مع قيم دينه، فإن سوريا ستظل أرضا محروقة، ومرتعا للإرهابيين الذين لا يعتبرون النظام عدوهم، بل يعتبرون المجتمع كله كافرا يجب تخليصه وتطهيره أو مقاتلته!
قد لا يكون المقاتل السوري في الجيش الحر يماثل منافسه في داعش أو جبهة النصرة، انتحاريا يقاتل بشراسة، وهذا لا يقلل من قيمته أو إخلاصه. قد يرفض تفخيخ نفسه في سيارة وتفجيرها في صفوف العدو، لأنه يريد الحياة، وهذه تحسب له، فجيوش العالم تقاتل بشجاعة وليس بالضرورة بلا رحمة. يمكن للجيش الحر أن ينتصر بالتقنية الحديثة، وتقليل سفك الدماء، مستعينا بتأييد غالبية السوريين له، خاصة بعد أن روعتهم بشاعات جرائم قوات النظام، ومقاتلي داعش، ومثيلاتها من التنظيمات التكفيرية.
أعدموا فكرة الجيش الوطني الذي يمثل كل السوريين وطموحاتهم بدولة تتسع للجميع.
اعلاميّ ومثقّف سعوديّ، رئيس تحرير سابق لصحيفة “الشّرق الأوسط” ومدير عام قناة العربيّة
الشرق الأوسط

 

مرحلة صعبة للطموحات الإيرانية النووية والإقليمية/ راغدة درغام
المرحلة الراهنة غير مريحة للجمهورية الإسلامية الإيرانية: المفاوضات النووية مع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا تتعثر وقد لا يتم الاتفاق المنشود بحلول 20 الشهر الجاري. أحداث العراق ستزيد من إضعاف إيران إذا قامت الانتفاضة السنية على رئيس الحكومة نوري المالكي بالانقضاض على «داعش» بالتنسيق مع الولايات المتحدة كما سبق وفعلت في «الصحوات». التطورات في غزة فتحت نافذة ايرانية على الصواريخ التي تستخدمها «حماس» في معركتها مع إسرائيل التي تستخدم الطائرات بلا طيار drones، وذلك لأن إسرائيل تتهم إيران بتوفير تلك الصواريخ إلى «حماس» وتحرّض أعضاء الكونغرس الأميركي ضدها. حليف إيران الرئيسي «حزب الله» يقع تحت ضغوط جديدة لمحاصرته مالياً أميركياً وخليجياً، وهو ميدانياً محاصر نسبياً في سورية ولبنان بعدما تغيّرت معالم المعابر والحدود. وفي سورية، حيث تستثمر إيران كل قواها للحفاظ على الرئيس بشار الأسد، تبرز بوادر سياسات أميركية غير تلك التي اعتادتها إدارة أوباما نحو المعارضة السورية كما نحو سياساتها المعهودة نحو سورية.
بالنسبة للمفاوضات النووية التي تجري في فيينا ووصلت إلى مرحلة حاسمة، هناك فارقان مهمان بين المواقف الأميركية والإيرانية هما: أولاً، إصرار إيران على امتلاك القدرة النووية التي تمكّنها من امتلاك السلاح النووي في غضون شهور مقابل عجز الرئيس باراك أوباما عن التوجه إلى الكونغرس والشعب الأميركي طالباً الموافقة على صفقة تجعل من إيران قوة نووية شرعية. وثانياًَ، تريد إيران رفع العقوبات بموجب الاتفاق فيما أوباما ليس قادراً سوى على التنازل عن تطبيق بعض العقوبات المفروضة على إيران بموجب قرار رئاسي.
الدكتور غاري سايمور المستشار السابق للرئيس أوباما في شأن أسلحة الدمار الشامل قال في لقاء هاتفي نظمه «مشروع كلاريون» مع ديبلوماسيين وصحافيين: «إن الطرفين مقيّدان بالسياسات الداخلية، الرئيس أوباما لا يستطيع ان يبيع صفقة نووية إلى الكونغرس تسمح لإيران بامتلاك الخيار النووي الجدي، والرئيس (حسن) روحاني لا يستطيع أن يبيع المرشد خامنئي صفقة نووية تشترط تخلي إيران عن خيار السلاح النووي».
سايمور واضح في معارضته امتلاك إيران السلاح النووي، وهو رئيس رابطة «متحدون ضد إيران نووية» وحالياً في «مدرسة كينيدي الديبلوماسية» في جامعة هارفارد. رأيه انه حتى في حال استحالة التوصل الى صفقة، سيتم تمديد وتجديد الاتفاق المرحلي الحالي لستة أشهر إضافية، لأن ذلك يخدم الطرفين: إيران تتلقى المزيد من رفع العقوبات التدريجية من دون أن تتخلى عن برنامجها النووي. والولايات المتحدة (وحلفاؤها) تمضي في نجاحها بتجميد أهم عناصر البرنامج النووي الإيراني.
رأيه أن إيران «لن تقدم أي تنازلات حيوية» في المفاوضات النووية إلى حين وضوح العلاقة الأميركية– الروسية على ضوء التطورات الأوكرانية. طهران، حسب سايمور، ترى أن الخلافات العلنية بين الولايات المتحدة وروسيا تضعف إجماع 5+1 (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا، وألمانيا) على تنازلات تطالبها بها، فكسر الإجماع ووحدة صفوف 5+1 هو مطلب إيراني.
رأيه أيضاً أن المرشد خامنئي أدرك جدية الخيار العسكري الأميركي ولذلك قرر المهادنة وأوكل إلى الرئيس روحاني ملف المفاوضات النووية من دون غيرها من الملفات العالقة مع الولايات المتحدة. لذلك سيستمر في المفاوضات، لأنها تفيده، أقله في تحويل إيران بعيداً من الكارثة الاقتصادية، علماً بأن رفع العقوبات ساعد في استقرار إيران نسبياً، من دون أن تتخلى عن طموحاتها النووية.
ما لم تنجح فيه الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو إقناع الشركات الكبرى العالمية أن تنخرط معها قبل نضوج الصفقة النووية. الولايات المتحدة فرضت مجموعة عقوبات على إيران بموجب 6 قوانين بعضها له علاقة بالناحية النووية وبعضها يتعلق بالدعم الإيراني لـ «حزب الله» و «حماس» وانتهاكات حقوق الإنسان داخل إيران.
ليس واضحاً كيف ستقوم إدارة أوباما بتسريح العقد المتراكمة في تلك القوانين والتمييز بين الواحدة والأخرى. الواضح أن أقسى العقوبات التي تريد طهران التخلص منها هي تلك التي تمنع الشركات الأجنبية (غير الأميركية) من التعامل مع إيران، وإلا فالشركات نفسها ستُعاقَب بمقاطعة أميركية لها.
الضرر الأكبر للاقتصاد الإيراني ينتج عن القوات والجهود الأميركية التي تقيّد الصادرات النفطية الإيرانية وقدرة إيران على الحصول على العملة الصعبة لأنها تخضع لعقوبات تمنعها من الحصول على أموال النفط.
إيران تريد رفع العقوبات كلياً عنها عند التوصل إلى الصفقة النووية. وهذا ما لن تحصل عليه، وفق سايمور وغيره من الخبراء. ذلك أن إيران تطالب الولايات المتحدة بسحب أو إلغاء العقوبات بموجب قانون جديد، وهذا يتطلب موافقة الكونغرس على إصدار قانون جديد يلغي القوانين القديمة بما فيها «قانون داماتو» الذي يربط بين العقوبات على الشركات الأجنبية وبين السياسة الخارجية الإيرانية وبالذات نحو «حزب الله» و «حماس».
أفضل ما يمكن الرئيس أوباما أن يقدمه، يقول سايمور، هو أن يمارس صلاحيته للتنازل عن تطبيق العقوبات ذات العلاقة بالناحية النووية فقط كل 6 أشهر، وذلك بإرساله قراره بممارسة صلاحيته للتنازل عن تطبيق العقوبات. نظرياً، يمكن الكونغرس أن يتحدى تلك الصلاحية إذا حصل على دعم ثلثي أعضائه.
إذن، هناك معضلتان أساسيتان في المفاوضات النووية، وهي في الواقع أميركية إيرانية، هما: أولاً أن ايران تريد صفقة تعطيها القدرة الشرعية لأن تصبح دولة نووية في غضون شهور، وهذا ما لا توافق عليه الولايات المتحدة ولا يستطيع باراك أوباما تسويقه مع الكونغرس وحتى الرأي العام الذي يدعمه في تهادنيته مع إيران. وثانياً، أن حكومة إيران تريد من إدارة أوباما ما لا يستطيع الرئيس الأميركي تقديمه مهما رغب في ذلك.
عراقياً، حاولت طهران تسويق نفسها على أنها الشريك الطبيعي لواشنطن في سحق «داعش» ومكافحة «الإرهاب السنّي» في العراق. في البدء تمكنت من حشد الدعم وراء تلك الشراكة خاصة إعلامياً. إنما ما لبث أن توضح لواشنطن أن الشريك الأفضل لها في سحق «داعش» هو سنّة العراق.
ارتأت واشنطن أن قنواتها مفتوحة على سنّة العراق الذين ساعدوا الجنرال ديفيد بترايوس في عملية «الصحوات» لإلحاق الهزيمة بـ «القاعدة» في العراق، فهم خامة معروفة لدى واشنطن.
فإذا تمكن سنّة العراق من إزالة «داعش» وإقامة حكومتهم البديلة من «الإمارة» و «الخلافة» في الموصل، فذلك سيمكّن واشنطن من العمل مع «الصحوات» ومع السعودية والأردن أيضاً للتوصل إلى صفقة بين الموصل وبغداد لتقاسم الحكم. وهذا، بالتأكيد، سيضّر كثيراً بإيران لأنه سينطوي على إضعاف نفوذها ومشروعها وعلى مغادرة نوري المالكي رئاسة الحكومة.
واشنطن تدرك اليوم أن سياساتها في سورية فشلت، وأنها تجاهلت لسنوات عنصر الاعتدال السني المعارض في سورية، ولذلك هي تعيد النظر. تعيد النظر أيضاً في علاقتها بالمعارضة السورية من زاوية موازين القوى ميدانياً. وهناك مؤشرات على اقتناع واشنطن بأنه ليس في مصلحتها التكاتف مع النظام في دمشق ومع «الحرس الثوري» الإيراني في مكافحة «الإرهاب السني» أو الإرهاب السلفي، فواشنطن تدرس الآن مصالحها وضرورة سحقها الإرهاب الذي ينمو في سورية قبل أن يصل ديارها. وهي ترى أن ذلك قد يتطلب شراكة مع السُنَّة الأكثرية في سورية وليس مع الأقلية العلوية، وفق المصادر.
ثم هناك الحدث الفلسطيني– الإسرائيلي، حيث تستغل إسرائيل الصواريخ التي مصدرها إيران والتي تطلقها «حماس». ويأتي ذلك في خضم المفاوضات النووية التي يريد الرئيس أوباما لها أن تتوّج بصفقة لا يعرقلها الكونغرس الذي يعلن بمعظمه أن إسرائيل أولوية له كحليف لا مثيل له في الشرق الأوسط.
اذن، إنها مرحلة صعبة للطموحات الإيرانية، النووية منها والإقليمية والثنائية على الصعيد الأميركي– الإيراني، إنما هذا لا يعني نهاية العلاقة التهادنية بين واشنطن وطهران، ولا يعني إطلاقاً تخلي باراك أوباما عن هدف تسجيل التاريخ له صفقة مع إيران.
الأرجح أن تستمر المفاوضات النووية في حال عدم تتويجها باتفاق نهائي نهاية الأسبوع المقبل. والأرجح أن يفضّل جميع اللاعبين استمرار الوضع الراهن بما ينطوي عليه من تجميد القدرات النووية الإيرانية بما يرضي الغرب، وتخفيف العقوبات تدريجياً بما يفيد إيران.
فإدارة أوباما وحكومة روحاني لا تريدان قطع التواصل الثنائي الذي حدث علناً لأول مرة منذ عقود، وكان ذلك التحول بموافقة المرشد خامنئي.
وللتأكيد، كل هذا لا يعني أبداً استحالة التوصل إلى اتفاق نووي بحلول 20 الشهر الجاري، فالمفاوضات مستمرة، والأطراف المعنية عازمة على إنجاحها، كل لأسبابه.
أما ناحية المباركة الأميركية للطموحات الإيرانية الإقليمية، فإنها -ظاهرياً وربما اضطراراً– تمر في مرحلة إعادة النظر بسبب الظروف التي فُرضَت ميدانياً.
أميركياً، ليس في وسع الرئيس أوباما أن يحجب التطورات الميدانية عن الكونغرس، وهو غير قادر على ضمان ألاّ تؤدي سياساته إلى عودة الإرهاب إلى عقر الدار الأميركي. ولذلك هو يتحسب، فآخر ما يريده لسيرته وتركته التاريخية أن يُقال إنه أعاد الإرهاب إلى المدن الأميركية نتيجة انزوائه وتنصله من الحروب، فيما كان سلفه جورج دبليو بوش أعلن أن حروبه في أفغانستان والعراق حققت هدف تحويل المعارك على الإرهاب بعيداً من المدن الأميركية.
الحياة

 

مواقف إيران تعكس مأزقها في العراق أي ثمن تعرضه طهران للتعاون مع الخليج؟/ روزانا بومنصف
أعاد رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام في ايران الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني قبل يومين تكرار ما سبقه اليه مسؤولون ايرانيون لجهة الاعلان ان بلاده مستعدة للتعاون مع الولايات المتحدة بشأن أزمة العراق معتبراً ان هناك قضايا مشتركة للبلدين في العراق ولا يوجد مانع امام تعاونهما لو رأى البلدان ضرورة التعاون فيمكنهما ان يخططا لذلك. وفيما امتنع المسؤولون الايرانيون عن اعلان موقف صريح مماثل في ما يتعلق بدول الخليج العربي المؤثرة أيضاً في العراق، توجه معاون وزير الخارجية الايراني للشؤون العربية والافريقية حسين امير عبد اللهيان الى كل من عمان والامارات العربية والكويت حيث اعلن ان امن العراق هو من أمن الدول الخليجية، وحض دول المنطقة على تعاون جماعي من اجل مساعدة العراق على مواجهة الارهاب كما قال أملاً على الارجح ان تتوسط هذه الدول مع المملكة العربية السعودية من اجل الحصول على تعاونها أيضاً في هذا الاطار، في ظل توتر ايراني سعودي لا يسمح بزيارة مماثلة الى الرياض أيضاً خصوصا بعد اتهامات ايرانية للمملكة بانها تقف وراء هذا التنظيم.
تعبر هذه المواقف وفق مصادر سياسية متابعة عن مأزق متواصل لايران في العراق لم تساهم الاجراءات العسكرية ولا المسار السياسي الذي تجري المشاورات في شأنه في البرلمان العراقي من اجل تعيين او تكليف شخصيات عراقية الرئاسات الثلاث كما المشاورات خارج البرلمان مع القوى السياسية في التخفيف من وطأته. فطهران عمليا لا تستطيع في ضوء التطورات الاخيرة التي تمثلت في اعلان الاكراد نيتهم في تنظيم استفتاء حول الاستقلال الذاتي والانتفاضة السنية على حكم نوري المالكي الى جانب اعلان نشوء دولة ” خلافة اسلامية ” في مناطق في العراق ادارة المسرح العراقي وحدها لاعتبارات متعددة، يتصل غالبيتها بالطابع المذهبي لتدخلها الى جانب الشيعة في العراق ودعم سلطتهم المطلقة. ولا يزال الارباك متمكناً من مواقفها اذ سبق لمرشد الجمهورية الاسلامية علي خامنئي ان اعلن قبل اسبوعين معارضة بلاده بشدة تدخل اميركا او اي دولة اخرى في شؤون العراق، واتهم واشنطن بانها تريد وضع العراق تحت سيطرتها وزرع عملائها في السلطة كما اتهمها واتهم دولا عربية من دول الخليج بدعم تنظيم داعش فيما لا تزال توجه دعوات لمشاركتها او للتعاون في العراق وان تحت شروط ايران. وهذه المواقف تعد رسالة ايرانية جديدة او غير معهودة وتعبر عن مقاربة محدثة نسبياً، خصوصاً ان ايران قررت التوجه نحو الدول المجاورة وكأنها وعت ضرورة عدم حصر رغبتها في التعاون في الموضوع العراقي مع الولايات المتحدة وحدها كما بدا في وقت سابق، حيث كانت تختصر ما يجري في العراق بالقدرة على ايجاد حل بينها وبين واشنطن فحسب من دون ان تعير الدول المجاورة اي قيمة على ان يكون للعاصمة الاميركية التأثير على حلفائها من دول الخليج، علما ان عامل اللاثقة ليس قليلا في العلاقات بين ايران ودول الخليج العربي، فيما واشنطن ستكون في وضع صعب مع حلفائها في المنطقة اذا قررت الذهاب الى تعاون مع ايران في العراق تستبعد فيه اي مشاركة فعلية او على الاقل غير مباشرة لدول الخليج.
تقول مصادر معنية ان ما تبحث عنه طهران هو التعاون وفق ما هو معلن، ويبدو انها تحرص على تبديد الانطباع عن استدراج شراكة في النفوذ في الموضوع العراقي بل الحديث هو عن تعاون في موضوع محدد هو مواجهة الارهاب كما تقول. واستعداد طهران للتعاون مع الولايات المتحدة امر يدرجه المتابعون في اطار الرغبة في الحصول على اقرار اميركي بالنفوذ الايراني في بغداد والتسليم به من ضمن حق ايران بنفوذ اقليمي مكمل لحماية مصالحها في العراق وسوريا ولبنان ايضاً. لكن المصادر السياسية المتابعة تعنى بمعرفة اذا كانت ايران رغبت فقط في الزيارات الى الدول الخليجية في تبديد الطابع المذهبي لما يجري في العراق وتوضيح ان انخراطها عسكريا دعما للسلطة العراقية هناك هو في وجه تنظيم داعش وليس ضد السنة، وفق ما يرجح البعض، او انها سعت الى تعاون عربي جدي وفعلي في الموضوع العراقي بحيث ان التوجه نحو هذه الدول هو لاشراكها في المعركة ضد الارهاب في العراق ومن زاوية الحاجة الى التغطية السنية التي تفتقدها ايران في مواجهتها العسكرية في العراق. وتاليا ما مدى التعاون الذي تسعى اليه ايران وطبيعته وما هو المقابل، في حال وجد، الذي عرضته ايران على الدول الخليجية للتعاون وهل هو مجرد التخويف من داعش الذي بات يدق ابواب المملكة السعودية ايضا والاردن وربما دول اخرى، ام هل تعمل على بيع نوري المالكي والتخلي عنه بثمن لقاء تعاون في مواجهة تنظيم الدولة الاسلامية بدلا من ان يكون التخلي عن المالكي من دون اي ضمانات فعلية من هذه الدول كأنما ذلك تنازل من جانبها تحت الضغط وفق ما يمكن ان يوحي التخلي عن نوري المالكي، فيما لا تنوي ايران الخضوع لهذا الضغط وتود ان يكون ذلك من ضمن تنسيق لا يظهر نجاح الضغوط الميدانية الانفصالية عليها.
لكن ما لا يبدو محتملا بالنسبة الى هذه المصادر ان تكون ايران تبحث عن اتفاق اقليمي فعلي حول العراق اقله في المرحلة الراهنة وفي عز مفاوضات ضاغطة حول ملفها النووي خصوصا ان المكونات الضرورية له غير متوافرة بعد.
النهار

 

 

غزة بين «داعش» ونتانياهو/ وليد شقير
كان متوقعاً أن تستفيد الاندفاعة الإسرائيلية الجديدة ضد قطاع غزة من موجات العنف التي تجتاح المنطقة، فيعمل جنون التطرف المتنامي في المجتمع الإسرائيلي على استغلال الفوضى التي تمعن في انحلال الدولة في كل من سورية والعراق واليمن وتهدد أمن دول الخليج بالإرهاب وتجعل لبنان في دائرة الخطر لولا حاجة المتناحرين على المنطقة إلى حفظ الحد الأدنى من التهدئة فيه لمقتضيات المعارك التي يخوضونها في كل مكان آخر.
ولم يكن انشغال مصر بمشاكلها الداخلية الهائلة بعيداً من حسابات هذا الجنون الإسرائيلي المتمادي، ليضيفه إلى الضعف العربي الذي يتيح لبنيامين نتانياهو أن يفلت الآلة العسكرية من عقالها لبناء وقائع جديدة في موازين القوى بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية، تبعد إمكان تجديد التفاوض على التسوية السلمية سنوات جديدة.
فالحاكم الإسرائيلي يتطلع إلى الخريطة العربية مبتهجاً لما أصابها من تفكك وانهيار في السنتين الماضيتين. وهو لم يعد قلقاً حتى من التفاوض الأميركي -الإيراني الذي افتعل الذعر منه، قبل أكثر من عام، لهدف وحيد هو فرملة المطالبة الأميركية له بالتنازلات في موضوعي الاستيطان والحدود حيال المفاوض الفلسطيني.
منذ المصالحة بين حركتي «فتح» و «حماس» في نيسان (أبريل) الماضي، والحكومة الإسرائيلية تتحيّن الفرصة لإلغاء مفاعيلها التي محضت بعض القوة للمفاوض الفلسطيني، في العلاقة مع المجتمع الدولي من جهة، ومع التصلب الإسرائيلي من جهة أخرى. ولم يكتفِ نتانياهو بمطالبة الرئيس محمود عباس بإلغاء المصالحة شرطاً لاستكمال المفاوضات التي تجمدت بفعل الخلاف على الاستيطان والإفراج عن الأسرى، بل أخذ يلوم باراك أوباما على اعتباره المصالحة «غير مفيدة»، وطالبه بموقف أكثر تشدداً حيالها، على رغم أن «حماس» قدمت تنازلات بقبولها تأليف حكومة من التكنوقراط، كثمرة لهذه المصالحة، تتولى استئناف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي. يرفض نتانياهو المرونة التي أبدتها «حماس» بقبولها تولي الرئيس محمود عباس التفاوض عبر الأميركيين على الدولة الفلسطينية والتي عكسها رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل أول من أمس بالقول إن رئيس الحكومة الإسرائيلية «احتقر» الإدارة الأميركية برفض مطالبها منه في المفاوضات، في معرض إصراره على وقف الأخير عدوانه على القطاع و»تغيير سياساته في الاستيطان».
منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005 بقرار من آرييل شارون وهي تتعرض للمآسي والعدوان، للحؤول دون تمتعها بمنافع اندحار الاحتلال كما يفترض بكل أرض تتحرر من تسلطه. وخاض الإسرائيليون ضدها 4 حروب شرسة لكسر إرادة الشعب الفلسطيني عبرها، وحولوها إلى ميدان للرسائل وساحة لممارسة الصلف والعنصرية والإخضاع ضد الشعب الفلسطيني، وأرضاً للعبث بالنظام العربي والإقليمي، ساهمت فيه إيران منذ الخطأ الذي ارتكبته «حماس» عام 2007 بتحالفها معها واستئثارها بالقطاع وقسمة الشعب الفلسطيني آنذاك. وإذا كانت التطورات والتعقيدات الإقليمية أعادت الروح إلى المصالحة واللحمة إلى الفلسطينيين فإن متطرفي تل أبيب وجدوا في التفتت العربي وفي نماذج الاستبداد التي تنشر الحروب الأهلية، الفرصة السانحة لإعادة إلغاء الشريك الفلسطيني بعد أن استعاد قدراً من الوحدة التي تؤهله للجلوس على الطاولة. هكذا يملأ نتانياهو الدنيا صراخاً بوصم «حماس» بالإرهاب على رغم الواقعية التي اتسم بها سلوكها الأخير. أليست شيطنة المعارضة السورية بهذا الوصف من قبل إيران وبشار الأسد هي التي كانت حجة الإدارة الأميركية من أجل إدارة الظهر لثوار بلاد الشام، مثلما هو اتهام نوري المالكي وطهران تمرد العشائر السنّية في موصل وأنبار… العراق بأنه الإرهاب وفعلة «داعش»؟ لقد وجد نتانياهو ما يعينه على شيطنة «حماس»، في هذه الفوضى التي بات قادة الأنظمة الاستبدادية «خلاقين» في تنظيمها على مستوى الإقليم، لتبرير هجومه على غزة.
يبقى القول إن الحرب القائمة على غزة هي الاختبار الأول الجدي للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظامه. هل سيتمكن من أن يفرمل الاندفاعة الإسرائيلية الجديدة التي أسقطت اتفاق الهدنة التي رعتها مصر في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 وأنهى آنذاك الحرب على القطاع (في عهد الرئيس محمد مرسي)، والتي تطالب السلطة الفلسطينية بالعودة إليه؟ فما يسميه السيسي عودة مصر إلى العروبة ودورها الإقليمي يصعب أن يبدأ من أي مكان إذا لم يكن بغزة.
الحياة

 

تقسيم العراق من المضمر إلى المعلن/ خالد غزال
لم يعد الحديث يدور عن احتمالات تقسيم العراق وما يرافقه من تحذير سلبي ناجم عن مخاطره، بل بات الحديث صريحاً عن المسار التقسيمي الذي يسلكه هذا البلد، بل وتحقق «الإنجاز». لعل الأحداث الأخيرة التي شهدتها بعض المناطق والتي اتخذت ما يشبه انتفاضة مذهبية، عسكرية وسياسية، تقطع الشك باليقين بأن العراق بات فعلياً وواقعياً ثلاثة «عراقات»، فيها حد أدنى من التجانس السكاني، سبق وان جرى بناؤه على امتداد السنوات السابقة من خلال عمليات نقل وانتقال ديموغرافي، كان الفضل فيه للنظام البعثي ولتوجهات صدام حسين في هذا المجال.
يغلب على الكتابات السياسية المعالجة لتطورات العراق منطق المؤامرة الامبريالية الاميركية الغربية الصهيونية، المسؤولة عن التفكك العراقي وتقسيمه، ولا تعطى العوامل البنيوية الداخلية الأهمية التي تستحق، في وصفها العنصر الأساس الذي يصعب على أي فعل خارجي ان ينجح من دون هذا الممر الإجباري. تتمثل عوامل التقسيم الداخلي في التناقض الطائفي المذهبي بين السنة والشيعة، والذي يعود الى خمسة عشر قرناً، عندما اندلع الصراع على السلطة بين القبائل في الجزيرة العربية، وهو الصراع الذي رُكّبت عليه أيديولوجيات وظف فيها كل طرف النص الديني والأحاديث النبوية في خدمة موقعه وموقفه. أظهرت العقود الأخيرة كم ان هذا الصراع متجذر في الوجدان العراقي، وكم هو أشبه بالطبقات الجيولوجية المتراكمة، بحيث تنبت طبقة كلما زالت اخرى.
عززت السياسات الداخلية لأطراف السلطة تصعيد هذا العداء الكامن والموروث بحيث تحولت الصراعات السياسية الى صراعات طائفية صريحة، خصوصاً في السنوات الأخيرة. الى جانب هذا العداء، كان التقسيم قد قطع أشواطاً بعيدة في المناطق الكردية، منذ ان مارس الحكم المركزي في بغداد سياسة عنصرية ضد الأكراد، واضطهدهم ونكل بهم وحرمهم الحقوق السياسية، مما أوجد قاعدة صلبة للعزلة الكردية عن سائر مكونات المجتمع العراقي، وجعل الأكراد يستثمرون اي فرصة تتاح للاستقلال عن بغداد.
هذه العوامل القديمة – الجديدة، شهدت نوعاً من الانزياح خلال عقود تكوّن الدولة العراقية وصعود القومية العربية ومشروعها الوحدوي، مما ترجم نفسه بهوية وطنية عراقية غطت على الانقسام الطائفي والمذهبي الموجود أصلاً. وللتذكير، عندما نشبت الحرب العراقية الإيرانية مطلع التسعينات من القرن الماضي، قاتل العراقيون، شيعة وسنة، على المستوى نفسه ضد الجيوش الإيرانية، التي كان ينظر اليها على انها جيوش فارسية مناهضة للمكوّن العربي. لكن السنوات اللاحقة للحرب، وما رافقها من اضطهاد بعثي – طائفي للمناطق الشيعية، مقرونة بالاندفاعة الإيرانية ذات الطابع المذهبي، والمتعززة بالاحتلال الأميركي، كلها عناصر أطاحت بالهوية الوطنية العراقية، الهشة أصلاً، لمصلحة هويات طائفية ومذهبية، هي بطبيعتها البيئة الحاضنة للانقسام والتقسيم.
هذا التركيز على العوامل الداخلية لا يمنع من الحديث عن الفعل الخارجي. فالولايات المتحدة الاميركية عرفت كيف تستثمر عوامل الانقسام الداخلي لتبني عليه سياساتها. منذ انتهاء الحرب الايرانية – العراقية، انصبت السياسة الأميركية على الحد من قوة العراق ونفوذه الاقليمي. كان اجتياح الكويت وما تبعه من حرب على العراق اول الغيث في هذا المجال. خلال هذه الحرب أرسيت معالم المرحلة الأولى من التقسيم عبر حماية اقليم كردستان الذي نال حكماً ذاتياً، أمكنه على امتداد السنوات الماضية من بناء مقومات تتصل بمنطق قيام دولة عبر المؤسسات المطلوبة لهذا البناء. استكملت السياسة الأميركية نهجها التقسيمي خلال الاحتلال عام 2003، والذي جرى فيه تدمير مقومات الدولة العراقية، سواء في الجيش ام الإدارة، وتغليب مكوّن طائفي مذهبي على حساب آخر، مما أيقظ فكرة استقلال ذاتي آخر في الجنوب العراقي، لكنّ الأخطر كان ضرب ما تبقى من هوية وطنية عراقية.
استكملت عناصر التقسيم من خلال السياسة الاميركية المنجدلة هذه المرة بالطموحات الإيرانية للهيمنة على العراق، انطلاقاً من كونه يحمل غلبة طائفية ومذهبية مشابهة لإيران. ولأن منطق الثورة الإيرانية يستند الى اثارة النزاعات الطائفية وسيلة للتدخل والهيمنة، فقد وجدت في السياسة الاميركية المحابية لها فرصة لا تعوّض لإلحاق العراق كله هذه المرة بإيران. هكذا تجذرت وتبلورت اكثر فأكثر عناصر التقسيم، بحيث لا يخفى على اي متابع سياسي ان يلمس هيمنة ايرانية كاملة على العراق، لا ينكر القادة الايرانيون هذه الوجهة، بل يتحدثون عن العراق في وصفه جزءاً من المدى الحيوي والاستراتيجي لإيران.
ليس من قبيل المبالغة والتهويل من التحذيرات التي تطلق حول مخاطر تقسيم العراق واندلاع الصراع المذهبي المستمر بارداً، والمنقلب اليوم ملتهباً، من امتداده الى أجزاء أبعد من العراق. قد يكون ما نشهده تحت عنوان سيطرة «داعش» على أجزاء عراقية ليس سوى «رأس جبل الجليد» لما هو قادم على المنطقة، والذي يمكن وصفه اننا أمام فوضى كيانية، لكنها فوضى غير خلاقة مطلقاً.
الحياة

 

من يقدر على داعش؟/ حازم صاغية
أظهر استيلاء حركة داعش (أو “الدولة”) على مدينة الموصل وما استجرّه من تحرّكات سياسيّة وديبلوماسيّة، حجم ما تعانيه المنطقة من تخبّط وعجز عن الردّ على هذا التحدّي الكبير. صحيح أنّ ثمّة إجماعاً واسعاً جدّاً على ضرورة التخلّص من سلطة داعش في الوسط والغرب العراقيّين، لكنّ المؤشّرات جميعاً، العراقيّة منها والإقليميّة والدوليّة، توحي بأنّ تنفيذ هذه الرغبة المعلنة تكاد تقارب الاستحالة.
فإذا كانت الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإيران، ولكلّ أسبابها، الطرفين الأكثر تضرّراً من سلطة داعش، والأكثر تشديداً على ضرورة التخلّص منها، فإنّ الدولتين هاتين تضعاننا أمام غموض قاتل في ما خصّ استراتيجيّتيهما العراقيّتين. وهذا فضلاً عن العوائق الضخمة التي تحول دون جهد منسّق بينهما، وذلك لأسباب كثيرة يتصدّرها الخلاف المعروف حول الموضوع النوويّ.
ففي واشنطن، تمضي إدارة أوباما في سياستها المتضاربة والتي تتهرّب من أيّ تورّط مباشر مُحيلةً المسألة إلى قيام حكومة ائتلافية تجتمع فيها سائر القوى العراقيّة الفاعلة. أمّا طهران، فبات من المشروع الشكّ في خططها ونواياها للعراق، وما إذا كانت مستعدّة لتفاهم ضمنيّ مع داعش على نحو يؤدّي إلى تعاظم الخوف لدى الشيعة العراقيّين، وتالياً إلى المزيد من تعلّقهم بها ورهانهم على حمايتها لهم.
واللافت في هذا المجال أنّ خطّة الغموض الإيرانيّ تعاكس تماماً خطّة الغموض الأمريكيّ، إذ تقدّم طهران مسألة تحرير الأراضي من داعش على كلّ إعادة نظر في موقع المالكي وفي تسيير الحكم في العراق!
وبطبيعة الحال فإنّ الدول الإقليميّة الأخرى تنقسم بين من لا يستطيع ومن لا يريد. فتركيّا، مثلاً، وهي أقواها وأقدرها، لن تفعل في العراق ما لم تفعله في سوريّا التي امتنعت عن التدخّل المباشر فيها.
وفي داخل العراق، لا تبدو الأمور أفضل حالاً. فنوري المالكي يمضي في تمسّكه برئاسة الحكومة متذرّعاً بنتائج الانتخابات العامّة الأخيرة. ولئن بات الناطقون بلسان كتل شيعيّة وازنة، كعمّار الحكيم ومقتدى الصدر، يوجّهون علناً سهامهم إليه، إلاّ أنّ البيئة السياسيّة الشيعيّة لا تبدو، حتّى إشعار آخر، في وارد الإتيان ببديل عن المالكي.
وفي المقابل، فإنّ الأكراد ذوو حسابات مختلفة نابعة من تجربتهم ومعاناتهم الخاصّتين. فهم مهتمّون أساساً بالدفاع عن أنفسهم حيال أكثر من عدوّ قائم أو محتمل، وتاريخهم يعلّمهم ذلك. ولئن أدرك الأكراد أنّ حدوداً طويلة تجمع بين إقليمهم الذاتيّ وبين الكيان الداعشيّ، وأنّ هذه الحدود قد تتحوّل في أيّة لحظة إلى حدود من نار، إلاّ أنّهم يعرفون أيضاً أنّهم لن يستطيعوا وحدهم تولّي هذه المهمّة التي تتطلّب جهداً منسّقاً ومتعدّد الأطراف. وهنا أيضاً لا تفعل طهران غير إضافة مزيد من التعقيد على المسألة المعقّدة أصلاً باتّهامها الأكراد بالعمل لصالح إسرائيل جرياً على العادة الديماغوجيّة المألوفة. وهذا، بدوره، يتناغم مع الكلام الغريب للمالكي عن أربيل بوصفها “مقرّاً لداعش والقاعدة والبعث”.
وأهمّ ممّا عداه أنّ السنّة المعتدلين لا يجدون ما يغريهم في التصدّي لداعش ما دام المالكيّ مصرّاً على البقاء رئيساً لحكومة العراق. فكأنّه، والحال هذه، يطالب الآخرين بالقتال من أجل سلطته التي لا تريد إحداث أيّ تعديل في الطريقة الطائفيّة التي يُحكم العراق بموجبها. ولا يزال كثيرون من السنّة يذكّرون بتجربة “الصحوات” التي تولّت إخراج مقاتلي “القاعدة” من المناطق العراقيّة التي سبق أن استولت عليها. بيد أنّ المالكي كافأ تلك “الصحوات”، مستفيداً من ضعف القبضة الأمريكيّة، بالحصار والتضييق عليها.
وقصارى القول إنّ داعش القويّة والغنيّة بآبار النفط التي استولت عليها وبما غنمته من فرع البنك المركزيّ في الموصل، فضلاً عمّا يقال عن تبرّعات سخيّة تصلها من أثرياء مسلمين يوالونها، تبدو أقدر من الجميع وأقوى. وها هي تقضم مواقع لـ”جبهة النصرة” فيما تنضمّ إليها ألوية من “جيوش” سوريّة معارضة كانت تنافسها. أمّا الرهان على صدامها بالواقع الأهليّ والعشائريّ للمناطق التي تحكمها، وهو الواقع الذي شدّ إزرها في البداية، فموضوع يستغرق وقتاً قد يطول.
موقع 24
خليفتكم وقد رُدّ إليكم/ حسام عيتاني
لوهلة، يبدو الجدال حول امتلاك أبي بكر البغدادي شرائط الخلافة وكأنه لا ينتمي إلى هذا العالم. والقول ببطلان إعلان الخلافة وتنصيب الخليفة لافتقارهما إلى الشرائط الشرعية يعطي انطباعاً أن المرء لا يقرأ مقالاً في صحيفة اليوم، بل إنه فتح كتاباً في تاريخ القرن الثاني الهجري.
ومدهشة فعلاً كمية الكتابات التي تناولت هذا الجانب من مسألة الخلافة الداعشية وحق البغدادي في تنصيب نفسه من دون اجتماع الشرائط له وفيه. لكن إلى جانب الطبيعة السريالية، إذا جاز التعبير، المتعارضة مع ما بات من بداهات تداول السلطة وانتقالها والاستيلاء عليها ومصادرتها، حتى في هذا الجزء المنكوب من العالم، يتعين النظر إلى السجالات من زاوية أوسع.
قد لا تعني الاقتباسات والاستشهادات من الكتب الدينية وأعمال كتاب القرون الهجرية الأولى والتي ساقها أنصار الخلافة ومعارضوها، لمراقب من خارج النسيج الذي أفرز ظاهرة «داعش» وقبلها «القاعدة» و»النصرة» وما يدخل في بابها، غير انتكاسة إلى الماضي البعيد واختراع تقليد جديد (بالمعنى الذي صاغه المؤرخ اريك هوبزباوم) يتأسس على سردية غير واقعية للتاريخ ومعطياته. أو ربما، دليل إضافي على فشل مشروع الدولة الوطنية وعودة المكوّن القبلي ليتحكم في آليات تكوين السلطة في المشرق.
في الوسع الزعم أن ثمة ما يفيض عن التفسير هذا لظاهرة إعلان الخلافة والجدالات الفقهية – السياسية التي رافقته. إذا ألقينا نظرة على الخلفية الاجتماعية والتعليمية لـ «الخليفة» وسيرته «الجهادية»، تكاد تصفع النظر سمتان شديدتا التناقض. الأولى، العادية البالغة لرجل درس في الأساس تجويد القرآن (وليس الشريعة، وهذه مسألة مهمة في تكوين رجال الدين وأدوارهم اللاحقة) وكان جل اهتمامه لعب كرة القدم في الفناء القريب من المسجد الذي كان يصلي فيه في إحدى ضواحي بغداد. الثانية، درجة العنف الرهيبة التي أظهرها البغدادي في طوره الجهادي حيث يوضع في سجله «نجاحه» في تفجير ستين سيارة مفخخة في العراق في يوم واحد، ما أسفر عن مئتي قتيل من أبناء بلده طبعاً.
التجاور بين العادية المفرطة والعنف الخرافي ما كتب عن جلادي المعتقلات النازية الذين جاء قسم منهم من بيئات صغار الموظفين والعمال وأصحاب المصالح المستقلة وانخرطوا في ماكينة القتل المنهجي النازي. بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، أفاد هؤلاء في محاضر استجوابهم أنهم ارتكبوا الفظائع كجزء من عمل عادي كُلفوا القيام به.
يتجاهل المتجادلون في توافر شرائط الخلافة من عدمه التفاصيل هذه التي سمحت لرجل كان غفلاً من كل ذكر وخلواً من كل ميزة، أن يتمكن ليس من تفجير ستين سيارة مفخخة في يوم فقط ولكن أن يملك من الجرأة ما افتقر إليه ملوك وسلاطين عرب ومسلمون في الأعوام المئة الماضية، بسبب جسامة موقع الخلافة في الذهن العربي والإسلامي وما تنطوي عليه من مسؤوليات دنيوية ودينية ضخمة.
يقود ذلك إلى رسم صورة جديدة لعالم عربي يكفي العنف العاري فيه ليتسنم سدة الخلافة رجل جاء من العدم أو ما يعادل العدم. وندع جانباً كل المزاح الذي رافق إعلان الخلافة وتنصيب الخليفة وكل الانتقاص من جدية الحدث الذي يستحق ما يتجاوز السخرية وما يزيد عن التعامل الأمني التآمري معه.
ومن أسف، أن الأدوات التي يمكن لقارئ عربي أن يتابع عبرها هذه الظاهرة ويحاول فهمها توجد في بطون كتب عاش مؤلفوها قبل أكثر من ألف عام. عندها، سيجد القارئ نفسه محاطاً بأسئلة عن توافر شرائط الخلافة وتهرب من بين يديه كل الروابط بالزمن الحالي. فهذا خليفتنا وقد رُدّ إلينا.
الحياة

في ظاهرة “الخليفة”/ مصطفى زين
هذا العالم العربي، أو الوطن العربي، أو المحيط العربي، أو المنطقة العربية، أو الشرق الأوسط العربي… سمّه ما شئت، يجمعه كل شيء بمفهوم البعثيين والقوميين العرب: التاريخ، اللغة، الثقافة، الحضارة، الدين… وتفرقه الحداثة، لكنه «تابوت ممدد» بين آسيا وأفريقيا. انهارت إمبراطوريات كانت تجمعه. منذ تفككت الدولتان العباسية والأموية عاد إلى البداوة، إلى ما قبل الدولة. الأحزاب التي نشأت على أسس حديثة تسللت إليها الخلافات المذهبية والطائفية. عادت إلى الخلافات الأولى، إلى سؤال من الأحق بالخلافة الأمويون أم بنو هاشم. الخلاف القديم لم يكن دينياً، كان سياسياً في الدرجة الأولى. وها هو «الخليفة» الجديد إبراهيم البدري يعود بنسبه إلى فرع من قريش. يضيف إلى لقبه أسماء مدن (السامرائي البغدادي) ليضفي على نفسه عراقة يقدسها أتباعه.
يقف «الخليفة» على المنبر بثياب عباسية سوداء. يخاطب الناس، كل الناس. لا فرق عنده «بين عربي وأعجمي» إلا بمقدار طاعته له. يأمر المؤمنين وغير المؤمنين بمبايعته. من لا يرضخ فحد السيف في رقبته. لا يذكر في خطبته البليغة جداً سوى الأوامر والنواهي. ليس في برنامجه غير العودة إلى الماضي. ماض متخيل ليس فيه من وقائع التاريخ والجغرافيا سوى الإيمان العميق ببعض الخرافات والأوهام المتوارثة. إيمان أعمى يبرر الذبح والنحر والإبادة الجماعية. تستغله دول وجماعات، وتعممه وسائل الإعلام. لم يسأل أحد «الخليفة» من أين أتى بالمال لتأسيس «داعش»، قبل استيلائه على أموال الموصل. لم يسأله أحد عمّن سلّحه ودرّبه، أو عن علاقاته بدول محيطة بالعراق، عن تركيا وإسرائيل، وغيرهما من مستغلي «الربيع الإسلامي» ومشجعيه.
ليس صدفة أن لا يذكر «الخليفة» فلسطين في خطبته. وليس صدفة أن لا يهاجم أحداً عدا غير المؤمنين. يتوعدهم في الدنيا وفي الآخرة. كأنه يملك الأنفس في الحياة وبعد الممات. الدين في خدمته، وخدمة أغراضه. هو الناجي الوحيد. هو الطاهر، النقي، المؤمن، الصادق تحرسه الملائكة. لا تلتقطه الأقمار الاصطناعية الأميركية. ويصاب مترصدوه بالعمى. إيمانه يشل قدرتهم. يحولهم هباء. لذا يستولي على المدن والأرياف أسرع من جيش بوش عندما غزا العراق.
المشكلة الحقيقية ليست في «الخليفة». هو نتاج بيئة بائسة متخلفة. لم يهبط تنظيما «القاعدة» و «داعش» من السماء. هما جزء من ثقافة عميقة الجذور في تاريخنا. انتشارهما بهذه السرعة وسط الشباب خير دليل على تجذر هذه الثقافة وسط مجتمعات لم تأخذ من الحداثة سوى التقنيات المتقدمة تستخدمها لنشر «التوحش»، بالمفهوم الخلدوني. من هنا لم يكن غريباً أن ينشأ «القاعدة» في أفغانستان، حيث المجتمع الأشد تمسكاً بالأعراف والتقاليد، ثم ينتشر حيث تتشابه «الأقوام».
الحياة
لعبة الأسد – المالكي… مع دولة “داعش”!/ محمد مشموشي
يتصرف بشار الأسد ونوري المالكي، ومن خلفهما المرشد الإيراني علي خامنئي وأتباعه في لبنان واليمن والبحرين وغيرها، كما لو أن سيطرة تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» («داعش») على أجزاء من بلديهما تشكل خشبة الخلاص التي كانا ينتظرانها، بل وعملا من أجلها، للنجاة مما هما فيه في مواجهة شعبيهما منذ سنوات.
وهذه الحال لا تفسر فقط هروبهما معاً، ومنذ البدء، الى مقولة «الحرب الكونية» على سورية (الأسد) و «المؤامرة الخارجية» على العراق» (المالكي)، انما أيضاً تبادل الخدمات في ما بينهما على الشكل الآتي: تشكيل «داعش» أولاً في سورية وإرساله الى العراق بدعوى مقاومة الاحتلال الأميركي، ثم اعادة تصديره الى سورية بحجة وقف التدخلات الخارجية فيها، وصولاً في الأسابيع الأخيرة الى «اعطاء» هذا التنظيم، نعم إعطائه بقرار مسبق، رقعة أرض عبر حدود البلدين تبرر ليس فقط بقاء نظامي الأسد والمالكي، إنما أيضاً حربهما على هذا التنظيم وما يمثله من ارهاب محلي وإقليمي ودولي.
هل يخرج عن معنى «العطاء» هذا، تسليم «داعش» مدينة الموصل العراقية، وقبلها محافظة الأنبار، من دون اطلاق رصاصة واحدة عليه من قوات المالكي؟، أو حال عدم الاشتباك على مدى سنوات بينه وبين قوات بشار الأسد في سورية، واقتصار عملياته فيها على مقاتلة «الجيش السوري الحر» وطرده من المناطق التي يسيطر عليها؟، أو بعد ذلك حرية الحركة التي تمتع بها طيلة تلك الفترة ذهاباً وإياباً بين البلدين من دون رقيب أو حسيب؟
لقد سعى النظامان الحليفان، والعاملان في الآن ذاته بأمر «الولي الفقيه» الايراني، للوصول الى هذه الحال منذ بدء الثورة الشعبية في البلدين ضدهما… إنكاراً منهما لقيام ثورة في الأساس، فضلاً عما تمثله هذه الثورة من رفض متعاظم للنظامين من جهة أولى، واستدراجاً لدول العالم المكتوية بنار الارهاب للتغاضي عن حربهما الهمجية وغير المسبوقة رداً على هذه الثورة من جهة ثانية.
كان كلام المالكي على «الارهاب» خافتاً بالمقارنة مع زميله ورفيق دربه الأسد في الفترة السابقة، لسبب واحد هو أن الثورة ضده لم تكن قد اكتملت عناصرها أو اتسعت رقعتها بعد. لكن الأخير لم يكتم سراً بشأن هذا الهدف منذ اليوم الأول، لا سيما عندما أبلغ مؤتمر «جنيف 2» انه لم يأت اليه إلا من أجل تشكيل «جبهة عالمية لمحاربة الارهاب» في سورية، أي عملياً الثورة ضد النظام فيها.
لكن ماذا عن «داعش»، ومن خلفه «القاعدة»، والدور الذي قام به في المرحلة الأخيرة؟
قد يصعب اتهام «داعش» بأنه مجرد أداة في أيدي نظامي الأسد والمالكي، أو أنه لا يملك مشروعه للمنطقة، وللعراق وسورية بشكل خاص، الا أنه ليس صعباً العثور على دلائل على التقاء مصالح بين الطرفين وعلى أن ما حدث كان تجسيداً عملياً على الأرض لهذا الالتقاء.
ذلك أن هذا التنظيم يعرف أكثر من غيره، لا سيما في ظل خبرته الطويلة بالنظام في بغداد، انسداد الأفق تماماً أمام المالكي في الأعوام الماضية وحاجته تالياً الى محاولة فتح ثغرة في الجدار السنّي – الكردي – الشيعي المرتفع في وجهه. كما يعرف كذلك أن هذه الحاجة ازدادت بعد الثورة على حليفه في سورية، وهما في مركب ايراني واحد أصلاً، ولذلك فهو لم يفتح فقط حدود بلاده أمام «لواء أبو الفضل العبــاس» و«عصـائب الحق» وغيرهما للتوجه الى سورية والقتال مع الأسد، بل تغاضى حــتى عن عمليات «داعش» نفسها عبر الحدود وفي عمق الداخل السوري.
هكذا، استغل «داعش» مأزق المالكي والأسد ليقيم على حسابهما ما اعتبره نواة «الخلافة الاسلامية» في المنطقة، وما اعتبره النظامان من ناحيتهما مدخلاً لتوحيد معركتيهما ضد شعبيهما تحت مسمى «الحرب على الارهاب»، ودعوة العالم (بما فيه «الشيطان الأكبر» الأميركي هذه المرة) للوقوف الى جانبهما فيها… ومعها طبعاً تجاهل الثورة في سورية والعراق على نظامي العائلة والشخص، فضلاً عن الحرب التدميرية للشعبين والبلدين رداً على ذلك.
وما حدث إذا ليس سوى «معركة واحدة»… مع الارهاب وضده في آن واحد، ومع نظامي المالكي والأسد وضدهما في الوقت ذاته أيضاً. أما الضحية المستهدفة في الحالين، فهي ثورة الشعبين في سورية والعراق في المقام الأول، ومن خلفهما قضايا الحرية والعدالة والديموقراطية في المنطقة والعالم.
ذلك أنه لا حاجة للقول ان ما يمر به نظاما الأسد والمالكي هو دليل آخر على فشل ما سمّي دائماً مشروع ايران الاقليمي والدولي، ليس في سورية والعراق فقط وانما في المنطقة كلها، وأن ما قاما به عبر الحدود بين بلديهما في الفترة الأخيرة، بالتنسيق مع «داعش» أو من دون تنسيق مباشر، هو محاولة جديدة لإنقاذ نفسيهما (وانقاذ المشروع الأم طبعاً) من خلال اللعبة القديمة اياها: تكبير حجم «البديل» وتعظيم خطره على المنطقة وعلى العالم!
والأهم من ذلك بل الكارثي فعلاً، بخاصة اذا ما انطلت لعبة «تبادل المصالح» هذه على الآخرين، أن ما يسمى «الدولة الاسلامية» أو «الخلافة الاسلامية» لن تلبث أن تزول عاجلاً أو آجلاً لأنها غير قابلة للحياة أولاً وأخيراً، لا في العراق ولا في سورية، ولا حتى في الجزء الذي اقتطعته «داعش» لنفسها منهما، بينما يكون نظاما المالكي والأسد (عملياً «الولي الفقيه» وامتداداته في دول المنطقة) قد نجحا عبرها في مد عمرهما شهوراً وربما أعواماً أخرى.
ولا معنى لإعلان ايران عن مشاركتها المباشرة في القتال ضد «دولة داعش»، واستعدادها للتنسيق بشأنه مع الولايات المتحدة والدول الغربية، إلا هذا المعنى تحديداً وبشكل خاص.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة
في تصدع العراق… وتماسك “طوائفه”/ مشرق عباس
ليس أمام الشيعة إلا ان يتّحدوا في مواجهة العدو، ولو كان ثمن ذلك احتفاظ نوري المالكي بولاية ثالثة، في شكل مباشر او عبر احد مساعديه.
على السنّة ان يتحدوا في مواجهة عدوهم، ولا ضير من التغاضي عن «الخليفة» الجديد ودولته التي تنمو على الأرض، وعلى الكرد ان يفعلوا امراً مماثلاً، فـ «الأخطار محدقة، والتهديدات كبيرة، والأعداء يخططون لابتلاعنا».
لا تُردَّد هذه الدعوات داخل اسوار كل طائفة فقط، بل خارجها ايضاً، وواقع الحال ان ارتباطاً شرطياً لا يضمن تماسك كل طائفة، إلا بتماسك الطائفة الأخرى.
أبناء الطائفة يستمعون الى هذا الحديث من زعمائهم الدينيين والسياسيين والقبليين، ومن دول في الإقليم ومن واشنطن التي تقول لهم ان الضمانة الوحيدة الباقية للحفاظ على وحدة العراق هي «ان تتمكن مكوناته من توحيد مواقفها».
مفارق، وغريب، وخارق لطبيعة الأشياء، ان تقود وحدة الطوائف الى وحدة الأوطان!
على عكس المتداول، قبل 9 حزيران (يونيو) لم تكن لدى المالكي فرصة للتفكير في ولاية ثالثة. كان مقتنعاً في وقت مبكر بأن شركاءه الشيعة لن يسلموه مفاتيح مجلس الوزراء مرة اخرى، فأطلق حملة «حكومة الغالبية» التي تمكّنه من الاستعاضة عن بعض الشركاء الشيعة المزعجين بآخرين مطيعين، ومع ظهور نتائج الانتخابات تبدد هذا الأمل. كانت القوى الشيعية المناوئة له تجمع اوراقها لتعيين رئيس وزراء بديل، وتسعى الى اقامة حلف مع الأكراد والسنّة يتيح تغيير مسار السياسات السابقة.
تحت الخطر، ليس امام الشيعة الا أن يتوحدوا، وليس على «عصائب اهل الحق» و»كتائب ابو الفضل العباس» الا ان يعودوا من مهمتهم «المقدسة» في سورية الى مهمة «مقدسة» جديدة في العراق، وليس على «جيش المهدي» الا ان يستعرض قوته الصاروخية، وليس على ايران الا ان تؤكد لشيعة العراق انهم امام حرب كونية مصيرية، تشمل كل شيعة العالم، وأن لا وقت للحديث عن ابدال المالكي أو تغيير منظومته.
يجهد قاسم سليماني في اقناع الشيعة في العراق، بإن الحديث عن منصب رئيس الحكومة الجديد لن يكون مقبولاً قبل ان يتحقق نصر عسكري على الأرض، ويضع خطة تقتضي باستعادة مدينة تكريت، قبل الشروع في محادثات تشكيل الحكومة مجدداً.
التقط المالكي الفرصة، واصل هجومه المستمر على المتآمرين «السنة والأكراد» وعزف، كما اعتاد، على فرضية القائد الشيعي المخدوع من الآخرين. لا وقت للتهدئة، لا سبيل الى التراجع.
السيناريو الأخطر تم تجاوزه، وهاهو السيناريو الأكثر قبولاً: دولة كردية صعبة تنازع «داعش» وإيران وتركيا على الأرض وعلى الوجود، ومصير سنّي مجهول باستعارات سورية، تحفره طائرات «سوخوي» الروسية بالدم.
لم يكن ابراهيم عواد السامرائي (ابو بكر البغدادي) يحلم بأن يسيطر على نصف اراضي العراق، ولم يتخيل ان السنّة سوف يضطرون يوماً الى التخلي عن فكرة الدولة ، والبحث عن خلاص الطائفة، ولو لم يفعلوا ذلك لما تجرأ على اعلان نفسه خليفة «هاشمياً»، وإعلان تنظيمه «خلافة اسلامية».
يدرك السامرائي ان عليه تهديد الشيعة بعنف، ليجبرهم على التوحد، وأكبر خطر واجهه خلال الشهور الماضية ان شخصيات شيعية مثل عمار الحكيم ومقتدى الصدر تدعمها مرجعية السيد السيستاني، بدأت تتحدث صراحة عن تحالف مع سنّة وكرد لتشكيل الحكومة. هكذا سارع الى اخبار العدناني بما يجب ان يفعل: عليك تهديد النجف وكربلاء… عليك توحيد الشيعة. لم يكن جيش البغدادي حينها قد تجاوز حدود الموصل، لكن التهديد الشديد يكفي لإعلان السيد السيستاني فتوى الجهاد.
على رغم ان السياسيين السنّة يجدون انهم في موقف الحمائم، امام الصقور الجدد الذين يتصدون للحراك العسكري على الأرض، من شيوخ عشائر ورجال دين وقادة في الجيش السابق، وممثلين عن حزب «البعث» ومتحدثين باسم فصائل مسلحة، فإن نجاح المسلحين في التمدد الى حدود بغداد منحهم دافعاً اضافياً للتوحد، والتماهي مع خطاب المرحلة، أي الإقليم أو الانفصال، او قلب معادلات الحكم، او احتلال بغداد.
البغدادي يراقبهم جميعاً، وهو لا يسعى الى تفتيتهم في هذه اللحظة. يفرح عندما يؤجلون البحث في تشكيل الحكومة، فأي حكومة في زمن الخلافة وعصر الخليفة؟ هو يرسل اليهم موفدين لحضهم على الاعتراف بأن بغداد ستكون عاصمة الخلافة، وأن عليهم التوبة قبل فوات الأوان. سيتركهم لبعض الوقت يتحركون سياسياً، الى حين تسجيل نصر عسكري جديد.
كل السيناريوات مقبولة لدى السامرائي، فعندما كان بعضهم ينظر الى استدراج تنظيمه من سورية الى العراق، كـ «فخ» ، نظر هو الى العراق كـ «حلم». انه يعرف ان الاختناق السني – الشيعي في المنطقة وصل الى نهاياته، وأن هذه النهايات ستنتج وقائع جديدة، عليه ان يكون جزءاً منها. يدعو «المهاجرين» للقدوم الى «طوبى» القاعدة، يعلم ان مئات الآلاف منهم مستعدون للاستجابة. ليس من حل سوى فتح كل ابواب الصراع التاريخي، يقول لأنصاره: المحيط السنّي سيبتلع الشيعة في مواجهة مصيرية. لم يعد ثوب «العراق والشام» يلائمه، بل آخر خريطة قبل سقوط الدولة العباسية.
السامرائي ينجح في توحيد الشيعة، والمالكي ينجح في توحيد السنة، والاثنان ينجحان في دفع الأكراد الى إنقاذ حلم الدولة، والمضي به الى أمام.
لن يكون بمقدور احد ان يرفض خطاب الوحدة المدمر، لن يقاوم احد، على الجميع المضي قدماً خلف قادة المرحلة، تصديقهم، والتماهي مع بطولاتهم، ومغفرة خطاياهم. على الجميع التوحد في مواجهة العدو.
الحياة

 

المالكي رئيساً يعني دولة كردية وتمدداً لـ “داعش”/ حازم الامين
المحضر المُسرّب عن لقاء رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بوزير الخارجية الأميركي جون كيري في بغداد كاشف للمستوى الذي وصلت إليه السلطة في العراق. ففي المحضر يمكن أن نستبدل اسم نوري المالكي باسم بشار الأسد من دون أن يتغير عنصر واحد في اللغة التي اعتمدها المالكي في مخاطبة ضيفه. مشكلة العراق الوحيدة هي الإرهاب. الإرهاب الذي ولد لأسباب خارجية، والذي أرسلته دول عدوة. الأزمات الداخلية كانت في طريقها إلى الحل، ولا مشكلات طائفية، بدليل حضور وزير الدفاع العراقي سعدون الدليمي (السنّي الأنباري) الاجتماع مع كيري، وأيضاً حضور وزير الخارجية هوشيار زيباري (الكردي، وخال مسعود بارزاني) الاجتماع أيضاً. إيران دولة صديقة ولا دخل لها بما يجري، وما تلميح المالكي لإمكان تدخلها، في حال لم تتدخل الولايات المتحدة لمصلحة حكومته، سوى سوء فهم لغوي سيتم توضيحه في ترجمة أخرى لكلام الرئيس.
ليس جوهرياً أن الأنبار والموصل اندفعتا وراء «داعش»، أمام حقيقة حضور وزير سنّي اللقاء. وليس ذا قيمة أن الأكراد يهددون بالانفصال إذا بقي المالكي في السلطة، فها هو ممثلهم في الحكومة المركزية يجلس إلى جانب المالكي. لا أزمة وطنية، فالمهم أن يُسمى المالكي رئيساً للحكومة لدورة ثالثة. الإرهاب وحده المشكلة. الضباط العراقيون السابقون الذين يقودون «داعش» غرباء عن العراق، أوفدتهم دول لزعزعة أمن دولة المالكي، وفي إيران ملائكة وليسوا حكاماً.
هذا هو الخطاب الرسمي العراقي في مواجهة الأزمة الوطنية الكبرى التي تُهدد مستقبل البلد. وقد يفهم المرء أن يكون هذا خطاب النظام في سورية، ذاك أن جعبة نظام «البعث» في دمشق خاوية، وتجربة حكمه لم تُبدِ على مدى أربعين عاماً أي ميل إلى مخاطبة العقل. كانت تقول إن سورية «البعث» أعظم دولة في العالم، وكانت تعرف أن السوريين، وأن العالم كله معهم، يعرفون أن الدولة في سورية من أسوأ دول العالم، لكنها لم تكن تُبالي. فمن غير المهم أن يُحب السوريون رئيسهم أو ألا يحبونه، المهم أن يرفعوا صوره.
المالكي استنسخ تجربة «البعث» في سورية، على رغم أن السلطة التي في حوزته لا تسعفه في تسويق التجربة. ففي العراق مراكز قوى موزعة بين طوائف وأحزاب ومناطق، والسلطة ليست مطلقة على نحو ما هي مُطلقة في سورية. للمالكي منافسون شيعة وخصوم أكراد وأعداء سنّة، وجميع هؤلاء يقيمون في العراق. هوشيار زيباري ليس وليد المعلم ويمكن أن يُسرب محضر اجتماع كيري مع نوري المالكي، والثمن الذي يمكن أن يدفعه سعدون الدليمي، نتيجة تلبيته رغبة المالكي في أن يحضر الاجتماع، كبير. ولكن، على رغم كل هذه المعطيات، يُمعِن رئيس الحكومة في خطابه الهزيل. يُهدد الأكراد بأنه سيؤدبهم في حال لم ينسحبوا من كركوك، ملوّحاً بجيش من مئات آلاف المتطوعين هم أنفسهم مَنْ انهزموا أمام بضع مئات من مقاتلي «داعش» في الموصل. وهو، اذ يُطالب الأكراد بالانسحاب من المدينة النفطية، يوحي بأنه يُفضل عليهم «داعش»: ذاك أن انسحابهم منها هو بمثابة هدية نفطية كبرى للجماعة الإرهابية.
كل هذا لا يهم، فالمهم أن يبقى المالكي رئيساً للحكومة. ويجري ذلك بحد أدنى من الذكاء ومن الرغبة في مخاطبة العقول. فقوة المالكي اليوم ليست في الجيش ولا في حكومته غير المتماسكة، ولا في التفاف الأحزاب الشيعية العراقية حوله. قوته فقط في «داعش» وفي بعثها عصبية شيعية حوله. قوته في الغوغاء الطائفية، وفي تحويله الخطاب الرسمي الى خطاب هو منتهى الطائفية، تماماً مثلما هي «داعش» منتهى الطائفية أيضاً.
من يُشاهد التلفزيون الرسمي العراقي («العراقية») يدرك مستوى الجنون الذي بلغته الطائفية المالكية في خطابها. التلفزيون الرسمي الذي يُفترض أن يتوجه الى كل العراقيين صار بوقاً لأئمة المساجد الذين يستقبلون المتطوعين الشيعة في الجيش الرديف. المرجعية الشيعية هي الأيقونة الوطنية، والأناشيد الدينية مدبجة بأشرطة يستعرض فيها رجال دين شيعة قدراتهم العسكرية. هذا هو التلفزيون الوطني العراقي، المصنوع وفقاً لما يفترضه المالكي الوطنية العراقية الجديدة. لا يمكنك وأنت تشاهد «العراقية» إلا أن تشعر بأن تقسيم العراق حصل، وأنك حيال عراق شيعي فقط.
وحدة العراق هي ثمن بقاء المالكي في السلطة. لا شيء أقل من هذا الثمن يُمكن أن يُدفع مقابل هذا البقاء. سورية تدفع ثمناً أكبر ربما في مقابل بقاء بشار، لكن النظام كله هناك مهدد وكله يُقاتل، وإذا كانت طهران وراء صمود الرجلين، فإن خياراتها السورية منعدمة في حال تخليها عن بشار، أما في العراق فالخيارات كثيرة أمامها وجميعها لن ينتقص من نفوذها فيه. هنا يكمن الهُزال، فالثمن الذي سيُدفع لصمود المالكي في منصبه غير مبرر، إلا إذا كان الثمن هو المطلوب، وليس بقاء المالكي رئيساً.
صارت لدى طهران منظومة من الأقنعة تستعين بها في مد عمر الأزمات وإطالة أمد الفراغ الذي يتيح لها مزيداً من النفوذ في معظم دول الاقليم. المالكي رئيس غير مجدد له بانتظار تسوية أو حرب، وبشار الأسد رئيس «منتخب» لبلد صار مقسّماً، ولبنان بلا رئيس بذريعة واهية تتمثل في «ميشال عون أو لا أحد». و «الرؤساء» الثلاثة على تفاوت ظروفهم ليسوا الخيار الفعلي والحقيقي، فالمهم أن تبقى السلطة معلّقة، فهذا يتيح مزيداً من النفوذ.
الخطِر في هذا أن العالم بدأ يقبل بهذا الستاتيكو القاتل. سورية بسلطة ضعيفة ومعارضة عسكرية عاجزة صارت أمراً مطلوباً، والعالم بدأ يتعامل مع حقيقة أن لبنان بلا رئيس. العراق ربما شكل استثناء، فتحول الواقع هناك الى ستاتيكو سيعني الاعتراف بـ «داعش» كحقيقة قابلة لمزيد من التوسع، وسيعني أيضاً دولة كردية مستقلة.
الحياة

 

“داعش” ليست بالخبر السيئ/ عبد الرحمن الراشد
الخبر السيئ ظهور «داعش»، والخبر الجيد أيضا ظهور «داعش». فكروا في المحنة الحالية من زاوية مختلفة، ربما ظهور جماعة «داعش» ليس بالتطور السيئ، كما نتصوره إذا وضعناه في المفهوم الأشمل لواقع المنطقة والعالم الإسلامي الأوسع. جاء التنظيم الجديد، الأكثر تطرفا ووحشية من «القاعدة»، لينقذ المسلمين قبل نهاية اللعبة. فهو يضع الجميع أمام مسؤولياتهم، وينهي حالتين خطيرتين في الفكر المعاصر بمنطقتنا، اللامبالاة والانتهازية السياسية.
بظهور الاكتساح المثير لمقاتلي «داعش» في سوريا والعراق واليمن واستهداف حدود تركيا والأردن والسعودية، دقت أجراس الخطر في أنحاء العالم، لأول مرة منذ نهاية مرحلة أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). استيقظت القوى الحكومية والمدنية المختلفة من سباتها على أنباء الانتصارات المتتالية لتنظيمات مثل «الدولة الإسلامية في العراق والشام» و«جبهة النصرة» و«القاعدة في جزيرة العرب». وعمت حالة الاستنفار كل مكان، لأن الجميع شاهد أنه لم يعد هناك أمر مستحيل أمام هذا الإعصار الكاسح، شاهدوا كيف تسقط مدينة الموصل الكبيرة في غضون ساعات، وكيف يهز الناس من على المنبر رجل مجهول أعلن تتويج نفسه خليفة على مليار مسلم، متحديا كل الأنظمة في المنطقة!
شكرا «داعش»، شكرا «جبهة النصرة»، شكرا يا «قاعدة»، التنظيم العجوز. لقد أيقظتم البيروقراطيين النائمين، وفضحتم الخلايا المتطرفة المتربصة المختبئة، وحسمتم الصراع بين فسطاطين من المسلمين، المتطرفين وغير المتطرفين. وصار أكثر المتضررين من انتصارات أبو بكر البغدادي الخليفة المزعوم، والجولاني الخليفة المنافس المزعوم، أولئك الذين يسعون للتغيير والاستيلاء على المجتمع من خلال العمل تحت الأرض. «داعش» فضحت الدواعش، الذين يسيرون بيننا متأنقين لغويا، يتحدثون عن الحريات والديمقراطية، وهم في أصل خطابهم لا يقلون فاشية وتكفيرا وتطرفا دينيا!
إن نجاح «داعش» السريع، هو مثل انتصار الإخوان المسلمين بمصر في الانتخابات، واستعجال زعيمهم حكم العالم مثل تعجل الرئيس الإخواني محمد مرسي الهيمنة على كل الدولة وإقصاء الجميع. وكما دفعت أفعال «الإخوان» السيئة ملايين المصريين للمطالبة بعزلهم، ملايين المسلمين اليوم يطلبون النجدة من «داعش» وأخواتها.
تغيرت مواقف المثقفين العرب والمسلمين الآخرين، الذين كانوا مستعدين للتعايش مع المتطرفين، ممن جرفهم مد الرأي العام المزور الذي يتم تصنيعه عبر مجاميع احتسابية إعلامية واجتماعية. الغالبية اليوم تدرك حجم الخطر، وفي خوف من غول «داعش» الذي انتشرت فيديوهات نشاطاته الترفيهية، من الذبح والسبي والتدمير.
«داعش» أخافت الانتهازيين، من السياسيين والحكوميين. وجدوا أن هذا الغول أكبر من أن يركبوه، وإن حاولوا فسيقضي عليهم. وجدوا أن الرأي العام أيضا ينقلب ضد متطرفي الدين، ولم يعد أمامهم من خيار سوى الاصطفاف ضد هذه الحركات التدميرية. انتهازية السياسيين، الذين ينافقون تيار المتطرفين إرضاء لجمهوره، أو طمعا في تأييده، هي من أسباب شيوع الفكر ومنحه الشرعية، ومن ثم تمدده وتغوله، في وقت تحتاج الدول إلى التطور المدني، على المستويين المجتمعي والمؤسسي.
الخلاصة أن «داعش» نمت، لأن الكثير من حكومات العالم نامت، بعد أن قلصت نشاطاتها، معتقدة أنها كسبت الحرب على الإرهاب، حتى أيقظت كوابيس انتصارات المتطرفين الحكومات والقوى المدنية المختلفة. لولا «داعش» ربما كنا سنموت مثل الضفادع، التي تطبخ حية في قدر على نار هادئة، لا تحس بحرارتها إلا بعد أن تكون على وشك الهلاك. مواجهة «داعش» ليست بمحاربتها في الأنبار العراقية، أو دير الزور السورية، أو الجوف اليمنية، بل أولا في الداخل، سواء في الدول الإسلامية، أو في الدول التي وصلها الفكر المتطرف إلى الأقليات المسلمة من الصين إلى أوروبا.
الشرق الأوسط

 

 

الشرق الأوسط
خطأ أميركا وليس المالكي وحده!/ طارق الحميد
في معرض رده على هجوم نوري المالكي على الأكراد، قال مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان العراق إن السياسات الخاطئة للمالكي أدت إلى «سيطرة (داعش) على ثلث الأراضي العراقية، وسلمت لها معدات وتجهيزات ست فرق عسكرية بأكملها، وتم إضعاف الأطراف والشخصيات المعتدلة من السنة والشيعة».
والحقيقة أن «إضعاف الأطراف والشخصيات المعتدلة من السنة والشيعة» لم يكن في العراق وحسب، بل في جل المنطقة، وهذا ما لم يفعله المالكي وحده، بل إن أحد أهم أسباب ذلك هو السياسات الأميركية الخاطئة بمنطقتنا، وتحديدا في فترة الرئيس أوباما. حدث ذلك بعد الانسحاب الأميركي المتعجل من العراق، والتساهل مع إعادة المالكي ترشيح نفسه لولاية ثانية بالانتخابات ما قبل الأخيرة، ورغم فوز الدكتور إياد علاوي حينها. وكذلك مواقف الإدارة الأميركية فيما عرف بالربيع العربي، والثورة السورية، وأخيرا في الأزمة العراقية، وحتى قبل دخول «داعش» على المشهد.
السياسات الأميركية الخاطئة في المنطقة هي ما أدت إلى «إضعاف الأطراف والشخصيات المعتدلة من السنة والشيعة»، فقد حدث ذلك في سوريا، وقبل ظهور «القاعدة» أو «داعش» والمتطرفين الشيعة من «حزب الله» وغيرهم، حيث أدى تردد الإدارة الأميركية في اتخاذ مواقف سياسية جادة إلى إضعاف المعارضة السورية المعتدلة مقابل استقواء الأطراف المتطرفة هناك، خصوصا وأن أوباما كان يتحدث مطولا عن أن من يقاتلون في سوريا هم مزارعون وأطباء. والآن، وبعد ما حدث في العراق، تقول إدارة أوباما إنها قررت تدريب وتسليح المعارضة السورية المعتدلة!
والأمر لا يقف عند سوريا، أو العراق، فموقف الإدارة الأميركية، وفي كل دول الربيع العربي، أو تلك التي أريد جرها للفوضى، كان موقفا مترددا، وسببا في إضعاف مركز الدولة، وتقوية الجماعات، إسلامية أو خلافها، مما فاقم الفوضى، ومنع الانتقال السلمي للسلطة وفق قواعد واضحة في تلك البلدان، كما أدى إلى زعزعة الدول التي كانت التحركات بها لدوافع طائفية مثل الحالة البحرينية، وما استبعاد البحرين لمسؤول أميركي مؤخرا إلا دليل على أن واشنطن لا زالت تتخبط، فبدلا من أن يتحرك الأميركيون الآن في العراق المشتعل، أو سوريا المحترقة، نجدهم، أي الأميركيين، مستمرين في العبث بالداخل البحريني!
وعليه فإن قصة «إضعاف الأطراف والشخصيات المعتدلة من السنة والشيعة» التي تحدث عنها بارزاني ليست محصورة في العراق، أو المالكي، بل هي خطأ إدارة أوباما الحريصة على إنجاز اتفاق مع الإيرانيين، ولو على حساب استقرار المنطقة، فبدلا من التواصل مع السيستاني، مثلا، في العراق نجد أميركا حريصة على التواصل مع الإيرانيين، وبدلا من التواصل مع الأطراف الشيعية المعتدلة في لبنان، نجد الحديث منصبا على «حزب الله» الإرهابي، وهكذا. ولذا فالخطأ ليس خطأ المالكي وحده، وإنما خطأ من سمح له بإضعاف الاعتدال والمعتدلين، وهذا خطأ إدارة أوباما المترددة في كل المنطقة!
صحافي سعودي عمل في صحيفة “المدينة” ورئيس تحرير سابق لصحيفة “الشّرق الأوسط”
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى