صفحات الرأي

مقدمة كتاب “سيرة العنقاء، من مركزية الذكورة الى ما بعد مركزية الأنوثة”/ د.أسماء معيكل

 

 

«سيرة العنقاء، من مركزية الذكورة الى ما بعد مركزية الأنوثة» للدكتورة أسماء معيكل (عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، كتاب جريء، نافذ، تبحث فيه مؤلّفته عن «المسكوت عنه» في قضايا المرأة، وتعرض بلغة سردية خاصة لكن نقدية بحثية، الظواهر الكثيرة، التي تحول دون حرية المرأة، ولا بلوغ غايتها، ولا تحفير موقع لها، تتيح لها، المشاركة الفعلية في صوغ المجتمع لتكون شريكة الرجل، أو المعادل «الآخر» المساوي له. وتجتمع أسباب ومبررات عديدة، متراكمة، لتحول دون استعادة دورها الطبيعي، ككائن له مميزاته، وخصوصياته، وإرهافاته وحريته ودوره ونتاجه، ومن هذه الأسباب دينية، اجتماعية، ثقافية، وراثية، (وعنصرية) وقانونية، وشرعية…».

فالبحث النسوي الذي تنكّبته أسماء معيكل أنه هو «مشتق من تجارب النساء اللواتي ينبعثن من رمادهن ليعبرن عن أنفسهن بطريقة جديدة، فالعنقاء هي كل امرأة تتطلع الى تغيير موازين القيم والأعراف والقوانين، والحقوق والمسؤوليات.

وقد آثرت المؤلفة أن تكون حياتها مادة الكتاب، «كامرأة، كأنثى، كأخرى من الجنس الآخر، وتجاربها، وكذلك سيرة شبيهات لها يرغبن في صوغ هوية متكاملة للمرأة».

هنا مقدمة الكتاب بقلم المؤلفة.

رافقتني بعض أفكار هذا الكتاب مدة من الزمن ليست قصيرة، وخلال ذلك جرى تقليبها، وفحصها، وتعديلها، ومن الأكيد أنّ كثيراً من تلك الأفكار رافقت جيلي من النساء اللواتي شققن طريقهن في مجتمعات تقليدية حالت، في كثير من الأوقات، من دون تحقيق لطموحاتهنّ الشخصية والمهنية والثقافية؛ لأنها وضعت حدوداً لا ينبغي عليهن تخطّيها إلا بأثمان باهظة، وقلة قليلة منهنّ أفلحن في تخطّي تلك الحدود، وحقّقن جزءاً من ذواتهن الإنسانية، فنجون من مصائر النساء اللواتي احتجبن وراء الحدود، وغيّبهن النسيان. لا أدّعي أنني من الاستثنائيات بين نساء قومي، غير أنني شققت طريقي في وسط اجتماعي شبه راكد، ما خال له أنّ إحدى بناته تنتهي أستاذة في الجامعة، وتصبح روائية وناقدة، وما خطر له أنها ستتولى تقليب شؤونه الثقافية والاجتماعية بوضوح لا تنقصه الجرأة، فتخصّ النساء في مجتمعها باهتمام غايته استكشاف أحوالهن، في سياق اجتماعي حال دون أن يستأثرن بالاهتمام الذي يضفي عليهن قيمة مساوية لقيمة الرجال، أو مماثلة لها، ولست أُنكر التحيّزات الاجتماعية والدينية ضد النساء في مجتمعاتنا، والنيل من حقوقهن، والتلاعب بهن، فالقول إنهن مشاركات، بكامل الأهلية، في نسج ذلك المجتمع قول لا برهان عليه إلا على سبيل التمحّل، فلم تتوفّر الشراكة الكافية، لكي تنخرط النساء في صوغ جانب من المجتمعات التي يعشن فيها، وأبعدن عن المشاركة في ضبط الإيقاع العام لها، فلا غرابة في كل ذلك، إذ ما زالت مجتمعاتنا تئنّ تحت وصاية ذكورية راسخة، اصطنعت لها حدوداً يحظر تجاوزها، على الرغم من اتساع المجال العام بفعل مظاهر الحداثة الاجتماعية.

ومهما توارت الحدود المرئية بين النساء والرجال في المجال العام، يقع رسم حدود حاجبة للنساء يتعذّر عليهن عبورها؛ ذلك أن المجتمعات التقليدية لا تعترف بالتغيرات، ولا تنثني أمام المطالب المشروعة، إلا بعد زمن طويل جداً من مواجهة الصعاب، وتكرار المطالب، ولا يبدو أنّ الأخذ بتحديث تلك المجتمعات بلغ مرفأ الطمأنينة، وحقق غايته، فكلّما مضى الزمن، كشف عن مسلّمات قابعة في الخيال العام، دفعت بالنساء الى منطقة الظلّ، بل العتمة، وما ذلك بمستغرب على بنيات اجتماعية مدعومة بفرضيات دينية، وأعراف اجتماعية، أنزلت النساء في منزلة هي دون منزلة الرجال، وقررت دونيتهن في التفكير والعمل، بل في عموم الشرط الإنساني.

ولست من القائلات بالتمرّد على الرجال، شركاء الحياة، ورفاق الدرب، ولا من الخارجات على الأطر الاجتماعية، ما دامت تستجيب لما تحتاج له تلك المجتمعات، وما لذلك كتب هذه الكتاب، وشُغلت بأفكاره مدة طويلة من الزمن، وليس هذا هو المسلك الصحيح في التغيير، بل تحدوني الرغبة في كشف بعض المناطق المسكوت عنها، وتسليط الضوء على الحدود الرمزية التي جرى رمي النساء خلفها، فلا يمكن تغيير الحدود من غير تعرّفها، ووصفها، والعمل على إعادة رسمها بما يراعي الهويات الخاصة للنساء، في الإطار المجتمعي الكافل لحرية الجماعة، فلا تتحرّر النساء بمحاكاة الرجال، ولا بالخروج عليهم بذرائع باهتة، ونزوات عابرة، بل بما يكنّ عليه من خصوصية تميّزهن عنهم، من ناحية، وتجعلهنّ مشاركات لهم في المجال العام، من ناحية ثانية. وضمن هذا الأفق أريد لهذا الكتاب أن يسهم في إضاءة جوانب من الحياة الخاصة للنساء، بالتركيز على ما يواجهن من صعاب، وما يلذن به من ضروب الاحتيال لتسويغ وجودهن.

من الصحيح أنني طفت بكثير من الأدبيات النسوية، بوصفها المرجعية التي نهل الكتاب بعض مفاهيمه منها، غير أنني وجدت في السرد حقلاً مناسباً لاستنطاق صورة المرأة في كثير من أحوالها، وكشف التحيزات الذكورية ضدها، فهذا مجال يناسب هدفي، ويوافق مؤهلاتي الأكاديمية، ويستجيب للأفكار التي أريد إثارتها في تضاعيف هذا الكتاب، على أنني فضلاً عن كل ذلك، وجدت حافزاً شخصياً للانصراف الى تأليف فصوله، وقضاء السنوات في تعديل أفكاره، ولطالما حفّزني عبدالله ابراهيم للقيام بمهمة تعذّر عليه القيام بها، فأوكل مهمته لي، ففي سياق مشروعه الفكري «المطابقة والاختلاف» الذي انكبّ عليه مدة تزيد على ربع قرن، كان يتطلع الى تفكيك ثلاث مركزيات يراها متحكّمة في شؤون المجتمعات العربية – الإسلامية، وهي: المركزية الدينية، والمركزية الثقافية، والمركزية الاجتماعية.

تمثّلت المركزية الأولى، طبقاً لتصوّر عبدالله إبراهيم، في خضوع المجتمع للاهوت الديني فراح السابقون يتحكمون في شؤون اللاحقين، ويصوغون مصائرهم، بعزل الدين عن إيقاع الحياة ومقتضياتها، وتلك هي «الأصولية المغلقة» التي لا تنفتح على الحياة وشؤونها، وتمثلت المركزية الثانية في خضوع الثقافة العربية الحديثة للمؤثر الغربي، وانصياعها لفرضياته وشروطه، فلم تبتكر لها هوية تستجيب لتطلعاتها، وتفي بحاجاتها، وتلك هي محاكاة «المركزية الغربية» في رؤيتها للعالم، وتمثّلت المركزية الثالثة في هيمنة الذكورة، واستبدادها بالشأن الاجتماعي العام، ما أدى الى إبعاد النساء عن المجال العام، ومحو آثارهن، وتلك هي «مركزية الذكورة». وفي أحاديثنا الطويلة عن ذلك المشروع، أقرّ بأنه تعذّر عليه الخوض في المركزية الاجتماعية لأسباب كثيرة، منها انصرافه شبه الكامل للدراسات السردية، على الرغم من أنه قارب الموضوع بكتاب «السرد النسوي» الذي كشف فيه حال المرأة، ورسم صورتها في السرد باعتبارها نتاجاً لمخيال الثقافة الذكورية، غير أنّه حبّذ أن يتولّى سواه معالجة المركزية الاجتماعية وما يتصل بها، ورأى أنني خير من يتكفّل بذلك، ليس لأنني امرأة، فحسب، بل لأنني مشغولة بالموضوع نفسه، وغارقة في تفاصيله، فكان أن انصرفت له عساني أكون قد وقفت على حقيقته. وحدث أن تبادلنا الآراء في كثير من تفاصيله.

الدافع الآخر

ولم يكن هذا الكتاب استجابة لطلب عبدالله ابراهيم، فحسب، وهو طلب ثقافي أراد به ردم ما تعسّر عليه القيام به في مشروعه الفكري، بل إن فرضية الكتاب تستجيب لرؤيتي بوصفي امرأة، وكاتبة، وأكاديمية. فقد شققت طريقي، في كلّ ذلك، بصعاب بالغة، في وسط اجتماعي صرف معظم النساء عما أردن تحقيقه في حياتهن، فلم يوفّر لهن الشروط المناسبة لشق المسار المناسب أمامهن، وما برح يرمي في طريقهن صعاباً تعطّل مشاركتهن الفاعلة في صنع الحياة السليمة، وحيثما انبثق أمل أعقبه يأس، وحيثما لاحت معالم رجاء نشأ ابتئاس؛ لأن المجتمعات العربية – الإسلامية تمور بمعضلات جمّة، نتحول دون اتساق التقدّم الاجتماعي، واطّراده، وكلّما توهّمت المرأة أنّها جنَت ثمرة فكأنما تقبض ريحاً، فلا تصيب غير الوعود المتعثّرة.

أحسبُ أنني نجوتُ نسبياً من ذلك الكبح الدائم للمرأة، ما تعرّضت له كثير من نساء جيلي، والجيل الذي سبقه في العصر الحديث، فظنّي أنني أنتمى للجيل الثالث من النساء اللواتي شغلن بحال المرأة في المجال العام؛ لأنني جعلت من الوعي وسيلة للحرية، فأردت أن أحقق به ترسيخ تلك السويّة التي هي من طبعي، فما تبحث عنه النساء هو قبول المجتمعات لسويتهن البشرية، والاعتراف بهويتهن النسوية، ووجهة نظرهن في الحياة، ولا يتحقق ذلك بمناهضة الرجال، بل بمشاركتهم في صنع تلك الحياة. لقد وجد مقترح عبدالله ابراهيم سبيله الى نفسي بسبب استعدادي الفكري للقيام به، فلطالما خالجني شعور أنني سوف أنصر لمعالجة موضوع المرأة الذي شغلت به منذ زمن طويل، منذ أن كنت شابة يافعة تلحظ التناقضات في محيطها بشكل غير واع، ومروراً بتشكل الوعي، وانتهاء بما تحصلت عليه من أدوات النبش والتنقيب في واقع المرأة من أجل الكشف عن أحوالها المتداعية. وكانت رحلة صعبة لكنها شائقة.

على أنه ينبغي الاعتراف بأنّ قضية المرأة ليست من ابتكاري، وما هي بابنة خواطري، فقد خاض غمارها رجال ونساء لا سبيل الى عدّهم، فلم تغب عن الفكر الإنساني قديمه وحديثه، وتأدّى عن ذلك الاهتمام تباين في التعاطي معها خلال حقب التاريخ، ومعلوم بأنه جرى تهميش المرأة من طرف الثقافة الذكورية، فنتج عن ذلك اضطهاد لها، وتنكيل بها، وتقليص لدورها الى حدوده الدنيا، فكاد يقتصر دورها على المتعة والإنجاب، والى كل ذلك فقد سُنّت تشريعات مجحفة بحقها الإنساني والشرعي. ومع تفتّح وعي المرأة، وتنامي دورها في المجتمع خلال العصور الحديثة، وبخاصة بعد ظهور الحركات النسوية، انتبهت المرأة الى حالها المهين في الواقع، وفي التاريخ، وفي الثقافة، بل وتجاوز ذلك الى دورها في الكتابة الأدبية، والسردية منها على وجه الخصوص. وكان من الطبيعي أن ينتج عن ذلك تمثيل سردي معبّر عن رؤيتها للعالم بعين الأنثى، والكشف عن الجوانب الخفية والقضايا المسكوت عنها لدى المرأة، وفضح التاريخ المزوّر الذي أقصى المرأة وحال من دون بروز دورها في المجتمع، بل وحال بينها وبين ذاتها التي ألفتها غريبة عنها، لتجد نفسها مرهونة، بحدود تشلّ حركتها، وقيود تكبّل حريّتها، وقوانين مجحفة بحقها لا تراعي خصوصيتها؛ لأنها لم تشارك في وضعها، بيد أنّ وعي المشكلة بذاته غير كاف لحلّها، ولا سيما في مجتمع ترسخت فيه الأعراف المدعومة بقوة دينية، وضربت بجذورها في صميمه، وتغلغلت في لاوعيه، ومن ثمّ كان على المرأة أن تخوض صراعاً مريراً في سبيل التغيير، وأن تتعثر بمقاومة من المجتمع الذكوري، وأن تلقى المقاومة من بنات جنسها أنفسهن؛ لتشبعهن بتلك الثقافة، وإعادة انتاجهن لها.

تبدو أحوال المرأة العربية مشرقة لمن يرنو إليها من بعيد من غير متمعّن في أحوالها؛ فقد خرجت الى العمل في كثير من البلاد، ونالت حقها في التعليم، بما فيه العالي، وتقاسمت الرجل كل شيء تقريباً، وبلغت أعلى المراتب الوظيفية، وتقلّدت، أحياناً، المناصب السيادية، ولم يبقَ شيء يحظر عليها فعله، وكأنها أصبحت سيدة نفسها، بيد أن هذه النظر المشرقة سرعان ما تتلاشى ما إن نغوص في العمق، وننظر الى أحوال المرأة عن كثب. والحال هذه، فإن المرأة ما تزال تدور في حلقة مفرغة، وما تفتأ تخرج من حفرة حتى تتعثر وتقع في أخرى أشد عمقاً، ولعل تواطؤاً مضمراً من الثقافة الذكورية يحول دون تقدمها ليعيدها الى نقطة البداية في كل مرة. وكلما ازدادت شراستها في المقاومة، لقيت مصائر أشد قتامة.

الحريم

ناضلت المرأة في الماضي من أجل الخروج من أسوار الحريم؛ لتنال حقها في التعليم والعمل، ونجحت في تحطيم معظم القيود التي كانت تكبّلها، فتخلّصت من بعض الحدود المرئية التي ضُربت حولها، بيد أن اختفاء الحدود المرئية لم ينه مشكلة الحريم، إذ وجدت نفسها محاصرة بحدود لا مرئية، وحريم لا مرئي أشد عنتاً من حدود الحريم السابق، فحينما تكون الحدود ظاهرة يسهل التمرد عليها وتجاوزها أو تحطيمها، أما حينما تكون الحدود لا مرئية، وهي جملة الأعراف الاجتماعية، والتخيلات الدينية، فالخروج على الخاطئ منها يحتاج الى قوى خارقة لا تتوفر لبني آدم، ناهيك عن بنات حواء. وهذا ما واجهته المرأة في مسيرة كفاحها الوعرة، فقد أضحى من الممكن لها الذهاب الى الجامعة، وممارسة العمل، وأمسى من المتاح لها ارتياد الأماكن العامة، والاختلاط بالجنس الآخر على قاعدة الاحترام والتقدير، غير أنها ما زالت عاجزة عن نزع فكرة الحدود القابعة في خيال الرجل، والمتحكمة في علاقته بها، فنتج عن ذلك احتباس رمزي للمرأة، واحتجاز لها وراء مفاهيم فرضتها الثقافة الأبوية، وذلك نوع من الأسر للمرأة في مفهوم متخيل، لا يراها الا جسداً نافراً، فوجب تكبيله؛ كيلا ينفلت بشروره من الإغواء والفتنة، وتمثّل ذلك بحجب الجسد بدواع اجتماعية ودينية، على أن الثقافة الذكورية تفضح ما تبطن، وتكشف ما تستر، فما غاياتها الكبرى الاستمتاع بالجسد الأنثوي محتجباً كان أم مكشوفاً، ولقد رأينا أساليبها في محو هوية الجسد بالمبالغة في ستره، وكأنه عورة مشينة، لكنها تهوى العبث به حينما يكون مكشوفاً، والاعتداء عليه صراحة، ولعل ضروب التحرش الذي تتعرض له النساء في المجال العام، وأماكن الدراسة والعمل، ويبلغ، أحياناً درجة الاختطاف والاغتصاب، تعبّر عن الرغبة في الاعتداء على الجسد الأنثوي، فالتعرض للنساء شائع لا تكاد تكون امرأة قد نجت منه.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى