حازم نهارصفحات سورية

ملاحظات على الحوار المزعوم بين السلطة ومعارضيها

 


حازم نهار

مبدأ الحوار:

بدأنا نسمع بين الحين والآخر أن النظام السوري سيقوم بإجراء “إصلاحات داخلية”، وأنه ربما يتوجه في سياق ذلك نحو إطلاق حوار مع المعارضة السورية، أو بالأحرى مع بعض أطرافها، ورغم أن ما جرى ويجري في هذا السياق لا يرقى إلى الحوار السياسي، إلا أن التفكير السياسي الصائب يقتضي وضع هذا الاحتمال في الحسبان، والتفكير فيه جدياً، كي لا يتحول “الحوار” إلى “صلحة عرب” و”عتب” و”تبويس لحى” على أيدي بعض الشخصيات والأطراف، إن في السلطة أو المعارضة. وفيما يلي نقدم وجهة نظر حول هذا الحوار المزعوم، وهي إن بدت بصيغة نصائح أو كثرت فيها المشروطات والتوجيهات، فهي لأنها بالطبع وجهة نظر غير محايدة.

لا ينقطع “الحوار” بين المكونات السياسية في أي مجتمع في أي لحظة سياسية، هذا إذا اتفقنا على فهم عام لمفهوم الحوار الذي لا يعني فحسب الذهاب إلى مائدة الحوار والتقابل المباشر بين الأطراف أو الفرقاء السياسيين.

حتى في ظل اللحظات التي تكون فيها السلطة أكثر عتياً وقناعة بسياساتها وتنكراً للآخرين ومكتفية بذاتها لا ينقطع “الحوار”. ففي هذه اللحظات يأخذ الحوار صيغة “إملاء الشروط” أو “تحديد الخطوط الحمر” التي ينبغي على الآخرين عدم تجاوزها، تماماً كما يحدث ما بعد الحروب بين الدول.

“الحوار” ليس كلمة إيجابية أو سلبية إلا بما نضمنها من آليات وصيغ وأشكال، ووحدهم “الطيبون” هم الذين يعتقدون أن “الحوار” هو الضد أو النقيض لمبدأ “الحرب”. ولا يعني مجرد لجوء السلطة للحوار أن ثمة تغييراً جوهرياً قد حدث في رؤيتها.

لكل حوار بيئة يجري فيها، وبوادر توحي بنتائجه سلباً أو إيجاباً، وعلامات أو مؤشرات للثقة أو انعدامها، فضلاً عن طبيعة الآليات التي يجري وفقها وجدول الأعمال أو الموضوعات المطروحة فيه وارتباطها بجدول زمني ما. بمعنى آخر: عندما نقول “إن حواراً جرى أو سيجري”، فهذا يفترض بداهة أن هذا الحوار يجري في زمان ومكان محددين، ووفق آليات وجداول زمنية متفق عليها.

موقف المعارضة:

من واجب المعارضة الترحيب من حيث المبدأ بذهاب النظام السوري نحو نهج الحوار، رغم علمها أن ذلك ما كان ليحدث لولا البيئة السياسية التي تغيرت حول النظام، لكن بالمقابل عليها ألا تفرح وتفقد صوابها من هذا “الاعتراف” الأولي بها. هذا الفرح قد يحدث بسبب عدم تقديرها لذاتها أو قناعتها بضعفها إزاء السلطة، إذ رغم الضعف، بل والبؤس الذي تعيشه المعارضة في آلياتها ووسائلها وكوادرها إلا أنها يجب أن تستثمر للحد الأقصى صفتها الأساسية، أي صفة “المعارضة السياسية”، التي تعني في علم السياسة القطب الموازي للسلطة، فما عاد هناك سلطة يمكن أن تكون كاملة الشرعية دون وجود معارضة حقيقية لها، فوجود المعارضة في بلد ما هو الشرط اللازم (لكن غير الكافي) للحكم على شرعية سلطة ما.

يعني ذلك ضرورة التعامل بتوازن مع طرح النظام لمبدأ الحوار، لا أن يطير عقلنا فرحاً، ولا أن ندير ظهرنا لهذه الدعوة تحت شعار “إننا فقدنا الأمل والثقة بمصداقية النظام الراهن”، فهؤلاء الداعين للرفض، والذين يخافون على طهارتهم ونقائهم من لمسة حبل، ليس بإمكانهم الانتقال إلى ممارسة جدية للسياسة تتجاوز “عقلية الشتائم”. لا يعني قبول مبدأ الحوار والجلوس على مائدة واحدة أننا سلمنا بما يعرضه أو يريده الطرف الآخر. كثيراً ما علمتنا التجارب أن هذا الشكل من الرفض الحدي يفضي عادة إلى أحد طريقين، إما ضرب الرأس بالجدران أو الانتقال للطرف النقيض أو الضفة الأخرى بلمحة بصر.

التدقيق في مصدر دعوة الحوار أو الطريقة التي تعرض فيها هام وأساسي، فخلال الفترة السابقة جرت اتصالات بشخصيات من المعارضة تحت اسم “الحوار” وبطريقة غير علنية أو من مصادر أمنية. هنا يغدو المقبول من قوى المعارضة وشخصياتها هو تلك الدعوة العلنية أمام الرأي العام من قبل مصادر سياسية عليا في النظام.

مؤشرات ما قبل الحوار:

الذهاب إلى طاولة الحوار يفترض أن تذهب الأطراف ولديها شكل ما من الثقة بجدوى الحوار، هنا يصبح المطلوب من النظام إرسال عدد من الرسائل الإيجابية لتأكيد صدقيته في اختيار مبدأ الحوار: إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وقف الحملة الإعلامية المغرضة ضد الاحتجاجات والمعارضين، وقف العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفية، والاعتراف العلني بوجود معارضة سورية وبحقها في العمل الحر، ومحاسبة المسؤولين عن ممارسة العنف والقتل ضد المتظاهرين.

دون هذه المؤشرات لن تخلق بيئة صحية للحوار، وستزداد القناعة بأن دعوة الحوار لا تخدم إلا خروج النظام من أزمة لم يتوقع يوماً أن يمر بها، والإيحاء للداخل السوري بأنه يسير في طريق الإصلاح.

بعد هذه الخطوات المطلوبة من السلطة يصبح للحوار المطروح معنى وجدوى، وعندها تأتي الخطوة اللاحقة في تحديد أطراف الحوار، وهنا يأتي دور المعارضة في تأكيد ذاتها ككتلة واحدة متماسكة، أو على الأقل ككتل بينها تفاهم واضح حول الأولويات والأهداف.

كيفية تعامل المعارضة مع دعوة الحوار:

تخطئ أي قوة سياسية أو مدنية في المعارضة في الذهاب لوحدها، أياً كان وزنها أو تأثيرها في الحراك السياسي، فإن حدث ذلك فإنه يدلل على واحد من ثلاثة احتمالات، الأول: إما أن هذه القوة السياسية تتوافر بين ظهرانيها على عناصر أو قيادات انتهازية ترغب في تحقيق مكاسب حزبية أو شخصية ضيقة، لا تقدم ولا تؤخر في الوضع السياسي في البلد، ولا تخدم قضية التغيير الديمقراطي. الاحتمال الثاني هو عدم توافر هذه الجهة السياسية على العناصر القيادية التي تتمتع بالحنكة السياسية والقدرة على قراءة التجارب والاستفادة منها وعدم تكرار الأخطاء. هنا يصدق المثل الذي يقول: “الذي يجرب المجرب عقله مخرب”، فتجربة “الجبهة الوطنية التقدمية” ماثلة لمن يريد أن يتعلم، إلا إذا كان هدف أو طموح هذه القوة السياسية التحول إلى طرف غير فاعل وكاريكاتير سياسي كسائر أحزاب الجبهة العتيدة.

الاحتمال الثالث هو عدم ثقة هذه القوة السياسية بذاتها، لتجد في طلب السلطة منها الحوار معها شيئاً يرمِّم النقص الذي تستشعره بنفسها، فإذا ما جاءت “دعوة الحوار” ترى هذه القوة السياسية وقد امتلأت عنفواناً وارتفع شعورها بذاتها، وهذا يخفي شعوراً جمعياً باطناً لدى هذه القوة السياسية بأن السلطة، وليس الواقع والبشر، هي مصدر الشرعية.

من صالح قضية التغيير الديمقراطي، ومن صالح جميع القوى السياسية المعارضة، ألا تذهب أي قوة سياسية للحوار وحدها، أو في الحد الأدنى دون التوافق مع باقي القوى على الأساسيات والأولويات، كما أنه يجب الحرص على عدم تخويل أي شخصية أو قوة سياسية محدَّدة بالحوار باسم المعارضة السورية دون الحوار بين هذه القوى والتوافق فيما بينها، وتحويل هذا التوافق إلى مشروع واضح المعالم.

أما أطراف الحوار الممثلة للسلطة فينبغي أن تكون شخصيات سياسية مفوَّضة وفي مستويات عليا، لا أن يعهد بمهمة “الحوار مع المعارضة” لأمين فرقة أو شعبة حزبية في حزب البعث، للتقليل من قيمة المعارضة والاحتفاظ بالقدرة على التنصل من أي نتائج تنبثق عن الحوار.

آليات الحوار وجدوله الزمني:

بعد ذلك، ثمة نقطتان ينبغي أن تكونا على جدول أعمال اللقاء الأول المفترض، هما الاتفاق على آليات الحوار وجدوله الزمني، وتحديد موضوعاته. بالنسبة للآليات، كي يكون الحوار مجدياً ينبغي تثبيت عدد من النقاط، فأولاً لابدّ من السماح للإعلام بتغطية مجمل خطوات ومراحل الحوار. وثانياً، لا بد للحوار من أن يكون متكافئاً، بمعنى أن يكون حواراً بين أنداد، بين سلطة ومعارضة توازيها، لا أن يكون بين سلطة ورعايا، فلا يجوز الركون هنا إلى مسألة القدرات والعدد والنفوذ لترخي بظلالها على مناخ الحوار، فالمعارضة في أحد تحديداتها هي “سلطة بديلة”، وما كان يمكن أن تصل إلى هذا القدر من الضعف لولا أن السلطة استحوذت على الدولة والمجتمع، وحرمتها من حقها في الانتشار والاستقطاب والتعبير عن نفسها، وهذا يقتضي عملياً التكافؤ في عدد الشخصيات الممثلة لأطراف الحوار والتكافؤ في الزمن المخصص للمتحاورين، والتكافؤ في تحديد موضوعات الحوار… إلخ. وثالثاً، لابدّ للحوار من جدول زمني محدد، (3-6 أشهر مثلا)، فهذا الحوار بين السلطة والمعارضة هو حوار سياسي وليس ندوة ثقافية يذهب أطرافها كل إلى بيته بعد انتهاء الحوار وكأن شيئاً لم يكن، ورابعاً لا بد من الاتفاق على آلية متوازنة لاتخاذ القرارات بشأن القضايا الخلافية.

موضوعات الحوار:

أما من حيث موضوعات الحوار، فكل حوار بدون موضوعات هو حوار فاشل ولا يتعدى أن يكون مضيعة للوقت، وكل حوار لا يحدِّد الأولويات بشكل منسجم مع الواقع والحقائق ومصالح البشر وحاجاتهم لا يعدو أن يكون تغطية للأزمات الحقيقية التي تعيشها سوريا، ففي هذه الحالة تتحول المعارضة لتصبح إحدى أدوات النظام في تثبيت الاستمرارية مع بعض التجميلات والإيماءات بحدوث تغيير ما في النهج والممارسة. موضوعات الحوار يجب أن تتناول جذر الأزمة الداخلية، أي ما يتعلق بالحالة السياسية ونمط وآليات الحكم، وبعدها يأتي الحوار حول القضايا الأخرى، سواء ما يتعلق منها بالاقتصاد أو بالعلاقة الخارجية أو غيرها.

هذا يعني أن أحد موضوعات الحوار الرئيسية (المرحلة الأولى) هو الدستور السوري وضرورة إجراء تغيير دستوري واسع، تضع أطراف الحوار نقاطه الرئيسية، ليعهد بعد ذلك إلى لجان مختصة وعملية موازية يجري تشكيلها من السلطة والمعارضة لتقديم مشروع واضح للدستور السوري، مع تحديد توقيت مناسب لعرضه على الرأي العام السوري وإجراء الاستفتاء عليه. في التفاصيل يمكن القول أن المادة الثامنة من الدستور السوري الحالي والنظام الانتخابي في سوريا وآليات تداول السلطة والفصل بين السلطات وتوصيف الحالة الحزبية ومهام رئيس الجمهورية ووظائف الجهاز التنفيذي ومسألة الأقليات القومية في سوريا، هي نقاط رئيسية للحوار الذي يتناول التغيير الدستوري. بعدها يأتي قانون الأحزاب منسجما مع الدستور الجديد، إذ لا معنى للقانون المزمع إصداره قريباً دون إجراء تغيير دستوري واسع يطال النقاط السابقة الذكر.

المرحلة الثانية من الحوار تأتي حول الوضع الاقتصادي في سوريا، وهنا يكون الحوار حول قضايا رئيسية، مثل تشكيل لجنة عليا للتحقيق في قضايا الفساد الفاقعة في الدولة، وتحديد النهج الاقتصادي الجديد، ودور الدولة في الاقتصاد، القطاع العام والخاص، الاقتصاد السوري في ظل اقتصاد العولمة… الخ، وتترك المواضيع التفصيلية للاقتصاديين والاختصاصيين.

المرحلة الثالثة من الحوار تكون حول تحديد ثوابت السياسة الخارجية السورية بشكل عام، بالإضافة لتحديد ثوابتها وآلياتها في المدى المنظور، والعلاقات العربية والإقليمية لسوريا، وآليات التعاطي مع أية تهديدات محتملة للبلد.

أخيراً:

إن أي حوار بين طرفين لا يسير بهذا الطريق المرتب والمبرمج، فهو يتعرض لتعديلات وتغييرات عديدة من قبل أطراف الحوار تبعاً للحظة السياسية التي يجري فيها الحوار ولتوازنات القوى وإرادات المتحاورين. كذلك يمكن أن ينتهي الحوار في بداياته أو في أي لحظة من مساره، وقد يصل إلى طريق مسدود، لكن امتلاك الرأس والقراءة الدقيقة للواقع والمتغيرات في جميع اللحظات من طرف المعارضة السورية، ووضع مسألة “التغيير الديمقراطي” كأساس لأي سلوك أو خيار سياسي، هو ما يجعلها تستثمر أي “حوار” أو “تغيير” في نهج النظام لصالح البلد والبشر.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى