صفحات العالم

ملاحظات عن المعارضة السوريّة


أسعد أبو خليل

يدرج الصحافي في جريدة الحياة جهاد الخازن على القول إنّ أشكال المعارضة العربيّة تزيده تأييداً أو تفضيلاً للأنظمة العربيّة السائدة. لكنّ المعارضات العربيّة متنوّعة ومختلفة ومتناقضة، وهذا صحيّ، حتى لا يقع تنظيم واحد تحت سطوة المال أو (و) المحتلّ. لا تُختزل المعارضات العربيّة بشعار إسلامي، أو بعنوان جريدة مملوكة من هذا الأمير السعودي أو ذاك.

تجتاح المنطقة العربيّة ثورات مُتعاقبة (أو هي، وفق نظريّة معارض سوري في مجلّة «إيكونوميست» الرصينة، ثورة عربيّة واحدة لن تتوقّف قبل أن تصيب كلّ الدول العربيّة دون استثناء). والمعارضات العربيّة تخرج من الكهوف والمنازل والأقبية والسجون (والكثير منها لا يزال يرزح في غياهب السجون). تطلّ برأسها ببطء وحذر. نحن تعرّفنا إلى بعض المعارضات، ونتعرّف إلى الجديد منها (مثل المجلس الانتقالي الليبي، بقيادة مصطفى عبد الـ«ناتو»)، وسنتعرّف إلى المزيد منها. هناك من يعبد الـ«ناتو» وهناك من يعبد أميراً نفطياً، وهناك من يعبد مصالح تلك الطبقة وهناك من يعبد الجماهير (كان عبد الحليم حافظ، «معبود الجماهير»). وقلب الأنظمة سيكشف عن معارضات لم نكن قد سمعنا بها، وستغيّب معارضات صادحة في المنفى (هذا ما حصل في العراق)، وسيُمنى بعضها الآخر بالفشل الانتخابي السريع. ومعارضات المنفى غير معارضات الداخل: من كان يتوقّع أن يفشل أحمد الشلبي في الحصول على مقعد واحد في انتخابات عراقيّة، أو أن يلتحق بركب مقتدى الصدر كي يبقى عائماً سياسيّاً، هذا الذي كان يعد بالعلمانيّة؟ وهو الذي كانت الإدارة الأميركيّة جازمة بقدرته على قيادة العراق في مرحلة ما بعد صدّام؟ وفي مصر، كانت الصحافة الغربيّة تتعامل مع سعد الدّين إبراهيم على أنه أندريه زاخاروف مصر، وها هو قد عاد إلى مصر من دون أن يكون له أي دور سياسي يُذكر. هل من يذكر سعد الدين إبراهيم غير الصحافة الأميركية والأوروبيّة؟ والإعلام الغربي مُصرّ على تنصيب سوري مقيم في واشنطن، رضوان زيادة (ويجهله معظم السوريّين والسوريّات)، فيما يتناقل الناس شريطاً لخطبة له من باب الهزل الشامي. عندما يتحرّر العرب من ربقة الأنظمة، تضعف قدرة واشنطن وآل سعود على التأثير (تزيد الإشارات المُعارضة للحكم السعودي في الصحافة المصريّة).

لنتفق على البديهيّات في الشأن السوري: لم يسمح النظام السوري في تاريخه بأي معارضة. كان نظام صلاح جديد نظاماً لشلّة بعثيّة ضيّقة (وإن كانت علمانيّة)، فيما تحوّل النظام البعثي بعد 1970 إلى نظام سلالة حاكمة على طريقة أنظمة الخليج (قدّم وليد جنبلاط أخيراً نصحاً للنظام السوري لتبنّي الإصلاح: كاد أن ينصح للنظام بنبذ الوراثة في الخلافة السياسيّة). صحيح. أنشأ النظام جبهة «تقدميّة» (ويتحدّث ميثاقها عن «الثورة العربيّة»)، ولكنّها لم تكن إلا بوتقة للنظام: سخّر خالد بكداش (هذا الذي أضرّ بالنسق العربي للشيوعيّة العربيّة وطبَعَها بستالينيّة جامدة) حزبه للتصفيق لِما يرتئيه الحزب الحاكم: قائد الدولة والمجتمع و… الرسالة التي لم تخلّد. والحزب السوري القومي الاجتماعي ارتضى لنفسه أن يصبح خاضعاً لحزب يناقضه في العقيدة، لكن ما دور العقيدة في الصراع السياسي في العالم العربي هذه الأيّام؟ لم يتسنّ للأحزاب المعارضة في سوريا أن تنمو وأن تنضج وأن تتطوّر. عملت في السرّ وتعرّضت لقمع شديد. ما كان مسموحاً للحياة السياسيّة في سوريا (وهي عريقة في إنتاج الأفكار والأحزاب والأدب قبل أن يتوّلى أبطال الهزائم العسكريّة المتوالية السلطة) أن تزدهر. كيف تزدهر وهناك حزب يقود «الدولة والمجتمع»، ويحرص على مقاضاة من تسوّل له نفسه إضعاف «الروح القوميّة»؟

ولنتفق على أنّ طبيعة تشكيلة المروحة السياسيّة للمعارضة تأثّرت هي أيضاً بقمع النظام. الأحزاب اليساريّة المتطرّفة ذاقت الأمرّين: وجريمة حزب العمل الشيوعي الشجاع أنّه استقطب في الطائفة الأقرب إلى النظام، ورفع شعار إسقاط السلطة مُبكِّراً، قبل أن يستبدله بشعار «دحر الديكتاتوريّة»، في مؤتمر بيروت في 1981 (راجع الفصل الخاص بالحزب في كتاب هاشم عثمان، «الأحزاب السياسيّة في سورية: السريّة والعلنيّة»، ص 397 ـــــ 402). والأحزاب الناصريّة، العريقة في التاريخ المعاصر لسوريا، عانت أيضاً من الحقد البعثي التقليدي على الناصريّين. أما الإخوان، فبينهم وبين النظام فصول وسرديّات من الدماء، ولا يُسمح لواحد منهم بالإطلالة برأسه طالما هناك مادة في الدستور تجيز إعدام من ينتمي إلى هذا التنظيم، فانتشروا في المنافي واحتكروا أو يحاولون على طريقة المؤتمر الوطني العراقي، تمثيل الشعب السوري هناك.

ولنتفق على أنّ الكلّ في المعارضة في سوريا عانى الأمرّين وظُلم واضطُهد. أذكر أنّ حليم بركات حدّثني عن ذلك الروائي السوري الشهير الذي تكلّم بخفر عن الديموقراطيّة في التسعينيات، في مؤتمر بالقاهرة، فعاد إلى وطنه ووجد أنه فقد وظيفته في التعليم الجامعي ونُفي إلى مدرسة ثانويّة. ما معنى أن يقضي ياسين الحاج صالح نحو 16 عاماً في السجن لجريمة لا يُعاقب عليها القانون في دول عاديّة (لم نصل إلى مرحلة الدول العاديّة بعد)؟ 16 عاماً فترة طويلة جدّاً في حياة الإنسان، والتهمة؟ شيوعيّ. إنّ الصلابة في موقف المعارضة في سوريا نابعة من قسوة النظام: هي جدليّة القهر. كتب لي قارئ من حمص يفسّر لي اتجاهات الرأي العام في أوساط الطلبة الجامعيّين: قال إنّ كلّ واحد منهم عانى على أيدي أجهزة الأمن، كما أنّ لهم أقارب من الأكبر سنّاً ممن عانى في حقبة قمع سابقة. إذا كان هناك مؤامرة، فإنّ المسؤول عنها هو النظام نفسه.

ولنتفق مع الرفيق سنان أنطون، في نقده لأدونيس في رسالتيْه، بأنّه لا يمكن المساواة بين النظام والمعارضة، وخصوصاً أنّ السلطة لا تزال بيد الحكم البعثي، ما يحمّل النظام القائم مسؤوليّة القمع والقتل الجارييْن. نقد المعارضة هو تنبيه لما قد يأتي، وتنبيه لما هو حاضر من نزعات ترهيب وفرض الرأي الواحد.

لكن تأييد مطلب إسقاط النظام في سوريا، وفي كلّ الدول العربيّة، يجب ألا يعني، وخصوصاً لمن يقطن في الخارج، تأييداً مطلقاً لكلّ حركات المعارضة على اختلافها. على العكس، إنّ دعم مطلب حق الشعب العربي في التحرّر من حكم الطغيان، يحتّم ضرورة التنبّه إلى مسارات وإشارات قد تبدّل قمعاً بقمع. لعلّ هذا ما أراد أدونيس أن يحذّر منه، وإن بأسلوب غير مُستحبّ. تعاني حركات المعارضة مشاكل وأمراضاً، ليست مشاكل وأمراضاً محض داخليّة، بل مسبَّبة أيضاً من التدخّل الخارجي (الأميركي والإسرائيلي والسعودي والقطري بصورة خاصّة). أي أنّ المعارضات العربيّة لا تعمل في جزر معزولة: لا عن مجتمعاتها ولا عن محيطها الإقليمي والعالمي الموبوء بحروب أميركا وتدخّلاتها، دوماً، في صف إسرائيل في منطقتنا. كذلك، تأثرت المعارضات العربيّة بتدخّلات أجهزة الاستخبارات واختراقاتها. وصل عميل للمكتب الثاني اللبناني إلى موقع القيادة في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، أوائل السبعينيات (وتقول هيلدا حبش إنّه كان عميلاً لإسرائيل أيضاً، وقد أحتضنته دولة الإمارات بعد ترحيله من لبنان في ظروف غامضة، عقب سجنه لدى الجبهة). والاستخبارات العربيّة تعمد إلى اختراق كلّ التنظيمات، العلنيّة والسريّة، وتلك التي لم تولد بعد. والتعميم عن المعارضات العربيّة، أو عن المعارضة السوريّة بالتحديد، محفوف بالمغالطات؛ لأنّ أحكاماً وسمات مختلفة تصف تنظيمات وحركات لا جامع بينها إلا العداء للنظام القائم. كيف تستطيع، مثلاً، أن تضع حركة الإخوان المسلمين في السلّة نفسها مع حزب العمل الشيوعي؟ لكنّني سأحصر ملاحظاتي بما سأصفه بحركة 14 آذار السوريّة: أي هي الجناح الليبرالي للمعارضة السوريّة، وهو جناح مُتحالف مع الإخوان المسلمين. وحركة 14 آذار السوريّة لا تختلف عن حركة 14 آذار اللبنانيّة. فكلا الحركتيْن تتصفان ب: 1) التعبير عن التوق إلى الديموقراطيّة في صحف آل سعود وآل الحريري. أي أنّهما تدعوان للثورة في مضارب شيوخ النفط. 2) الدعوة إلى الديموقراطيّة في سوريا مع تأييد قوي لأنظمة الخليج (في حالة 14 آذار اللبنانيّة) أو صمت عن قمع أنظمة الخليج (في حالة 14 آذار السوريّة). 3) التحالف مع حركة الإخوان المسلمين (في الحالة السوريّة) أو السلفيّة الوهّابيّة، واعتبارها قائدة للعمل المعارض، مع الإكثار من استخدام شعارات الدولة المدنيّة (تستطيع حركة 14 آذار اللبنانيّة أن توفّق بين الولاء للسلفيّة ـــــ «كلنا سلفيّون» قال النائب سمير الجسر في العام الماضي ـــــ والدعوة للدولة المدنيّة). 4) خفوت الصوت نحو العدوّ الإسرائيلي (على طريقة الإشارة العارضة إلى أنّ «إسرائيل عدوّ» في خطاب 14 آذار. صحيح أنّ هناك من اعتنق موقفاً معادياً للصهيونيّة ولتقسيم فلسطين التاريخيّة (راجع ياسين الحاج صالح في «الآداب»، 1 3، 2010، ص. 49). لكن صالح نفسه يعود أخيراً في «شباب السفير» ليقول: «أجزم أنّ سوريا لن تكون يوماً على ودّ مع إسرائيل». لا يكفي غياب «الودّ» من سوريا كي يردع إسرائيل، أو كي يُحرّر الجولان، وخصوصاً أنّ المعارضة تسخر عن حق من تمنّع النظام عن تحقيق أي تحرير في الجولان المحتلّ. تذكّر عبارة غياب الودّ بأضعف أنواع الرفض للاحتلال الإسرائيلي. 5) التحالف الوثيق بين حركة 14 آذار اللبنانيّة والجناح الليبرالي من المعارضة السوريّة. والتناغم كان صريحاً بين الحركتيْن، فترى أنّ الليبراليّة السوريّة تعترض على موقف حزب الله من الاحتجاجات في سوريا، إلا أنّ الليبراليّة تلك لا تعترض على العنصريّة الصارخة التي نتجت من 14 آذار في لبنان، مثلما هي لا تعترض على التحريض الذي أدّى إلى قتل أو جرح مئات من العمّال السوريّين في «ثورة الأمير مقرن» في لبنان. أي أنّ المعارضة الليبراليّة السوريّة تغفر لحركة 14 آذار عنصريّتها ضد الشعب السوري برمّته، تلك العنصريّة التي سفكت دماء سوريّة بريئة في لبنان. 6) الكلام العام والإنشائي عن الحريّة دون أي مضمون اقتصادي واجتماعي. 7) نبذ اليسار والسخرية منه. 8) الكلام الفارغ عن السيادة والاعتراض على خرق السيادة من جهة واحدة فقط (يبدو بالنسبة إلى ذلك الرهط من المثقّفين الليبراليّين في سوريا أنّ زيارة غدي فرنسيس لحماه خرقت سيادة المدينة، بينما شرّفتها زيارة السفيريْن الأميركي والفرنسي). 9) الانتقائيّة في المعايير العلمانيّة: تعترض الحركتان على أيّ نوع من الودّ بين يسار مشغول بالهم الفلسطيني وحزب الله (على أساس تحرير فلسطين فقط)، من منظار رفض العقيدة الدينيّة، فيما تتحالفان مع سلفيّة وهابيّة أو غير وهّابيّة.

لكن الاعتراض على الليبراليّة العربيّة يتعلّق بحركة تشمل العالم العربي. الليبراليّة العربيّة كانت متحالفة مع نظام حسني مبارك، وهي تتضامن مع دول مجلس التعاون الخليجي (ترفع بعض التظاهرات في سوريا لافتات تأييد لمحطة «الجزيرة» عندما تحوّلت إلى بوق لحلف شماليّ الأطلسي). لكنّ المزعج في حركة الليبراليّة السوريّة أنّ هناك محاولة لتزوير الماضي، وخصوصاً في مكوّناته اليساريّة. ياسين الحاج صالح، مثلاً، كتب في جريدة «نيويورك تايمز» مقالة تحدّث فيها عن ماضيه الشيوعي، وأضاف أنّه كان آنذاك يناضل من أجل الديموقراطيّة. لياسين الحاج صالح، كما لغيره، أن ينبذ اليسار وأن يتحوّل نحو الليبراليّة، لكن أن يصبح النضال الشيوعي العربي نضالاً من أجل الديموقراطيّة تزييف للماضي وشعاراته: الشيوعيّة العربيّة ناضلت لأجل العدالة الاجتماعيّة ومن أجل التحرّر من أنظمة موالية للغرب، كما أنّها ربطت بين النضال الداخلي وتحرير فلسطين. أما محمّد علي الأتاسي فقد كتب في جريدة «نيويورك تايمز» أيضاً (الجريدة المتعصّبة لإسرائيل وحروبها، تسمح للعرب بالتعبير عن أنفسهم على أن يلتزموا «الأدب» فلا يشيروا بكلمة ضد إسرائيل. استضافت الجريدة أستاذ جامعة تونسياً أخيراً حذّر قراء الجريدة من حملة على التطبيع مع إسرائيل في تونس الثورة)، الأتاسي أشار إلى حقبة تولّي نور الدين الأتاسي الرئاسة في سوريا، وجعل منه رمزاً للديموقراطيّة هو الآخر (طبعاً، لا يجوز تحميل الأولاد والأحفاد مسؤوليّة ممارسات السلف، إلا إذا قرّر الخلف تبنّيها).

لا يمكن إعادة رسم الماضي بريشة الخطاب الديموقراطي المبتذل. قد يزعم حفيد أديب الشيشكلي أن الجدّ كان ديموقراطيّاً هو الآخر. وقعت بالصدفة على نص تصريح لنور الدين الأتاسي عندما كان وزيراً للداخليّة في 1964، قال فيه إبّان قمع تظاهرة طلابية في بانياس: «إنّنا نعلن مجدّداً أنّ الأحكام العرفيّة مُعلنة في القطر العربي السوري حماية لأمن الوطن والمواطنين، وأنّ التجمعات والتظاهرات ممنوعة، ولقد آلينا على أنفسنا نحن الثورة، ثورة آذار، ثورة الوحدة والحريّة والاشتراكيّة، آلينا على أنفسنا أن نسحق كل تآمر وأن نضع حدّاً لكل محاولة للفوضى حتى نفسح لشعبنا مجالاً في رحاب الأمن والاستقرار ينصرف فيه لشؤون يومه ولمستقبل وطنه… إنّنا ننبه ونحذّر كل دسّاس وكل عميل بأن حسابنا سيكون عسيراً وأن ضربات شعبنا ستكون قاسية بلا شفقة ولا رحمة لمن يحاول أن يقيم العثرات في طريق ثورتنا المتوثّبة وقد أعذر من أنذر». (دمشق، 17 شباط، 1964، نشرة «الأنباء الداخليّة»، سوريا، مُدرجة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، «الوثائق العربيّة»، عام 1964، ص. 77 78).

لم يرق محمد علي الأتاسي الاستشهاد، فكتب على موقعه أنّ دبلوماسيّاً إسرائيليّاً كتب إلى «نيويورك تايمز» ضد حكم صلاح جديد، وأنّ نقدي للحقبة البعثيّة عينها يربطني حكماً بالصهيونيّة. هنا، يستشفّ المرء أنماطاً من نزوع الاتهامات البعثيّة في بعض تجليّات الليبراليّة السوريّة. كل من يجرؤ على نقد أي طرف في المعارضة (خصوصاً في جناحها الإخواني والليبرالي) يصبح صهيونيّاً وعميلاً للنظام، وقريباً من ماهر الأسد.

أما الهجمة الليبراليّة من المعارضة فقد استهدفت بوحشيّة الصحافيّة غدي فرنسيس لكتابتها مقالة عن حماه في «السفير». وبصرف النظر عن مضمون المقالة، وعن الإشارة إلى «قندهار» التي عزتها إلى سكان في البلدة، فإنّ نبرة ردّة الفعل ونمطها ينطويان على ما لا يبشّر بالخير، من فريق يصيح صبحاً ومساءً عن الحريّات وعن حريّة التعبير وعن قبول الرأي والرأي الآخر. لا بل إنّ رهطاً من المثقّفين الليبراليّين أصدر بياناً بعثيّاً في لغته، ويتضمّن تخويناً واتهامات بالعمالة. والمطالبة برفع المقاصل لم تكن بعيدة عن لهجة الاعتراض. وليس طريفاً أنّ زيارة من صحافيّة في جريدة «السفير» أثارت حفيظة المثقّفين الليبراليّين أكثر من زيارة السفيريْن الفرنسي والأميركي. (هل الاعتراض على «قندهار» هو نفور من التشبيه بالشعب الأفغاني لأسباب عنصريّة؟ «السفير» أضافت في اليوم التالي اعتذاراً عن الوصف، وذكّرت بعروبة المدينة. لكن «قندهار»، بالمعنى السياسي، وصف لحالة ثقافيّة سياسيّة ذات جذور عربيّة (وهابيّة)). لم يكتف هؤلاء بذلك، بل إنّ عدداً من الليبراليّين، بمَن فيهم الحاج صالح للأسف، لجأ إلى عبارات مبتذلة وإلى تعيير عنصري ذكوري ضد فرنسيس على فايسبوك. حتى الحياة الشخصيّة لغدي أصبحت حديثاً عاماً للنميمة والقذف. هل بتنا نخشى أن يجترّ بعض المعارضة السوريّة الأساليب والاتهامات البعثيّة عينها؟

وقد قامت قيامة المعارضة الليبراليّة ضد أدونيس. لم أقف مدافعاً عن أدونيس قطّ، ولم أتفق مع رسالتيْه عن الوضع في سوريا. في الأولى، تعامل مع الرئيس السوري على أنّه رئيس مُنتخب، وفي الثانية ساوى بين النظام والمعارضة، كذلك فإنّه حمّل الدين أكثر مما يحتمل، منهجيّاً وتاريخيّاً. لا تحلّ العلمانيّة (على ضرورتها القصوى في مجتمعاتنا المتفسّخة والمتشرذمة طائفيّاً) مشكلة المرأة والقبليّة، كما يتوهّم أدونيس. يخال أدونيس أنّ الدين يسيطر على الثقافة، بينما يتعايش الدين ويتصارع مع الثقافة. لكلّ منهما حيّزه وإن تأثّر الواحد بالآخر. وقد تغلب الثقافة والتقاليد الدين، كما حدث في الأديان الوثنيّة وطقوسها التي تسرّبت إلى الصوفيّة في أرياف شمال أفريقيا مثلاً. وقد يغلب الدين أو تفسيرات في الدين، كما تفضّل فاطمة مرنيسي في كتابها عن «الحريم السياسي» الثقافة، كما حصل في التزمّت الثقافي المفروض في المجتمعات العربيّة. لكن الهجمة على أدونيس من بعض الليبراليّين يجب أن تثير قلقنا. ما معنى أن يتهم الحاج صالح على «فايسبوك» أدونيس بالانحياز إلى الشيعة ضد السنة؟ هل أصبح مذهب عائلة الرجل مأخذاً عليه، عندما لا يتفق رهط المثقّفين الليبراليين معه؟ هذه الاتجاهات القمعيّة لا تبشّر بالخير، وهي ترسم معالم مرحلة من الصراع التي ستسبق الولادة الديموقراطيّة. لكن، ليكن معلوماً أنّ أيّ نقد لأي معارضة عربيّة لا يؤدّي أو يجب أن لا يؤدّي إلى تسويغ الأنظمة القائمة.

كتب برهان غليون عن اغتيال العقل في الثمانينيات. لكن ظهور غليون في مؤتمر إسطنبول الذي سيطر عليه الإخوان (وإن تخفّوا في البيان الختامي عبر ستر العبارات الدينيّة)، ودُعي إليه ممثّلو العشائر، كان نافراً. برهان غليون كتب وحذّر من بروز «الظواهر الطائفيّة والعشائريّة أو عودتها» («اغتيال العقل»، 1990، ص. 10). لم تظهر العشائر في مؤتمر إسطنبول من فراغ: النظام البعثي في العراق وسوريا لجأ إلى استمالة العشائر، كلّما تناقصت شرعيّته السياسيّة. وظهور العشائر والقبائل بقوّة في العراق وأفغانستان، يدلّ على دور الاستعمار في تنمية تلك المجموعات الرجعيّة المتخلّفة التي تتناقض مع من يدّعي الحرص على حقوق المرأة. العشائريّة وصفة للسيادة الذكوريّة والطبقيّة: هي كيانات اجتماعيّة معروضة للإيجار. لا يُفهم أن يتجاور يساري أو ليبرالي مع ممثّلي العشائر.

إنّ مرحلة التحرّر من الأنظمة ستكون صعبة وستمرّ بمراحل عديدة. الليبراليّة تمثّل خطراً على الثورات. ليس هناك ثورة ليبراليّة في التاريخ. الليبراليّة وصفة لمنع الثورات وإجهاضها، وخصوصاً في منطقتنا العربيّة عندما تتحالف الحركة مع مجلس التعاون الخليجي. إنّ الصراع في سوريا سيفرز وينتج حركات ومنظمات جديدة. قد يؤدّي التحالف بين الإخوان والليبراليّة إلى فرض نفوذ ديني إكليركي على النسق العراقي. لكن المعركة لم تُحسم بعد. الشعب السوري خلّاق.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)

الاخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى